[align=justify]الدار اللي هناك - الجزء الأول -
"الدار اللي هـناك" أغنـية شغـف بها جـدي كثيـرا وصارت مفضـلة عند أبي الـذي يردد مرارا أنها تذكره ببيت طالما تمنى الإقامة فيه مثلما حلم باقتـنائه العديـد من سكـان القريـة لجماله ورحابـته . ولكـم تمنـيت معرفة سـبب بقـاء ذلك البـيت مهجـورا حتـى تآكلت حيطانه وتساقط قرميده . لكنه ظـل شامخا محتفظا بكرمته المتفرعة في جميع الاتجاهات لتغطي السور العالي المحيط به وتطـل من بوابتـه التي صارت لا تكاد تبـين للقـادم نحـو القريـة من الجهـة السفلى . وكنـا نسمي هـذه الجهـة بالشط ، وهو عبارة عن جـرف سحيق يصير شلالا حين يمتلئ النهر المحاذي للقرية . وكان منزلـنا بالجهـة العلـيا حيـث الـدور الخاصـة بالجنـود . وكثـيرا ما سمعت أمي وهي تثني على القرية ، ليس لخيراتها الوفيرة فقط ، بل لأنها المكان الوحيد الذي نعمت فيه بالاستقرار بعد حل وترحال ونزوح من عدة مناطق بحكم عمل أبي كجندي بالقوات المساعدة .
كانت تحيط بقريتنا جبال شاهقة تكسوها الثلوج في فصل الشتاء بحيث تنعزل عن العالم الخارجي ويصير الخروج منـها أو ولوجها مستحيلا لرداءة حالة الطريق المتفرعة عن الطريق الرئيسية المؤدية إلى الريف شرقا وإلى تطوان غربا . وكانت الأشجار و المزارع تكتنفها من كل جانب ، فصارت مرتعا أليفا لنا . إذ كنت أنطلق منذ الصباح مع زمرة من أبناء الموظفـين وثلة من القرويـين، لا رادع يردعنا ولا من يكبح جماح شقاوتنا . نذرع الروابي ونتسلق الجبال وننحدر إلى الوادي حيث الغدران ، فنسبح ونصطاد كـل ما يقع تحت أيدينا من يمام وعصافير قبل أن نعود منهوكي القوى . وفي طريق عودتنا نجني ما طاب لنا من كرز ومشمش وتين مما يزيد في بطء خطواتنا وعيائنا . ولكن ذلك لم يكن يمنعنا من متابعة اللعب حين يحل الظلام . فنتقمص أدوار الشرطة واللصوص ويـلذ لنا الاختباء فوق أغصان الأشجار أو خلف الأسوار ليفاجئ بعضنا البعض بتصويـب المسدسات الخشبـية أو البلاستيكيـة . وكثــيرا ما كنا نختبئ قرب حديقة المنزل المهجور فيعتريني شعور بالرهبة ولذة المغامرة ، وأقضي لحظات في تأمله ، خاصة الجهة التي تظللها شجرة تين عظيمة .
ولا زلت أحتفظ ببعض الحكايات التي كان يرويها لي جدي قبل أن برحل عن هذه الدنيا ، وهي حكايات لم تزدني إلا فضولا ولهفة للاطلاع على أسرار الدار وخباياها... قال لي مرة ونحن جالسين على ضفة النهر القريب من منزلنا :
- هذا المنزل محصن ، ولن ينفذ إليه أحد مهما بلغت شجاعته .
- ألم يحاول أحد ذلك ؟
- بلى ... حاول أحد المتشردين تسلق السور للمبيت وراءه كما يبدو ، لكن...
قلت وقلبي يدق بعنف :
- لكن ماذا ؟
- لم يشعر المسكين إلا وهو يرمى بعيدا ، ليقضي أياما يئن من رضوض بجسمه لازما الفراش وهو يشير إلى ناحية السور.
- مسكين... ماذا رأى ؟
تنهد جدي وقال ساهما :
- هذا ما لا يعلمه إلا الله... وليس هذا فحسب .
وحين لزمت الصمت استطرد قائلا :.
- هذه المرة ، كان تلميذا . تغـيب في حصـة الصباح ليستكشف ما بداخـل البـيت . لكـنه لم يـكد يقتعد السور وينـظر إلى ما خلـفه حتــى أسرع بالنزول وهو يصيح طالبا النجدة... ماذا رأى ؟ الله أعلم . إنما الذي يعرفه الجميع هو أن ذلك الغـلام صار يذرع الطرقـات ملوحا تارة ومقهقها تارة أخرى و باكيا أحيانا دون أدنى سبب . وحين يصل قبالة البيت المهجور يصيح صيحة كالعواء ثم يهرول بعيدا.
وسكت جدي ، ولم أعقب أنا برد ولو بسؤال ، فالتفت إلي مبتسما وقال : - هل أخفتك ؟ أريدك شجاعا ، ثم... ادن مني ، سأسر إليك بخبر سيفرحك حتما... سيكون من حقك وحدك ولوج هذه الدار . لا تقل هذا لأحد ولا تسألني عن السبب . و عاد الصمت من جديد . ولم أعد أسمع سوى حفيف الشجر وأوراقه المتساقطة . وعند أقدامنا كان النهر ينساب هادئا... كم كان الخريف جميلا . لكنه حزين . إذ ما لبث جدي أن رحل عنا وبقيت وحيدا أسترجع ذكراه وما كان يرويه لي من حكايات غريبة لا أمل سماعها . وصارت الأفكار تتقاذفني ، ويعج رأسي بتلك الحكايات التي يضاهي بعضها البعض فظاعة وغرابة . ولكن ، هل فت ذلك مــن عضدي وأخمد نار الفضول في نفسي ؟... حقا ، في بعض الأحيان كنت أشعر بدبيب الخوف يسري في أوصالي وأنا أطلق العنان لخيالي ليزيد الحكايات غموضا وهيبة ، فلا أجد بدا من الالتجاء إلى أبي لتنهال عليه أسئلتي التي غالبا ما كانت تحرجه .
ففي الوقت الذي حرص فيه على ألا أستسلم للخرافات والأساطير وألا أقع فريسة للـخوف من الجان والأشباح ، عمل جاهـدا على أن أتجنب ، كسائر أقراني ، محاولة ولوج البيت الغريب أو حتى الاقتراب منه ... سألته مرة :
- لماذا ؟ هل هو مسحور ؟
تردد قليلا ثم قال :
- كلا... لكن سقطة في حفرة أو انزلاق ... أو لدغة أفعى قد تكون خطيرة . ثم ، أنت تعلم قدم البيت وتآكل حيطانه . وهذا أيضا خطير.
- أو ضربة جني ؟
- أوه كلا... كن مسلحا بالوضوء وأكثر من تلاوة القرآن ، وهذا يكفي .
كان هذا رأي أمي التي كثيرا ما كانت تتوقف عن أي عمل لتشارك أبي توجيهاته وتكون له خير معين لإقناعي ، فتعقب قائلة:
- لا تنس أن الشجاعة شيء والتهور شيء آخر..." ثم تصمت مدركة فهمي لتلميحها . ويبدأ الموسم الدراسي ، فألتقي بزملائي و يتجدد التنافس على أشده خصوصا بيني وبين لطيفة بنت القائد . لكني في يوم الدخول المدرسي كنت شارد الذهن ، مشتت الأفكار. فلم أنتبه لكلمات الفتاة التي غالبا ما كانت تستفزني فأرد عليها بقسوة تجعلها تبكي وتهـرع لتشكوني لأمها أو لأمي ، لكن لا أحد يعير اهتماما لخصوماتنا الصبيانية ، اللهم بعض العتاب من زوجة القائد حين نكون جميعا في نزهة فتقول ضاحكة :" لقد اشتكتك عروسك... وعليك بمصالحتها " ، فيحمر خداي وتلوي هي برأسها امتعاضا .
هل أنبذ فكرة استكشاف الدار من ذهني ؟ كيف السبيل إلى ذلك وأنا أجد نفسي كمشدود إلى شباك تجره ، ولا حول له ولا قوة ؟ لكني ، وفي شرودي هذا ، انتبهت إلى معلمنا وهو يأمرنا بالسكوت ليعلن عن شيء هام :
- اسمعوا جيدا يا أولاد... هذه السنة ستكون اختبارا لكم و لمجهوداتكم . أحثكم على حب الاستطلاع واستكشاف كل ما هو طريف وغريـب.
وحين تطلعت إليه عيوننا في لهفة وتأكد من تأجج فضولنا تابع قوله :
- ستقومون بإعداد موضوع حول أهم ما اكتشفـتموه من غرائب ، وسوف أرسل أجـود ما كتبتم إلى بعض المجـلات لنشره ... وهناك أيضا جوائز أخرى أتركها مفاجأة لكم .
ضج الفصل استحسانا للفكرة ، وعبثا حاول المعلم إعادة الــهدوء بالضرب على المكتب بقبضة يده . فتركـنا نصيح ونعــلق على الفكرة وذهب إلى النافذة يتأمل الحقول الصفراء المنحدرة إلى الوادي السحيق ويداه وراء ظهره . وحانت مني التفاتة إلى الخلف حيث تجلس لطيفة محاطة برهط من صديقاتها ففاجأتها تنظر إلي متحدية ، فابتسمت بسخرية ثم لوحت بقبضة يدي متحديا أيضا . ولاحظت كيف احمر وجهها ، لكني انشغلت سريعا بالحديث إلى زميلي وهو يسألني عما نويت فعله ... الجميع كانوا متأكدين من انحصار التنافس بيني وبين لطيفة . ولم يدر معلمنا المسكين أنه يدفعني دفعا نحو البناية الموحشة ، لينضاف ذلك إلى ما أسر به إلي جدي من أحقيتي في ولوج البيت المهجور .
إذن قضي الأمر وقر عزمي على ركوب المغامرة حالما تسنح الفرصة . وتوالت أيام الدراسة ببردها وأمطارها وثلوجها . وكم كانت محببة إلي تلك اللحظات التي كنا نتحلق فيها حول معلمنا في حجرة الدرس ليروي لنا أمتع الحكايات بينما تكاد السماء تنطبق على الأرض فيلمع البرق ويدوي الرعد ثم تصب السماء جام غضبها على الروابي والوديان . وفي بعض الأحيان كنت أجد نفسي وحيدا حين لا يتمكــن الآخرون من عبور النهر فأجلس إلى مكتب المعلم وأتفحص ما حواه الدرج من كتب التاريخ التي كنت شغوفا بها ، وأنهل منها ما أشاء أو أقف عند الباب لأتملى بمنظر الأمطار والوديان الهادرة .
وبدأت العطلة . وانطلقنا من المدرسة في آخر يوم من الفترة الدراسية الأولى صائحين مبتهجين وملوحين بنتائجنا ، غير مبالـــين بالبرد القارس ... برد دجنبر. وقضيت أيام العطلة مع أسرتي ، ننتقل هنا وهناك . نزور عمة لي في تطوان ، ونقضي يومين أو ثلاثة عند خالتي في الشاون ، ثم نعود إلى قريتنا القابعة في وداعة عند سفح الجبل الشاهق .
وكم من مرة حاولت إيجاد مبرر للتخلف عن أسرتي والبقاء وحيدا ، لكني لم أفلح . فصارت كل لحظة تمر وكل يوم ينقضي يؤججان في داخلي شعورا باليأس ونفاذ الصبر. وبدا لزاما علي ألا أضيع الوقت ، وأن أستغله في مراجعة كافة الحكايات والروايات الغريبة الــــتي تتناول المنزل بالوصف . لكني اكتفيت بما كان يرويه لي جدي من عجائب وغرائب . وكنت أتوقف دائما عند حكاية البوم الذي كان يعيــش حارسا لكنز وضعته إحدى الغجريات التي أقامت بالمكان ردحا من الوقت قبل أن يرحل الإسبان عن المنطقة . هذا البوم كان ينعق كل ليـلة من ليالي السمائم المقمرة والحارة ، ويختفي عند حلول البرد بينما تظل روحه تحوم حول المكان منذرة من يقترب بالويل والثبور .
وجاءت الفرصة أخيرا ، فلم أتردد في استغلالها غير مصدق ما يحدث . فقد صدر أمر بنقل والدي إلى إحدى القرى بالريف . وهــذا شيء تعودنا عليه ، لكننا أحسسنا جميعا هذه المرة بأسى عميق لفراق القرية التي ألفناها وسكانها كما ألفنا غاباتها وحقولها ووديانــــها، بل وماشيتها وكلابها . وربما خفف من أساي أنني كنت مشغول الفكر بمغامرتي المقبلة . وكان على أمي أن ترافق والدي لإعداد الــمأوى الجديد قبل أن نرحل جميعا . فبقيت مع أخي الذي يصغرني ببضع سنين تحت رعاية جيراننا. وخلا لي الجو لأبدأ جديا في الاستـــعداد لتلك المغامرة . وأول شيء تبادر إلى ذهني الرفيق . هل أتخذ رفيقا ؟ من يكون ؟ وهل يقبل أن يجازف بنفسه مثلي ؟ ثم ، هل سيكون عونا لي أم على العكس ، سيسبب لي متاعب جمة ؟... فكرت في أخي وخطر لي البيت الشعري القائل:
أخاك أخاك إن من لا أخ له ///// كساع إلى الحرب بغير حسام
غير أني أشفقت عليه لما قد يصيبه من عناء أو أذى خاصة وأنه كان يصغرني بأكثر من أربع سنوات ، ولم يكن يــــفارق أمي إلا لماما، لذا أعرضت عن الفكرة وبدأت أستعرض وجوه بعض زملائي عساي أجد بينهم من يصلح لهذه المهمة... أحمد ، الملقب بالأرنب ؟ إنه لا يتقن سوى الصراخ عند الخروج من الفصل . اليزيد ؟ وهذا أيضا ، رغم صلابة عوده ، لا يقوى على العناء والشدة . لم لا يكـــــون الطيب ؟... حقا ، فيه مواصفات المغامر الجريء ، لكنه لا يقوى أبدا على كتمان السر . وقد نال عن جدارة و استحـــقاق لقب " الجـــوزة المثقوبة". ثم إني لا آمن أن تصل أسرار مغامرتي إلى لطيفة ، فينكشف الأمر وتضيع المفاجأة ويفقد موضوع إنشائي عنصر التشويق و الإثارة . أما باقي التلاميذ فهم إما ضعفاء البنية أو إناث .. وهنا توقف ذهني عند منافستي لطيفة ، فابتسمت وأنا أتخيل نفسي فائزا بأحسن موضوع إنشائي لما سيحويه من غرائب ، ثم ما سيكون عليه موقفها ورد فعلها . هل ستقر بالهزيمة أم أنها ، وكعادتها سوف تجد كل المبررات لتهون منها ؟
بعد ذلك توجه اهتمامي إلى ما يجب حمله معي من معدات لاستعمالها عند الحاجة ، فأعددت حبلا ومصباحا وملقطا وحذاء رياضيا وقبعة ، إلى غير ذلك من الأشياء الضرورية للرحلة ، ولم يبق سوى توقيت عملية الانطلاق . وهذا أيضا وضعته في الحسبان منذ رحلتـنا الأخيرة إلى باب تازة حين كان القمر لم يكتمل بعد وفكرت حينئذ في ليلة منتصف الشهر الهجري، ولبثت منذ ذلك الحين أنتظر على أحــــر من الجمر خشية أن يحدث ما يقوض خطتي من أساسها ، كقدوم أبوي فجأة ، أو بعثهم لمن يصحبــنا إلى هناك . لكن، ولحسن الحــظ ، لم يقع شيء من هذا القبيل .
كان الوقت فجرا حين انطلقت . وهو الوقت الذي عودني جدي على الاستيقاظ فيه للصلاة بصحبته. سررت لصفاء الجو، لكني لم أستطع مغادرة حجرتي دون أن ألقي نظرة حنو على وجه أخي ولثم جبينه ، ثم خرجت... كان الهدوء شاملا ولا يتخلله سوى وقع خطواتي على الحصى . ولو سئلت في هذه اللحظة عن شعوري وأنا أتسلل من بيت الجيران ، مارا بمنزلنا القابع في أقصى القرية، تاركا أخي يغط في نومه العميق ، لما استطعت الإجابة . فقد تنازعتني أحاسيس شتى... كنت أشعر بالفرحة ولذة المغامرة وبالخوف من المجهول ، ثــــــم بالأسف لفراق أهلي .. هذا الفراق الذي يمكن أن يكون أبديا ، ولما سوف أسببه لوالدي من حزن وقلق فيما لو تأخرت أوبتي . لكن شعورا بالأمل في التفوق على أقراني ، خصوصا لطيفة ، جعل تصميمي أقوى ، فاستسلمت لخطواتي مترنما بالأغنية التي صرت أعشقها:
الدار اللي هناك عاليمين ///// على جنب الدالية الكبيرة
قبالتهـــا دار ///// دار قديمـــة [/align]
( يتبع)
"الدار اللي هـناك" أغنـية شغـف بها جـدي كثيـرا وصارت مفضـلة عند أبي الـذي يردد مرارا أنها تذكره ببيت طالما تمنى الإقامة فيه مثلما حلم باقتـنائه العديـد من سكـان القريـة لجماله ورحابـته . ولكـم تمنـيت معرفة سـبب بقـاء ذلك البـيت مهجـورا حتـى تآكلت حيطانه وتساقط قرميده . لكنه ظـل شامخا محتفظا بكرمته المتفرعة في جميع الاتجاهات لتغطي السور العالي المحيط به وتطـل من بوابتـه التي صارت لا تكاد تبـين للقـادم نحـو القريـة من الجهـة السفلى . وكنـا نسمي هـذه الجهـة بالشط ، وهو عبارة عن جـرف سحيق يصير شلالا حين يمتلئ النهر المحاذي للقرية . وكان منزلـنا بالجهـة العلـيا حيـث الـدور الخاصـة بالجنـود . وكثـيرا ما سمعت أمي وهي تثني على القرية ، ليس لخيراتها الوفيرة فقط ، بل لأنها المكان الوحيد الذي نعمت فيه بالاستقرار بعد حل وترحال ونزوح من عدة مناطق بحكم عمل أبي كجندي بالقوات المساعدة .
كانت تحيط بقريتنا جبال شاهقة تكسوها الثلوج في فصل الشتاء بحيث تنعزل عن العالم الخارجي ويصير الخروج منـها أو ولوجها مستحيلا لرداءة حالة الطريق المتفرعة عن الطريق الرئيسية المؤدية إلى الريف شرقا وإلى تطوان غربا . وكانت الأشجار و المزارع تكتنفها من كل جانب ، فصارت مرتعا أليفا لنا . إذ كنت أنطلق منذ الصباح مع زمرة من أبناء الموظفـين وثلة من القرويـين، لا رادع يردعنا ولا من يكبح جماح شقاوتنا . نذرع الروابي ونتسلق الجبال وننحدر إلى الوادي حيث الغدران ، فنسبح ونصطاد كـل ما يقع تحت أيدينا من يمام وعصافير قبل أن نعود منهوكي القوى . وفي طريق عودتنا نجني ما طاب لنا من كرز ومشمش وتين مما يزيد في بطء خطواتنا وعيائنا . ولكن ذلك لم يكن يمنعنا من متابعة اللعب حين يحل الظلام . فنتقمص أدوار الشرطة واللصوص ويـلذ لنا الاختباء فوق أغصان الأشجار أو خلف الأسوار ليفاجئ بعضنا البعض بتصويـب المسدسات الخشبـية أو البلاستيكيـة . وكثــيرا ما كنا نختبئ قرب حديقة المنزل المهجور فيعتريني شعور بالرهبة ولذة المغامرة ، وأقضي لحظات في تأمله ، خاصة الجهة التي تظللها شجرة تين عظيمة .
ولا زلت أحتفظ ببعض الحكايات التي كان يرويها لي جدي قبل أن برحل عن هذه الدنيا ، وهي حكايات لم تزدني إلا فضولا ولهفة للاطلاع على أسرار الدار وخباياها... قال لي مرة ونحن جالسين على ضفة النهر القريب من منزلنا :
- هذا المنزل محصن ، ولن ينفذ إليه أحد مهما بلغت شجاعته .
- ألم يحاول أحد ذلك ؟
- بلى ... حاول أحد المتشردين تسلق السور للمبيت وراءه كما يبدو ، لكن...
قلت وقلبي يدق بعنف :
- لكن ماذا ؟
- لم يشعر المسكين إلا وهو يرمى بعيدا ، ليقضي أياما يئن من رضوض بجسمه لازما الفراش وهو يشير إلى ناحية السور.
- مسكين... ماذا رأى ؟
تنهد جدي وقال ساهما :
- هذا ما لا يعلمه إلا الله... وليس هذا فحسب .
وحين لزمت الصمت استطرد قائلا :.
- هذه المرة ، كان تلميذا . تغـيب في حصـة الصباح ليستكشف ما بداخـل البـيت . لكـنه لم يـكد يقتعد السور وينـظر إلى ما خلـفه حتــى أسرع بالنزول وهو يصيح طالبا النجدة... ماذا رأى ؟ الله أعلم . إنما الذي يعرفه الجميع هو أن ذلك الغـلام صار يذرع الطرقـات ملوحا تارة ومقهقها تارة أخرى و باكيا أحيانا دون أدنى سبب . وحين يصل قبالة البيت المهجور يصيح صيحة كالعواء ثم يهرول بعيدا.
وسكت جدي ، ولم أعقب أنا برد ولو بسؤال ، فالتفت إلي مبتسما وقال : - هل أخفتك ؟ أريدك شجاعا ، ثم... ادن مني ، سأسر إليك بخبر سيفرحك حتما... سيكون من حقك وحدك ولوج هذه الدار . لا تقل هذا لأحد ولا تسألني عن السبب . و عاد الصمت من جديد . ولم أعد أسمع سوى حفيف الشجر وأوراقه المتساقطة . وعند أقدامنا كان النهر ينساب هادئا... كم كان الخريف جميلا . لكنه حزين . إذ ما لبث جدي أن رحل عنا وبقيت وحيدا أسترجع ذكراه وما كان يرويه لي من حكايات غريبة لا أمل سماعها . وصارت الأفكار تتقاذفني ، ويعج رأسي بتلك الحكايات التي يضاهي بعضها البعض فظاعة وغرابة . ولكن ، هل فت ذلك مــن عضدي وأخمد نار الفضول في نفسي ؟... حقا ، في بعض الأحيان كنت أشعر بدبيب الخوف يسري في أوصالي وأنا أطلق العنان لخيالي ليزيد الحكايات غموضا وهيبة ، فلا أجد بدا من الالتجاء إلى أبي لتنهال عليه أسئلتي التي غالبا ما كانت تحرجه .
ففي الوقت الذي حرص فيه على ألا أستسلم للخرافات والأساطير وألا أقع فريسة للـخوف من الجان والأشباح ، عمل جاهـدا على أن أتجنب ، كسائر أقراني ، محاولة ولوج البيت الغريب أو حتى الاقتراب منه ... سألته مرة :
- لماذا ؟ هل هو مسحور ؟
تردد قليلا ثم قال :
- كلا... لكن سقطة في حفرة أو انزلاق ... أو لدغة أفعى قد تكون خطيرة . ثم ، أنت تعلم قدم البيت وتآكل حيطانه . وهذا أيضا خطير.
- أو ضربة جني ؟
- أوه كلا... كن مسلحا بالوضوء وأكثر من تلاوة القرآن ، وهذا يكفي .
كان هذا رأي أمي التي كثيرا ما كانت تتوقف عن أي عمل لتشارك أبي توجيهاته وتكون له خير معين لإقناعي ، فتعقب قائلة:
- لا تنس أن الشجاعة شيء والتهور شيء آخر..." ثم تصمت مدركة فهمي لتلميحها . ويبدأ الموسم الدراسي ، فألتقي بزملائي و يتجدد التنافس على أشده خصوصا بيني وبين لطيفة بنت القائد . لكني في يوم الدخول المدرسي كنت شارد الذهن ، مشتت الأفكار. فلم أنتبه لكلمات الفتاة التي غالبا ما كانت تستفزني فأرد عليها بقسوة تجعلها تبكي وتهـرع لتشكوني لأمها أو لأمي ، لكن لا أحد يعير اهتماما لخصوماتنا الصبيانية ، اللهم بعض العتاب من زوجة القائد حين نكون جميعا في نزهة فتقول ضاحكة :" لقد اشتكتك عروسك... وعليك بمصالحتها " ، فيحمر خداي وتلوي هي برأسها امتعاضا .
هل أنبذ فكرة استكشاف الدار من ذهني ؟ كيف السبيل إلى ذلك وأنا أجد نفسي كمشدود إلى شباك تجره ، ولا حول له ولا قوة ؟ لكني ، وفي شرودي هذا ، انتبهت إلى معلمنا وهو يأمرنا بالسكوت ليعلن عن شيء هام :
- اسمعوا جيدا يا أولاد... هذه السنة ستكون اختبارا لكم و لمجهوداتكم . أحثكم على حب الاستطلاع واستكشاف كل ما هو طريف وغريـب.
وحين تطلعت إليه عيوننا في لهفة وتأكد من تأجج فضولنا تابع قوله :
- ستقومون بإعداد موضوع حول أهم ما اكتشفـتموه من غرائب ، وسوف أرسل أجـود ما كتبتم إلى بعض المجـلات لنشره ... وهناك أيضا جوائز أخرى أتركها مفاجأة لكم .
ضج الفصل استحسانا للفكرة ، وعبثا حاول المعلم إعادة الــهدوء بالضرب على المكتب بقبضة يده . فتركـنا نصيح ونعــلق على الفكرة وذهب إلى النافذة يتأمل الحقول الصفراء المنحدرة إلى الوادي السحيق ويداه وراء ظهره . وحانت مني التفاتة إلى الخلف حيث تجلس لطيفة محاطة برهط من صديقاتها ففاجأتها تنظر إلي متحدية ، فابتسمت بسخرية ثم لوحت بقبضة يدي متحديا أيضا . ولاحظت كيف احمر وجهها ، لكني انشغلت سريعا بالحديث إلى زميلي وهو يسألني عما نويت فعله ... الجميع كانوا متأكدين من انحصار التنافس بيني وبين لطيفة . ولم يدر معلمنا المسكين أنه يدفعني دفعا نحو البناية الموحشة ، لينضاف ذلك إلى ما أسر به إلي جدي من أحقيتي في ولوج البيت المهجور .
إذن قضي الأمر وقر عزمي على ركوب المغامرة حالما تسنح الفرصة . وتوالت أيام الدراسة ببردها وأمطارها وثلوجها . وكم كانت محببة إلي تلك اللحظات التي كنا نتحلق فيها حول معلمنا في حجرة الدرس ليروي لنا أمتع الحكايات بينما تكاد السماء تنطبق على الأرض فيلمع البرق ويدوي الرعد ثم تصب السماء جام غضبها على الروابي والوديان . وفي بعض الأحيان كنت أجد نفسي وحيدا حين لا يتمكــن الآخرون من عبور النهر فأجلس إلى مكتب المعلم وأتفحص ما حواه الدرج من كتب التاريخ التي كنت شغوفا بها ، وأنهل منها ما أشاء أو أقف عند الباب لأتملى بمنظر الأمطار والوديان الهادرة .
وبدأت العطلة . وانطلقنا من المدرسة في آخر يوم من الفترة الدراسية الأولى صائحين مبتهجين وملوحين بنتائجنا ، غير مبالـــين بالبرد القارس ... برد دجنبر. وقضيت أيام العطلة مع أسرتي ، ننتقل هنا وهناك . نزور عمة لي في تطوان ، ونقضي يومين أو ثلاثة عند خالتي في الشاون ، ثم نعود إلى قريتنا القابعة في وداعة عند سفح الجبل الشاهق .
وكم من مرة حاولت إيجاد مبرر للتخلف عن أسرتي والبقاء وحيدا ، لكني لم أفلح . فصارت كل لحظة تمر وكل يوم ينقضي يؤججان في داخلي شعورا باليأس ونفاذ الصبر. وبدا لزاما علي ألا أضيع الوقت ، وأن أستغله في مراجعة كافة الحكايات والروايات الغريبة الــــتي تتناول المنزل بالوصف . لكني اكتفيت بما كان يرويه لي جدي من عجائب وغرائب . وكنت أتوقف دائما عند حكاية البوم الذي كان يعيــش حارسا لكنز وضعته إحدى الغجريات التي أقامت بالمكان ردحا من الوقت قبل أن يرحل الإسبان عن المنطقة . هذا البوم كان ينعق كل ليـلة من ليالي السمائم المقمرة والحارة ، ويختفي عند حلول البرد بينما تظل روحه تحوم حول المكان منذرة من يقترب بالويل والثبور .
وجاءت الفرصة أخيرا ، فلم أتردد في استغلالها غير مصدق ما يحدث . فقد صدر أمر بنقل والدي إلى إحدى القرى بالريف . وهــذا شيء تعودنا عليه ، لكننا أحسسنا جميعا هذه المرة بأسى عميق لفراق القرية التي ألفناها وسكانها كما ألفنا غاباتها وحقولها ووديانــــها، بل وماشيتها وكلابها . وربما خفف من أساي أنني كنت مشغول الفكر بمغامرتي المقبلة . وكان على أمي أن ترافق والدي لإعداد الــمأوى الجديد قبل أن نرحل جميعا . فبقيت مع أخي الذي يصغرني ببضع سنين تحت رعاية جيراننا. وخلا لي الجو لأبدأ جديا في الاستـــعداد لتلك المغامرة . وأول شيء تبادر إلى ذهني الرفيق . هل أتخذ رفيقا ؟ من يكون ؟ وهل يقبل أن يجازف بنفسه مثلي ؟ ثم ، هل سيكون عونا لي أم على العكس ، سيسبب لي متاعب جمة ؟... فكرت في أخي وخطر لي البيت الشعري القائل:
أخاك أخاك إن من لا أخ له ///// كساع إلى الحرب بغير حسام
غير أني أشفقت عليه لما قد يصيبه من عناء أو أذى خاصة وأنه كان يصغرني بأكثر من أربع سنوات ، ولم يكن يــــفارق أمي إلا لماما، لذا أعرضت عن الفكرة وبدأت أستعرض وجوه بعض زملائي عساي أجد بينهم من يصلح لهذه المهمة... أحمد ، الملقب بالأرنب ؟ إنه لا يتقن سوى الصراخ عند الخروج من الفصل . اليزيد ؟ وهذا أيضا ، رغم صلابة عوده ، لا يقوى على العناء والشدة . لم لا يكـــــون الطيب ؟... حقا ، فيه مواصفات المغامر الجريء ، لكنه لا يقوى أبدا على كتمان السر . وقد نال عن جدارة و استحـــقاق لقب " الجـــوزة المثقوبة". ثم إني لا آمن أن تصل أسرار مغامرتي إلى لطيفة ، فينكشف الأمر وتضيع المفاجأة ويفقد موضوع إنشائي عنصر التشويق و الإثارة . أما باقي التلاميذ فهم إما ضعفاء البنية أو إناث .. وهنا توقف ذهني عند منافستي لطيفة ، فابتسمت وأنا أتخيل نفسي فائزا بأحسن موضوع إنشائي لما سيحويه من غرائب ، ثم ما سيكون عليه موقفها ورد فعلها . هل ستقر بالهزيمة أم أنها ، وكعادتها سوف تجد كل المبررات لتهون منها ؟
بعد ذلك توجه اهتمامي إلى ما يجب حمله معي من معدات لاستعمالها عند الحاجة ، فأعددت حبلا ومصباحا وملقطا وحذاء رياضيا وقبعة ، إلى غير ذلك من الأشياء الضرورية للرحلة ، ولم يبق سوى توقيت عملية الانطلاق . وهذا أيضا وضعته في الحسبان منذ رحلتـنا الأخيرة إلى باب تازة حين كان القمر لم يكتمل بعد وفكرت حينئذ في ليلة منتصف الشهر الهجري، ولبثت منذ ذلك الحين أنتظر على أحــــر من الجمر خشية أن يحدث ما يقوض خطتي من أساسها ، كقدوم أبوي فجأة ، أو بعثهم لمن يصحبــنا إلى هناك . لكن، ولحسن الحــظ ، لم يقع شيء من هذا القبيل .
كان الوقت فجرا حين انطلقت . وهو الوقت الذي عودني جدي على الاستيقاظ فيه للصلاة بصحبته. سررت لصفاء الجو، لكني لم أستطع مغادرة حجرتي دون أن ألقي نظرة حنو على وجه أخي ولثم جبينه ، ثم خرجت... كان الهدوء شاملا ولا يتخلله سوى وقع خطواتي على الحصى . ولو سئلت في هذه اللحظة عن شعوري وأنا أتسلل من بيت الجيران ، مارا بمنزلنا القابع في أقصى القرية، تاركا أخي يغط في نومه العميق ، لما استطعت الإجابة . فقد تنازعتني أحاسيس شتى... كنت أشعر بالفرحة ولذة المغامرة وبالخوف من المجهول ، ثــــــم بالأسف لفراق أهلي .. هذا الفراق الذي يمكن أن يكون أبديا ، ولما سوف أسببه لوالدي من حزن وقلق فيما لو تأخرت أوبتي . لكن شعورا بالأمل في التفوق على أقراني ، خصوصا لطيفة ، جعل تصميمي أقوى ، فاستسلمت لخطواتي مترنما بالأغنية التي صرت أعشقها:
الدار اللي هناك عاليمين ///// على جنب الدالية الكبيرة
قبالتهـــا دار ///// دار قديمـــة [/align]
( يتبع)
تعليق