دعوة إلى فنجان قهوة مع «المتنبي»!
جولة فنية في رحاب ديوان «المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد»
للشاعر الكبير المبدع الدكتور حسين علي محمد
بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب
..........................
(القسم الأول)
...................
ـ ....... ... 0096 ( يسجل هنا هاتف فندق الرشيد ببغداد ) .
ـ آلو ... من المتحدث؟
ـ فندق الرشيد بغداد؟
ـ نعم!
ـ أيمكنني التحدث إلى أحد نزلاء فندقكم العامر؟
ـ بكل سرور .. بكل تأكيد .. من تريد؟
ـ السيد أحمد بن الحسين الكندي الجعفي!
ـ عفواً! عفوا سيدي، ليس عندنا نزيل بهذا الاسم، ولا بذلك اللقب.
ـ أنا متأكد يا سيدي من نزوله في فندق الرشيد العامر.
ـ لعلك واهم يا سيدي.
ـ آه! عفوا سيدي، تذكرت، أريد الشاعر المشهور أبا الطيب المتنبي.
ـ الآن، نعم، وعلى الرحب والسعة! ولكن أخبرني عن الشخص الأول الذي طلبت الحديث إليه "السيد أحمد بن الحسين ـ الكنَدي ـ الجعفي .."، من يكون يا سيدي؟
ـ يا سيدي، أحمد بن الحسين هو نفسه أبو الطيب المتنبي بشحمه ولحمه ودمه؛ ولكن يبدو أن هذا اللقب غلب عليه فأنسى الناس اسمه الحقيقي شأن غيره من مشاهير الأدباء! ثم إنه ليس "الكَنـََدي" بفتح الكاف والنون الذي سمعتك تنطقه "والذي هو نسبة إلى "كندا" الشريك الأعلى للولايات المتحدة في أمريكا الشمالية، وإنما هو "الكِنـْدي" بكسر الكاف وتسكين النون، نسبة إلى قببلة كندة اليمنية المشهورة التي ينسب إليها امرؤ القيس الشاعر الجاهلي المشهور .. أو غير ذلك ما علينا!
والآن، أرجو أن توصلني بالسيد أحمد بن الحسين ـ عفوا بأبي الطيب المتنبي، أو بالمتنبي مباشرة، وبلا ألقاب أو كُنـَى لو تكرمت.
ـ حبّـا وكرامة؛ يا أبا الطيب، يا متنبي، هناك من يريد محادثتك يا سيدي.
ـ آلو .. من المتحدث؟ ومن أخبرك بمكاني أيها السيد؟
ـ يا سيدي، اطمئن، فأنا لست من أتباع فاتك الأسدي خال ضبة اللعين الذي علمت أنه يترصدك في كل مكان، ويتحسس أخبارك منذ غادرت كافورا الإخشيدي بمصر .. يا سيدي، لست من أتباع هذا ولا غيره من أعدائك، بل أنا من مريديك يا شاعر العربية العظيم؛
ـ حياك الله وبياك!
ـ أهلا بك وسهلا في بغداد المنصور والرشيد!!
وعند هذا الحد انقطع حبل الحديث ما بيني وبين المتنبي لتبدأ رحلتنا مع هذا الديوان الذي أبدعته عبقرية الشاعر الكبير الدكتور حسين علي محمد ليضاف إلى قافلة الدواوين الكثيرة المتميزة التي أبدعها على طول مسيرته الإبداعية التي ندعو الله أن يبارك فيها ويثريها لتثري الساحة الأدبية المعاصرة؛ نصحب شاعرنا الكبير في هذه الرحلة إلى أحد عوالمه الشعرية الحالمة، وأفيائه الوارفة التي عوّدنا عليها في إبداعاته الكثيرة الغنية والمتنوعة ما بين ديوان شعر، وبين قصة قصيرة، وبين مسرحية، وبين بحث أدبي علمي أصيل .. فإلى فندق الرشيد ببغداد حيث يحتسي المتنبي القهوة العربية الصافية المرة في أعقاب رحلته الشاقة مذ غادر كافورا الإخشيدي!!
***
رحلتنا اليوم في أفياء ديوان جديد للشاعر الكبير المبدع الدكتور حسين علي محمد بضاف كما أسلفنا إلى تلك القائمة الرائعة من إبداعاته الأدبية المتنوعة، والتي سعدنا بلقاءات متنوعة معها، وجولات متباينة فيها تكشفت لنا من خلالها جوانب من عبقريته المبدعة، وتحسسنا طرفا من مظاهر إبداعه المتميز سواء في فن القصة القصيرة وفي الشعر وفي الدراسات الأدبية وكذلك في فن المسرحية الشعرية والنثرية على السواء..
ولعل أول ما يمكن أن يلفت الانتباه في هذا الديوان الجديد العنوان الرائع والمتميز الذي مهره به واختاره له اختيارا يكشف عن عمق المقصد وعظم الدلالة؛ وواضح أن الشاعر أراد أن يخلي ما بين العنوان وبين القراء ليستكشفوا أطرافا من مقاصده ومغازيه فيها وإيحاءاته العجيبة؛ ذلك أن الشاعر يرصد المتنبي، شاعر العربية الأكبر، منذ أن ترك مصر وكافورا الإخشيدي مودعا بأقذع الهجاء انتقاما لذاته الممتهنة وكبريائه الجريحة وشاعريته الملطخة بأوضار أبي المسك ـ كافورـ وهو يجرجر أذيال الخيبة والإحساس الحاد بالغبن والقهر بعد أن خذله كافور ولم يحقق له شيئا ولو يسيراً من آماله وطموحاته التي ألقى بها في بلاطه، وكان يحلم بها، أو قل تحلم بها نفسه الكبيرة الطموحة من مراقي المجد والملك والسلطان مكتفيا بداليته ومقصورته اللتين حملهما شيئا غير قليل من أمشاج نفسيته الممزقة وطموحاته وآماله الخائبة .. وفي غمرة هذا الإحساس الحاد المفجع بالخيبة البالغة، والخسران العظيم ألقى المتنبي رحله، وأناخ راحلته ببغداد في نُزُل ـ فندق الرشيد ـ يجمع شتات نفسه، ويلم شظاياها المتناثرة وهو يحتسي فنجان القهوة المرة التي لم تكن بطبيعة الحال تعدل أكثر من جزء يسير من مرارة الخيبة والفشل التي كان كاهله ينوء بها، وتتجرعها نفسيته الممزقة، تلك النفسية الكبيرة الكسيرة منذ أن غادر مصر مودعا كافورا الإخشيدي؛ وشاء الله، وشاءت أقداره أن تشهد حاضرة الرشيد مأساة هذه النفسية الكبيرة المتهدمة، كما شاءت لها الأقدار أن تشهد بعد أكثر من ألف سنة أفظع مأساة قد تشهدها عاصمة في الدنيا عندما وطئتها أقدام غزاة العم سام، أو العم بوش لتبدأ مأساة جديدة قد لا يكون لها مثيل في تاريخ الشعوب المعاصرة؛ وقد ألهبت هذه المأساة، أو المناسبة المأساوية، شاعرية أديبنا الكبير ليبدع طرفا يسيرا منها في بعض قصائد هذا الديوان، والتي ستكون لنا وقفة معها في هذه الرحلة.
أما هذه الدراسة التي تتناول هذا الديوان فتقوم على جانبين رئيسين: الجانب الموضوعي، والجانب الفني؛ وفي الجانب الموضوعي سنعرض لألوان المعاناة التي نشرها الشاعر في قصائده، وما انطوت عليه من هموم وآلام وأحزان وأحاسيس ملتاعة، حيث سيطرت الهموم وصبغت قصائده بصبغة سوداوية كالحة ولا غرو، فقد كانت متجذرة في أعماق شاعرنا حتى النخاع، وكان منغمراً فيها، وقد أخذ يعبها حتى الثمالة! كيف لا، وهو ما كاد يخلص من آثار مأساة ذاتية أو وطنية حتى فجأته مأساة أخرى لينغمر فيها من جديد، ويخوض غمارها ويكتوي بنارها!
وإذا حاولنا أن نتبين مظاهر هذه المعاناة التي حملتها قصائد الديوان ألفيناها متنوعة، بعضها ذاتي، وبعضها غيري وطني لعل أبرزها مأساة العراق التي دفعت الشاعر إلى أن يختار لها عنوانا غريبا خلعه على الديوان كله، مستوحى من مأساة المتنبي حيث استدعاه إلى بغداد ليحتسي قهوته المرة في أكبر فنادقها وأشهرها "فندق الرشيد"، ورمز نهضتها العمرانية المعاصرة ـ كان ـ وهو يفتتح القصيدة بمشهد مستوحى من حياة المتنبي في فصولها الأخيرة منذ أن غادر الكوفة مسقط رأسه متوجها إلى بغداد ليحطّ فيها عصا الترحال على أمل العودة إلى الكوفة ليستقر فيها مع أسرته الصغيرة؛ وفي هذه المرحلة أو الأثناء اعترض طريق المتنبي أحد لصوص أسد وصعاليكهم وهو "فاتك الأسدي" خال ضبة الذي هجاه المتنبي أقذع هجاء لمحاولته إفساد عبيده عليه، فآلى فاتك أن يقتل المتنبي انتقاما لشرفه الذي مرغه في التراب، وقد جمع لصوصه وصعاليكه لهذه الغاية الكبيرة، وأخذ يترصد تحركاته ويتحسس أخباره إلى أن تحقق له ما أراد، ولم تُجْدِ المتنبي غطرسته وكبرياؤه واستخفافه بخصمه "عبيد العصا" فتيلا!
وقد رصد شاعرنا المعاصر هذه الجانب في المقطع الأول من هذه القصيدة حيث يقول: (ص36)
أ ثعلب ماكر في الليل يتبعني ويجهد الفجـر أهواء وأظفارا
ويحاول هذا العدو المترصد للمتنبي إخفاء أمره وكظم غيظه وكبت ما يتأجج في أعماق نفسه من حنق بالغ وغضب شديد، ورغبة جامحة في الانتقام من خصمه اللدود تنسرب مع قطرات الخمر التي يحتسيها:
ويشرب العرق المسكوب في قدح يخفي به الهول إذ يشتدّ هدارا
ويندمج الماضي البعيد في الحاضر القريب عندما يجعل المتنبي يحتسي القهوة في هذا الفندق الشهير وأعداؤه يتربصون به ويترصدونه ويحدقون به من كل جانب ويخططون للقضاء عليه وتدميره؛ ويتأمل الشاعر هذا المشهد الراهن وجيش الأعداء يسيطر على بغداد ويعيث فيها فساداً، وينشر فيها الدمار!
أما ما بين هذين المشهدين من فوارق وفواصل، فالمشهد القديم تلقانا فيه قصائد المتنبي الرافضة للذل، المجسدة للعظمة والقوة والطموح؛ أما المشهد ، فقد أمات كل هذه المشاعر:
أشعاركَ صارتْ داجنةً لا تُشعل فينا النار!
وهكذا جعل شاعرنا المعاصر المتنبي يعايش هاتين الحالتين المتناقضتين: حالة الذاتية القديمة، وحالة الغيرية الحديثة أو حالة الأمة الراهنة وما يسودها من انهزام ذاتي وانهيار داخلي بالغ لم تعد البلاغة تقوى ـ برغم طاقاتها الإبداعية والتأثيرية المكتنزة على إخفائه والاستعلاء عليه أو تجاوزه، وحتى لو أسعفتنا البلاغة وطاعت لنا وحققت لنا شيئا من ذلك:
كلا النقيضين كالإعصار في فمك الـ ـمملوء غيظاً وأهواءً وإعصارا
هنا البلاغةُ قد تُـخفي جهالتنـا ونحن نعبُـرُها ساحـاً ومضمـارا
ولا يلبث الشاعر أن يؤكد عجز المتنبي نفسه برغم ما أوتي من الفصاحة والبلاغة والإبداع عن تصوير هذه المأساة الراهنة التي تستقطب العراق العظيم ـ عراق الرشيد ـ وأنّى لها ذلك: "والعصفور كسيحٌ قُطع جناحاه"!
ويمضي الشاعر مع مأساة العراق الراهنة متناسيا إلى حين مأساة المتنبي الذاتية وقد سلخت من حياتها شهورا كأعوام ممتدة متطاولة لشدتها وقسوتها وشراستها وبلائها العميق! وأما سبب هذا البلاء المستشري فيكمن في تلك الفرقة الضالة المضلة التي تختزن في نفوسها كما هائلا من الأحقاد الموروثة القديمة وقد آنست مجا مناسبا وهائلا للتنفيس عنها في إطار هذه المأساة الرهيبة:
مرّت شهورٌ كأعوامٍ وما فتئت تلك العمائمُ في الأهواز أغرارا
يستقرئون كتاباً تلك صفحتُــه سوداءُ تظهرُ أحقـاداً وأوضارا
وكل ما في بغداد خاصة والعراق عامة يشهد بحقيقة واحدة لا سبيل إلى جحدها وإنكارها هي أن:
الأوغاد انتصروا .. في أيامٍ داميةٍ سوداءْ!
(يتبع)
جولة فنية في رحاب ديوان «المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد»
للشاعر الكبير المبدع الدكتور حسين علي محمد
بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب
..........................
(القسم الأول)
...................
ـ ....... ... 0096 ( يسجل هنا هاتف فندق الرشيد ببغداد ) .
ـ آلو ... من المتحدث؟
ـ فندق الرشيد بغداد؟
ـ نعم!
ـ أيمكنني التحدث إلى أحد نزلاء فندقكم العامر؟
ـ بكل سرور .. بكل تأكيد .. من تريد؟
ـ السيد أحمد بن الحسين الكندي الجعفي!
ـ عفواً! عفوا سيدي، ليس عندنا نزيل بهذا الاسم، ولا بذلك اللقب.
ـ أنا متأكد يا سيدي من نزوله في فندق الرشيد العامر.
ـ لعلك واهم يا سيدي.
ـ آه! عفوا سيدي، تذكرت، أريد الشاعر المشهور أبا الطيب المتنبي.
ـ الآن، نعم، وعلى الرحب والسعة! ولكن أخبرني عن الشخص الأول الذي طلبت الحديث إليه "السيد أحمد بن الحسين ـ الكنَدي ـ الجعفي .."، من يكون يا سيدي؟
ـ يا سيدي، أحمد بن الحسين هو نفسه أبو الطيب المتنبي بشحمه ولحمه ودمه؛ ولكن يبدو أن هذا اللقب غلب عليه فأنسى الناس اسمه الحقيقي شأن غيره من مشاهير الأدباء! ثم إنه ليس "الكَنـََدي" بفتح الكاف والنون الذي سمعتك تنطقه "والذي هو نسبة إلى "كندا" الشريك الأعلى للولايات المتحدة في أمريكا الشمالية، وإنما هو "الكِنـْدي" بكسر الكاف وتسكين النون، نسبة إلى قببلة كندة اليمنية المشهورة التي ينسب إليها امرؤ القيس الشاعر الجاهلي المشهور .. أو غير ذلك ما علينا!
والآن، أرجو أن توصلني بالسيد أحمد بن الحسين ـ عفوا بأبي الطيب المتنبي، أو بالمتنبي مباشرة، وبلا ألقاب أو كُنـَى لو تكرمت.
ـ حبّـا وكرامة؛ يا أبا الطيب، يا متنبي، هناك من يريد محادثتك يا سيدي.
ـ آلو .. من المتحدث؟ ومن أخبرك بمكاني أيها السيد؟
ـ يا سيدي، اطمئن، فأنا لست من أتباع فاتك الأسدي خال ضبة اللعين الذي علمت أنه يترصدك في كل مكان، ويتحسس أخبارك منذ غادرت كافورا الإخشيدي بمصر .. يا سيدي، لست من أتباع هذا ولا غيره من أعدائك، بل أنا من مريديك يا شاعر العربية العظيم؛
ـ حياك الله وبياك!
ـ أهلا بك وسهلا في بغداد المنصور والرشيد!!
وعند هذا الحد انقطع حبل الحديث ما بيني وبين المتنبي لتبدأ رحلتنا مع هذا الديوان الذي أبدعته عبقرية الشاعر الكبير الدكتور حسين علي محمد ليضاف إلى قافلة الدواوين الكثيرة المتميزة التي أبدعها على طول مسيرته الإبداعية التي ندعو الله أن يبارك فيها ويثريها لتثري الساحة الأدبية المعاصرة؛ نصحب شاعرنا الكبير في هذه الرحلة إلى أحد عوالمه الشعرية الحالمة، وأفيائه الوارفة التي عوّدنا عليها في إبداعاته الكثيرة الغنية والمتنوعة ما بين ديوان شعر، وبين قصة قصيرة، وبين مسرحية، وبين بحث أدبي علمي أصيل .. فإلى فندق الرشيد ببغداد حيث يحتسي المتنبي القهوة العربية الصافية المرة في أعقاب رحلته الشاقة مذ غادر كافورا الإخشيدي!!
***
رحلتنا اليوم في أفياء ديوان جديد للشاعر الكبير المبدع الدكتور حسين علي محمد بضاف كما أسلفنا إلى تلك القائمة الرائعة من إبداعاته الأدبية المتنوعة، والتي سعدنا بلقاءات متنوعة معها، وجولات متباينة فيها تكشفت لنا من خلالها جوانب من عبقريته المبدعة، وتحسسنا طرفا من مظاهر إبداعه المتميز سواء في فن القصة القصيرة وفي الشعر وفي الدراسات الأدبية وكذلك في فن المسرحية الشعرية والنثرية على السواء..
ولعل أول ما يمكن أن يلفت الانتباه في هذا الديوان الجديد العنوان الرائع والمتميز الذي مهره به واختاره له اختيارا يكشف عن عمق المقصد وعظم الدلالة؛ وواضح أن الشاعر أراد أن يخلي ما بين العنوان وبين القراء ليستكشفوا أطرافا من مقاصده ومغازيه فيها وإيحاءاته العجيبة؛ ذلك أن الشاعر يرصد المتنبي، شاعر العربية الأكبر، منذ أن ترك مصر وكافورا الإخشيدي مودعا بأقذع الهجاء انتقاما لذاته الممتهنة وكبريائه الجريحة وشاعريته الملطخة بأوضار أبي المسك ـ كافورـ وهو يجرجر أذيال الخيبة والإحساس الحاد بالغبن والقهر بعد أن خذله كافور ولم يحقق له شيئا ولو يسيراً من آماله وطموحاته التي ألقى بها في بلاطه، وكان يحلم بها، أو قل تحلم بها نفسه الكبيرة الطموحة من مراقي المجد والملك والسلطان مكتفيا بداليته ومقصورته اللتين حملهما شيئا غير قليل من أمشاج نفسيته الممزقة وطموحاته وآماله الخائبة .. وفي غمرة هذا الإحساس الحاد المفجع بالخيبة البالغة، والخسران العظيم ألقى المتنبي رحله، وأناخ راحلته ببغداد في نُزُل ـ فندق الرشيد ـ يجمع شتات نفسه، ويلم شظاياها المتناثرة وهو يحتسي فنجان القهوة المرة التي لم تكن بطبيعة الحال تعدل أكثر من جزء يسير من مرارة الخيبة والفشل التي كان كاهله ينوء بها، وتتجرعها نفسيته الممزقة، تلك النفسية الكبيرة الكسيرة منذ أن غادر مصر مودعا كافورا الإخشيدي؛ وشاء الله، وشاءت أقداره أن تشهد حاضرة الرشيد مأساة هذه النفسية الكبيرة المتهدمة، كما شاءت لها الأقدار أن تشهد بعد أكثر من ألف سنة أفظع مأساة قد تشهدها عاصمة في الدنيا عندما وطئتها أقدام غزاة العم سام، أو العم بوش لتبدأ مأساة جديدة قد لا يكون لها مثيل في تاريخ الشعوب المعاصرة؛ وقد ألهبت هذه المأساة، أو المناسبة المأساوية، شاعرية أديبنا الكبير ليبدع طرفا يسيرا منها في بعض قصائد هذا الديوان، والتي ستكون لنا وقفة معها في هذه الرحلة.
أما هذه الدراسة التي تتناول هذا الديوان فتقوم على جانبين رئيسين: الجانب الموضوعي، والجانب الفني؛ وفي الجانب الموضوعي سنعرض لألوان المعاناة التي نشرها الشاعر في قصائده، وما انطوت عليه من هموم وآلام وأحزان وأحاسيس ملتاعة، حيث سيطرت الهموم وصبغت قصائده بصبغة سوداوية كالحة ولا غرو، فقد كانت متجذرة في أعماق شاعرنا حتى النخاع، وكان منغمراً فيها، وقد أخذ يعبها حتى الثمالة! كيف لا، وهو ما كاد يخلص من آثار مأساة ذاتية أو وطنية حتى فجأته مأساة أخرى لينغمر فيها من جديد، ويخوض غمارها ويكتوي بنارها!
وإذا حاولنا أن نتبين مظاهر هذه المعاناة التي حملتها قصائد الديوان ألفيناها متنوعة، بعضها ذاتي، وبعضها غيري وطني لعل أبرزها مأساة العراق التي دفعت الشاعر إلى أن يختار لها عنوانا غريبا خلعه على الديوان كله، مستوحى من مأساة المتنبي حيث استدعاه إلى بغداد ليحتسي قهوته المرة في أكبر فنادقها وأشهرها "فندق الرشيد"، ورمز نهضتها العمرانية المعاصرة ـ كان ـ وهو يفتتح القصيدة بمشهد مستوحى من حياة المتنبي في فصولها الأخيرة منذ أن غادر الكوفة مسقط رأسه متوجها إلى بغداد ليحطّ فيها عصا الترحال على أمل العودة إلى الكوفة ليستقر فيها مع أسرته الصغيرة؛ وفي هذه المرحلة أو الأثناء اعترض طريق المتنبي أحد لصوص أسد وصعاليكهم وهو "فاتك الأسدي" خال ضبة الذي هجاه المتنبي أقذع هجاء لمحاولته إفساد عبيده عليه، فآلى فاتك أن يقتل المتنبي انتقاما لشرفه الذي مرغه في التراب، وقد جمع لصوصه وصعاليكه لهذه الغاية الكبيرة، وأخذ يترصد تحركاته ويتحسس أخباره إلى أن تحقق له ما أراد، ولم تُجْدِ المتنبي غطرسته وكبرياؤه واستخفافه بخصمه "عبيد العصا" فتيلا!
وقد رصد شاعرنا المعاصر هذه الجانب في المقطع الأول من هذه القصيدة حيث يقول: (ص36)
أ ثعلب ماكر في الليل يتبعني ويجهد الفجـر أهواء وأظفارا
ويحاول هذا العدو المترصد للمتنبي إخفاء أمره وكظم غيظه وكبت ما يتأجج في أعماق نفسه من حنق بالغ وغضب شديد، ورغبة جامحة في الانتقام من خصمه اللدود تنسرب مع قطرات الخمر التي يحتسيها:
ويشرب العرق المسكوب في قدح يخفي به الهول إذ يشتدّ هدارا
ويندمج الماضي البعيد في الحاضر القريب عندما يجعل المتنبي يحتسي القهوة في هذا الفندق الشهير وأعداؤه يتربصون به ويترصدونه ويحدقون به من كل جانب ويخططون للقضاء عليه وتدميره؛ ويتأمل الشاعر هذا المشهد الراهن وجيش الأعداء يسيطر على بغداد ويعيث فيها فساداً، وينشر فيها الدمار!
أما ما بين هذين المشهدين من فوارق وفواصل، فالمشهد القديم تلقانا فيه قصائد المتنبي الرافضة للذل، المجسدة للعظمة والقوة والطموح؛ أما المشهد ، فقد أمات كل هذه المشاعر:
أشعاركَ صارتْ داجنةً لا تُشعل فينا النار!
وهكذا جعل شاعرنا المعاصر المتنبي يعايش هاتين الحالتين المتناقضتين: حالة الذاتية القديمة، وحالة الغيرية الحديثة أو حالة الأمة الراهنة وما يسودها من انهزام ذاتي وانهيار داخلي بالغ لم تعد البلاغة تقوى ـ برغم طاقاتها الإبداعية والتأثيرية المكتنزة على إخفائه والاستعلاء عليه أو تجاوزه، وحتى لو أسعفتنا البلاغة وطاعت لنا وحققت لنا شيئا من ذلك:
كلا النقيضين كالإعصار في فمك الـ ـمملوء غيظاً وأهواءً وإعصارا
هنا البلاغةُ قد تُـخفي جهالتنـا ونحن نعبُـرُها ساحـاً ومضمـارا
ولا يلبث الشاعر أن يؤكد عجز المتنبي نفسه برغم ما أوتي من الفصاحة والبلاغة والإبداع عن تصوير هذه المأساة الراهنة التي تستقطب العراق العظيم ـ عراق الرشيد ـ وأنّى لها ذلك: "والعصفور كسيحٌ قُطع جناحاه"!
ويمضي الشاعر مع مأساة العراق الراهنة متناسيا إلى حين مأساة المتنبي الذاتية وقد سلخت من حياتها شهورا كأعوام ممتدة متطاولة لشدتها وقسوتها وشراستها وبلائها العميق! وأما سبب هذا البلاء المستشري فيكمن في تلك الفرقة الضالة المضلة التي تختزن في نفوسها كما هائلا من الأحقاد الموروثة القديمة وقد آنست مجا مناسبا وهائلا للتنفيس عنها في إطار هذه المأساة الرهيبة:
مرّت شهورٌ كأعوامٍ وما فتئت تلك العمائمُ في الأهواز أغرارا
يستقرئون كتاباً تلك صفحتُــه سوداءُ تظهرُ أحقـاداً وأوضارا
وكل ما في بغداد خاصة والعراق عامة يشهد بحقيقة واحدة لا سبيل إلى جحدها وإنكارها هي أن:
الأوغاد انتصروا .. في أيامٍ داميةٍ سوداءْ!
(يتبع)
تعليق