
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ؛ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ؛ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التوبة: 115)
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا، اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا؛ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأعراف: 164)
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ؛ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ؛ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78 و79)؛
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "والَّذي نَفسي بيدِهِ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ ثمَّ تَدعونَهُ فلا يَستجيبُ لَكُم" (صحيح الإمام الترمذي عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه)

"القرآنُ وبناءُ الإنسانِ"
بين يدي الموضوع (تمهيد):
الحمد لله أن هدانا إلى الإسلام وجعلنا من أمّة خيرِ الأنام، محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام والحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.
"القرآنُ وبناءُ الإنسان" مشروعٌ طموحٌ ينظر في عقلية المسلم المعاصر ويسعى إلى إعادة صياغتها وتشكيلها وتجديدها حسب توجيهات القرآن الكريم الذي شرَّف هذا الإنسان وأعاد له قيمته الإنسانية بعدما ضاعت منه دهورا فسقط في البهيمية الشهوانية فجاء الإسلام بالوحيين، القرآن وسيرة النبي مُحمَّد، صلى الله عليه وسلم، فأخرجه من ظلمات الجاهلية الجهلاء إلى نور الإسلام الوهّاج فأعاد إليه بشريتَه وإنسانيتَه وآدميتَه وقيمتَه في الوجود وأشعره بدوره في الحياة فصار مثل نبيه، صلى الله عليه وسلم، الرحمة المهداة إلى البشرية جمعاء وليس إلى المسلمين وحدهم بل إلى غيرهم من البشر وإلى سائر مخلوقات الله تعالى كلها فوجدت فيه الرحمة والخير والسلام والأمان والإسلام؛ إنه القرآن وهدي خير الأنام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، هما الوحيان وعليهما تتأسس حياة المسلم كلها في نفسه ومع غيره ومع ربه عزَّ وجلَّ وحولهما يدور كما تدور الأرض على محورها؛ فالحمد لله أن هدانا إلى الإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، محمد عليه الصلاة والسلام، الحمد لله؛ و"المسلم المعاصر"، إلا من رحم الله، قد ارتد إلى الجاهلية الجهلاء التي أخرجه الإسلام منها وهو يزعم أنه "مسلم"، متبع للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وهذه من أغرب المفارقات وأعجبها وأتْعَبِها لقلب المؤمن الغيور على دينه وعلى أمته وعلى قومهمتأ.
القرآن الكريم كتاب هداية إلى البشرية كلها وليس إلى المسلمين وحدهم فقط: { إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الإسراء: 9)، و{الر، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: 1)، و{هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 138)، وغيرها من الآيات البيِّنات الكريمات التي تتحدث عن القرآن وتصفه وتحدد دوره في حياة المسلم، المؤمن الموحد؛ وجاء القرآن الكريم لينظم حياة المسلم في أبعادها الثلاثة: 1) مع الله تعالى، و2) مع الناس كلهم مسلميهم وغيرهم، و3) مع نفسه التي يُعَبِّدُها للّه تعالى ولا يرضى أن تكون عبدا لغير الله تعالى؛ فمسئولية المسلم ثلاثية الأبعاد وليست ذات بُعْد واحد أو بُعدين فحسب، ولذا يطمح مشروع "القرآن وبناء الإنسان" إلى إشعار المسلم عموما والمسلم الملتزم بدينه خصوصا بالأبعاد الثلاثة المذكورة فيعيده إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له؛ وإلى تحمل مسئوليته تجاه نفسه فيُعبِّدها إلى الله بما يرضي الله تعالى وبما أمره به من العبادة، كل العبادة؛ وإلى تحمل مسئوليته تجاه الآخرين، أيًّا كانوا: مسلمين أو غير مسلمين؛ فحياة المسلم لا تخصه وحده بل هو مسئول مسئولية كاملة عن نفسه أولا ثم عن غيره ممن هم في دائرة تلك المسئولية في أبعادها الثلاثة؛ والسؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن هو: هل يستشعر مسلم اليوم، المسلم المعاصر، هذه المسئولية ثلاثية الأبعاد أم تراه غافلا عنها؟ يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، فهل فقه المسلمون هذا الحديث على وجهه الصحيح أم تراهم يُقْصِرونه في زاوية ضيقة من الفهم ويحصرونه فيها وهو الفقه في العبادات وحدها فقط؟ أم يجب عليهم أن يعمموا الفقه في شئونهم كلها: العبادات والمعاملات وفقه الحياة؟ أي كيف يحيون مسلمين حقيقةً وليس ادعاءً.
و"السُّنَّة النبوية"، على صاحبها الصلاة والسلام، هي التّطبيق العملي الصّحيح والصّارم والصّادق والصَّامد والصَّابر (الصَّادات الخمس) للقرآن الكريم حيث وُصف خُلُق النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه القرآن؛ سُئِلت أمُّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها عن خُلُق النبي، صلى الله عليه وسلم فقالت: "القرآنُ"؛ (الحديث يرويه الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، في مسنده بتخريج الشيخ شعيب الأرناءُوط، رحمه الله، عن جبير بن حميد، رضي الله عنه، عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، والحديث صحيح)؛ وكما أن القرآن الكريم وحي من الله تعالى فكذلك السنة النبوية الشريفة لقوله، صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلُه معه، ألا يُوشِكُ رجلٌ شبعانٌ على أريكتِه يقول: عليكم بهذا القرآنِ، فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرِّموهُ، وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ كما حرَّمَ اللهُ، ألا لا يحلُّ لكم الحمارُ الأهليُّ، ولا كلُّ ذي نابٍ من السباعِ، ولا لُقَطَةُ معاهدٍ إلا أن يستغنيَ عنها صاحبُها..." (الراوي : المقدام بن معدي كرب، المحدث: الألباني؛ المصدر الحديث حجة بنفسه، الصفحة أو الرقم: 28، خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح)؛ والسُّنة الصحيحة هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم في حياة المسلم منها يستمد توجيهاتِه وتعاليمَه في حياته كلها يدور معها حيث تدور لأنها المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك كما جاء في النص: " قدْ تركتُكم على البيضاءِ ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها بعدي إلَّا هالِكٌ، ومَنْ يَعِشْ منكم فسيرَى اختلافًا كثيرًا، فعلَيْكُم بما عرَفْتُم مِنْ سُنَّتِي، وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ، عضُّوا عليها بالنواجِذِ، وعليكم بالطاعَةِ وإِنْ عبدًا حبشِيًّا، فإِنَّما المؤمِنُ كالجمَلِ الأَنِفِ، حيثُمَا انقيدَ انقادَ" (الراوي: العرباض بن سارية، رضي الله عنه؛ المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الجامع، خلاصة حكم المحدث: صحيح)، وقوله، صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدِينَ الهادِينَ عَضُّوا عليها بالنواجِذِ" (العرباض بن سارية، رضي الله عنه، إرشاد الفحول، الشوكاني)؛ والحديث الآخر: "جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: دُلَّنِي علَى عَمَلٍ أعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنَ الجَنَّةِ، ويُباعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصَّلاةَ، وتُؤْتي الزَّكاةَ، وتَصِلُ ذا رَحِمِكَ؛ فَلَمَّا أدْبَرَ، قالَ رَسولُ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: إنْ تَمَسَّكَ بما أُمِرَ به دَخَلَ الجَنَّةَ؛ وفي رِوايَةِ ابْنِ أبِي شيبَةَ: إنْ تَمَسَّكَ بهِ" (صحيح الإمام مسلم، رحمه الله، عن أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنه).
والسؤال الكبير والخطير الذي يفرض نفسه علينا اليوم والذي يجب علينا أن نعرضه بشجاعة وأن ندرسه بدقة وأن نجيب عنه بصراحة هو: هل يعيش المسلم وفق ما أمره الله تعالى به أن يكون على المحجة البيضاء وأن يستمسك بالعروة الوثقى التي أُمِر بالاستمساك بها وأن يَعَضَّ عليها بالنواجذ؟ فإن كانت الإجابة بالنفي= لا ! يأتي السؤال الثاني الكبير والخطير والضروري وهو: كيف نعيد المسلم إلى الحياة الإسلامية الطَّيِّبة كما اختارها الله له وكما يجب عليه أن يحياها بكل ثقة وطمأنينة وأمان وسلام؟ هذا ما سيحاول مشروع "القرآن وبناء الإنسان" الإجابةَ عنه ويطمحُ إلى وضع الخطط والمناهج والأساليب الفعّالة و الوسائل الناجعة لتحقيقه في الميدان وفي حياة المسلم الملتزم بإذن الله تعالى؛ وهو مشروع يدخل مباشرة في ما أسميه "التنمية البشرية الإسلامية" التي تسعى إلى إعادة المروءة إلى المسلم بعدما خرمها عن جهل، وعن علم أحيانا، بسلوكه المنافي لتعاليم الدين الحنيف الذي يدعي أنه ينتمي إليه وهو لا يستشعر خطورة ما هو عليه من بُعْد عن الإسلام ومن هَتْك لقيمه ومبادئه وتوجيهاته وتعاليمه، والأخطر من هذا كله أنه لا يدري أن غير المسلمين يقوِّمون الإسلام من خلال سلوكه كفرد مسلم يمثل دينه فيصير "المسلم" (!) سببا في نفور الناس من الإسلام وهو يحاول دعوتهم إليه (؟!!!).
المشروع مُوَجَّه إلى المسلم الملتزم بدينه الذي رضي قولا وفعلا وحالا بالله ربًّا وبالإسلام دينا وبمحمد، صلى الله عليه وسلم، نبيًّا ورسولا وبالقرآن الكريم حَكَما ودليلا خصوصا وليس إلى "المسلم" الخامل الكسول الذي رضي بالدُّونية عن سائر الناس ووجد ضالته في الجاهلية المعاصرة يستمتع بملذاتها ويلعنها (!)؛ موجه إلى المسلم العملي الذي تمثَّل قولَ الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ؛ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) فأخذ بالأسباب وتهيأ لتوفير شروطها ولا يقفز عليها إلى الآية 110 في السورة نفسها: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...} قبل أن تتحقق فيه شروطُ الآية 104 آنفة الذكر؛ ويتحقق بالآية الأخرى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً؛ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122).
هذا، وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى، إن كان في العمر بقية.
وحُرِّرَ بالبليدة يوم الأحد 6 جوان/حزيران 2021 الموافق 25 شوال 1442.
تعليق