تفاجأت ب د. أحمد الليثي قد كتب ردا على موضوعي الذي كتبته حول فنان قدير ممن يحملون مشعل الحرية ( عنوان المقال : محمد منير صوت المصريين الأسمر و فنان الحلم الملموس) . بمجرد ما رأيت الروابط فهمت القصد ، و لكن اسوأ ما توقعت هو اتهام أخلاقي ما للفنان محمد منير . ماذا وجدت ؟
فتاوي تحرم الغناء والموسيقى ؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!
ليس الاستغراب ما أصابني و ليس الذهول ، بل أمر آخر مخالف تماما ، نوع من خجل غريب و خيبة أمل في أمور عديدة يمكن أن ننتظرها من ملتقيات كهذه .
يبدو أن هذا الوضع هو أقصى ما يمكن أن ننتظره ، ملتقيات نتسلى فيها بنقاشات نعتقدها فكرية ، و معارك و صراعات نعتقدها حقيقية ، في حين أن كل منا يغني على ليلاه ، و كل يسبح في عالمه معتقدين أننا نتناقش لتتقارب الرؤى . لتبقى في النهاية الرؤية الواحدة السائدة هي الرجعية بشتى تجلياتها ، و الرجعية تبقى رجعية حتى و إن لبست أحدث حلل الأدب و حليه .
فكرت أن أتجاهل هذا الرد ، و لكن نقطة ما بداخلي رفضت الصمت . لأنني أعرف جيدا نوعية الفن التي كتبت عنها في مقالي ، و أعرف أن الفن الجيد جزء لا يتجزأ من الفكر و الثقافة .
منذ أشهر و أنا أعتقد أنني عضو في ملتقى اسمه : ملتقى الأدباء و المبدعين العرب .
إن مستوى معرفتي و ثقافتي اللغوية يجعلانني على تمام اليقين من أن كلمة إبداع لها معنى واحد ، واضح و بين . و أعرف أيضا أن الموسيقى و الغناء نوع أساسي من أنواع الإبداع و الفن .
إذن السؤال الذي أطرحه هنا بالخط الأحمر العريض هو :
ما الذي يفعله شخص يحرم الإبداع في ملتقى للإبداع و المبدعين ؟؟؟؟؟؟
هل من مجيب ؟
سخيف و الله هذا الوضع الذي نعيشه في مجتمع يدعي الثقافة و التحرر.
في مقالي السابق الذكر كتبت عن فنان قدير هو محمد منير، الذي يعتبر من الفنانين العرب القلائل الذين حافظوا على القيمة الفنية للأغنية العربية و قاوموا الانحطاط و الابتذال و الاسفاف . فنان لديه رصيد هائل من الأغاني الوطنية و أغاني الحرية و القيم الإنسانية النبيلة و أغاني الحب الراقي النظيف .
و في رد آخر أشرت لأسماء تسطع فوق رؤوسنا نجوما لامعة ، بل كواكب ضخمة مضيئة و مشرقة : فيروز ، مرسيل خليفة ، ماجدة الرومي ، شربل روحانا ..... ، كلها أسماء تجعلنا نمضي في هذه الحياة رافعين الجبين بعز و فخر و عنفوان ، أسماء منحتنا و تمنحنا أوسمة الشرف ، في الوقت الذي يجرنا فيه أصحاب الفكر الأسود إلى الوراء ، و يدفعوننا لطأطأة الرؤوس خجلا من كوننا ننتمي معهم لنفس اللغة و نفس المنطقة.
من يستطيع أن يحرم صوت فيروز و هي تتغنى بالحرية :
يا حرية يا زهرة برية
يا طفلة وحشية يا حرية.
أو حين تغني :
لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي
لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن
يا قدس يا مدينة الصلاة .
أو حين تغني لأرقى القيم الإنسانية و أكثرها نبلا :
إذا المحبة نادت عليكم فأجيبوها
إذا المحبة أومت إليكم فأطيعوها .
من يستطيع أن يحرم صوت مرسيل خليفة و هو يغني :
كل قلوب الناس جنسيتي.
أو حين يقول :
و ليكن لا بد لي أن أتباهى بك يا جرح المدينة
أنت يا لوحة برق في ليالينا الحزينة .
من يستطيع أن يحرم صوت أميمة الخليل و هي تغني أسمى معاني حب الوطن :
نسيمك عنبر و أرضك سكر
فكيف إذن لا أحبك أكثر.
من يستطيع أن يحرم صوت محمد منير و هو يغني للخير و ينبذ الشر :
يا نورس يا أبيض يا بو قلب أبيض
بحب البشر و بالخير بينبض
سحاب الشرور مكتف جناحك
و دمع البحور مزود جراحك
فيه عقل أسود مليان سموم
شتت و شرد و بكى النجوم .
من يستطيع أن يحرم صوت ماجدة الرومي و هي تقول :
قلن لأهلك يرجعوا لهون
يحملوا الخير الفكر والغار
وبإيدهن هالكون يعود
يعود يشعر أشعار
من يستطيع أن يحرم عود الفنان العراقي نصير شمة ، الذي تنبعث منه موسيقى تخترق الجلد قبل الأذن .
بل من يستطيع أن يحرم كل الأصوات التي غنت للحب في أسمى معانيه و أرقى أشكاله : نجاة الصغيرة ، أسمهان ، أم كلثوم ، محمد عبد الوهاب ، صباح فخري ، ناظم الغزالي ....
من يستطيع أن يحرم كل هذا الجمال الراقي غير شخص رجعي يدين الحب لأنه لا يدركه ، و الحرية لأنه يخافها ، و الإبداع لأنه لا يفهمه .
ترعبه الحرية لأنها تشكل خطرا كبيرا على وجوده و استمراريته .
يقرفه الإبداع لأن قلبه خال من الجمال .
و يخيفه الحب لأنه شخص غير متوازن ، يخاف أن يحب في طريقه الى المسجد ، أو أن تصيبه فكرة بين آيتين .
كيف كان سيكون هذا العالم بدون فن ؟
عالم حيث كل شيء وحشي و مؤلم ، الحروب و الدمار و القتل و الوجع و الظلم و البطش و النهب و الفقر و التشرد و سلب الحقوق ، هذا الواقع المؤلم و الموجع ما الذي كان سيزينه غير الفن . عندما تنفتح رئاتنا لتتنفس و لا تجد أمامها غير هواء ملوث و واقع مر أسود ، لن يكون أمامها غير الموسيقى و الفن بجميع أنواعه كملاذ يخفف الألم و يفتح بعض النوافذ الصغيرة المطلة على السعادة.
إن الفن جزء من مقومات الحياة ، قبل أن يكون جزءا من مقومات الفكر . الفن منفتح أكثر من أي عمل في هذا الكون ، و في الوقت الذي تعجز فيه كل السياسات على توحيد القلوب ، يمكن أن يضطلع الفن بهذه المهمة ببساطة ، بمقطوعة موسيقية لا تتعدى الدقائق ، أو أغنية قصيرة تضم بضع كلمات ، أو فيلم أو مسرحية . عمل بسيط مثل هذا يمكن أن يكون سببا في زرع بذور الحب و الخير و الأخوة بين البشر جميعا.
و أخيرا أقول إن الثراث الانساني بكامله ، مهما بلغ من الثراء و مهما اتسعت حدوده لا يمكن أن يساوي شيئا بدون فن . أقصد الفن في كل تجلياته : الموسيقى ، المسرح ، الرسم ، النحث ، الشعر ..... ، هؤلاء هم أسيادنا الذين لا نملك إلا أن نطأطأ أمامهم احتراما و إجلالا.
تعليق