كان والدي (الفنان) ينتشي لاستماع مقطوعات قديمة كتلك التي تملأ في هدوء لذيذ غرفته الخاصة حين يسترخي بعد يوم من الجد و الكد، و على رأسها معزوفات خالدة للموسيقار المصري محمد عبد الوهاب: طول عمري عايش لوحدي، فريد وراضي بحالي؛ و كذا جفنه علم الغزل ومن الحب ماقتل؛ ثم أين من عيني هاتيك المجاري، إلى غيرها من الأشعار البليغة التي خلدها صوته الساحر ولحنه الماتع.
و أنا صغير حينها كنت كثيراً ما أداعب، عابثاً، بعض الشعيرات الطائشة التي تزين صدره الحنون، بينما أسترق السمع لعلي أظفر بكليمات أعي معناها من بين تلك الأشعار التي يجذبني إيقاعها السلس، لكن دون جدوى. لم أكن وقتها أعلم شيئاً من أسرار الذاكرة و لا أفقه قيد أنملة عمل الذكريات التي تسجلها الذاكرة فتقبع خلف الدماغ في سكون رهيب حتى يأتي اليوم الذي تخرج للواجهة من جديد فتعمل عملها مثل النبيذ: كلما تقادم ازداد تأثيره على الدماغ و معه سائر الحواس. وبقيت كلمات الشعر الغنائي حاضرة بيننا حتى لما سافرت للدراسة إلى أمريكا الشمالية وكان يتصل بي و يقول لي: يا محمد، أنت في غربتك حالك مثل حال عبد الوهاب "طول عمري عايش لوحي، فريد وراضي بحالي"....
ثم إن من بين المقاطع التي بقيت عالقة بالذاكرة إلى اليوم، لحظة ينشد فيها عبد الوهاب أبياتا لعلي محمود طه من قصيدة الجندول La gandola الإيطالية: أنا من ضيع في الأوهام عمره، نسي التاريخ أو أنسي ذكره...
كعادتي مع كل ما تجود به علي الثقافات الشعبية على اختلاف أشكالها و اتساع رقعتها، حاولت أن أقتنص المشهد الذي حاول الشاعر و المطرب أن يوصلاه إلى ذهني من خلال هذا الخطاب مع النفس في صيغة اعتراف جريء تؤكده صيغة المخاطب "أنا" و ترسخه "من" بمعني "الذي". فسرعان ما تراكمت في الذهن المحلل تساؤلات تلعب في الدماغ لعبة "الدومينو": ما أن تلمس قطعة حتى تسقط التي تليها ثم التي تليها وهكذا سريعا و في رقصة سمفونية محكمة تتساقط قطعات الدومينو الواحدة تلو الأخرى في مشهد يداعب غرور الناظر المنتشي بسانكرونية التساقط.
ما المقصود هنا بالأوهام؟ و هل لديها علاقة بالأحلام؟ و كيف يمكن للمرء أن يضيع عمراً بحاله في الأوهام؟ و بأسلوب المنطق أو البراغماتيك و حسب بديهيات فلسفة اللغة فبما أن الشاعر يعتبر الأوهام ضياعاً للوقت و العمر، فهذا دليل منطقي على أن الأوهام أمر سلبي اكتسب سلبيته من سلبية التضييع/التفريط. بحثت طويلاً عن الفارق بين الأوهام و الأحلام، و لم أفلح في الوصول إلى نتيجة ترضي العقل و تريح الفكر. مكثت على هاته الحال ماشاء الله أن أمكث، إلى أن جاءني بالخبر من لم أُزَوِّدِ. ذات لقاء مع نخبة ممن أسميهم "متصوفة العلاقات الاجتماعية" يقضون معظم أوقاتهم يمعنون النظر في تفاعلات المجتمع و تواصلاته، ليستنبطوا منها نظريات و ميكانيزمات يستطيعون بواسطتها تقريب المعنى للعلاقات المعقدة؛ وأنا هناك سمعت أحدهم يقول على شكل موعظة لا فلسفية ولا صوفية، بل منزلة بين المنزلتين: وجب على كل امريء عاقل أن يكون لديه حلم يتبعه و يحقق منه ما استطاع. ولكن على العاقل أن يدع الأوهام جانباً، لأن تحقيقها، عكس الأحلام، من المحال. ثم أردف قائلا : ذلك أن الحلم هو منك، و أن الوهم هو حلم الآخرين...
م.ش.
مونتريال، صباح الثلاثاء، 24 يوليوز 2018
و أنا صغير حينها كنت كثيراً ما أداعب، عابثاً، بعض الشعيرات الطائشة التي تزين صدره الحنون، بينما أسترق السمع لعلي أظفر بكليمات أعي معناها من بين تلك الأشعار التي يجذبني إيقاعها السلس، لكن دون جدوى. لم أكن وقتها أعلم شيئاً من أسرار الذاكرة و لا أفقه قيد أنملة عمل الذكريات التي تسجلها الذاكرة فتقبع خلف الدماغ في سكون رهيب حتى يأتي اليوم الذي تخرج للواجهة من جديد فتعمل عملها مثل النبيذ: كلما تقادم ازداد تأثيره على الدماغ و معه سائر الحواس. وبقيت كلمات الشعر الغنائي حاضرة بيننا حتى لما سافرت للدراسة إلى أمريكا الشمالية وكان يتصل بي و يقول لي: يا محمد، أنت في غربتك حالك مثل حال عبد الوهاب "طول عمري عايش لوحي، فريد وراضي بحالي"....
ثم إن من بين المقاطع التي بقيت عالقة بالذاكرة إلى اليوم، لحظة ينشد فيها عبد الوهاب أبياتا لعلي محمود طه من قصيدة الجندول La gandola الإيطالية: أنا من ضيع في الأوهام عمره، نسي التاريخ أو أنسي ذكره...
كعادتي مع كل ما تجود به علي الثقافات الشعبية على اختلاف أشكالها و اتساع رقعتها، حاولت أن أقتنص المشهد الذي حاول الشاعر و المطرب أن يوصلاه إلى ذهني من خلال هذا الخطاب مع النفس في صيغة اعتراف جريء تؤكده صيغة المخاطب "أنا" و ترسخه "من" بمعني "الذي". فسرعان ما تراكمت في الذهن المحلل تساؤلات تلعب في الدماغ لعبة "الدومينو": ما أن تلمس قطعة حتى تسقط التي تليها ثم التي تليها وهكذا سريعا و في رقصة سمفونية محكمة تتساقط قطعات الدومينو الواحدة تلو الأخرى في مشهد يداعب غرور الناظر المنتشي بسانكرونية التساقط.
ما المقصود هنا بالأوهام؟ و هل لديها علاقة بالأحلام؟ و كيف يمكن للمرء أن يضيع عمراً بحاله في الأوهام؟ و بأسلوب المنطق أو البراغماتيك و حسب بديهيات فلسفة اللغة فبما أن الشاعر يعتبر الأوهام ضياعاً للوقت و العمر، فهذا دليل منطقي على أن الأوهام أمر سلبي اكتسب سلبيته من سلبية التضييع/التفريط. بحثت طويلاً عن الفارق بين الأوهام و الأحلام، و لم أفلح في الوصول إلى نتيجة ترضي العقل و تريح الفكر. مكثت على هاته الحال ماشاء الله أن أمكث، إلى أن جاءني بالخبر من لم أُزَوِّدِ. ذات لقاء مع نخبة ممن أسميهم "متصوفة العلاقات الاجتماعية" يقضون معظم أوقاتهم يمعنون النظر في تفاعلات المجتمع و تواصلاته، ليستنبطوا منها نظريات و ميكانيزمات يستطيعون بواسطتها تقريب المعنى للعلاقات المعقدة؛ وأنا هناك سمعت أحدهم يقول على شكل موعظة لا فلسفية ولا صوفية، بل منزلة بين المنزلتين: وجب على كل امريء عاقل أن يكون لديه حلم يتبعه و يحقق منه ما استطاع. ولكن على العاقل أن يدع الأوهام جانباً، لأن تحقيقها، عكس الأحلام، من المحال. ثم أردف قائلا : ذلك أن الحلم هو منك، و أن الوهم هو حلم الآخرين...
م.ش.
مونتريال، صباح الثلاثاء، 24 يوليوز 2018
تعليق