
عاد الملك إلى قصره يسير موكبه مكللاً بالغار بعد أن أخمد التمرد في جنوب بلاده وأمَن حدودها، يتقدم وزراءه وقواده في موكب مهيب يجر وراءه قطعان الأسرى...
كان الشوق طول الطريق يلكز جواد قلبه يحثه على أن يهرع ويسرع للقياها ... شهور أمضاها في لظى الحروب بعيداً عن جنة القرب من حبيبته مليكته... طوال الطريق يتخيلها وهي تستقبله لتتوج روحه بإكليل بسمتها...
وعند باب قصره لم يرها واقفة كما عودته طوال سنوات إقترانهما الثمانية ...قفزت عيناه تشق طريقها عبر زحام مستقبليه وتقلب في وجوههم بحثاً عن وجهها ... وما وجدها.... طارت روحه تسابقها قدماه الراكضتان وجرى إلى غرفتها .... همست الوصيفة بأن مولاتها قد غلبها نوم بعد أن أعياها القلق والأرق... لم يشأ أن يوقظها وجلس على مقعد أمام مخدعها يتأمل وجهها وهدوئه ويمعن النظر في قسماته ويسرح فيهما ....
ساعات مرت حتى شقشق الضياء في عيني الملكة ولملمت الجفون ستائر أهدابها فتنبهت له وعيناه تحتضنها وتلفها ببسمه حنون تتراقص على زفرة شوق أطلقها وهو يستعيد روحه...
قامت إليه وارتمت على صدره ودلفت إلى حضنه وعيناها تحمل نظرة غير تلك التي عرفها منها... راعه ما هي فيه... ضمها بقوة إلى صدره فتنبه إلى أنه لم يخلع درعه حتى الساعة... ابتسم لها ...
طرح عنه درعه وأخذها من يدها وسار بها نحو أعلى أبراج قلعته تلك التي بناها لها خصيصاً لتكن في مأمن بعيدة عن يد أعدائه وتحيا فيها وادعة هانئة .... وصلا إلى قمة البرج وجلسا على تلك الصخرة في منتصفه ... تذكر هذه الصخرة التي كان يجلسان عليها حين كانا طفلين هاربين من زحام القصور .. فجاء بها إلى برجهما ....
أجلسها وحاول أن يفتح بوابات حديثها ... فأشار إليها لترى ما صنعته يداها من نصر حمله كالعادة إليها...
أطرقت ... نظرت ...ثم ثانية أطرقت... وبكت
تهاوت روحه دفعة واحدة... وسقط قلبه ينازع كما طير ذبيح ... صمت وإطراق وبكاء!!!!
أخذ بيدها وأوسدها راحة يديه وفرش يده الأخرى فوقها بُرداً.... واقترب منها يلتصق بها... ثم أرسل ذراعه يحيط بكتفيها كما سور قلعته يلفها ....
رفع وجهها ... وسألها عن شأنها... فقالت ...
لقد خَذَلتَني... ولم تحمني
خذلــــتني ... ولم تحمـــــــــني
خذلــتني .... ولم تحمـــني
خذلتني... ولم تحمني
خذلتني .. ولم تحمني
صدى الكلمات يهبط بمطرقته على هامته يهشمها .. يطحنها... أغمض جفنيه وفتحهما لعله يكتشف أنه واهم...
إنطلقت كتائب الاستفهام من عينيه تكتسح المسافات بينهما ...
قالت: أمس ناديتك ولم تجب وشعرت أن بيني وبينك سدود وحجب ....وكنت أحلم وقد زارني بحلمي شبح وهاجمني واختطف تاجي وعلى الأرض ألقاه ... وناديتك كي تحميني ... ولكنك خذلتني....
وياليتك ما أوهمتني بأن أسوار حمايتك تضمني، لقد أسرفت في حكاياتك عن قلعة الأمان لي بنيتها، وفتحت غرفها وسكنتها وبت ترفع أسوارها وأبراجها ... وحين ناديتك تركتني للأحلام وأشباحها...
دهست سنابك الكلمات قلبه ... اعتصرته .. فجرته.. مزقته... نثرت أشلاءه ......وذهب عقله يلملمها من كل حدب وصوب....

جاء الحاجب ليعلم سيده أن الوزراء والقواد قد استعدوا لحضور عرس إنتصاره ... وأن وزيره الأول يستأذن في المثول بين يده ... استدار إلى مليكته وقد ألصق ابتسامة بشقتيه يخشى أن تفلت من قبضة شفتيه وتسقط .. وصرفها للقاء وزيره ...
دخل الوزير ... والتقاه الملك بنفس البسمة المحتضرة ... نثر الوزير كلمات الفخر والسعادة بما أنجزه مولاه ... وكيف حمى رعاياه ووقاهم شر المغيرين والغزاة ... وكيف الشعب يهتف ببسالته والشجاعة وكيف القصص عنه صارت كجبل يزيد كل لحظة ارتفاعه....
ما قولك يا مولاي؟!! ما قولك يا مولاي؟!!
طرق السؤال باب أذن الملك فانتبه إلى وزيره الذي تركه يسافر في بساتين الكلام ...
أجاب الملك: لقد تعب الجنود و أرهقتهم المعارك وطول السفر... فليخلدوا إلى الراحة ولا حرب بعد اليوم ...
تضافرا حاجبي الوزير عجباً ما الذي بدل رأي الملك وهو الذي كان مصراً أن يضم لمملكته كل الإمارات حولها!!!!!!
استأذن الوزير وخرج .... وبقي الملك على صخرته وحيداً.... سافر بصره يسعى أن يبلغ حدود مملكته دركها... عاد يطوف في أرجائها ويمر ببسمات الأطفال تترقرق على صفحات وجوههم، ويتابع فلاحي مملكته في حقولهم ونسائهم تسير إليهم وقت الغروب و أسوار قلعته والجنود والحرس والأقواس والسهام والجرس....
[align=justify]بدأت جراح قديمة في صدره تنزف ...
...........حاول أن يجلس ...
.............. استند إلى رمحه ...
................ خارت قدماه
................. واستقر السنان بصدره ...[/align]
كانت الرحلة قصيرة من قمة البرج إلى قاع بهو القلعة ... أعلن عن انتهائها صوت الارتطام...
هرع الحراس والخدم ... وجرت الملكة ... وانكبت على جسده ترفع رأسه وتسند عنقه الذي دقته مطرقة بلاطات البهو ... وجرجرت بصرها يسير عبر هضبة جثته

أما الصخرة فسالت منها أنهار دموع قرمزية صنعت بركة على سطحها طفت رقعة ...خط الملك عليها بدمه
أكتبوا على قبري...
هذا قبر ملك كان الكون بستانه وطالما فيه سرح
هذا قبر ملك أجرى أنهار الأمان لشعبه والفرح
هذا قبر ملك جعل النصر بحره وطالما فيه سبح
هذا قبر ملك لم يحم مليكته وهزمه شبح
[align=justify]بدأت جراح قديمة في صدره تنزف ...
...........حاول أن يجلس ...
.............. استند إلى رمحه ...
................ خارت قدماه
................. واستقر السنان بصدره ...[/align]
كانت الرحلة قصيرة من قمة البرج إلى قاع بهو القلعة ... أعلن عن انتهائها صوت الارتطام...
هرع الحراس والخدم ... وجرت الملكة ... وانكبت على جسده ترفع رأسه وتسند عنقه الذي دقته مطرقة بلاطات البهو ... وجرجرت بصرها يسير عبر هضبة جثته

أما الصخرة فسالت منها أنهار دموع قرمزية صنعت بركة على سطحها طفت رقعة ...خط الملك عليها بدمه
أكتبوا على قبري...
هذا قبر ملك كان الكون بستانه وطالما فيه سرح
هذا قبر ملك أجرى أنهار الأمان لشعبه والفرح
هذا قبر ملك جعل النصر بحره وطالما فيه سبح
هذا قبر ملك لم يحم مليكته وهزمه شبح
تعليق