[frame="3 98"]
بهائي راغب شراب


الزغـرودة
بهائي راغب شراب
كانا أسعد زوجين في القرية كلها ..
كريم .. المدرس في مدرسة القرية للذكور ،
وكريمة .. ابنة عمه ، المدرسة في مدرسة القرية للبنين .
تربيا معا ،
ومنذ ولادتهما كانا لبعضهما ..
هكذا قال لهما والدوهم ..
عشش الحب في قلبيهما ، حتى أكملا تعليمهما الجامعي ،
وتزوجا .
*
رزقهما الله طفلاً رائعاً ، ابتسامته تذيب أقسى الحجارة فتلين له ، نظرته دعوة للحب والاشتياق ، لا يستطيعان رفضها ، فيهرعان لمشاركته اللعب ..
كان طفلاً رائعاً ، فرِحَا به فرحة عارمة ، وأخذا يَعُدَّان الأيامَ وهي تجري بطيئة ، ينتظران لحظة جلوسه ولحظة حَبْوِهِ فوق الأرض ، ويتشوقان لليوم الذي يمشي فيه بجوارهما عندما يسيران معاً ، كان أملاً يسكن قلبيهما شاهقاً ، وكانا يستعجلان التاريخ ليمر سريعا في بيتهما ..
*
وبعد عام من طول الانتظار ، أُسْقِطَ في أيديهما ، حلَّ الحزنُ مكان الفرح ، امتلأ صدراهما بالألم ، واكتحلت عيونهما بالدموع ..
اكتشفا أن طفلهما الوحيد فريد لن يَشُبَّ كباقي الأطفال في القرية ، وأنه لن يستطيع المشي وحده ، وانه لن يكون قادرا على الفهم ولا الكلام ..
يا لهول ما اكتشفا ، حياتهما أضحت جحيماً لا يطاق ، هما لا يتخيلان أن ابنهما الحبيب فريد سيكون مختلفاً وانه سيعيش متخلفاً عن أقرانه من الأطفال الأسوياء .
رفضا التسليم بالواقع ، ولم يستسلما للمخاوف والأوهام ، بأنه لا فائدة ترجى من فريد ، وأنه لا جدوى من علاجه ، ومن الأفضل توفير المال والجهد ، وعليهما التركيز على مستقبلهما الآتي ، وعلى إنجاب أطفال أصحاء غيره .
لَمْ يَطُل التفكيرُ بهما واتخذا القرار سريعا ، فريد يحتاج لكل جهد ورعاية منهما ، يحتاج إلى حمايتهما ، ويحتاج للعلاج ، ورحلة العلاج طويلة وبعيدة ، لكن لا يهم ، ابنهما يجب أن يعيش كالآخرين ، ويجب أن يَشُبَّ سليما معافى كالأطفال الآخرين ، ويجب أن يتعلم وأن يتحرك ويمشي كالآخرين ، فريد يجب أن يعيش إنسانا كالآخرين ..
تَعِبَا وتألما كثيرا أثناء رحلة العلاج ، ومرت السنوات طويلة ، لكنها كانت مبشرة ، وعندما أصبح فريدٌ فتىً ، لم يكن بالإمكان التفريق كثيراً بينه وبين الأسوياء من أقرانه الفتيان ، فهو يتحرك ويمشي بحرية ، ربما ليس مثل الآخرين ، لكنه لم يكن محتاجاً لأن يساعده أحد ، كان يستطيع عمل أشياء كثيرة ، يقوم من النوم وحده ، يغسل وجهه وينظف أسنانه وحده ، ويساعد أمه في إعداد مائدة الإفطار ، يجلس ويقوم وحده ، وكان يتكلم بلغة صحيحة ، ربما لم يكن سريع الكلام ، لكن الحروف ظاهرة واضحة ، وكان يفهم ويعي ما يسمع وما يجري أمامه من أحداث ، كان يستطيع القراءة والكتابة وهو ناجح في دروسه وفي مدرسته ، لم يرسب ولو مرة واحدة ، وكان يحب ويكره ، يفرح ويحزن ، وكان يتألم كثيرا جدا جداً ، أشد آلامه جاءت من الفتيان في الشارع ، لم يكونوا يقدرونه ما يستحق من التقدير ، كانوا يسخرون منه وأحيانا يصفونه بالأهبل والغبي ويرفضون مشاركته في اللعب معهم ، وكان يضايقه ذلك ، شكى لأمه ما يواجهه من أطفال الشارع فكانت تهوِّن عليه الأمور ، و شكى لأبيه ما يحدث له فهوَّن عليه صعاب الحياة
*
في أحد الأيام استيقظ أهل القرية على صوت انفجارات وإطلاق رصاص ، وهبوا جميعا يتحرون الأمر وماذا يجرى ، وعرفوا أن الأعداء يهاجمون قريتهم ، وهم يقتلون من يحاول مقاومتهم وصدهم ، وانقلب حال القرية من الهدوء إلى الاضطراب والفوضى ، ومن الأمن والأمان إلى الخوف والرعب ، انقلب الحال من حياة العزة والكرامة إلى حياة الذل والمهانة ، واتخذ أهل القرية قرارهم .. يجب أن يقاوموا الأعداء ويقاتلوهم حتى يدحروهم من قريتهم ويطردونهم بعيدا عنهم ، وبدأوا حرباً ضد الأعداء ، وتربصوا بهم في كل زاوية وشارع ، وجن جنون الأعداء فتجبروا وطغوا وتمادوا في تدمير البيوت و قتل الرجال ومطاردة المقاومين في كل مكان .
*
أثناء ذلك كله كان فريد يتلظى غضباً وثورة ، يريد أن يشارك أهل القرية في مقاومتهم للأعداء ، يريد أن يقدم أي شيء حتى روحه من أجل حرية قريته وإنقاذ أهلها ، إنها قريته وسكانها أهله ، وهو يشعر بهم وبآلامهم ، حاول كثيراً الخروج مع رجال المقاومة لكن والديه يعرفان قدرات فريد وانه لن يمكنه الإفلات من براثن الأعداء لو أمسكوا به وقد يموت بين أيديهم وأخبراه انهما لو فقداه أو أصابه مكروه سيموتان من فورهما كمداً عليه وحزنا ، فاضطر للصمت والسكون ، واحترم رأي والديه ورغبتهما فبقي معهما لا يغادرهما حتى إلى الشارع .
وفي إحدى الليالي المظلمة ، سمع فريد طرقات شديدة على الباب ، أسرع لفتحه لكن والده كان أسرع منه في الوصول حيث فتح الباب وإذا بشاب بالباب يطلب منه أن يؤويه بالداخل بسرعة حيث أن جنود الأعداء يلاحقونه ، أدخل كريم الشاب إلى الدار وأخذه إلى مكان خلف الدار حيث خبأه في مكان خفي داخل قن الدجاج وطمأنه أن لا أحد سيعثر عليه ، وما هي إلا لحظات قليلة حتى فوجئ كريم وزوجه كريمة بالباب وهو يهتز تحت ضربات قوية بالأقدام وبأدوات أخرى ، وكان فريد واقفاً قريباً من الباب فأسرع بفتحه وإذا بجنود الأعداء يدفعونه أمامهم ويضربونه في أنحاء مختلفة من جسمه وهم يصرخون : أين المخرب الذي دخل المنزل ، أخبرونا أين هو قبل أن نقتلكم جميعاً وندمر بيتكم ..
سمع فريد كلامهم ، وأدرك أنهم يبحثون عن رجل المقاومة ، وبدون تفكير وقبل أن يتكلم أحد والديه أي حرف ، انتصب ورفع هامه عاليا وقال للجنود : أنا هو الذي تبحثون عنه .. إنه أنا ..
أمسك الجنود بفريد بعد أن أحاطوا به من جميع الجهات وانهالوا عليه ضربا وهم يجرونه أمامهم إلى الخارج حيث حملوه إلى سيارتهم العسكرية وابتعدوا بسرعة ..
حدث كل شيء بسرعة ، لم يدرك كريم وكريمة حقيقة الأمر إلا مع تحرك سيارة الأعداء العسكرية وهي تحمل أغلى وأثمن ما يملكان وما يعيشان لأجله .. تحمل ابنهما فريد إلى مكان يجهلانه ، الداخل فيه مفقود والخارج مولود .. وخرج الناس من بيوتهم ليستكشفوا ما حدث ، وما هي إلا لحظات حتى سمعوا زغرودة عالية متكررة تخرج من بيت كريم …
أوي وي ويها .. أوي وي ويها ويا فريد يما الله معاك ، أوي وي ويها ويا فريد يا زلمة يا نوارة البلاد ، أوي وي ويها يا فريد يا غالي روحي فداك .. أوي وي ويها يا بني يا حبيبي يحميك الله من العدا ويرجعك سالم .. أوي وي ويها ..
تعجب الناس .. ماذا تفعل ، كريمة جنت يا أيها الناس ، كريمة فقدت عقلها يا ناس .. الأعداء أخذوا ابنها وأخذوا عقلها ..
من بين الناس صاح صوت قوي لشاب يخفي وجهه : لا أيها الناس ، لها الحق أن تزغرد ، وكان عليكم أنتم أن تشدوا من أزرها ، تقفون معها تساندونها في بلواها ومصيبتها .. أتعرفون ما حصل ، سأخبركم .. ابنها فريد الذي أخذه الأعداء من أحضانها أنقذني ، وفداني بنفسه ، جاء الأعداء ورائي فسلم لهم نفسه لأَسْلَم بحياتي ، إنه جدير بالحب والاحترام ، فريد فريدٌ في فعله وفي بطولته ، هل فعل أحد أولادكم مثله ، أولادكم المشغولون بالسخرية والاستهزاء من فريد .. هل عرفتم لماذا تزغرد أم فريد لأن ولدها الذي تعدونه متخلفاً وغبيا فعل ما لم تفعلون أنتم ولا أولادكم العقلاء الأسوياء ، وكان رجلا في موقف لا يصمد فيه الرجال إلا بصعوبة ، فما بالكم بفريد الفتى الذي تعرفون وكنتم دائما تنبذونه وتبعدون عنه أولادكم وتمنعونهم من مشاركته اللعب .
صمت الناس وكأن على رؤوسهم الطير ، ثم بدأوا يتململون ، واحداً وراء واحد ، تقدموا باتجاه والدَيْ فريد يباركان لهما ابنهما وما فعله من عمل مشرف وباهر ، ويدعون الله أن يفرج ضيقه ، وأن يعيده إليهما في أسرع وقت .
ثلاثة أيام كاملة مشحونة بالألم والعذاب مضت على فريد وهو في قبضة الأعداء يسومونه من أصناف التعذيب ما لا يتحمله بشر ، وعلى والديه اللذين لم يعرفا الراحة وفقدا كل طعم للحياة .. بعد ثلاثة أيام كاملة عاد فريد فجأة .. أفرج الأعداء عنه ، عندما اكتشفوا أن لا علاقة له برجال المقاومة بعدما أوسعوه من الضرب والعذاب حتى كاد أن يفني ، لكن رؤيته للشارع وإحساسه بالحرية منحاه قوة عظيمة أوقفته بثبات ودفعته بانتظام إليه ، وما أن ظهر فريد في أول الشارع ورغم تغيره من كثرة الجروح والكدمات التي زينت جسده ووجهه حتى عرفه الأطفال فأخذوا يجرون وهم يهتفون .. عاد فريد .. عاد فريد .. وتجمع الناس على صوتهم فهبوا جميعهم واتجهوا إلى فريد فحملوه وهم يهتفون له فرحين ومهللين حتى التقوا بوالديه وسط الشارع الذين اختطفاه خطفاً من أيادي الناس وأخذوا يقبلونه وهم يحتضنونه بحب وشوق
..[/frame]كريم .. المدرس في مدرسة القرية للذكور ،
وكريمة .. ابنة عمه ، المدرسة في مدرسة القرية للبنين .
تربيا معا ،
ومنذ ولادتهما كانا لبعضهما ..
هكذا قال لهما والدوهم ..
عشش الحب في قلبيهما ، حتى أكملا تعليمهما الجامعي ،
وتزوجا .
*
رزقهما الله طفلاً رائعاً ، ابتسامته تذيب أقسى الحجارة فتلين له ، نظرته دعوة للحب والاشتياق ، لا يستطيعان رفضها ، فيهرعان لمشاركته اللعب ..
كان طفلاً رائعاً ، فرِحَا به فرحة عارمة ، وأخذا يَعُدَّان الأيامَ وهي تجري بطيئة ، ينتظران لحظة جلوسه ولحظة حَبْوِهِ فوق الأرض ، ويتشوقان لليوم الذي يمشي فيه بجوارهما عندما يسيران معاً ، كان أملاً يسكن قلبيهما شاهقاً ، وكانا يستعجلان التاريخ ليمر سريعا في بيتهما ..
*
وبعد عام من طول الانتظار ، أُسْقِطَ في أيديهما ، حلَّ الحزنُ مكان الفرح ، امتلأ صدراهما بالألم ، واكتحلت عيونهما بالدموع ..
اكتشفا أن طفلهما الوحيد فريد لن يَشُبَّ كباقي الأطفال في القرية ، وأنه لن يستطيع المشي وحده ، وانه لن يكون قادرا على الفهم ولا الكلام ..
يا لهول ما اكتشفا ، حياتهما أضحت جحيماً لا يطاق ، هما لا يتخيلان أن ابنهما الحبيب فريد سيكون مختلفاً وانه سيعيش متخلفاً عن أقرانه من الأطفال الأسوياء .
رفضا التسليم بالواقع ، ولم يستسلما للمخاوف والأوهام ، بأنه لا فائدة ترجى من فريد ، وأنه لا جدوى من علاجه ، ومن الأفضل توفير المال والجهد ، وعليهما التركيز على مستقبلهما الآتي ، وعلى إنجاب أطفال أصحاء غيره .
لَمْ يَطُل التفكيرُ بهما واتخذا القرار سريعا ، فريد يحتاج لكل جهد ورعاية منهما ، يحتاج إلى حمايتهما ، ويحتاج للعلاج ، ورحلة العلاج طويلة وبعيدة ، لكن لا يهم ، ابنهما يجب أن يعيش كالآخرين ، ويجب أن يَشُبَّ سليما معافى كالأطفال الآخرين ، ويجب أن يتعلم وأن يتحرك ويمشي كالآخرين ، فريد يجب أن يعيش إنسانا كالآخرين ..
تَعِبَا وتألما كثيرا أثناء رحلة العلاج ، ومرت السنوات طويلة ، لكنها كانت مبشرة ، وعندما أصبح فريدٌ فتىً ، لم يكن بالإمكان التفريق كثيراً بينه وبين الأسوياء من أقرانه الفتيان ، فهو يتحرك ويمشي بحرية ، ربما ليس مثل الآخرين ، لكنه لم يكن محتاجاً لأن يساعده أحد ، كان يستطيع عمل أشياء كثيرة ، يقوم من النوم وحده ، يغسل وجهه وينظف أسنانه وحده ، ويساعد أمه في إعداد مائدة الإفطار ، يجلس ويقوم وحده ، وكان يتكلم بلغة صحيحة ، ربما لم يكن سريع الكلام ، لكن الحروف ظاهرة واضحة ، وكان يفهم ويعي ما يسمع وما يجري أمامه من أحداث ، كان يستطيع القراءة والكتابة وهو ناجح في دروسه وفي مدرسته ، لم يرسب ولو مرة واحدة ، وكان يحب ويكره ، يفرح ويحزن ، وكان يتألم كثيرا جدا جداً ، أشد آلامه جاءت من الفتيان في الشارع ، لم يكونوا يقدرونه ما يستحق من التقدير ، كانوا يسخرون منه وأحيانا يصفونه بالأهبل والغبي ويرفضون مشاركته في اللعب معهم ، وكان يضايقه ذلك ، شكى لأمه ما يواجهه من أطفال الشارع فكانت تهوِّن عليه الأمور ، و شكى لأبيه ما يحدث له فهوَّن عليه صعاب الحياة
*
في أحد الأيام استيقظ أهل القرية على صوت انفجارات وإطلاق رصاص ، وهبوا جميعا يتحرون الأمر وماذا يجرى ، وعرفوا أن الأعداء يهاجمون قريتهم ، وهم يقتلون من يحاول مقاومتهم وصدهم ، وانقلب حال القرية من الهدوء إلى الاضطراب والفوضى ، ومن الأمن والأمان إلى الخوف والرعب ، انقلب الحال من حياة العزة والكرامة إلى حياة الذل والمهانة ، واتخذ أهل القرية قرارهم .. يجب أن يقاوموا الأعداء ويقاتلوهم حتى يدحروهم من قريتهم ويطردونهم بعيدا عنهم ، وبدأوا حرباً ضد الأعداء ، وتربصوا بهم في كل زاوية وشارع ، وجن جنون الأعداء فتجبروا وطغوا وتمادوا في تدمير البيوت و قتل الرجال ومطاردة المقاومين في كل مكان .
*
أثناء ذلك كله كان فريد يتلظى غضباً وثورة ، يريد أن يشارك أهل القرية في مقاومتهم للأعداء ، يريد أن يقدم أي شيء حتى روحه من أجل حرية قريته وإنقاذ أهلها ، إنها قريته وسكانها أهله ، وهو يشعر بهم وبآلامهم ، حاول كثيراً الخروج مع رجال المقاومة لكن والديه يعرفان قدرات فريد وانه لن يمكنه الإفلات من براثن الأعداء لو أمسكوا به وقد يموت بين أيديهم وأخبراه انهما لو فقداه أو أصابه مكروه سيموتان من فورهما كمداً عليه وحزنا ، فاضطر للصمت والسكون ، واحترم رأي والديه ورغبتهما فبقي معهما لا يغادرهما حتى إلى الشارع .
وفي إحدى الليالي المظلمة ، سمع فريد طرقات شديدة على الباب ، أسرع لفتحه لكن والده كان أسرع منه في الوصول حيث فتح الباب وإذا بشاب بالباب يطلب منه أن يؤويه بالداخل بسرعة حيث أن جنود الأعداء يلاحقونه ، أدخل كريم الشاب إلى الدار وأخذه إلى مكان خلف الدار حيث خبأه في مكان خفي داخل قن الدجاج وطمأنه أن لا أحد سيعثر عليه ، وما هي إلا لحظات قليلة حتى فوجئ كريم وزوجه كريمة بالباب وهو يهتز تحت ضربات قوية بالأقدام وبأدوات أخرى ، وكان فريد واقفاً قريباً من الباب فأسرع بفتحه وإذا بجنود الأعداء يدفعونه أمامهم ويضربونه في أنحاء مختلفة من جسمه وهم يصرخون : أين المخرب الذي دخل المنزل ، أخبرونا أين هو قبل أن نقتلكم جميعاً وندمر بيتكم ..
سمع فريد كلامهم ، وأدرك أنهم يبحثون عن رجل المقاومة ، وبدون تفكير وقبل أن يتكلم أحد والديه أي حرف ، انتصب ورفع هامه عاليا وقال للجنود : أنا هو الذي تبحثون عنه .. إنه أنا ..
أمسك الجنود بفريد بعد أن أحاطوا به من جميع الجهات وانهالوا عليه ضربا وهم يجرونه أمامهم إلى الخارج حيث حملوه إلى سيارتهم العسكرية وابتعدوا بسرعة ..
حدث كل شيء بسرعة ، لم يدرك كريم وكريمة حقيقة الأمر إلا مع تحرك سيارة الأعداء العسكرية وهي تحمل أغلى وأثمن ما يملكان وما يعيشان لأجله .. تحمل ابنهما فريد إلى مكان يجهلانه ، الداخل فيه مفقود والخارج مولود .. وخرج الناس من بيوتهم ليستكشفوا ما حدث ، وما هي إلا لحظات حتى سمعوا زغرودة عالية متكررة تخرج من بيت كريم …
أوي وي ويها .. أوي وي ويها ويا فريد يما الله معاك ، أوي وي ويها ويا فريد يا زلمة يا نوارة البلاد ، أوي وي ويها يا فريد يا غالي روحي فداك .. أوي وي ويها يا بني يا حبيبي يحميك الله من العدا ويرجعك سالم .. أوي وي ويها ..
تعجب الناس .. ماذا تفعل ، كريمة جنت يا أيها الناس ، كريمة فقدت عقلها يا ناس .. الأعداء أخذوا ابنها وأخذوا عقلها ..
من بين الناس صاح صوت قوي لشاب يخفي وجهه : لا أيها الناس ، لها الحق أن تزغرد ، وكان عليكم أنتم أن تشدوا من أزرها ، تقفون معها تساندونها في بلواها ومصيبتها .. أتعرفون ما حصل ، سأخبركم .. ابنها فريد الذي أخذه الأعداء من أحضانها أنقذني ، وفداني بنفسه ، جاء الأعداء ورائي فسلم لهم نفسه لأَسْلَم بحياتي ، إنه جدير بالحب والاحترام ، فريد فريدٌ في فعله وفي بطولته ، هل فعل أحد أولادكم مثله ، أولادكم المشغولون بالسخرية والاستهزاء من فريد .. هل عرفتم لماذا تزغرد أم فريد لأن ولدها الذي تعدونه متخلفاً وغبيا فعل ما لم تفعلون أنتم ولا أولادكم العقلاء الأسوياء ، وكان رجلا في موقف لا يصمد فيه الرجال إلا بصعوبة ، فما بالكم بفريد الفتى الذي تعرفون وكنتم دائما تنبذونه وتبعدون عنه أولادكم وتمنعونهم من مشاركته اللعب .
صمت الناس وكأن على رؤوسهم الطير ، ثم بدأوا يتململون ، واحداً وراء واحد ، تقدموا باتجاه والدَيْ فريد يباركان لهما ابنهما وما فعله من عمل مشرف وباهر ، ويدعون الله أن يفرج ضيقه ، وأن يعيده إليهما في أسرع وقت .
ثلاثة أيام كاملة مشحونة بالألم والعذاب مضت على فريد وهو في قبضة الأعداء يسومونه من أصناف التعذيب ما لا يتحمله بشر ، وعلى والديه اللذين لم يعرفا الراحة وفقدا كل طعم للحياة .. بعد ثلاثة أيام كاملة عاد فريد فجأة .. أفرج الأعداء عنه ، عندما اكتشفوا أن لا علاقة له برجال المقاومة بعدما أوسعوه من الضرب والعذاب حتى كاد أن يفني ، لكن رؤيته للشارع وإحساسه بالحرية منحاه قوة عظيمة أوقفته بثبات ودفعته بانتظام إليه ، وما أن ظهر فريد في أول الشارع ورغم تغيره من كثرة الجروح والكدمات التي زينت جسده ووجهه حتى عرفه الأطفال فأخذوا يجرون وهم يهتفون .. عاد فريد .. عاد فريد .. وتجمع الناس على صوتهم فهبوا جميعهم واتجهوا إلى فريد فحملوه وهم يهتفون له فرحين ومهللين حتى التقوا بوالديه وسط الشارع الذين اختطفاه خطفاً من أيادي الناس وأخذوا يقبلونه وهم يحتضنونه بحب وشوق



تعليق