بين الكاتب الإسلامي والنص الإسلامي
يسعى أستاذنا حسن الأمراني* لوسم الأدب ووصمه بصفة إسلامية لمجرد أن يكتب صاحبه مقالات تصفو شوائبها من كدورات تعكر صفو مشربه الإسلامي ؛ إذ يقول في هذا الصدد :
" ومن هنا كان المنطلق السليم هو البحث عن الأدب الإسلامي في ذلك القدر الأدبي الهائل الذي ينتجه المسلمون، بالعربية، وبغيرها من لغات الشعوب الإسلامية، دون استبعاد أولئك الذين لبسوا، لسبب أو لآخر، لبوس العلمانية بوجوهها المتعددة والمتناقضة في بعض الأحيان، ماداموا لا ينكرون انتماءهم للإسلام ولا يعلنون انسلاخهم عن هويتهم الحضارية، حتى وإن حطبوا في حبل غير حبل المشروع الإسلامي، بل ما دام كثير منهم يغضب إن أنت طعنت في إسلامه تصريحا أو تلميحا، وهو أمر على كل حال لا يجوز صدوره عن مسلم مستنير، إذ كثيرا ما يستيقظ في النفوس نداء الفطرة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(الروم: 30)، فتزول تلك الغشاوة السطحية التي التصقت بجلودهم دون قلوبهم،فإذا أدبهم إسلامي الملامح، مستجيب لخصائصه المعنوية والفنية، واقرأ إن شئت من شعر بدر شاكر السياب:(أيوب)،أو:(أمام باب الله)،أو من شعر محمد الفيتوري: (يوميات حاج إلى بيت الله الحرام)، أو اقرأ حتى قصيدة محمود درويش:(عابرون في كلام عابر)، وإن غضب الغاضبون وتنطع المتنطعون، والمتنطعون هلكى. "**
ولئن مضى الأستاذ حسن الأمراني على درب حسن الظن، ينتقي أجود الأقوال لكل من لمزه اللامزون، أو لصقت بجلده أصباغ العلمانية؛ فإنه ينبغي التأكيد بوجود كتابات لنفس الكاتب تستجيب للسنن الإلهية وأخرى تعارضها، بل حتى بعض كتابات رجال " رابطة الأدب الإسلامي " هي من هذا القبيل، مما يجعلنا نتساءل: هل أصبح همنا هو جمع أكبر عدد من الكتاب وإدراجهم في دائرة الأدب الإسلامي؟ أم أننا نصطفي النصوص التي تستجيب ومتطلبات الأدب الإسلامي؟
لو سلمنا جدلا لما ذهب إليه أستاذنا الأمراني، لردتنا السنن الإلهية على أعقابنا بعد رفضها كل ما لم يندرج في سلك عقدها وينصبغ بصبغة لونها شكلا ومضمونا؛ فصفة الإسلامي لا تتأتى إلا لما ينسب لدين الله، ودين الله طيب ولا يخالف سنن الله في كونه، ولا قرآنه ولا يحمل الخبث، ولا شهادة الزور، ولا قول الفجور، ولا لمز ولا غمز ولا سخرية من أحد، وليست أخلاقنا وحدها التي تأبى علينا ولوج هذا الدرب الشارد عن الصواب، بل إن ميزان أفعال الله يقرر بأن الجزاء يكون دوما من جنس العمل إلا فيما لا يليق بجلال الله.
وإذا كان المتبجح بالفسق والمترنم بألحان التعهر على مرأى ومسمع من الخاص والعام يصبغ بصبغة "الزرق المتخافتين" الشيء الذي يجعله خارج دائرة الأدب الإسلامي، فإن المنافق - على عكس المتبجح - من يختفي، ويتسرب تسربا لطيفا، يصطفي الألفاظ، وينمق العبارات، ويزين الهندام، ويندس في السرب؛ كي لا يفتضح أمره، أندرج شدوه وتضاريس تقلبات أمواج فنه ضمن الأدب الإسلامي؟
ما درى هذا الحاذق، المتشدق، المتحذلق بأن سنن الله كانت له بالمرصاد؛ بتعهد الله بإخراج نبرات أنفاسه الكاذبة لافتضاح أمره،{وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة : 72] وأن مكر الماكرين سوف يبور،؛ و{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[الأنعام67] ولا تخفى حذلقته ولا تمرر إلا على من لم يلم بالسنن الإلهية؛ لكون نغمات أنفاسه تنكشف عند لحن الخطاب، ما كان لماكر أن يتحصن من سنن الله أن تكشف ألاعيبه، وتفضح تمريراته، وهو لا يدرك لها كنها، ولا يؤمن بسننها أصلا.
قد تبدو هذه اللوحة جذابة بتموجات السلوك والإبداع معا على نسق واحد إما سلبا وإما إيجابا، لكن السنن الإلهية تبين بأن لا معصوم على وجه الأرض إلا من تولى الله حفظهم فكانوا من المُخْلَصين، وبهذا ينعكس الفهم وتنقلب الرؤى وتبدو زلات قاتلة تتربص حتى كبار كتاب الأدب الإسلامي بله غيرهم، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
ولا غرو فإن أضحى همنا هو وصم الكاتب بالكتابة الإسلامية، فلا شك نكون قد حدنا عن جادة الصواب؛ فكل بني آدم خطاء، ولكل كاتب هفوة، كما لكل عالم زلة، ولكل سيف نبوة، ولكل جواد كبوة، والاستمرار على نهج الاستقامة لا يكون إلا من باب حفظ الله للعبد.
وإذا راعينا قوانين البيئة التي نقضي حياتنا بين جدرانها وسلمنا بترك الأشخاص لخالقهم فهو أرحم بهم من غيرهم، فإن شاء غفر وإن شاء عذب، ولا شيء من الأمر لغير الله، لذا وجب أن يتعلق أمر بحثنا عما يكتب لا عمن يكتب، فنحلل مضامين النصوص ونكل أمر أهلها لخالقهم.
وجزا الله أستاذنا حسن الأمراني إذ اعتمد حسن الظن بالناس سبيلا ومسلكا للخروج من براثين الخلاف؛ وهو مسلك شريف يكل أمر الخلق إلى خالقهم.
فلا ينصب الهم على تكثير سواد كتاب الأدب الإسلامي، - وإن كان هذا مطمحنا وأملنا المنشود -؛ وإنما الهم ينصب أساسا على انتقاء أدب لا يتعارض في شيء مع قانون الله وسننه في كونه وقرآنه.
وإذا ما اتضح الأمر وبان : بأن الأدب الإسلامي ليس هو ما يكتبه الكتاب المسلمين بله غيرهم؛ وإنما هو ما استجاب للسنن الإلهية مما يكتبه الكاتبون، ولم يعاكسها في التوجه، فما علينا آنئذ إلا تفرس النصوص بقربها أو بعدها عن السنن الإلهية أو مدى استجابتها أو مخالفتها لها.
وإلى هنا يبدو أن لا خلاف مع أستاذنا إنما الخلاف ظهر عند قوله : " دون استبعاد أولئك الذين لبسوا، لسبب أو لآخر، لبوس العلمانية بوجوهها المتعددة والمتناقضة في بعض الأحيان، ماداموا لا ينكرون انتماءهم للإسلام ولا يعلنون انسلاخهم عن هويتهم الحضارية، حتى وإن حطبوا في حبل غير حبل المشروع الإسلامي، "
والمنطق السليم هو ما يرجى له السلامة، لكنه في هذا الموطن أعوزته الحيلة بعدما تجاوز الحكم على النصوص إلى الحكم على الأشخاص، والعباد نكل أمرهم إلى الله، قد نستشف من لحن القول ما تكنه القلوب، لكنه قد يكون ذلك ضربا من الخرص، أو التأويل ولا يعلم ما في صدور الناس إلا رب العالمين، أو من أطلعه علام الغيوب على شيء من علمه.
والإنسان مهما علت مكانته الأدبية، يبقى في مهواة الظلم والجهل إلا من حفظ ربك، والذي لولا فضله ورحمته ما زكى منا من أحد أبدا، أترانا نسعى لإبداء وجها غير الذي وسمنا به، إعماء للحقائق اليقينية وجريا على درب النفاق إظهارا لجمال الزي وتجميلا للهندام، واصطفاء لمصطلحات اللي والإعراض من كلام الأنام؟
وربما التمسنا العذر لأستاذنا بكونه عضوا مؤسسا "لرابطة الأدب الإسلامي" وقد تعوزه مراتب التصنيف للقبول أو لرفض عضوية هذا أو ذاك برابطة الأدب الإسلامي فتبقى القاعدة بأن كل من أسهب بمبادرة طيبة عبق الجو رياحينها واستنار الواقع بنورها وأجاد وأفاد، فلم يمنع منح العضوية داخل الرابطة؟ والعكس بالعكس صحيح. وقد يسحب منه الانتماء إذا ثبت عليه ما يناقض انتماءه، ويثبت عكس توجهه ونور توهجه.
-------------
* الأستاذ حسن الأمراني أحد مؤسسي رابطة الأدب الإسلامي، مؤسس مجلة المشكاة(أول مجلة عالمية متخصصة في الأدب الإسلامي، ترجم بعض شعره لعدد من اللغات العالمية، ترجمت له عدة موسوعات عربية وعالمية منها : معجم بابطين للشعراء العرب المعاصرين، مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين ج4، ديوان الشعر العربي في القرن العشرين لراضي صدوق...
** سيمياء الأدب الإسلامي ج1 المصطلح والدلالة ط2 ص 13و14
تعليق