حوارات أدبية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نورالدين لعوطار
    أديب وكاتب
    • 06-04-2016
    • 712

    حوارات أدبية

    من عسير الأمور أن تغوص في دروب الأدب العربي شعرا ونثرا، فغزارة ما كتب في آداب العربية يستوجب قراءة مضنية قبل الكتابة، ليست طبعا تلك القراءة العادية التي ينجم عنها احتطاب ليلي يخلط هذا بذاك فلا تكاد تعرف الخيط الرفيع الذي يعزل المقبول عن المرفوض من الكلام. سنكون معا في مجلس علمين حديثين رغم
    تنافرهما وتباعدهما، فالأدب العربي يجمعهما، ويعترف لكل منهما بدوره في دعم لبناته، وتوطيد صرحه وتزيين رحابه. أحدهما لقّب بعميد الأدب العربي والآخر بشيخ العربية وهما علمان مصريان يشتغلان بالنقد عامة والأدبي منه خاصّة.
    في العادة عندما أتناول الأعلام أحبّذ الحياد رغم أن الحياد والموضوعية نشيد صعب المنال، خاصة عند من يعتبر الذات جزءا من الموضوع يتأرجح تأثيرها فيه بين الإهمال والسيطرة. فإن لم استطع الحياد الكامل فعلى الأقل تجنّبت التّدخل السّافر المنفّر خاصّة أنّ الموضوع يغري بالعوم وتزيده حدّة طرفيه في تناوله
    تحريضا للنفوس على الاصطفاف، لكن سأحاول إن اصطففت أن لا يتجاوز اصطفافي الجانب المعرفي بعيدا عن الجوانب الأخرى المغرية.
    هل كنت أحتاج كل هذا التقديم، ربما هذا ما خمّنته، أن الأمر فعلا يحتاج إلى تقديم واف لعلنا نستطيع تحمّل القول الثّقيل الذي يميز كلا العلمين طه حسين ومحمود محمد شاكر، ونزالهما الذي كانت له تبعاته كما حسناته، فإن كنت أبتعد عن الجوانب المجانبة للمعرفة رأيت ذلك النّزال خيرا جلّه إذ أعطى دفعة للنقد والحركة المعرفية والأدبية على السواء، فعلى سبيل التأكيد على هذا الحراك الدّافئ يمكن تسجيل ثلاثة كتب لطه حسين وهي في الأدب الجاهلي الذي كان امتدادا للطبعة الأولى المسجلة تحت عنوان في الشعر الجاهلي، ثم كتاب حديث الأربعاء، ثم كتاب مع المتنبي. وأيضا كتب ثلاثة على الأقل أيضا لمحمود شاكر في مقدّمتها المتنبي، ورسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ثم قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام.
    يمكن إضافة كتاب عبد الوهاب عزام حول المتنبي لكونه دخل إلى حلبة النزال المباشر، ولمن يحب التوسع ربما أضاف أباطيل وأسمار وجال جولة في كتاب على هامش الغفران لصاحبه لويس عوض. ومن أراد الاستزادة ربما أضاف كتاب سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام وكذا مقالات شاكر لا تسبوا أصحابي، فتلاحظ هنا اختلاطا بين ماهو أدبي لغوي وديني وثقافي وسياسي وهي حقول إلى حدّ ما هي قريبة من الرؤية الفلسفية بين ماهو وجودي ومعرفي وأخلاقي وسياسي، وهنا ستلامس أيضا أن سؤال الأدب ليس دائما سؤالا بريء النّسب وسليم الطويّة بل يدخل في علاقات تجعله يتقلّد محافظ ثقيل وزنها على حمولة الأدب عينه.

    كتاب المتنبي لمحمود شاكر في طبعته الثانية في السبعينيات ربما أجمل الكثير من هذه الحكاية وإذا أضيف له كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي ظهرت صورة الصراع أكثر.
    محمود محمد شاكر تلميذ طه حسين في كلية الآداب، تمّ قبوله في الكلية بتدخل من طه حسين لكونه واحدا من معارف أسرته، حيث ينحدر من الشعب العلمية، فما كان متاحا له التوجّه إلى الشّعب الأدبيّة، وهي مكرمة ما جحدها شاكر لأستاذه طه حسين
    بل بجّل فيه هذا الموقف، رغم لا أخلاقيته، لكن تعوّد الأشياء اللاأخلاقية، تجعلنا أحيانا نراها بعين أخلاقية ولن يرى لا أخلاقيتها إلا من كان يريد تغيير الشعبة يومئذ وما وجد من يقف بجانبه لتجاوز هذا القانون أو العرف الحائل دون رغبته، لا علينا فلا غرابة في هذا، فمحمود كما طه ما وصلت يوما علاقتهما الشخصية إلى القطيعة رغم ما يكنّه الواحد للآخر من عداء، فما أنكر محمود كما ابنه أن محمودا كان يتوسط للناس عند طه عندما كان وزيرا لقضاء مآربهم وأغراضهم، وما ردّ طلبا يوما في وجهه، فإن كان أنصار الرجلين يتباغضان بغضا حقيقيا والطلاق بينهم بين وبائن، فما أحوجنا إلى التدبّر في السّير وقراءتها بلا تعمية.
    كان طه يشرح نظريته في الشعر الجاهلي وكان تلميذه يتميز غيظا، ويؤجل ثورته في وجه أستاذه الذي يعتمد منهج الشّك الديكارتي الذي يدعو إلى تعليق الأحكام المسبقة وتحطيم المسلّمات إلى حين البرهان عليها، فينطلق طه مشكّكا في صدقيّة الشّعر الجاهلي وينتهي نافيا لصحّته مدّعيا أنه شعر منحول في الإسلام. وكانت ضربة قاصمة لثقة شاكر بطه، من وجهين مؤلمين، الأول أن شاكرا ما اختار
    الأدب العربي إلا لكونه مولعا بالشعر عموما والجاهلي منه خصوصا، يقول شاكر، بعد أن تحدث عن حفظه لديوان المتنبي أنه أهمله وانصرف إلى الشعر الجاهلي منذ أن التقى به فما فارقه فحفظ المعلقات ومعانيها وتواريخها وقرأ دواوين الشعراء الجاهليين، ومئات القصائد للّذين ليست لهم دواوين:" وجدت يومها (في الشعر الجاهلي) ترجيعا خفيّا غامضا كأنه حفيف نسيم تسمع حسّه وهو يتخلّل أعواد نبات عميم متكاثف، أو رنين صوت شجيّ ينتهي إليك من بعيد في سكون ليل داجن...." يفسر شاكر مضيفا أن ذلك
    الترجيع يختلف جرسه من شاعر إلى شاعر لكنه نفس الترجيع يختلف عن الأموي والعباسي رغم كونهما لا يخلوان من هذه الظاهرة، لكن هناك مباينة ظاهرة في الترجيع والطنين والدندنة، وليس الأمر يتعلق باختلاف لفظي أو في الوزن، مضيفا أنه يومئذ يميزبين الأشعار بالتذوّق وفقط.
    عندما وجد شاكر طه يشكّك في الشّعر الجاهلي كان كمن حضر مجلسا يطعن ويعرّض فيه المتسامرون بالتي تسكن هواه، لكن ليس هذا وحده ما أقلق شاكرا بل إن هذا الكلام الذي يسمعه من فم طه كان قد قرأه في مقالة لمستشرق اسمه مارجوليوت. ولأن طه يعيد نفس الأفكار دون أن ينسبها إلى صاحبها، ويقدّم البضاعة كما لو كانت من بنات أفكاره فكان طه يمارس في نظر محمود سطوا فاضحا، سببان كافيان حسب اعتقادي لقيام الثورة، الطّعن في المحبوب هو الطّعن في خيارات الذّات، والمبرر الأخلاقي أي أنّ الخصم حائط قصير، والمبرّر الأخلاقي في الثقافة العربية الإسلامية له مركزية فيكفي أنّها خصّصت له علما كاملا يسمى بعلم الرجال، فالرجل المجروح رجل لا يقبل قوله.
    شاكر اتبع تكتيكا في مواجهته لطه، فغالبا أثناء الخصومات لا يتم الدخول مباشرة إلى بؤرة التّوتّر، بل تكون المناوشات على الأطراف فعندما قرّر شاكر مواجهة أستاذه لم يرمه مباشرة بالسّطو بل عارضه في تطبيقات المنهج الديكارتي، وعدم تطبيقه وفق أصالته، فقال له أنت تريد أن تزيل الشّك بالشّك ، شككت في شيء واستعملت حججا مشكوكا في صحتها لتثبيت صحة شكّك، وكان محمود يراجع المنهج الديكارتي مع طالب في قسم الفلسفة وهو محمود محمد الخضري الذي ترجم كتاب ديكارت مقالة في المنهج بعد ذلك.

    يتبع.
    التعديل الأخير تم بواسطة نورالدين لعوطار; الساعة 04-06-2018, 01:34.
  • نورالدين لعوطار
    أديب وكاتب
    • 06-04-2016
    • 712

    #2

    يقرأ طه حسين النص كوثيقة تاريخية، فالنص يزيد من وعينا بالزمان وما حدث في الحقبة التاريخية التي ينتمي إليها بل يمثل مرآة عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي السائد يومها، يهتم النقد التاريخي بالسيرة كما علم التاريخ، في بداية مؤلف طه عن الأدب الجاهلي انتقد بشدّة المناهج التربوية التقليدية التي يقدّم بها الدرس الأدبي في المدارس، مع الإشادة بالطرق الحديثة المتبعة في الغرب حيث المزاوجة بين العلمية والفنية والموسوعية والأدبية، ثم قدّم لمحة عن المنهج النقدي التاريخي خاصة عند سانت بوف، كما نوه بفضيلة الحرية في الأدب وقدّم شرحا عن المنهج الديكارتي في المعرفة ومارس الشك الدّيكارتي على الشعر الجاهلي وشكّك في صحته.
    سأقدّم جملة من تمهيد كتاب تجديد ذكرى أبي العلاء، فهي خير معبر عن بغية طه حسين ورؤيته، "أبو العلاء... ثمرة من ثمرات عصره قد عمل على إنضاجها الزمان والمكان والحال السياسية والاجتماعية والاقتصادية ..... " هنا تلاحظ فعالية الزمان كما المكان "المناخ والبيئة الجغرافية عموما" ، الزمان كفاعل حقيقي والمكان كمسرح لفعل التاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد كمظاهر لهذا التاريخ وكعلامات فارقة تميز مرحلة عن مرحلة.
    فخلاصة ما يريده طه هو إعادة قراءة التاريخ أو بالأحرى الحصول على زوايا نظر جديدة من خلال النصوص وهي تمثل وثائق تاريخية تظهر من خلالها الحياة في عصر من العصور وكسر تلك المقدّمات التي تؤطر النصوص وتجعلك تقرأ النص في إطارها، وبما أن أوثق النصوص وأقدمها ممّا وصل إلينا من الحضارة العربية هو القرآن الكريم، فمن خلاله سنعرف الحياة الجاهلية، فما نقله القرآن عنها كاف، ولا نحتاج إلى الشعر الجاهلي خاصة أنه يحمل حسب طه حسين نظرة مخالفة لما يقدمه القرآن عن عرب الجاهلية.
    فإن كان الشعر الجاهلي يتحدث عن الصحراء مثلا فالقرآن تحدث عن البحر واللؤلؤ المرجان والسفن ... وقدّم حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية، "الروم، الربا، المطففين...."
    أمّا من حيث اللغة فبعد مقدمة تاريخية عن تاريخ العرب من البائدة "عاد وتمود" إلى العاربة "قحطان" والمستعربة "عدنان" وتبيان أن الحضارة كانت قحطانية أي يمنية فكيف استطاعت لغة الشمال السيطرة على لغة الجنوب في الشعر الجاهلي، وكيف ضاعت أشعار الجنوب الجاهلية أو بالأحرى كيف كتب القحطانيون شعرهم بلغة العدنانيين، عند افتراض صحّة الشعر الجاهلي، ومن هناك رجّح طه حسين أنّ الشعر الجاهلي تمت كتابته بعد سيطرة لغة قريش على الجزيرة العربية أي بعد الإسلام. أما لماذا تم نحل الشعر الجاهلي فالأمر يتعلق بعدّة أسباب لعل أبرزها رغبة القبائل العربية في الحصول على عمق تاريخي أي أن لها حضور في الماضي كما العشائر والأسر خاصة أثناء الصراعات الأموية والعباسية والعلوية ويكاد يستفاد من الكتاب أن الصراع السياسي ما بعد الإسلام فيه بعض بقايا لصراع الشمال والجنوب. ولتعليل هذا الزعم قارن طه بين شخصية امرئ القيس وعبد الرحمان بن محمد الكندي "عبد الرحمن بن الأشعث" فحمل وجود الأول على الأخير، صحيح أن كتاب "في الشعر الجاهلي" تصدى له العديدون وزعزعوا الكثير من أركان حججه ولعل محمد الخضر حسين من أبرز من نقضوا الكتاب، لكنه يبقى كتابا يطرح سؤالا مؤرقا جدّا وكان زلزالا حقيقيا حين صدوره ورجّة عملاقة أسالت الكثير من الحبر. فكان طبيعيا جدّا أن تكون تلك المحاضرات التي يسمعها محمود محمد شاكر من فم طه حسين شديدة الوقع عليه وهو سليل بيت يعتز بأدبه وعلمه وثقافته الإسلامية والعربية العريقة، كانت المحاضرات صاعقة لشاب مثل شاكر معتز بعروبته وإسلامه، وناقم على الغرب والغزو الثقافي، كاره للاستشراق والمستشرقين.
    يتبع
    التعديل الأخير تم بواسطة نورالدين لعوطار; الساعة 04-06-2018, 01:54.

    تعليق

    • نورالدين لعوطار
      أديب وكاتب
      • 06-04-2016
      • 712

      #3
      في كتابه قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام، ردّ محمود محمد شاكر على طه حسين، إذ خلص في محاضرات ألقاها في جامعة سعودية في نهاية السبعينيات "بعد وفاة طه حسين"أن الشعر الجاهلي صحيح، أمّا الموضوع منه، وهو قليل سواء كان ملحقا ببعض القصائد أو الذي يوجد في بعض كتب التاريخ والسير والأخبار فهو معروف ولا يدخل تحت تصنيف الشعر الجاهلي.
      صدور كتاب طه حسين جعل شاكرا يقرر مغادرة الجامعة حيث كان في موسمه الثاني بها، بل مغادرة مصر صوب الحجاز موطن الأجداد، هناك أسس مدرسة وهو لم يصل بعد إلى العشرين، عمل فيها مديرا، لكنّه عاد بعد عام إلى مصر منعزلا معتزلا دارسا باحثا معتكفا، فأعاد قراءة الأدب العربي القديم كلّه و منه إلى علوم العربية وعلوم القرآن والحديث والسير...
      انطلق شاكر من نص للجاحظ يقر فيه أن الشعر هو ديوان العرب، وأن أول من نهج سبيل الشعر هو المهلل وامرؤ القيس، فإن كان شاكر يعترف أن أقدم شعر جاهلي صحيح وصل إلينا هو شعر المهلهل و امرؤ القيس فهو في الوقت ذاته ينكر على الجاحظ أن يكون الشعر ولد معهما لأن الشعر في عهدهما اكتملت بحوره وأوزانه، ولا يوجد شيء يولد كاملا، بل كان الشعر في بدايته أبياتا دون القصائد، فإن كان ابن سلام في طبقات فحول الشعراء يشير إلى كونهما أول من قصّد القصائد وأيضا الحديث الضعيف الذي يتحدث عن كون امرئ القيس هو حامل لواء الشعراء في النار لأنه أول من أحكم الشعر، فأحكم الشعر لا تعني أول من نهج سبيله. وحمل شاكر على الجاحظ منتقدا هذا الخلط. وبذلك يكون عمر الشعر الجاهلي أقدم من المئتي سنة التي حددها الجاحظ.
      في تحليله لمقدمة كتاب ابن سلام خلص شاكر أن الشعر كلام شريف المعنى نبيل المبنى محكم اللفظ، وبذلك يكون كل كلام لا تتوفر فيه تلك الشروط بعيدا عن الشعر، فالشعر الموضوع كلام لا يستحق مرتبة الشعر عند علماء الشعر بداية بالأسود الدؤلي فيحي ابن يعمر العدواني....وصولا إلى الخليل الذي كان أمة وحده ثم إلى خلف الأحمر والأصمعي وأبي عبيدة في عصر ابن سلام. وهؤلاء أخذوا المنهج عن علماء الحديث وعلم الجرح والتعديل.
      فما خفي عنهم ما نسب إلى عاد وثمود وملوك حمير. أو ما تحدث به ابن اسحق وهو المعترف بعدم إحكامه للشعر.
      ومن ذلك المنطلق فالشعر الجاهلي صحيح، وأصحاب الجاهلية يتذوقون الشعر بعلم، ومنه يستطيعون معرفة أن القرآن مفارق لكلام البشر. وهنا ذكّر شاكر أن طه حسين لا يتذوق الشعر تذوقا سليما، وبالتالي فعرب اليوم بينهم وبين العربية و بينهم وبين علومهم مسافة بعيدة لكونهم يتعرضون لغزو ثقافي، ونظرا لتمسكهم بمقولات المستشرقين و ثقافة الغربيين.

      يتبع
      التعديل الأخير تم بواسطة نورالدين لعوطار; الساعة 03-06-2018, 21:04.

      تعليق

      • نورالدين لعوطار
        أديب وكاتب
        • 06-04-2016
        • 712

        #4
        نعم سنطوي قصة الشعر الجاهلي لأن قصّة المتنبي ستتبعها، سنطوي قصّة الشّعر الجاهلي الذي ليس في حقيقة الأمر إلا وجها من وجوه خلاف عميق جدّا بين مثقفين عضويين بالتعبير الغرامشي، أي شخصين مرتبطين بالجمهور والسياسة ولهما مشروع ثقافي، فطه لا يقصد الشّعر الجاهلي كشعر بل يقصد نمط تفكير بل نمط وجود، فزكي نجيب محمود يقول تكمن خطورة طه حسين وكتبه في كونه يكتب ليغير وجه الحياة الثقافية في الأمة العربية، فعندما يلمّح طه حسين أن العرب كانوا أهلا لتحمل الرسالة قبل مجيئها، أي أن الجيل الذي نهض بالإسلام جيل لم يصنع بين عشيّة وضحاها، بل كان يملك من المقومات ما يجعله جيلا ينهض بمسؤولياته التاريخية، أي أن القرآن نزل في مجتمع عقلاني له درجة كبيرة من الفهم والرقي والمدنية وأهله ليسوا أهل بدائية وهمجية، فلإعادة النهضة والقيام يلزم عمل الشيء ذاته مرة أخرى أي تكوين مجتمع قادر على تحمل مسؤوليته التاريخية، مجتمع عارف واع بظرفه التاريخي مستوعب له، قادر على الاجتهاد فيه كما وعى أهل الجاهلية عصرهم وأبدعوا فيه والنهضة يصعب تصورها وأنت خارج عصرك، تفكر بعقلية تراثية محضة. فطه حسين منخرط في مشروع يهيئ له أسباب التنزيل، يريد جسر الهوة التي تفصل بين العربي والثقافة الغربية، ليس حبّا في الثقافة الغربية، لكن لكون طابعها العلمي هو محور قوتها، فقراءة الأدب والتاريخ والثقافة وفق المناهج العلمية الحديثة تتيح فتح العقل العربي على أنماط جديدة من الوعي وربما ألحقت بعض الضرر ببعض مسلمات العقل التراثي عن غير قصد، لكن لا مناص منها لإعادة إحياء فعالية العقل العربي، فالمناهج الجديدة تتيح إعادة القراءة، طه حسين كان شخصية فريدة وغريبة، وانحنى بدهاء السياسي والديبلوماسي للعاصفة التي تلت إصدار الكتاب في 1927 بل في حديث الأربعاء مارس بعض النقد الذّاتي على كتابه وأقرّ بصحة بعض من الشعر الجاهلي، وانتقد بشدّة دعاة التغريب، بل يؤكد على الأصالة مع المعاصرة، أي لا عذر لمن لا يعرف هويته وتراثه وبعد ذلك يمكنه أن يبحر كيفما شاء في علوم الغرب وفنونه، كما تجده إلى آخر عمره مناصرا للفصحى ضدّ العامية، أمّا محمود محمد شاكر فهو حائط الصّد، شخص لابد من وجوده يحدّد رقعة اللّعب، فلا يمكن قبول الانبطاح هكذا، والانسلاخ هكذا وكسر الثوابت هكذا، فأنت هنا تغامر بالشخصية الثقافية للأمّة، قل هو المقاومة أو الكريات البيضاء التي تدافع عن جسد الأمة، فلا قبول بفكرة خارجية حتى تطوّع، وتثبت قدرتها على المرونة والتعايش مع العناصر الثقافية الأساس، نعم قد يتعلق الأمر بنوع من الفرملة، لكن هكذا تعمل الموازين. محمود شاكر شخص عنيد جدّا من الشخصيات التي أحببت فيها عنادها وإصرارها على تحقيق نفسها بالكيفية التي تريدها، شخص يحمل لسانه جرأة جارحة ولو في مجلس الملوك، شخص يؤدّب أيضا أصحابه ففي كتابه نمط صعب ونمط مخيف لم يسلم يحيى حقي وهو أحد المقربين منه كثيرا من لسانه اللاّذع، خاصة عندما أحس بأنه يعظم الشاعر الألماني غوته، وفي هذا الكتاب أيضا يردّ على طه حسين وعلى الذين اتهموا الشعر العربي بغياب وحدة الموضوع.
        سنطوي قصّة الشعر الجاهلي ونستمر مع كل من طه حسين ومحمود محمد شاكر وهما يحلان ضيفين عزيزين على المتنبي.
        يتبع

        تعليق

        • نورالدين لعوطار
          أديب وكاتب
          • 06-04-2016
          • 712

          #5
          في عام 1936 كلفت مجلة المقتطف محمود شاكر بإعداد ملف عن المتنبي احتفاء بمرور عشرة قرون على وفاته، كانت العودة إلى المتنبي نوعا من صلة الرحم بين شاكر الشاب وطفولته، فالمتنبي هو شاعر طفولته وكانت أشعاره كورد يومي لشاكر الطفل منذ الثانية الابتدائية، فالعودة إلى المتنبي هي عودة للأصل، أعاد شاكر قراءة الدّيوان والتراجم والشروحات القديمة والحديثة واستوقفه الجزء الثاني من الديوان حيث تم تأريخ قصائده من قبل المتنبي باليوم والشهر والسنة، وهذا يؤكد ما توليه الحضارة العربية والإسلامية من أهمية للتاريخ، وهذه النقطة تحديدا هي نوع من الردّ والصّد، من جهة على المنهج النقدي التاريخي الذي يمارسه طه حسين، و أيضا للنظرية العامة التي ترمي الفكر الإسلامي بإهمال التاريخ، وتفضل شاكر بذكر نزول القرآن منجّما على ثلاثة وعشرين سنة ونوّه بترتيبه المحكم وحفظ أسباب نزوله. فالعودة إلى المتنبي مناسبة لشاكر لتطبيق منهجه الذي مارسه لتأريخ بعض قصائد الشعر الجاهلي وذلك سيرا على مسلكه القديم دفعا للشكوك التي بذرها طه حوله منذ عشر سنوات. ومناسبة أيضا لإظهار قوة منهجه في تذوق الشعر، إذ سيظهر مهارته في تتبع حركة وجدان المتنبي عبر قصائده وهو نوع من النقد النفسيّ لقصائده. مارس شاكر منهج الشّك بجدارة ليس على الدّيوان بل على ترجمة المتني، فقاده تتبع وجدان الكاتب والأزمات التي عصفت به في فترات عمره التي تجلت لشاكر عبر قصائد الدّيوان، فصاغ في النهاية شخصا جديدا أو بالأحرى قدّم معلومات مستجدّة انطلاقا من المسكوت عنه أو حتى المنطوق الخفي الذي تهمس به الأبيات، ويمكن تلخيص عمل شاكر في النّقاط التّالية، أوّلا إعادة ترتيب بعض قصائد الجزء الأول، ثم علوية المتنبي، أي أن المتنبي بنتسب لأب من أشراف العلويّين لكن وفاته جعلت أهل والده يقصيانه من النسب فأصيبت أمّه بالغمّ وماتت ومن ثم كفلته جدّته من أمّه. ثالث الفتوحات تمثّلت في نفي النبوءة عن المتنبي، ورابع الاستكشافات هي وقوع المتنبي في غرام خولة أخت سيف الدّولة، ثم تحديد المسار العام لتنقلات المتنبي من الكوفة إلى بغداد ثم الشام والعودة إلى الكوفة والزواج ثم الرجوع للشام ثم مصر ومقتله بالعراق.
          على أن القضيّة الأساس التي ناضل من أجلها المتنبي في حياته كلّها هي قضية سياسية تتمثل في محاولة استرجاع أمجاد العروبة التي تهاوت بإستيلاء الأعاجم على الأمبراطورية العربية، وتحوّل الخلافة العباسية إلى مجرّد خلافة شكلية، وتعتبر فترة مصاحبة المتنبي لسيف الدّولة فترة عنفوان وزهو ومجد حيث توسّم فيه المتنبي عودة البطولة العربية والشهامة المفقودة والكرامة المهضومة. وكانت أشعاره وقتئد بلغت مجدها وتدفقها منساب وشعريتها عالية، على أن فراقهما وفترة لقائه بكافور الإخشيدي تمثل فترة انكسار وهزيمة تعكس أفول المجد العربي.


          يتبع
          التعديل الأخير تم بواسطة نورالدين لعوطار; الساعة 08-06-2018, 15:58.

          تعليق

          • نورالدين لعوطار
            أديب وكاتب
            • 06-04-2016
            • 712

            #6
            كان الرّافعي أوّل المشيدين بعمل تلميذه محمود شاكر، فلعلّه كان ينتظر هذه اللّحظة التي سيسطع فيها نجم شاكر بين صانعي الأدب بأحرّ من الجمر، فهو في حاجة لمن يواصل مسيرته ضدّ المغرّبين حسب رؤيته، فما أن ظهر هذا العمل الفكري والأدبي لهذا الفتى وبهذه الصّلابة والجرأة والقوّة العلمية والبيانية حتّى صفّق له الرّافعي تصفيقا يوازي ما كاله لطه حسين من صفع عند صدور كتابه في الشعر الجاهلي.

            ربما ما نال كتاب المتنبي ناقدا حقيقيا على الأقل حسب اعتقاد شاكر فلم يعترف لكل الذين تناولوا الكتاب بالنقد بصفة الناقد الحقيقي وإن أعجبته بعض المقالات، فقد استحسن مقالة مصطفى صادق الرافعي ومقالة نقدية للأستاذ الوديع تلحوم.
            سعيد الأفغاني كان له رأي آخر في كتاب المتنبي حيث اتهم محمود شاكر بإبطال رواية النبوءة ليس وفق منهج وعلمية بل لهوى في نفس شاكر، بل يكاد يصرح أن شاكرا يضع افتراضا في البداية ومع توالي الصفحات تجد الافتراض قد أصبح حقيقة بغير بينة، كما رأى أن علوية المتنبي ومحاولة إثباتها لا تستحق كل ذلك الاضطهاد و المتابعة والمطاردة التي تعرض لها المتنبي والأمر لا يعدو أن يكون مجرد خيال استلطفته نفس محمود شاكر، وللاشارة فسعيد الأفغاني أيضا مهتمّ بالتراث والنحو العربيين، كما أن ردّ شاكر عليه فيه استعلاء كبير دون بينة حقيقية للشبهات والاعتراضات التي قدّمها الرجل.
            وعند صدور كتاب عبد الوهاب عزام عن المتنبي اتهمه شاكر بسرقة براءة اختراعاته واستكشافاته في موضوع المتنبي بل استكثر عليه أن يكون قام بمجهود متعب كما أوهم الناس، بل مجمل ما قام به هو سطو فاضح لكتابه المنشور في مجلة المقتطف.

            يتبع
            التعديل الأخير تم بواسطة نورالدين لعوطار; الساعة 08-06-2018, 19:40.

            تعليق

            • نورالدين لعوطار
              أديب وكاتب
              • 06-04-2016
              • 712

              #7
              يتساءل طه حسين عن السبب الذي جعل المتنبي يتجاهل أباه في أشعاره، ورأى أنه لم يفعل فعلة جرير الذي أعاد إنتاج والده، وأعاد صياغته كما أراده أن يكون، وعزّز بأبيات يحطّ فيها المتنبي من قدر من يتفاخر بنسبه وآبائه وأجداده، و اعتبر الأمر نوعا من قلّة الحيلة والهوان، لأن الوجود هو وجود القوّة والرّمح والسّيف والذّوق والمعنى و الفخر بالنّفس ومنجزها. فالمتنبّي لا ينتمي إلى الرّجال بل ينتسب إلى الشّهامة والمروءة، يقول طه، لست أهتمّ بنسب المتنبي بقدر ما تهمّني عروبته، والعروبة هنا ليست بمعناها العرقي والتعصّب التّقليدي لمفهوم الهويّة والانتماء لقبيلة عربية من قبائل الشّمال أو الجنوب، الّذي لا يزال البعض يتمسك به، بل العروبة بمفهومها الثّقافي الواسع أي الانتماء إلى اللسان والتفاعل به والفعل فيه علما وأدبا.
              يقول المتنبي:
              لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
              وبنفسي فخرت لا بجدودي
              وبهم فخرُُ كلّ من نطق الضّا
              د وعوذُ الجاني وغوثُ الطّريد
              فالمتنبي فخرُ قومه وإن كان قومه فخرُ من نطق الضّاد، فلا تهمُّ نسبة النسب بقدر ما تهمُّ نسبة العروبة، ويضيفُ طه رافعا السّقف إذ يقول أنّنا لا نجحد إنسانية إنسان فقط لأنه لا يستطيع إثبات نسبه إلى الإنسان الأول.
              لتوضع شخصية المتنبي موضع فهم لابدّ من استقراء أسباب الحنق الذي تتّسم به نفسه والضعف الدّفين الذي يعتريه فيجعله كثير الاعتداد بالنفس، يتساءل طه ما الذي جعل المتنبي يعيش طفولة شاذّة تختلف عن أترابه. وللجواب عن أسئلة كهذه حلل طه المجتمع الكوفي الذي نشأ فيه المتنبي. حلل طه المجتمع بداية من الكلّ، أي بالدولة العباسية فقرأها من منطقين، منطق سياسي متسيب يعبث فيه العسكر بالحكّام، أي بداية استقلال الأطراف عن السلطة المركزية، ومنطق ثان متمثل في رشد العقل العربي وبلوغه أقصى درجات وعيه، فالمجتمع عارف عالم والسياسة عشوائية، أي أن الظلم السياسي مستشر ممّا سهّل تفاقم الظلم والانحطاط الاقتصادي، هناك ارتفاع للجبايات وهناك حنق عام على السلطة أي انفصال بين بغية الناس وأهدافهم وأناشيدهم وما يفعله السّلطان، والكوفة معقل من معاقل العلويّين الشيعة، حيث الثّورة والتّهميش، هناك تربى المتنبي مع عامّة الشّعب في مدرسة من مدارس الشّيعة، وهناك تجرّع أولى جرعات القرمطيّة، وعندما كبر أصبح قرمطيّ المذهب ولعلّ ذهابه إلى الشّام كان من أجل الدّعوة لمذهب القرامطة وكلّما كُشف في مكان ذهب إلى آخر وهذا سر ترحاله المتوالي والمطاردة التي يتعرض لها. إلى أن استيأس من هذه الدعوة بعد نكبته، طه يقول أن المتنبي لم يكن قرمطيا أصيلا بل مجرّد حامل للهمّ العربيّ ونشيد العدل ورأى في القرمطيّة وسيلة لاستعادة المجد العربي.
              يعتبر طه حسين كتابه "مع المتنبي" مجرد خواطر، فهو يكاد يشير إلى قلّة معرفته بالموضوع، بل يقول أنه في الوقت الذي قرر فيه الكتابة لم يستعن بغير ديوان المتنبي كمرجع، إذ يؤكّد طه أنه يكتب خواطر على هامش الدّيوان فربما قصد التخفيف من آرائه الجريئة التي تصل إلى حدّ نزع الهيبة عن الرموز كما الأزمنة والتخفيف من أسطرتها. طه يضيف أنّه في الأخير لا يكتب شيئا ذا وقع عتيد، بل الكتابة نعبر فيها عن ذواتنا أي نكتب أنفسنا.
              فور ظهور كتاب طه مع المتنبي شمّر شاكر عن سواعد الجدّ وخصّص للكتاب من الوقت ما يستحقّ ويزيد، فإن كانت المسافة الزمنية بين كتابيهما تقترب من السّنة وإن كان طه حسين نوّه وأشاد واستطرد في الثناء على كتاب شاكر في إحدى لقاءاتهما النّادرة، فشاكر توجّس خيفة من هذا الاحتفاء المبالغ فيه، وفي نفس الوقت لا يحبّ أن يمدحه طه حسين بالذّات، فعلى الأقل ربما كان سبب انعطافة حادّة في حياته ساهمت في توقه لمعانقة الموت في مرحلة ما، بينما سعى شاكر سعي المتلهف لمعرفة رأي العقّاد، وذهب إليه برجليه وأهداه نسخة من الكتاب، وكان اللقاء باردا جدّا بينهما، لقاء بين شابّ مغمور أدبيا وهرم من أهرامات عصره، لكن الموقف تبدّل حين التقيا بعد ذلك فأظهر العقّاد حفاوة وتبسما دافئا كان كافيا ليحسّ شاكر بالفخر، وفسّره أنّه عربون اعتراف وإشادة بعمله.
              حمل شاكر على طه حملا عنيفا جدّا في مقالات ضُمّت بعد ذلك في كتاب بيني وبين طه بمجرّد نزول كتابه مع المتنبي إلى سوق الأدب، اتهم شاكر طه حسين بالسطو الفاضح على كتابه وأفكاره، فالشكّ في النسب منتوج شاكري صرف ما سبقه إليه أحد في الأولين والآخرين ما كان على طه أن يوظفه إلاّ منسوبا لصاحبه، كما أن مسار رحلة المتنبي عبر الأمصار خطاطة شاكرية صرفة جاءت بعد تدقيق وتحقيق وتذوق، فطه لم يكتف بهذا بل سرق النّهج العام للكتاب، وسرق أسلوب التذوق في النقد الأدبي الذي ابتدعه شاكر، لكن هذه السّرقة اكتفت بالظاهر فما عملت وما علمت بأسس هذا الدّرب الجديد في النّقد. خلاصة القول أن طه كان محقّا وصادقا حين قال عن كتابه أنه ليس نقدا ولا دراسة بل مجرّد هذيان.
              لم يكتف شاكر بتحطيم الكتاب من حيث الأفكار التي تضمنها، بل اعتبره مجرّد حاشية على كتابه وكتاب عزام وكتاب المستشرق الفرنسي بلاشير الذي لمّح إلى إمكانية أن يكون المتنبي تأثر بالقرمطية فتلقفها طه لقفا جائرا فوصم الرجل بها.
              يتبع

              تعليق

              • نورالدين لعوطار
                أديب وكاتب
                • 06-04-2016
                • 712

                #8
                أنا ابن من بعضه يفوق أبا الـ
                ـباحث والنجل بعض من نجله
                وإنما يذكر الجدود لهم
                من نفروه وأنفدوا حيله
                يقول طه حسين مفلسفا البيتين، أن المتنبي ينتسب إلى متجزّئ جزؤه أفضل من كله، أي أن الجزئي هنا هو ما يصنع الكلّ أو أن الجزئي هو الحقيقي وليس الكلي، وإن أردت التدخل والتفسير لربما قلت إن كان الابن جزءا من الكلّ اي بعضا من الأب، فلأنّ المتنبي يقدّم نفسه على جدوده في الفخر، فهو يرى البعض أكمل من الكلّ أي أن الجزئي هنا فيه كمال و أكثر من كلّه، شاكر اللغوي استهجن هذا التفسير أو قل التأويل أو قل الجمع بين البيتين وفضل شرح البيت الأول بمعزل عن الثاني واصفا طه بقصر النظر وضعف تذوق الشعر، فيقول أن البيت لا يقول هذا بل فقط يقول مجيبا السائل الذي سأل المتنبي عن أبيه، أنه ابن لرجل وشخص يفوق أب السائل مزلة وقدرا، كما يفوق المتنبي السائل منزلة والولد بعض من نجله أي أن فيه بعض صفات من ولده أو ربما هو صورة منه.
                وفي بيت آخر حيث يرثي المتنبي جدّته من أمه، إذ يقول:
                ولو لم تكوني بنت أكرم والد
                لكان أباك الضخم كونك لي أمّا
                يشير طه حسين أن الجدّة إن لم تكن قد نالت ما يكفي من فخر الأجداد فيكفيها فخرا أنها أنجبت المتنبي. في هذا البيت أيضا يتدخل شاكر لتصحيح منطوق البيت إذ ينبه أن "لو" هنا تنفي هذا الزعم الذي تحدّث عنه طه حسين، فلو تفيد نفي حاجة الجدّة للفخر بولدها ما دامت هي بنت أكرم والد، وهذا في نظري معنى صريح يستوجبه مقام رثاء الجدّة ورفع مقامها ومكانتها، أي أن المتنبي ضحى بمكانته في سبيل إظهار مكانة الجدّة وهي حيلة شعرية بها يريد المتنبي أن يظهر مكانة هذه الجدّة في نفسه إذ تنازل عن شموخه أمامها، وهذا كلّه ليذكر ويبدي ويعلن مقدار خسارته بفقدانها. لكن لو تسألنا لماذا جاء المتنبي بنفسه بالذات أيضا في هذا الشعر وفي مقابلة أخرى مع الأجداد هذا السؤال هو ما حاول طه حسين الإجابة عنه في كتابه وقل في أدبه عموما، وهذا الجواب هو ما يحاول شاكر تحجيم صلابته ويناضل ضدّه في أدبه وفكره.
                نموذج ثالث للأخطاء التي سجلها شاكر على طه حسين تمثل بقياس في غير موضعه، فهو يرى أن إلحاح شاكر في زعمه أن المتنبي مهموم بإظهار وإعلان نسبه العلوي ومنه نحو العروبة فتوسع في هذا الطّرح لكنّ المسألة لا تستحق كل هذا التهويل ضاربا مثلا أن إثبات إنسانية إنسان لا تستوجب توثيق نسبه إلى الإنسان الأول.
                فأظهر شاكر عوار هذا القياس إذ شرط الانتساب للإنسانية ليس في إظهار النسب بل الإنسان حيوان عاقل، لكن شرط الانتساب للعلوية هو إظهار النسب ومثل هذا الأسلوب الجدلي زائف.
                لاشكّ أن شاكرا كان محقّا جدّا في الفصل بين المسألتين، لكن عند اعتبار شرط الانتساب للعروبة بالنسب، لأنّ طه حسين يتحدث عن لا سلامة الانتساب إليها عرقيا وفقط بل ثقافيا ولسانيا، وهنا ينتفي الشرط الذي به تبقى حجّة شاكر موفقة، ويكون نقده مجرد حكم جدليّ لا يستقيم.
                يقول العقّاد، طه حسين جسر الهوة بين الأدب اليوناني والأدب العربي القديم، أي أتاح إمكانية التلاقي بين الأدبين كما عمل الفلاسفة القدماء على جعل العقل العربي يلتقي بالعقل اليوناني والقبول بالمنطق الأرسطي كفيصل في الكلام، كما يحاول طه إقامة رابطة بين الأدب العربي الحديث و الأدب الأوربي. وهذا هو ما يحاول شاكر الحدّ منه أي فكّ الارتباط بين الأدبين قديما وحديثا، بل أيضا بين الثقافتين.
                يتبع
                التعديل الأخير تم بواسطة نورالدين لعوطار; الساعة 18-06-2018, 16:18.

                تعليق

                • نورالدين لعوطار
                  أديب وكاتب
                  • 06-04-2016
                  • 712

                  #9
                  لو تأمّلنا كتاب المتنبي لشاكر لوجدناه كتاب سيرة، هذه السيرة ناتجة ومستقاة من الدّيوان أساسا ثم التاريخ والتراجم والحكايات ثانيا، فالترتيب الكرونولوجي للوحدات المكونة للدّيوان، خطوة أولى لرسم خريطة مشاعر الشاعر وتدبدباتها عبر الأزمنة والأمكنة وبشكل ترادفي أوتطوري، فالشعر عند العقّاد مثلا هو صورة ومعنى وليس مجرّد لفظ، بل أكثر من هذا فالشعر مرتبط بأنا الشاعر وهذا ما يهمنا هنا أكثر، لأنه من هذه القاعدة انطلق شاكر بالتحديد فهو على الأقل افترض صدق مشاعر الشاعر بل صدق أقواله كما أفعاله، ثم وحدة الموضوع، أي أن الدّيوان موضوعه هو المتنبي نفسه، وإن كان شعر المتنبي يؤازر هذا المنحى لأنّ أناه جزء لا يتجزأ من قصيده، بل نجد الأنا في قصيده أكثر حضورا، بل إيغالا في الاستحواذ على النص وهذا ما سماه طه حسين بالمبالغة، فالمبالغة هنا تجعلنا نتساءل عن مدى صدقية الشاعر في شعره، فشاكر لا بدّ يجد ميزانا به يزن الصّادق من المبالغ فيه من وجدانيات الشّاعر، يعتمد منهج التذوق عند شاكر على أدبيات يعتبرها أصولا لا غنى عنها، قبل أي تذوق للنص أو الكلام علميا كان أو أدبيا، يلزم ما يلي.
                  شروط مادّية: أي جمع المادّة أو المعطيات الحسية "نصوص" ثم تصنيفها و تمحيصها حتى يظهر الزائف منها من الصّادق بلا غفلة ولا هوى.
                  شروط التطبيق: إعادة تركيب المادّة تركيبا ملائما.
                  ولتكون هذه الشروط قابلة للتحقيق، يجب أن يكون الناقد ملمّا بعلوم العربية وعلوم القرآن والحديث وأصول الفقه، ولأشرح قليلا، فعلوم القرآن تجعلك تقف عند المقاصد العامة للثقافة وتجعلك تتموضع عقديا وثقافيا، وعلوم الحديث تعلمك التحقق من الرواية ودراسة السّند وعلوم العربية تجعلك تعرف معاني الألفاظ والأساليب وتحدّ من إمكانية التأويل العشوائي وأصول الفقه تجعلك قادرا على الحكم مالكا لناصية ملكة الحكم.

                  يعتبر شاكر أمّة فاقدة للتذوق أمّة فاقدة لأسباب وجودها، فالتذوق سبب وجودها الأكبر، هنا يجب معرفة ما معنى التذوق عند شاكر، فالتذوّق عند شاكر هو سلامة العقل والنفس والقلب من الآفات، وما الآفات يا محمود؟ الآفات هي الفكر الدّخيل، المنطوق المجهور به في كلام شاكر كله حلو على عسل لكن المهموس المسرور لا يخلو من بعض الغموض، رغم أن هذا الظاهر والباطن كلام صوفي كما التذّوق منهج صوفي ذاتي لا يعكس تمثلات شاكر للحقيقة، فالصبغة الصوفية لشاكر ظهرت خلال هذا المصطلح ليس كيمولات معرفية عرفانية، بل كملجأ نفسي، إذ يحدث أن يغيب الرجل مفضّلا التّواري عن الأنظار واعتزال الحياة الأدبية والثقافية وعيش تجربة ذاتية جراء كل تجربة مؤلمة يتعرض لها، فما جعله مثلا يتوقف عن نقد كتاب طه حسين هو موت الرّافعي الذي أدخله حالة عزلة شبيهة بالتي كانت قبلها عندما غادر الجامعة أوعاد من السعودية.
                  لست أدري ما الذي جرّني جرّا إلى حياة شاكر، ونفسيته، يبدو أنّها العدوى لطول فترة صحبة أعماله وأسلوبه، يقول نجيب محفوظ لا أحضر ندوات شاكر خشية التأثر بأسلوبه، فإن حقّ لرجل كنجيب أن يخشى التأثر فما بال شخص مثلي لا يتأثر فيتطلع لصياغة سيرة جديدة للرّجل إنطلاقا من كتبه وأقواله.
                  طه حسين يقول لا نكتب إلا أنفسنا، لست أدري إن كان شاكر فهم قصد طه من خلال إصراره على ذكر تلك العبارة وشاكر لم يسمّ بعد منهجه في النقد ولم يوثّق أصوله إلاّ بعد مرور ثلاثين سنة تقريبا من صدور كتاب المتنبي، كان طه يقول لشاكر أنت لم تظهر لنا المتنبي بل كتبت خواطر تظهر فيها محمود شاكر في الأخير، كانا يعرفان بعضهما بعضا غاية المعرفة، فمزاج شاكر يشبه إلى حدّ ما مزاج أبي الطّيب، وعلوية المتنبي إسقاط لعلوية شاكر على شخصية المتنبي، وثوريته إسقاط لثورية شاكر على مجتمعه المغترب الذي يسيطر فيه الأعاجم على العرب ثقافة واستعمارا. حتى تلك التجربة العاطفية الفاشلة التي عاشها المتنبي تعبير عن تجربة عاطفية لمحمود الكاتب. وهل كتب طه حسين نفسه أيضا ربما أن طفولة فقيرة صعبة كالتي تخيلها طه تعبير عن معاناة طبقة فقيرة ينحدر منها، كما أن نشيد العدل الذي يبتغيه المتنبي وناضل من أجله هو ما سعى نحوه طه حسين وكذلك تحديث مفهوم العروبة والهوية عموما وفق التمثلات الحديثة جلّها إسقاطات للحاضر على الماضي وزرع للآمال الآنية في الآداب القديمة.

                  يتبع
                  التعديل الأخير تم بواسطة نورالدين لعوطار; الساعة 19-06-2018, 11:49.

                  تعليق

                  • فاطمة الزهراء العلوي
                    نورسة حرة
                    • 13-06-2009
                    • 4206

                    #10
                    شكرا أستاذنا السي نور الدين
                    هذه الجولة في رحاب الإبداع الحق بمنظاردقيق ، يفسح المجال لشساعة إنصات
                    أتذكر قولة لأستاذي الدكتور محمد رقيد قال يوما: نحن لم نقرأ لهؤلاء الذين سبقونا ، نحن قرانا عنهم ,, وكان يتحدث عن العهد العباسي بكل ثقله وما سبقه من إبداع
                    أرجو المعذرة على مقاطعتك
                    وننصت جميعا لهذا الدفق الفكري مع السي نورالدين الفاضل
                    لا خير في هاموشة تقتات على ما تبقى من فاكهة

                    تعليق

                    • نورالدين لعوطار
                      أديب وكاتب
                      • 06-04-2016
                      • 712

                      #11
                      يسير طه حسين جهة الفرع فيرى في المتنبي خير من يعبر عن صلابة الفرع واكتمال النبوغ مع الزمن فيرى الجزء يعيد صياغة الكلّ يوما بعد يوم، أي أن الحاضر هو ما يصنع الرؤية، فالمتنبي فخر لقومه، فهو يعيد صناعة الفخر بآليات عصره، يعيد إنتاج المجد، ويتجسد فيه، فالمجد يمكن صناعته متى كنت قادرا على استثمار معطيات حاضرك وأبدعت فيها، أمّا مجد الأجداد فهو لهم فلا يغتر به إلا من كانت قدراته محدودة وغلب على أمره فيبرر قصور فعله بحضور وازن في الماضي. شاكر يرى ضياع الشخصية الفاعلة في الحاضر كان وراءه زيغ ثقافي وانحراف عن السبيل، فالطهطاوي ومن سلك مسلكه هم من مهّدوا لهذا الضياع، فلو اتّبعت الأجيال اللاحقة ما بدأه ابن عبد الوهاب والجبرتي الكبير والشوكاني وعبد القادر البغدادي وصاحب تاج العروس لكانوا أحسن حالا، لكنّهم ساهموا في تعطيل هذا المشروع وكانوا في صفّ بونابرت الذي سعى إلى إفساد نهضة الشّرق، بالاستعمار والاستشراق والبعثات والتبشير. لا وجود لثقافة عالمية إنسانية، ولا وجود لثقافة بمعزل عن الدين، فحضارة أوروبا بدأها لوتر وكيلفن أي لها صبغة دينية، لذلك كان همّ نابليون هو قمع النهضة العربية الإسلامية. والصّراع بين أوربا والعرب صراع ديني منذ فتح الشّام إلى فتح القسطنطينية.
                      يحكي التاريخ أن فرنسا عهدت إلى بونابرت غزو انجلترا بعد انتصاراته المبهرة في أوربا، لكنه عندما حسب حساباته فضل غزو مصر لسببين، أولهما أن مصر فيها ممر بري بين البحرين تمر من خلاله معظم تجارة انجلترا مع الهند، وثاني الأمرين شخصي له علاقة بحبّ يكنّه نابوليون للإسكندر، واعتقد أن الشرق مكان لاكتساب العظمة والمجد وصناعتهما، جاء بونابرت كما يفعل الغزاة عبر العصور حاملا مشروع تحرير معلن ومشروع استغلال وابتزاز مضمر، فقط ما ميّز نابوليون عن غيره وما أعطى لحملته على الشرق زخما غير طبيعي رغم فشلها العسكري حيث تمّ تدمير الأسطول الفرنسي من طرف الأنجليز، هو اصطحابه أكثر من مئة عالم من خيرة علماء فرنسا بداية بالرياضياتي فورييه إلى دولوميو في الجيولوجيا و رودوتي الرسّام في علوم الطبيعة،فأسسوا معهد مصر، وجابوا بلاد النيل طولا وعرضا، ولم تقع عينهم على كبيرة ولا صغيرة إلا دوّنوها ووثقوها ورسموها سواء فهموا مغزاها أم لم يفهموا، ومنهم من استمر عمله زهاء اثنين وعشرين ربيعا حتى تمت إعادة وصف مصر في عمل موسوعي جبار كان انطلاقة لما يسمى علم المصريات بل كان انعطافة تاريخية إذ من خلال أعمالهم سيتم إعادة رسم تاريخ العلم والإنسان والأرض، " روزيتا ستون، دائرة الأبراج داندرا، مديتة انتينو بوليس...."
                      في ردّه على رسالة في الطريق إلى ثقافتنا اعتبر سعد مصلوح أن المنهج النقدي الذي اقترحه شاكر صالح ولا شكّ في التّحقيق ونقد النصوص، لكن هل يغني عن المناهج الوصفية والمناهج الإحصائية وعن المناهج التجريبية هذا أمر يصعب قبوله، وإن كان الدّين سببا من أسباب الصراعات بين الأمم والثقافات فليس سهلا أن يعتبر السبب الوحيد وهذه نظرة أحادية تحجب باقي الأسباب وتجانب النظرة الموضوعية. "ويصعب حصر الصّراع في كونه إسلام ومسيحية فقط" فقبل أن يغزو نابوليون مصر غزا بلدانا أوربية مسيحية بل اعتقل البابا ونفاه وصادر أملاكه، ومحمد علي قمع حركة التمرّد ضد الخلافة في البلقان، وهو عمل لا تحبّه الكنيسة ولا المستشرقين، والثقافة ما كانت يوما يوما أحادية بل تلاقحا بين الشعوب والقبائل ولم تنهض أوربا بلغة واحدة بل بلغات وقوميات مختلفة ولم تتضرر المسيحية من التعدّد اللّغوي بل قامت الترجمة بتقريب الدّين بألسنة الأقوام المسيحية.

                      يتبع


                      يتبع

                      تعليق

                      • نورالدين لعوطار
                        أديب وكاتب
                        • 06-04-2016
                        • 712

                        #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة فاطمة الزهراء العلوي مشاهدة المشاركة
                        شكرا أستاذنا السي نور الدين
                        هذه الجولة في رحاب الإبداع الحق بمنظاردقيق ، يفسح المجال لشساعة إنصات
                        أتذكر قولة لأستاذي الدكتور محمد رقيد قال يوما: نحن لم نقرأ لهؤلاء الذين سبقونا ، نحن قرانا عنهم ,, وكان يتحدث عن العهد العباسي بكل ثقله وما سبقه من إبداع
                        أرجو المعذرة على مقاطعتك
                        وننصت جميعا لهذا الدفق الفكري مع السي نورالدين الفاضل

                        أهلا بالأستاذة فاطمة الزهراء

                        نعم صدق الأستاذ الفاضل أننا نقرأ عنهم أو نقرأ بعيون غير عيوننا.
                        هي حوارات وخيارات لابد منها لنكون ما نحن عليه.


                        شكرا لحضورك الجميل.

                        تعليق

                        • فاطمة الزهراء العلوي
                          نورسة حرة
                          • 13-06-2009
                          • 4206

                          #13
                          نتابع هذا الدفق المعرفي مع أستاذنا الفاضل السي نورالدين
                          ان شاء الله تكون بخير
                          لا خير في هاموشة تقتات على ما تبقى من فاكهة

                          تعليق

                          يعمل...
                          X