مع ديوان «المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    مع ديوان «المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد»

    دعوة إلى فنجان قهوة مع «المتنبي»!
    جولة فنية في رحاب ديوان «المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد»
    للشاعر الكبير المبدع الدكتور حسين علي محمد

    بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب
    ..........................

    (القسم الأول)
    ...................
    ـ ....... ... 0096 ( يسجل هنا هاتف فندق الرشيد ببغداد ) .
    ـ آلو ... من المتحدث؟
    ـ فندق الرشيد بغداد؟
    ـ نعم!
    ـ أيمكنني التحدث إلى أحد نزلاء فندقكم العامر؟
    ـ بكل سرور .. بكل تأكيد .. من تريد؟
    ـ السيد أحمد بن الحسين الكندي الجعفي!
    ـ عفواً! عفوا سيدي، ليس عندنا نزيل بهذا الاسم، ولا بذلك اللقب.
    ـ أنا متأكد يا سيدي من نزوله في فندق الرشيد العامر.
    ـ لعلك واهم يا سيدي.
    ـ آه! عفوا سيدي، تذكرت، أريد الشاعر المشهور أبا الطيب المتنبي.
    ـ الآن، نعم، وعلى الرحب والسعة! ولكن أخبرني عن الشخص الأول الذي طلبت الحديث إليه "السيد أحمد بن الحسين ـ الكنَدي ـ الجعفي .."، من يكون يا سيدي؟
    ـ يا سيدي، أحمد بن الحسين هو نفسه أبو الطيب المتنبي بشحمه ولحمه ودمه؛ ولكن يبدو أن هذا اللقب غلب عليه فأنسى الناس اسمه الحقيقي شأن غيره من مشاهير الأدباء! ثم إنه ليس "الكَنـََدي" بفتح الكاف والنون الذي سمعتك تنطقه "والذي هو نسبة إلى "كندا" الشريك الأعلى للولايات المتحدة في أمريكا الشمالية، وإنما هو "الكِنـْدي" بكسر الكاف وتسكين النون، نسبة إلى قببلة كندة اليمنية المشهورة التي ينسب إليها امرؤ القيس الشاعر الجاهلي المشهور .. أو غير ذلك ما علينا!
    والآن، أرجو أن توصلني بالسيد أحمد بن الحسين ـ عفوا بأبي الطيب المتنبي، أو بالمتنبي مباشرة، وبلا ألقاب أو كُنـَى لو تكرمت.
    ـ حبّـا وكرامة؛ يا أبا الطيب، يا متنبي، هناك من يريد محادثتك يا سيدي.
    ـ آلو .. من المتحدث؟ ومن أخبرك بمكاني أيها السيد؟
    ـ يا سيدي، اطمئن، فأنا لست من أتباع فاتك الأسدي خال ضبة اللعين الذي علمت أنه يترصدك في كل مكان، ويتحسس أخبارك منذ غادرت كافورا الإخشيدي بمصر .. يا سيدي، لست من أتباع هذا ولا غيره من أعدائك، بل أنا من مريديك يا شاعر العربية العظيم؛
    ـ حياك الله وبياك!
    ـ أهلا بك وسهلا في بغداد المنصور والرشيد!!
    وعند هذا الحد انقطع حبل الحديث ما بيني وبين المتنبي لتبدأ رحلتنا مع هذا الديوان الذي أبدعته عبقرية الشاعر الكبير الدكتور حسين علي محمد ليضاف إلى قافلة الدواوين الكثيرة المتميزة التي أبدعها على طول مسيرته الإبداعية التي ندعو الله أن يبارك فيها ويثريها لتثري الساحة الأدبية المعاصرة؛ نصحب شاعرنا الكبير في هذه الرحلة إلى أحد عوالمه الشعرية الحالمة، وأفيائه الوارفة التي عوّدنا عليها في إبداعاته الكثيرة الغنية والمتنوعة ما بين ديوان شعر، وبين قصة قصيرة، وبين مسرحية، وبين بحث أدبي علمي أصيل .. فإلى فندق الرشيد ببغداد حيث يحتسي المتنبي القهوة العربية الصافية المرة في أعقاب رحلته الشاقة مذ غادر كافورا الإخشيدي!!

    ***
    رحلتنا اليوم في أفياء ديوان جديد للشاعر الكبير المبدع الدكتور حسين علي محمد بضاف كما أسلفنا إلى تلك القائمة الرائعة من إبداعاته الأدبية المتنوعة، والتي سعدنا بلقاءات متنوعة معها، وجولات متباينة فيها تكشفت لنا من خلالها جوانب من عبقريته المبدعة، وتحسسنا طرفا من مظاهر إبداعه المتميز سواء في فن القصة القصيرة وفي الشعر وفي الدراسات الأدبية وكذلك في فن المسرحية الشعرية والنثرية على السواء..
    ولعل أول ما يمكن أن يلفت الانتباه في هذا الديوان الجديد العنوان الرائع والمتميز الذي مهره به واختاره له اختيارا يكشف عن عمق المقصد وعظم الدلالة؛ وواضح أن الشاعر أراد أن يخلي ما بين العنوان وبين القراء ليستكشفوا أطرافا من مقاصده ومغازيه فيها وإيحاءاته العجيبة؛ ذلك أن الشاعر يرصد المتنبي، شاعر العربية الأكبر، منذ أن ترك مصر وكافورا الإخشيدي مودعا بأقذع الهجاء انتقاما لذاته الممتهنة وكبريائه الجريحة وشاعريته الملطخة بأوضار أبي المسك ـ كافورـ وهو يجرجر أذيال الخيبة والإحساس الحاد بالغبن والقهر بعد أن خذله كافور ولم يحقق له شيئا ولو يسيراً من آماله وطموحاته التي ألقى بها في بلاطه، وكان يحلم بها، أو قل تحلم بها نفسه الكبيرة الطموحة من مراقي المجد والملك والسلطان مكتفيا بداليته ومقصورته اللتين حملهما شيئا غير قليل من أمشاج نفسيته الممزقة وطموحاته وآماله الخائبة .. وفي غمرة هذا الإحساس الحاد المفجع بالخيبة البالغة، والخسران العظيم ألقى المتنبي رحله، وأناخ راحلته ببغداد في نُزُل ـ فندق الرشيد ـ يجمع شتات نفسه، ويلم شظاياها المتناثرة وهو يحتسي فنجان القهوة المرة التي لم تكن بطبيعة الحال تعدل أكثر من جزء يسير من مرارة الخيبة والفشل التي كان كاهله ينوء بها، وتتجرعها نفسيته الممزقة، تلك النفسية الكبيرة الكسيرة منذ أن غادر مصر مودعا كافورا الإخشيدي؛ وشاء الله، وشاءت أقداره أن تشهد حاضرة الرشيد مأساة هذه النفسية الكبيرة المتهدمة، كما شاءت لها الأقدار أن تشهد بعد أكثر من ألف سنة أفظع مأساة قد تشهدها عاصمة في الدنيا عندما وطئتها أقدام غزاة العم سام، أو العم بوش لتبدأ مأساة جديدة قد لا يكون لها مثيل في تاريخ الشعوب المعاصرة؛ وقد ألهبت هذه المأساة، أو المناسبة المأساوية، شاعرية أديبنا الكبير ليبدع طرفا يسيرا منها في بعض قصائد هذا الديوان، والتي ستكون لنا وقفة معها في هذه الرحلة.
    أما هذه الدراسة التي تتناول هذا الديوان فتقوم على جانبين رئيسين: الجانب الموضوعي، والجانب الفني؛ وفي الجانب الموضوعي سنعرض لألوان المعاناة التي نشرها الشاعر في قصائده، وما انطوت عليه من هموم وآلام وأحزان وأحاسيس ملتاعة، حيث سيطرت الهموم وصبغت قصائده بصبغة سوداوية كالحة ولا غرو، فقد كانت متجذرة في أعماق شاعرنا حتى النخاع، وكان منغمراً فيها، وقد أخذ يعبها حتى الثمالة! كيف لا، وهو ما كاد يخلص من آثار مأساة ذاتية أو وطنية حتى فجأته مأساة أخرى لينغمر فيها من جديد، ويخوض غمارها ويكتوي بنارها!
    وإذا حاولنا أن نتبين مظاهر هذه المعاناة التي حملتها قصائد الديوان ألفيناها متنوعة، بعضها ذاتي، وبعضها غيري وطني لعل أبرزها مأساة العراق التي دفعت الشاعر إلى أن يختار لها عنوانا غريبا خلعه على الديوان كله، مستوحى من مأساة المتنبي حيث استدعاه إلى بغداد ليحتسي قهوته المرة في أكبر فنادقها وأشهرها "فندق الرشيد"، ورمز نهضتها العمرانية المعاصرة ـ كان ـ وهو يفتتح القصيدة بمشهد مستوحى من حياة المتنبي في فصولها الأخيرة منذ أن غادر الكوفة مسقط رأسه متوجها إلى بغداد ليحطّ فيها عصا الترحال على أمل العودة إلى الكوفة ليستقر فيها مع أسرته الصغيرة؛ وفي هذه المرحلة أو الأثناء اعترض طريق المتنبي أحد لصوص أسد وصعاليكهم وهو "فاتك الأسدي" خال ضبة الذي هجاه المتنبي أقذع هجاء لمحاولته إفساد عبيده عليه، فآلى فاتك أن يقتل المتنبي انتقاما لشرفه الذي مرغه في التراب، وقد جمع لصوصه وصعاليكه لهذه الغاية الكبيرة، وأخذ يترصد تحركاته ويتحسس أخباره إلى أن تحقق له ما أراد، ولم تُجْدِ المتنبي غطرسته وكبرياؤه واستخفافه بخصمه "عبيد العصا" فتيلا!
    وقد رصد شاعرنا المعاصر هذه الجانب في المقطع الأول من هذه القصيدة حيث يقول: (ص36)
    أ ثعلب ماكر في الليل يتبعني ويجهد الفجـر أهواء وأظفارا
    ويحاول هذا العدو المترصد للمتنبي إخفاء أمره وكظم غيظه وكبت ما يتأجج في أعماق نفسه من حنق بالغ وغضب شديد، ورغبة جامحة في الانتقام من خصمه اللدود تنسرب مع قطرات الخمر التي يحتسيها:
    ويشرب العرق المسكوب في قدح يخفي به الهول إذ يشتدّ هدارا
    ويندمج الماضي البعيد في الحاضر القريب عندما يجعل المتنبي يحتسي القهوة في هذا الفندق الشهير وأعداؤه يتربصون به ويترصدونه ويحدقون به من كل جانب ويخططون للقضاء عليه وتدميره؛ ويتأمل الشاعر هذا المشهد الراهن وجيش الأعداء يسيطر على بغداد ويعيث فيها فساداً، وينشر فيها الدمار!
    أما ما بين هذين المشهدين من فوارق وفواصل، فالمشهد القديم تلقانا فيه قصائد المتنبي الرافضة للذل، المجسدة للعظمة والقوة والطموح؛ أما المشهد ، فقد أمات كل هذه المشاعر:
    أشعاركَ صارتْ داجنةً لا تُشعل فينا النار!
    وهكذا جعل شاعرنا المعاصر المتنبي يعايش هاتين الحالتين المتناقضتين: حالة الذاتية القديمة، وحالة الغيرية الحديثة أو حالة الأمة الراهنة وما يسودها من انهزام ذاتي وانهيار داخلي بالغ لم تعد البلاغة تقوى ـ برغم طاقاتها الإبداعية والتأثيرية المكتنزة على إخفائه والاستعلاء عليه أو تجاوزه، وحتى لو أسعفتنا البلاغة وطاعت لنا وحققت لنا شيئا من ذلك:
    كلا النقيضين كالإعصار في فمك الـ ـمملوء غيظاً وأهواءً وإعصارا
    هنا البلاغةُ قد تُـخفي جهالتنـا ونحن نعبُـرُها ساحـاً ومضمـارا
    ولا يلبث الشاعر أن يؤكد عجز المتنبي نفسه برغم ما أوتي من الفصاحة والبلاغة والإبداع عن تصوير هذه المأساة الراهنة التي تستقطب العراق العظيم ـ عراق الرشيد ـ وأنّى لها ذلك: "والعصفور كسيحٌ قُطع جناحاه"!
    ويمضي الشاعر مع مأساة العراق الراهنة متناسيا إلى حين مأساة المتنبي الذاتية وقد سلخت من حياتها شهورا كأعوام ممتدة متطاولة لشدتها وقسوتها وشراستها وبلائها العميق! وأما سبب هذا البلاء المستشري فيكمن في تلك الفرقة الضالة المضلة التي تختزن في نفوسها كما هائلا من الأحقاد الموروثة القديمة وقد آنست مجا مناسبا وهائلا للتنفيس عنها في إطار هذه المأساة الرهيبة:
    مرّت شهورٌ كأعوامٍ وما فتئت تلك العمائمُ في الأهواز أغرارا
    يستقرئون كتاباً تلك صفحتُــه سوداءُ تظهرُ أحقـاداً وأوضارا
    وكل ما في بغداد خاصة والعراق عامة يشهد بحقيقة واحدة لا سبيل إلى جحدها وإنكارها هي أن:
    الأوغاد انتصروا .. في أيامٍ داميةٍ سوداءْ!
    (يتبع)
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #2
    (القسم الثاني من دراسة أبي ذياب)
    ...............................
    ويبلغ الشاعر نهاية المأساة أو قمتها عندما يرصد المتنبي وهو يحتسي قهوته المرة في أبهاء فندق الرشيد وقد انتشرت قوافل / قطعان الدببة / المستعمرين الجدد، وهي:
    تأكلُ ما تُبصر من عشبٍ .. وتخلّف أرضا محروقةْ!!
    هكذا جاءت معاناة الشاعر المستوحاة من معاناة العراق من الاستعمار الأمريكي الجديد الذي جاء ليحرق الأخضر قبل اليابس راصداً ذلك من خلال مأساة المتنبي الذاتية القادمة على أيدي صعاليك أسد بقيادة فاتك، والتي مهما تكن فلن تكون أكثر من مأساة فرد وإن كان عظيما ذائع الشهرة كالمتنبي في مقابل مأساة العراق العامة الشاملة كما تشهد بها الأحداث الراهنة التي تلقانا صباح مساء وما خلفت من دمار وخراب!
    ويستدعي الإحساس الحاد بالمعاناة لدى الشاعر معاناة الحسين ومأساته المشهورة لتكون رمزا آخر أو صورة أخرى لمأساة الأمة الراهنة ومصائبها الفادحة التي لا تتوقف أو تهدأ إلا لتبدأ من جديد! أما الفرق بين المأساتين: المتنبي وذاتية البطل وميراث العداوة الضخم ما بينه وبين فاتك الأسدي، والمواجهة المحتومة بين الرجلين، ومأساة الحسين وما خلفت من خيبة ويأس والتي جاءت تخلي أنصاره وأتباعه عن نصرته وإسلامه لعدوه ليقضي عليه بعد أن أوهموه بكل ما يريد ويتمنى من مساندة ومعونة وفداء .. حتى إذا كشفت الحرب عن ساقيها يمموا كل فج وأسلموا سوقهم للريح وخلفوا القائد البطل المنتظر ليلقى مصيره المحتوم متجرعا كل "كرب وبلاء"!
    ويطالعنا الشاعر منذ افتتاحية القصيدة بمأساة النفاق والرياء التي مارسها الأنصار والأتباع وهم يخدعون القائد حتى انسلّ ذلك إلى سيفه فأوهمه بعدم الحاجة إليه ما دامت سيوف الأنصار والأشياع مشرعة في وجوه الأعداء؛ ثم كانت النتيجة المأساوية الفادحة:
    كيف تدثرتَ الليلة يا سيفي بعباءات مديحي الفضفاضْ؟!
    هلْ أحمل صدقك وأؤلفُ خارطة للأنقاض؟!
    أحشدها بالخضرة، والأنفال، وعين الماء
    أهتف لليل المغتصب الشرعية والأهواء
    الباطلُ محتشدٌ ومهولْ!
    والحق قليلْ!!
    وهكذا تجسدت المأساة التي عاشها الحسين من خلال هذين الفريقين المتصارعين: "الباطل محتشد ومهول"، و"الحق قليل"!
    وهكذا بدا القائد المخدوع بأعوانه وأتباعه الذين سرعان ما انفضّوا من حوله:
    منفرداً في أفقٍ، أقطف آيات الأنفالْ
    وأفجّر ينبوع الماء بواد .. من صخر .. ورمالْ
    لا صحبَ، ولا إخوانْ
    وعلى هذه الشاكلة لم يبق لهذا القائد ـ المخدوع ـ ما يؤنس وحشته ، ويعضد عزمه وعزيمته فيما وراء "آيات" من "الأنفال"، ومن تساقط من الشهداء الذين ضحّوا بأنفسهم من أجله بعد أن انفضّ الآخرون من حوله تاركيه ليلاقي مصيره المحتوم!:
    هل يؤنس وحشة روحي إلا القرآن
    وطيور خضر تخرج من حوصلة الشهداء الشجعان
    في أرض المنفى الأسيان ؟!
    ويخلص القائد البطل من هذه الأزمة النفسية الخانقة بنتيجة لا تقبل النقاش والجدل تجسد مأساته، ويفضي بها إلى سيفه ـ رفيقه الذي لم يفارقه بعد أن فارقه الآخرون، وانفض عنه الأنصار!!
    كما يخلص من هذه المأساة التي جاء قمرها أسود يتألق في ليل دام، وقد ألفى عنقه تحت سكين جلاديه دون أن يملك أكثر من حفنة أوهام ـ إلى مبدأ إنساني رائع وموقف خاص يتمثل في عدم حضّ أحد من أصحابه ليواجه معه "الموت الداجن" في هذه المعركة غير المتكافئة، أو قل "الخاسرة"!
    وتدفعه الآلام النفسية المبرحة في المقطع الخامس إلى أن يخاطب "اللفظة" محملا إياها بما يمكن أن يحقق شيئا من آماله وطموحاته برغم ما امتلأت به نفسه من آلام ومعاناة أنتجتها الأوضاع الأسيانة التي مرّت به، ويحاول التنفيس عنها عبر مناجاته لمكة مفضيا بمكنونات نفسه بعد أن انفض أصحابه من حوله .. ويرصد الشاعر الحسين في لحظاته الأخيرة وهو يترجح بين الأمل واليأس تموج نفسه بالآمال التي يطمح إلى تحقيقها.
    وعلى هذه الشاكلة جاءت ملجمة الحسين ومحنته لتجسد معاناة الشاعر .. وتتسع دائرة هذه المعاناة، ويتضخم حجمها، ولا يملك غير الأماني التي تملأ جوانحه دون جدوى كما تجسدها قصيدة "خداع" حيث يقول:
    من أفياء الروح الملتاعة في طرق النسيان
    حيطان الحجرة تتسع بأفق جحيمٍ
    يُلقينا بين يديْ بركانْ!
    ... وفي الأفق غرابانْ!! (29)
    وهكذا تتسع دائرة المعاناة لتستحيل جحيما لا تبشر بالخلاص؛ وأنى يأتي الخلاص وقد انتصب في الأفق غرابان لا غراب واحد؟!
    وتتواصل مسيرة المعاناة في الديوان حيث نجد الشاعر يلقي بنا في حلقة أو دائرة أخرى من دوائر المعاناة والمرارة والآلام التي لم يملّ من ملاحظتها ورصدها وهي تلاحقه في كل فج وطريق، وتسدّ عليه منافذ النور والأمل! وتأمل هذه اللوحة الأسيانة التي رسمها في قصيدة "وحل" (30) لتحس قدرا ظاهرا من معاناته وآلامه التي لا يتراءى له بصيص من الأمل في الخلاص منها، ولا يبصر لها طريقا نحو الفرج فضلا عن الفرح:
    كم غنّيتُ لبسمة صبح يتخلّق
    وأنا أكتب عن مخلوقات تتكاثرُ لتموت!
    تظلّ تطاردني بكآبتها ..
    برتابة صحف صماءَ تغني للخفاش وللطحلبْ! (30)
    هكذا يبدأ مشوار الشاعر مع الأمل والحياة والبسمة وإشراقة الصبح الجميل؛ ولكنها ما تفتأ تستحيل ألما ومرارة وعذابا مع تلك المخلوقات التي تتكاثر لتموت دون أن تخلف غير الخفافيش والطحالب .. وهكذا يجد الشاعر نفسه يتجرع غصص المرارة والألم والعذاب وقد أيس حتى من الحلم بالأشياء الجميلة:
    كيف ستحلم ثانيةً؟!
    وهكذا يتواصل مشوار المعاناة واليأس والألم والأمل في هذا الديوان لتلقانا أولى قصائده "فتنة" (7) مجسدة هذا الإحساس، كما تجسد محاولة الشاعر للتمرد لخلق الأمل وتغيير الواقع:
    تعالَيْ يا بثنُ بأخضرك المتهدّل
    بين الليلة والبدء نحاصرُ هذا الموتَ المتغطرسْ!!
    وتلقانا قصيدة "صهيل قادم" ـ رمزا آخر للأمل الذي يستكن في نفس الشاعر تحمل أمشاجا من معاناته وآلامه المبرحة بسبب سوء الواقع مشفوعة بما يمكن أن يزرعه في هذه الأرض الخراب من سنابل الأمل والخير؛ ويفتتح الشاعر القصيدة ناشرا أطياف اليأس والقنوط التي تعجّ بها نفسه، وتمتلئ بها حياته:
    بجانب هذا الركام (ركام العناكب)
    كل شيء غدا في المساء بعيدا
    بجانب هذا الركام المداهن
    كيف تطلّ العصافير .. كيف يجيء الكلام الجميلْ؟؟!! (10)
    وهل يمكن للعصافير أن تسرح وتمرح في ظل هذا الركام ـ ركام العناكب ـ؟ ومن ثمّ، هل يمكن أن يجيء الكلام الجميل؟!
    ويتجسد هذا الأمر مرة أخرى عبر ما ينتشر في الحياة من مظاهر النفاق المفروضة عليه حيث يجد التغني بالأمجاد والبطولات مع أن الواقع يشهد بخلاف ذلك، بل يشهد بالهزائم المتراكمة:
    أنت مرتهن للنفاق المحاصر
    كيف تنام جراح التواريخ في كهفنا
    تحت نشيد التوجع والفرح المستحيل؟!
    ومع أن الشاعر يحاول التمرد على الواقع رافضا الخضوع لسلطان المعاناة واليأس من خلال استدعاء أطياف الأمل ينشرها في خيوط الفجر الجديد فتغمره شعاعاتها المشرقة المضمخة بالآمال البيضاء:
    ها أنت يا قمري تستفيق
    ويبدأ فجرك يغمرني في زحام الخواطر
    بالفتح يطمعني في رحيق الصهيلْ
    كذلك تلقانا قصيدة " لا " (8) لتسجل حالة فذة من حالات الرفض والتمرد على الشر المنتشر في الحياة بسبب ما يمتلكه من "نفس لوامة"، تتمرد على السوء والشر وترفض الاستجابة للمغريات الكثيرة التي تعجّ بها الحياة؛ حتى إذا استجاب لها وقنع بنصائحها، وحاول تحقيق ما أوحت به إليه انكفأ على أعقابه وعاد يجرجر أذيال الخيبة والفشل، ولم يتهيّأ له حتى أن يرجع بخفي حنين، بل "بالجثث المنتفخة في عفن الليلك"!
    ومع كل هذه الخيبة يصرّ الشاعر على موقفه والتزامه بقيمه وأخلاقه ومثله التي آمن بها ومضى يتغنى بها على هذا النحو الشجي الرائع:
    لم أهمس للغيلان ..
    ولم أمش بموكب تلك الدببة لأبيّض وجه الأيام الحالكة السوداء!
    لم أمش بركب الخونة لأغني ذاك الليل
    لم أكتب أحجية للصمت أو القهر
    لم أشرب دم أصحابي ذات مساء، أو أطعنهم في الظهر!!
    وتلقانا في هذا الإطار قصيدته الطويلة الرائعة "حظك هذا الأسبوع" أو قل ملحمة الحظ (40) التي حملها قدرا ضخما من المعاناة التي اختزنتها نفسه لسوء الواقع المعيش ذاتيا كان وغيريا من خلال المتابعة الواسعة والواعية لأحلام المكروبين المطحونين وما يدغدغهم به المنجمون وضاربو الرمل من أحلام معسولة لا سبيل إلى تحقيق شيء منها فضلا عن سائرها مما يضاعف في نفوسهم أحاسيس الشقاء والعناء والألم!
    (يتبع)

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      عضو أساسي
      • 14-10-2007
      • 867

      #3
      (القسم الثالث من دراسة أبي ذياب)
      ..................................
      وقد قسم الشاعر هذه الملحمة اثني عشر مقطعا عالج فيها كثيرا من قضايا البؤس والحرمان والألم والشقاء والمعاناة التي يعاني منها كثير من الناس في هذا العصر؛ ففي المقطع الأول رصد معاناة الفقراء البائسين وجسدها عبر كثير من الألفاظ الموحية بل المجسدة لهذه المعاناة من مثل "قمر أسود، لا يبرق، الحر الضاغط والمثقل، زوجتك الصفراء، ترتق جوربها المقطوع، شاي بارد سقطت فيه ذبابة ... إلخ وحتى يتضاعف حجم المعاناة جاء النهي والتحذير عن الحلم بزيادة الراتب؛ وأما الحل المناسب فقد حمله هذا التوجيه:
      "اعبد ربك وتيقن أن الله الرازق، وتوكلْ!"
      وإذا كان الشوط الأول خاصا بالرزق والأمل بزيادة الراتب المقطوع، فقد جاء الثاني تحذيرا شديد اللهجة لكل من تسول له نفسه بالتورط في مخالفة السلطان وتكريس فكرة "المشي في ظل الحائط" وعدم تجاوز "الخط الفاصل بين الفقر وبين هطول الأموال"، وما تفضي إليه من مهادنة السلطان وعدم الثرثرة بما لا يعود عليهم بغير الشقاء والعذاب! وقد اختار الشاعر لهذا الفريق أو الطبقة رمز "الصقر الصاعد في كل الأحوال الذي لا يشغل نفسه بالجيف النتنة"! وما ذلك إلا لأنه موقن أن "المال سيأتيه لعتبة بيته". وهنا نجد الشاعر يذكره بفريق آخر من الشعب رفضوا منهجه فنزل بهم ما لا تحمد عقباه؛ وإذن فما عليه إلا أن يحمد ربه ويتقدم"! ولا يبخل الشاعر على هذا الفريق بطائفة واسعة من نصائحه وخبراته يحتاجها في التصالح مع هذه المرحلة منها أن يردد مع حاشية السلطان أن:
      "الكلب الأحمر ـ رمز روسيا ـ عاث بأرض الإسلام فسادا
      حاول أن يملأها في الفجر عواء .. وفجورا .. وعنادا .."
      ويجد الشاعر نفسه بين موقفين متناقضين كلاهما يصب في غير مصلحة المسلمين والإسلام: موقف التأييد لروسيا، وموقف التأييد لأمريكا؛ وهنا يدعوه إلى أن يصرخ بالصوت العالي:
      إن الصبح قريب
      أعدائي أبناء القردة في تل أبيب
      سنهزمهم .. وسنهزم دايان!
      بيد أن هذا الصراع يتطلب مزيدا من الشهداء يضحون بأرواحهم من أجل الغايات النبيلة وعلى رأسها تحرير المقدسات وتطهيرها من رجز الأعداء ليتحقق لهم ما يرجونه من خيري الدنيا والآخرة ..
      وفي المقطع الرابع من هذه الملحمة يستدعي الشاعر فصلا من سيرة عنترة وعبلة مجسدا مأساتهما حيث يعرض النخاسون عبلة للبيع على مشهد من عنترة الذي لا يملك من المال ما ينقذها به.
      وفي المقطع الخامس يسجل الهجمة الشرسة التي تشنها الصحافة الضالة المأجورة على الإسلام والمسلمين .. ثم جاء الفصل السادس لتعرية مهزلة السوق الحرة التي جاء بها الاستعمار بحجة حماية الفقراء برغم تاريخهم الطويل الحافل بألوان الشر والسوء والفساد:
      أنتم أهل المال، وأهل الجشع، وأهل الخذلان
      فابتعدوا عن لحم الشعب المر
      يا أحفاد الشيطان!
      أما الفصول الستة الباقية من ملحمة الحظ فيفردها الشاعر ليعرض طائفة واسعة من النصائح السريعة التي فجرتها معاناته البالغة وآلامه الكثيرة، كما تجسد قدرا ظاهرا من معاناة الإنسان المعاصر، وأول تلك النصائح: التحذير من خفض الصوت والدعوة إلى إعلان الرأي المخالف وعدم الخوف مما سيحدث له، أو البحث عمن ينصره ويؤيده أو يفتديه بنفسه لأنه لن يجده في هذا الزمن الرديء؛ بيد أن أشدّ ما كان يؤذي الشاعر أن إنسان العصر يتصف بالعدمية فحياته كموته، وصحوه كنومه؛ وهذه العدمية والانهزامية تجسد حالة العجز التي تملأ نفس الشاعر إزاء إنسان العصر لما تسوده من سلبية لم تمكنه من الإفادة من منجزات العصر وإمكاناته وظروفه مقررا أنه أمام أمرين لا ثالث لهما: الصمت أو الموت!
      ومع ذلك نجد الشاعر حريصا على تزويد هذا الإنسان بنصائحه مقدرا إمكاناته الضخمة التي أودعها الله فيه وما يمكن أن تحقق من خير (46) أما آخر نصائحه التي أودعها هذه الملحمة فكانت تحذيره من كتابة شيء من الشعر في هذه المرحلة لما وجد من إعراض أمته عن شعره ورفضها نصائحه وتحذيراته من الأعداء حتى وضعوه في قرن مع "زرقاء اليمامة" التي حذرت قومها من الأعداء ولم يستجيبوا لها وكذبوها واتهموها بالجهل والضلال، وسملوا عينيها وراحوا يغنون سعداء:
      لا نحتاجك يا زرقاءُ .. فليس لنا أعداءْ! (47)
      وهكذا، فالمتأمل في قصائد المعاناة السالفة يجدها تجسد بعدا وطنيا أو قوميا عانى منه الشاعر طويلا، وحرص على التعبير عنها؛ بيد أنها لم تكن كل ما طرحه الشاعر في هذا الديوان، حيث نجد الشاعر يحرص على طرح أبعاد أخرى من المعاناة الاجتماعية التي تجسد ظاهرة الاغتراب التي يعاني منها كثير من الناس في هذه المرحلة .. وقد حظيت هذه القضية بثلاث قصائد من الديوان هي "خيط الوهم 14 "، "العودة 31 "، و"مطر مفاجئ 32 " ؛ وقارئ هذه القصائد يتبين مبلغ تأثير هذه الظاهرة في نفس الشاعر، وكذلك مبلغ تأثره بها ومعاناته منها بشكل ظاهر..
      وإذا حاولنا تبين أطراف من مظاهر تأثير هذه القضية في الشاعر نتبين أنه في قصيدة "مطر مفاجئ" (32) كان يرصد مأساة الاغتراب من خلال ذلك الشخص / الرمز الذي بقي من رجال القرية بعد أن ابتلعت الغربة طائفة منهم، وابتلعت القبور جزءا آخر، وهو يخطب في البقية الباقية من نساء القرية المتشحات بالسواد؛ وتتجسد مأساة القرية في رذاذ المطر الذي أخذ يتساقط فوق الأفواه العطشى وهو يغلي .. وتنشأ حوارية ما بين الخطيب والشاعر في محاولة رائعة لتجسيد مأساة الاغتراب حيث مات منهم فريق، وهجر القرية فريق آخر، فلم يبق فيها من ينبت الرجال:
      هذي أرض لا تُنبت إلا شجر الشوك
      يسيل مع الشمس عذاباً وشياطينْ!
      هكذا كان العذاب الذي تعاني منه نساء القرية بعد اغتراب الرجال. ويعنى الشاعر برصد نتائج هذه المأساة / مأساة الأطفال بعد غياب الرجال، حيث لم يجدوا من يرعاهم ويهديهم سواء السبيل! ولم يبق لديهم غير الحسرة القاتلة التي تملأ نفوسهم وقلوبهم وهم يركضون بين الحقول وأكواخ الطين والقصب! وهكذا غدا الأطفال ـ فلذات الأكباد ضحايا الغربة، شواهد حجرية منصوبة فوق القبور!!
      أما قصيدة " العودة " (31) ، أو قل "اللاعودة"، فقد سجلت أحد مشاهد مأساة الغربة المتمثلة في موت الغريب قبل أن تحين عودته إلى القرية وما كان قلبه يمتلئ به من أحلام وآمال؛ ويبدو أن هذه القصيدة / الصرخة كانت مرثاة لأحد ضحايا الغربة عاشها الشاعر بكل أحاسيسه ومشاعره، وصورها كل هذا التصوير الرائع البديع! وهكذا حرص على رصد هذا النموذج الفذ للغرباء الذي جعله إنسانا يمتلئ قلبه بالحب للآخرين دأب على أن يضيء قنديل الحب في ليلهم البهيم ليهتدوا به ..(مقطع 1)
      ثم جعله فنانا مبدعا يرصد مظاهر الجمال في الكون ليسجلها بأنامله وريشته وأصباغه البارعة (مقطع 2)، ثم جعله شاعرا يشخص مظاهر الجمال والإبداع في الوجود ويودعها قصائده الرائعة ..(3) أما الختام فقد جاء ليشخص نفسية الغريب وقلبه وعشقه للوطن عشقا يشركه فيه سائر الغرباء، وإن آثر الرحيل ـ وربما العودة إلى الوطن ـ عودة الروح إن عجز الجسد عنها .. وهذا ما جعل الختام يأتي رثاء من الشاعر للغريب الذي كانت نفسه تتوق إلى العودة .. ونظرا لما تتميز به القصيدة من روعة وإبداع نسردها ليستمتع بها القارئ:
      * مات الغريبُ ولم يضئ في الليل قنديلا
      ولم يشعلْ ببسمته شوارعنا الفساح
      * كانت أنامله وريشته الجميلة في دياجي الليل
      أنوارا مضمخة بجرح البلبل المسكون بالوجع المباح
      * كانت قصائده الحميمة في شوارعنا ـ التي تغفو بآخر ليلها ـ
      تشتاق أن يأتي الصباح
      * هل كنت أول عاشق يهفو إلى صبح اليمام
      وأنت تسكب في مدامعك الجراح ؟!!
      أما القصيدة الثالثة التي جسدت مأساة الغربة فهي "خيط الوهم" (14)، والتي جاءت حوارية بين الغريب وزوجه في محاولة لاستعادته أو استرجاعه وحمايته من شرور الغربة المدمرة؛ وهو يفتتحها ببوح من الغريب يطرح فيه طرفا من خواطره التي اختزنتها الغربة حتى تعفنت من لدن عزمه على الاغتراب وما خالطها من أحاسيس متباينة سادها قدر ضخم من الندم؛ ثم يتحول السرد إلى حوار بينه وبين زوجته التي تطلب منه أن يسرد لها طرفا من مشاهداته في بلاد الغربة وأحزانه ومعاناته مذكرة إياه بما نسيه من شوق وحب وسعادة عاشتها معه إبان حضوره وإقامته في أرض الوطن .. مؤكدة له أنها لم تكن تظن أن غيبته ستطول، وأنه سيعود إليها وشيكا .. بيد أن سلوكياته معها أكدت لها خيبة ظنونها، بل إن غربته الطويلة آذنت بنهايتها الوشيكة .. ويكشف الغريب طرفا من دوافع الغربة عندما كانت نفسه تتوق إلى إنجاب طفل عجزت عنه زوجته "الأرض العاقر لا تنبت الزهر" كما وصفها؛ بيد أن هذه الحجة أو الذريعة لم يعد لها مكان بعد أن رزقا ثلاثة من البنين، مما جعلها تفرط في لومه على اغترابه وتخليه عنها وعنهم ، وتحذيره من مغبة هذا السلوك المجحف المشين:
      هل تتعلق في سارية الوهم ، وتبعد عنا في إصرارْ؟
      راجع نفسك حتى لا يجرفك التيارْ! (17)
      وواضح أن هذا التركيز على ظاهرة الغربة وتجسيد مآسيها البالغة يعدّ من أبرز المظاهر أو الملامح التي يتميز بها الأدب المصري الحديث خاصة حيث حرص كثير من المبدعين شعراء وقاصين على رصده وتكريسه مظاهره وأبعاده النفسية والاجتماعية والفنية.
      كذلك نجد عند شاعرنا في هذا الديوان لونا آخر من المعاناة التي ترتبط بالحب نشرها في بعض قصائده (9 ، 11 ، 13 ، 18 ) ففي قصيدة "شمس صباح آخر" (9) يرصد معاناته من صدّ صاحبته وإعراضها عنه متسائلا عن مصير هذه العلاقة بينهما، ولا يملك إلا أن تتواصل مسيرة الآلام المبرحة التي أحدثتها الحبيبة له.
      وفي قصيدة "ليلى لا تجدد أحزان قيس" (11) يرصد لحظة وصل عاشها العاشقان القديمان؛ وقد جاءت القصيدة لوحة من لوحات العشق الصافي الذي جسده العاشقان وغيرهما من العشاق العذريين؛ وعلى الرغم من أن "ليلى" الشاعر وصلته وصنعت للخيال جناحاً، وحققت له كل ما تمناه حتى كانت كما يقول : "آخر لحن غناه قبل زمان السقوط المباغت في وهدة اليأس"، وأنهما سيمضيان في طريق الرجاء ليبتعدا عن قنوط دفق"! بيد أن شيئا من ذلك لم يكن، وراح الحنين يأكل قلبه وهو "يصنع طقسا بواد يشيد القبور"!
      وجاءت قصيدة "وحدة" (13) تسجل موقفا رافضا من الحبيبة برغم إصراره على حبها وثباته عليه وهي لا تجود له بغير الذكريات والوعود الكاذبة المعسولة؛ وهو بذلك يمثل "الحب من طرف واحد": "يا فاتنة اللفظة ما زلت تقولين"!
      وفي قصيدة "محاورة وجه لا يغيب" (18) يسجل حوارا بين عاشقين يبوحان بشيء من أبعاد علاقة الحب التي تربطهما، وموقف كل منهما من الآخر، وما أحدث كل منهما للآخر من آلام وعناء وأحزان لا تنقضي؛ أما هي فقالت:
      سماؤك قيظ .. دخان
      وأنهار جنتك المشتهاة تغيضُ ..
      تجفّ ينابيعُ عشقٍ .. دنانْ!
      أما هو فلم يجد غير الرحيل بعيدا عنها يبحث عن الحب الضائع والوجه المفقود في زحمة الحياة:
      أيا وردة النهر قولي:
      هو النهرُ؛ لكنه لم يعدْ ..
      تنقل بين البلاد
      ينقب عن وجهها ..
      وكانت النتيجة الأسيانة :
      ضاع تحت الرماد حنين الشراع وبوحُ الغـَرِدْ!
      وهكذا لم يبق له منها غير طيفها الذي بدا كطيف :
      "نبتٌ غريبٌ بأرض الطهارة في الزمن المستريب النكدْ"!
      (يتبع)

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #4
        (القسم الرابع من دراسة أبي ذياب)
        .................................
        وعلى هذه الشاكلة تراكمت أحزان الشاعر العاشق الذي غابت حبيبته ورحلت على المجهول مخلفة له قدرا هائلا من الحزن أو كما يقول "ملاحم حزن تطول"، وخوفا قاتلا من ذهاب الحبيبة والحب!
        ويتجسد الأمل في عودة الحبيبة الراحلة في قصيدة "صهيل قادم" (10) برغم تراكم الأحزان والآلام في نفسه تراكما يجعل الفرح أو الإحساس بالفرح بعودة الحبيبة لتغمره بحبها بعد هذا اليأس الطويل ضربا من الوهم والمحال!
        وواضح أن الشاعر هنا يرصد الوجه الآخر الذي غاب في قصيدة "وحدة" (13) برغم ما سيطر على نفسه من أمل عريض بعودة الحبيبة! ومع أنها لم تف بوعودها لم يجد غير أن يجأر من أعماق نفسه الجريحة ممنيا إياها بعودتها الآتية لا محالة بمثل هذه العبارة :
        يا فاتنة اللفظة ما زلت تقولين!
        أما الفعل ، وتحقيق الوعود، فلا سبيل إليه؛ ومع ذلك لا يريد أن يتصالح مع الواقع!
        وعلى هذه الشاكلة تبينت لنا معالم البعد الموضوعي في ديوان "المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد"، والذي لم يكد يجاوز المعاناة التي اختزنها الشاعر في أعماقه، وأفضى بها على صفحات الديوان بكافة أبعادها الذاتية والوطنية والاجتماعية .. وقد تجسدت مهارة الشاعر وإبداعه في الكشف عن مظاهرها وتصوير أبعادها على نحو ما رأينا.
        *التشكيل الفني في الديوان:
        من قراءة هذا الديوان يمكن تبين عدة مظاهر للتشكيل الفني الذي وفره الشاعر لقصائده ما يجسد مهارة وتفوقا وإبداعا في بناء القصيدة الحديثة الحرة يزاحم كبار الشعراء المعاصرين المبدعين دونما مراء أو مجاملة .. وهنا سنعرض طائفة من الظواهر الفنية التي وظفها الشاعر بشكل متميز ورائع؛ ومن تلك الظواهر "التناص"، أو توظيف التراث في التعبير عن بعض القضايا المعاصرة ذاتية وغيرية؛ ومن يقرأ هذا الديوان يلفي نفسه في مواجهة كثير من الرموز التراثية العربية الأصيلة لعل أبرزها رمز "المتنبي" الذي جاء عنوانا لإحدى قصائد الديوان، ومن ثمّ جاء عنوانا للديوان كله؛ فقد حرص شاعرنا المنكوب بمأساة العراق الراهنة واحتلال الأمريكان له على أن يجسد هذه المأساة من خلال استدعاء "المتنبي" ليرصده وهو في طريق العودة إلى العراق من مصر بعد أن دق آخر مسمار في نعش أمله الخائب الخاسر في كافور الإخشيدي عبر داليته المشهورة "عيد بأية حال عدت"، ومقصورته "ألا كل ماشية الخيزلى"؛ حتى إذا بلغ بغداد استضافه الشاعر في أشهر مقاهيها "مقهى الرشيد" ليحتسي فنجانا من القهوة المرة وهو يشاهد جحافل الجنود الأمريكان تجوب شوارع بغداد معلنة نهاية العهد العربي والإسلامي الماجد!
        وواضح أن الشاعر اختار رمزاً بالغ الضخامة والدلالة والإيحاء عبر هذا التناص ..
        كذلك تلقانا شواهد أخرى للتناص في الديوان منها "عنترة وعبلة" حيث تكررت إشاراته إلى عبلة في صفحات : 34 ، 43 ، 48 ؛ كما نرى في هذا المشهد الذي صور فيه عبلة وهي في يد نخاس يعرضها للبيع ، و"عنترة" الفقراء يرصدها بقلب دام كسير لعجزه عن افتدائها مما جعله يعدل عن وصف "الفلحاء" لشق شفته، إلى وصف "الفقراء" للمناسبة، يقول:
        أسبوع لن تظفر فيه بعبلة يا عنترة الفقراءْ
        عبلة في السوق بأيدي النخاس الأسودْ
        يعرضها للبيع صباحا ومساءْ!
        كما نراه يستدعي فصلا آخر من فصول رواية العشق التي عاشها عنترة وعبلة يلتقطه من "كراسة عبلة" (48)، كما يستدعي فصلا آخر من "كراسة عنترة" (25) ؛ ومن أحداث هذا الفصل ما جاء في قوله:
        وما كنت مجنونا بغيرك في الضحى وحيرة أحلامي رمتني الدواهيا
        وأغلب الظن أن الشاعر هنا يشير إلى قول عنترة وقد أوصاه عمه ـ والد عبلة ـ في الضحى بمهاجمة الأعداء الغزاة كناية عن اشتداد الحرب واستعارها والتحام المتحاربين:
        ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى إذ تقلص الشفتان عن وضخ الفم
        ويتذكر كثيرا من مآسي العرب والمسلمين على يد الأعداء الصليبيين مما تطالعنا يه الصحف المأجورة المارقة كل يوم، ولا يجد سوى التحذير من قراءتها على نحو ما يقول:
        لا تقرأ هذي الصحف الداعرة
        ففيها هتك نساء الإسلام حلال وحبيب
        ما دامت بنت أبي بكر أو عثمانْ
        ليست بنت أبي جهل
        في هذي الصحف الملعونة
        هدم مساجدنا فرضْ
        ما دامت في كل أذان ترفض هذا التغريبْ!(43)
        ويلقانا من رموز العشق العذري العفيف في هذا الجانب "بثينة" صاحبة جميل في قصيدته الأولى من الديوان "فتنة" (ص7) في البيتين 1 ، 10 ، و"قيس وليلى" في قصيدة "ليلى لا تجدد أحزان قيس" (ص 11) ؛ كما حرص على ذكْرِ مأساة "الحسين" ومصرعه في كربلاء في قصيدة "قطرات من دم الحسين" (ص20) ؛ ونحن إذ نغفل سرد أبيات هذه الشواهد والإشارات التناصية هنا لسردها آنفا في الدراسة الموضوعية تحاشيا للتكرار غير المفيد؛ ومن إشاراته في هذا الإطار ذكر "بلقيس وسليمان" و"آصف" صاحب العرش في آخر قصيدة في الديوان بعنوان "لما يأت زمان بلقيس" (50) على نحو ما سردتها سورة "النمل"؛ ويمكن القول إن هذه القصيدة تجسد ظاهرة التناص تجسيدا واسعا وعميقا، ولولا خشية الإطالة والسرف في نقل الشواهد لما أحجمنا عن سردها كاملة، مما يجعلنا نكتفي بهذه الأبيات القليلة ذات الإشارات المعرفية الواسعة والعميقة:
        بلقيس تنادي منسأة سليمان
        وسليمان يقابلها مبتهجا
        تدخل بلقيس وتؤمن ... إلخ
        والمتأمل في هذه القصيدة خاصة وغيرها عامة يتبين منهج الشاعر في "التناص" أو توظيف التراث واستدعاء رموزه الذي يتميز بالتحرر من ربقة النص الموروث والإفادة من نصوص التوراة، وكذلك استحداث أفكار أخرى تفرضها المناسبة مما يكشف عن أبعاد الموضوع المطروح.
        كذلك ورد ذكر "مسيلمة الكذاب" في قصيدة "الخطبة الأخيرة لمسيلمة الكذاب" (ص 28)، كما ذكر "زرقاء اليمامة" في المشهد الأخير من حياتها وقد خذلها قومها إذ كذبوها وهي تخبرهم أصدق الخبر لقصر نظرهم وسوء تقديرهم عندما أخبرتهم بأنها ترى "شجرا يسير"؛ فكان من أمر قومها معها ما كان، وكان من أمرهم مع أعدائهم ما كان، كما كان من أمر الأعداء مع الزرقاء ما كان حيث سملوا عينيها! (ص 47).
        *الصــورة الفنيــــــة:
        تعدّ الصورة أو قل ظاهرة التصوير الفني من أهم الأدوات الفنية التي يستعين بها شاعرنا الكبير في التعبير عن أفكاره ومعانيه، كما تعدّ من أبرز الخصائص والمزايا التي يمتاز بها، وتؤكد قدرته الفائقة على استثمار العلاقات التي يتبينها بين مفردات الصورة واستحداث الكثير منها؛ وقد شاعت الصورة في هذا الديوان شيوعا ملحوظا على نحو ما شاعت وانتشرت في سائر دواوينه التي تفتقت عنها عبقريته المبدعة؛ وقد تبينت لنا أطراف من هذه المظاهر التصويرية في دراساتنا السابقة لبعض دواوين الشاعر؛ وفي هذه الدراسة نودّ أن نتبين أطرافا من هذا الجانب الفني الماتع بشيء من التفصيل ..
        فمن هذه الصور الرائعة ما جاء في قوله من قصيدة "قطرات من دم الحسين":
        كيف تدثرت الليلة يا سيفي بعباءات مديحي الفضفاضْ؟! (20)
        والمتأمل في هذه القصيدة يتبين طائفة واسعة من هذه الصور الجميلة فيما وراء هذه الصورة التي تجسد المديح في هذه الصورة التي استعارها من اللباس أو الثياب ليتدثر بها السيف بكل ما يمكن أن توحي به من معان أو قيم؛ ومنها قوله "أؤلف خارطة للأنقاض"، و"الليل المغتصب الشرعية والأهواء"، وكذلك "الباطل محتشد ومهول"، و"أقطف آيات الأنفال"، و"صوتك ألفي .. يائي ينقذني من ليل يستشري في أحقاب الملح"، و"صوت القبح يصنع سدا بين حنيني والجرح"، و"القلب الطفل"، و"هواي المذبوح"، و"المسفوح"، و"غطاء الشرعية"، و"تجميل خراب الروح"، و"قمرا أسود"، و"أعانق أوهامي"، و"الموت الداجن"، و"محاصيل الدهشة"، و"لحونا تلفظها الأفواه"، و"اللفظة كالإعصار"، و"عواصف من نار"، و"بريق الصدق الفاتن كالسحر" ... إلخ هذه الصور التي تتقاطر في سائر أبيات القصيدة وتنساب انسيابا هينا لينا لا تحس فيها برغم كثرتها واندفاعها بشيء من الثقل أو التكلف والافتعال، بل تشف عن إيحاءاتها حتى كأنها تتجسد للقارئ ليتحسس مظاهرها الجمالية بكل يسر وتلقائية ..
        ولولا خشية الإطالة والسرف والإملال لوقفنا عند كل صورة منها نتحسس أطرافا من جمالياتها وإبداعها وروعة التشكيل الفني الذي وفره الشاعر لها، مما يجعلنا نكل هذا الأمر لذائقة القارئ لتفضي بأشياء منها ترضي إحساسه الفني المرهف ..
        ومن نماذج صوره الفنية الرائعة التي استوقفتنا في هذه الدراسة ما جاء في قصيدة "المنجمين" (حظك هذا الأسبوع) من مثل قوله: (41)
        عبرت بين الخط الفاصل بين الفقر وبين هطول الأموال "سيأتيك المال لعتبة بيتك .. وآخرون ما زالوا للأبواب يدقون"، و"بارقة الأمل الريان "!
        ومن هاتيك الصور ما تجسد في مثل قوله: "أمواج نفايات القول"، و"الموت القادم في أحذية صراخ أجوف"، ولك عزيزي القارئ أن تتأمل كيف يتجسد الموت في أحذية صراخ، وكيف يكون هذا الصراخ "أجوف" لتتبين شيئا من طاقات الشاعر التصويرية المكتنزة والمنتشرة بشكل فائق في كثير من قصائد الديوان لتجسد هذه الميزة لديه .. ومنها "يغتصب نهارا لم يأت إلينا مجانا"، و"الموت المتغطرس" .. (7) ومنها "مياه العادة"، و"مغارة روحي"، و"كلمات خجلى مترعة بالسحر" (8) ، و"جدران الليل"، و"طرق الرفض"، و"يشعل في الأضلاع اللهفة" (9)، ومنها هذه الصور الرائعة: "كيف تنام جراح التواريخ في كهفنا تحت نشيد التوجع والفرح المستحيل"، و"قمري يستفيق"، و"زحام الخواطر"، و"رحيق الصهيل" (10)، و"على شاطئ الوجد بحيرة نأيي تثغو كمثل الشياه الصغيرة" (11)، و"نشرة أخبار مجنونة"، و"أزهار التذكار"، و"مطر الدهشة"، و"قفر الوحشة" (13)، و"طيفك نبت غريب بأرض الطهارة في الزمن المستريب النكد"، و"ملاحم حزني تطول"، و"أرض عاقر"، و"سارية الوهم"، و"كف الوعد" ..
        ثم تأمل هذا الحشد الهائل لهذه الصور الرائعة التي ساقها في قصيدة "خداع" (29) حيث يقول:
        خدعتنا الأوراق .. أكلناها .. أكلتنا ..
        دحرجت الباقي من أفياء الروح الملتاعة في طرق النسيان..
        حيطان الحجرة تتسع بأفق جحيم يتقيّــأ بين يدي بركان ..
        ذاكرة الليل الحبلى بالأحلام!
        أرأيت كيف تتجسد عبقرية التصوير عند هذا الشاعر كل هذا التجسد الرائع العجيب حيث لا يكاد يترك لفظة دون أن يمتح من معينها أطياف التشخيص والتجسيم لتخرج من بين شفتيه خلقا حيا تتدفق الحياة في عروقه كل هذا التدفق الرائع العجيب ..
        ووراء هذا الحشد عشرات الصور التي انتشرت في الديوان، ولو أننا استسلمنا لسحر هذه الصور التي تشدنا شدا كاملاً، وللرغبة الملحة في داخلنا لوقفنا عند كل صورة منها نكشف أطرافا من مظاهرها الجمالية الفاتنة، ونطرح للقارئ العزيز أطيافا من سحرها العذب، وبحسبنا ما عرضنا منها خشية الإطالة وثقة في ذائقة القارئ وقدرته على تحسس تلك المظاهر الجمالية الماتعة!
        وثمة مظهر آخر ينتمي إلى هذا الجانب الفني تكرر بشكل لافت في الديوان وهو لفظ "الأخضر" بكافة أحواله وتصريفاته، والذي تكرر في الديوان زهاء اثنتي عشرة مرة بعضها يرمز إلى الجمال والنضرة والبهاء والشباب والقوة، وبعضها يلتصق بالمعنى اللغوي المحدود كما في "أرض خضراء" مثلا .. وشاعرنا هنا يجري إلى ذات الغاية التي جرى ويجري إليها سائر شعراء المرحلة من تكرير هذا اللفظ مستغلين طاقاته السحرية العجيبة التي تلمسوها فيه بشكل لافت ومتميز ..
        (يتبع)

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #5
          (القسم الخامس من دراسة أبي ذياب)
          ..................................
          *البناء السردي والقصصي:
          يلاحظ قارئ هذا الديوان حرص الشاعر على استخدام الأسلوب السردي القصصي في بعض القصائد حيث تغدو القصيدة عنده حوارية بين شخصين: هو وهي في محاولة مسرحية واعية للكشف أو المكاشفة، وتحديد أبعاد المشكلة القائمة بينهما ويعانيان منها بغية تقريب وجهات النظر وحسم الخلاف الناشب وتجاوز الخطوط الفاصلة بينهما .. وقد جاء هذا الأسلوب في قصائد "خيط الوهم" (14)، و"محاورة وجه لا يغيب" (18)؛ وقد عرضنا لأبعاد الجانب الموضوعي فيهما فيما سلف من الدراسة؛ على أن الملاحظ في هذا الجانب اختلال البناء السردي في كثير من الجوانب حيث رأينا الشاعر يكل الأمر إلى الحبيبة لتمسك بزمام الحوار لتدفع به إلى نهايته ـ نهاية القصيدة كما في المقطعين الثاني والثالث من "خيط الوهم"؛ ويبدو أن الشاعر أراد الانتصار للحبيبة الضائعة أو المضيّعة في غمرة انشغال الرجل عنها وانطحانه تحت رحى الغربة المدمرة على نحو ما مر بنا!
          وفي القصيدة الأخرى "محاورة وجه لا يغيب" (18) جاءت مقاطع الحوار محدودة ابتدأتها المرأة كاشفة عن معاناتها البالغة من الغربة، وما ملأ حياتها من جفاف وقيظ ودخان .. وجاء المقطع الثاني يكشف الرجل فيه عن مأساة الاغتراب الذي طال ولا يتبين له نهاية، فغدا كالنهر الذي يمضي ولا يعود كما قيل: "إنك لا ترى النهر مرتين"! ثم جاء المقطع الثالث على لسان الغريب مكرسا أحزانه الدائمة التي لا تنتهي وخوفه من الآتي عندما تضيع الحبيبة منه إلى الأبد لكونها تمضي مع النهر الذي لا يعود مكتفية ببكاء الأطلال الداثرة التي تخلفت في أعقاب هذا الحب الضائع!
          بيد أن الشاعر كان بمقدوره التوسع في هذا الجانب لما تميز به من كتابة المسرحية الشعرية من مثل "الفتى مهران" و"الرجل الذي قال" و"بيت الأشباح" وغيرها لو أراد؛ ويبدو أنه كان محكوما بالموضوع الذي يعالجه في القصيدة التي لم يرد لها أن تكون حوارية بين شخوصها.
          *الموسيقـا:
          من يقرأ هذا الديوان يتبين أن الشاعر حرص على توفير قدر هائل من الموسيقا لقصائده سواء منها ما جاء على أوزان الشعر التقليدية أو الخليلية، وما جاء على البناء التفعيلي الحر الذي تفوق على نظيره لكون الشاعر أحد المعنيين بهذا البناء الجديد المتحرر، وأفرط في توظيفه في كثير من دواوينه بصورة أوسع وأشمل من نظيره الخليلي؛ على أنه يحمد للشاعر مزاوجته بين الضربين حتى لو تفوق التفعيلي الحر على نظيره.
          ومن خلال جولتنا في أرجاء هذا الديوان تبينا مبلغ عناية الشاعر بالبناء الحر الذي لم يفلت منه سوى قصيدتين اثنتين جاءت على البناء التقليدي أولاهما "صوب قلبك "(25) التي جاءت في أحد عشر بيتا على وزن الطويل وقافية الياء المفتوحة الممدودة (ألف الوصل)، والمسبوقة بحرف الدخيل وألف التأسيس؛ وقد بناها على قريّ يائية عبد يغوث الحارثي المشهورة في مأساة أسره؛ بل إن هذا القريّ شائع ومشهور ومتداول عند كثير من الشعراء قديما وحديثا لسلاسته ولينه وعمق موسيقاه.
          أما القصيدة الأخرى فجاءت في خمسة أبيات فقط في وزن الطويل أيضا وقافية الميم المكسورة المسبوقة بألف الردف بعنوان "أيا دار عبلة". (34)
          ثم كان نمط ثان زاوج الشاعر فيه بين البناءين التقليدي العمودي والتفعيلي الحر حيث كان يبدا القصيدة بالبناء التقليدي في المقطع الأول ثم يتبعه بمقطع تفعيلي حر، ملتزما هذا البناء في سائر مقاطع القصيدة؛ وجاء على هذا البناء قصيدة واحدة هي التي اختارها عنوانا للديوان "المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد" (36) وقد جاءت مقاطع القصيدة العمودية على وزن البسيط وقافية الراء المفتوحة المطلقة، وجاء كل منها في بيتين وجاء ترتيبها في القصيدة : 1 ، 3 ، 5 أما المقطع السابع فقد جاء فراغا لسبب لا نعلمه، وقد يتبادر أكثر من تساؤل حول هذا الأمر منها: لماذا جاء الفراغ قي هذا الموضع بالذات من القصيدة؟ ثم لماذا صمت الشاعر هنا ولم يتابع مسيرة القصيدة على نحو ما مضت آنفا؟ ثم ماذا كان يمكن أن يقول الشاعر، أو يقوّل المتنبي فيه لو أكمله؟ ثم كانت المقاطع الثواني 2 ، 4 ، 6 ، 8 تفعيلية حرة بناها على تفعيلة الخبب "فعلن" وتحويراتها المتنوعة المعروفة ..
          أما النمط الآخر الذي التزمه الشاعر في الديوان فهو النمط التفعيلي الخالص الذي استغرق بقية قصائد الديوان البالغة سبع عشرة قصيدة، وقد حرص على استخدام تفعيلة خاصة لكل قصيدة يلتزمها في جميع أبياتها ولا ينوع بينها .. أما التفعيلات التي استخدمها في هذه القصائد فكانت "فعلن" في إحدى عشرة قصيدة هي 1/ 7 ،2/ 8 ،3/ 9 ،6/ 13 ،7/ 14 ،9/ 20 ،12/ 29 ، 13/ 30 ،14/ 32 ،18/ 40 ، 20/ 50 ) وهذه القصائد تعدل أكثر من نصف قصائد الديوان عددا، ثم جاءت "فعولن" في قصيدتين هما 5/ 11 ،8/ 18 ، ثم "فاعلن" في قصيدة واحدة هي4/ 10 ؛ ثم "متفاعلن" في قصيدتين هما 11/ 28 ، 14/ 31 ، ثم قصيدة واحدة على "مفاعلتن" هي 19/ 48).
          وإذا تأملنا هذه البنية الموسيقية للديوان ألفينا اهتمام الشاعر كبيرا ومتميزا بتفعيلة الخبب "فعلن" بكل تجاوزاتها العروضية أو الموسيقية وخاصة "فاعلُ" المتحركة اللام كما في القصيدة الأولى (ص7) ؛ وفي قصيدة "صهيل قادم" (ص10) نجد الشاعر افتتحها بتفعيلة المتقارب "فعولن" في بيته: "بجانب هذا الركام ركام العناكب"؛ على أنه كان يمكنه التخلص من تفعيلة المتقارب وتوحيد البنية الموسيقية للقصيدة على تفعيلة المتدارك "فاعلن" بوضع كلمة "تحت" بدلا من "بجانب"، ثم تحول إلى تفعيلة المتدارك "فاعلن".
          حتى إذا كان في البيت الثامن:
          تحت نشيد التوجع والفرح المستحيلْ
          ألفينا فسادا في الموسيقا، حتى إذا أمكن تصحيحه بإضافة الواو لكلمة "تحت" أصبح على وزن المتقارب "فعولن" مخالفا لوزن القصيدة المتدارك؛ على أنه يمكن إصلاح هذا الفساد العروضي بتغيير كلمة "تحت" ووضع عبارة "في ظلال" بدلا منها فيستقيم الوزن عندئذ على المتدارك؛ حتى إذا صرنا في المقطع الأخير ألفيناه يجري من جديد على نسق المتقارب مع خبن التفعيلة الأولى فيه :
          ها أنـ/ ت يا قـ/ مري تسـ/ تفيقُ /
          فعلن فعولُ فعولن فعولُ
          ويبد / أ فجر/ ك يغمـ/ رني في/
          فعولُ فعولُ فعولُ فعولن
          زحام الـ/ خواطـ/ ر بالفتـ/ ح يطمـ/ ـعني في / رحيق الصْـ/ صهيلْ
          فعولن فعولُ فعولن فعولُ فعولن فعولن فعولْ
          وواضح أن هذا المقطع بني على تفعيلة المتقارب المعاكسة لتفعيلة المتدارك مع ملاحظة خرم التفعيلة الأولى فيه "ها أنـ" التي أصبحت "فعْلن"؛ بيد أنه يمكن إصلاح هذا الخرم بإضافة الواو إليها لتصبح "وها أنـ" ليصبح وزنها "فعولن" فيستقيم وزن المقطع ولكن على وزن المتقارب وليس المتدارك الذي بنيت القصيدة كلها عليه ..
          وهذا يعني أن خلطا واضطرابا واسعين أصابا بنية القصيدة الموسيقية أمكن إصلاح بعضه، ولم يمكن إصلاح الباقي لتبقى القصيدة ثنائية البنية الموسيقية بين المتقارب والمتدارك.
          ومن المفاسد الموسيقية التي أفرط فيها شعراء التفعيلة استخدام "فعلانْ" في وسط البيت بسبب تشديد بعض حروف الكلمة على نحو ما نجد في هذا البيت من قصيدة "مطر مفاجئ":
          ... كالـ / أحـجا / ر الــجـا فــْ / فـَــهْ ... (33)
          ووزنها : لن فعلن فعلان فع
          ومن هنا يمكن تغيير هذه التفعيلة بتغيير كلمة "الجافة" بكلمة "الخشنة أو الصلبة" لتؤدي معناها وتحقق الوزن السليم لها، وذلك أننا لا نرى في كلمة "الجافة" معنى خاصا يميزها عن غيرها ومثيرتها مما أشرنا إليه.
          كذلك نود في هذا الجانب أن نحلل البنية الموسيقية لقصيدتين جاءتا على تفعيلة الكامل "متفاعلن" إحداهما "الخطبة الأخيرة لمسيلمة الكذاب" (ص28) حيث جاءت بنيتها الموسيقية على ثلاثة أبيات مقفاة وموزونة " مجزوء الكامل " متفاعلن " أربع مرات في البيت الأول، ثم جاء البيت الثاني على ست تفعيلات، وبنى البيت الثالث على تسع تفعيلات؛ وجاءت قافية القصيدة على الدال الساكنة المسبوقة بواو الردف؛ ولا يعني وقوفنا عندها مخالفتها للبنية الموسيقية المتحررة، ولكن لبنائها على هيئة مخصوصة تخالف بنية القصائد الأخرى في الديوان.
          على أنه سلك هذا المنهج في قصيدة أخرى هي "العودة" (ص 31) التي بناها أيضا على تفعيلة الكامل "متفاعلن"، وجاءت في أربعة أبيات موحدة القافية "الحاء الساكنة المسبوقة بألف الردف" الفساح، المباح، الصباح، الجراحْ"، وقد أقام البيت الأول على سبع تفعيلات، وجاء الثاني في عشر تفعيلات، ثم جاء الثالث في ثماني تفعيلات، والرابع في سبع تفعيلات.
          *القافية:
          لعلنا لا نبالغ أو نجاوز الحق إذا زعمنا أن شاعرنا الكبير في هذا الديوان قد راعى القافية وحسب لها حسابا خاصا يختلف عن كثير من شعراء التفعيلة الذين أهملوا، أو كادوا يهملون القافية في شعرهم بشكل ملحوظ، جهلا أو تجاهلا لدور القافية وأثرها في إثراء الموسيقا في القصيدة، ولسنا ندري ماذا كان يضيرهم في هذا الأمر حتى لو جاؤوا بالقافية حينا بعد حين، ومن وقت إلى آخر مع أنها تحقق لهم ثراء مؤكدا في الموسيقا، وإن وُجد منهم من يحرص على القافية حرصا ظاهرا، حيث عُني عناية ظاهرة بالقافية إدراكا منه للدور الموسيقي البالغ لها وما تضفيه على القصيدة من جمال وإبداع؛ المهم أن شاعرنا كان من أنصار الفريق الآخر الذي لم يهمل القافية ولم يغفل دورها في إثراء الموسيقا وتحقيق الجمال لها؛ والمتأمل في قصائد هذا الديوان يتبين أن عناية الشاعر بالقافية وموقفه منها جاءا على ثلاثة أنماط / شيوع القافية بشكل لافت ومقصود سواء أكانت موحدة في القصيدة أم متنوعة كما جاءت في قصائد: (ص 8 ، 10 ، 11 ، 18 ، 20 ، 28 ، 31 ، 40 ، 48 ، 50) وتشكل هذه القصائد نصف الديوان ذي العشرين قصيدة؛ كذلك جاءت القافية بشكل أقل مما سبق في بعض القصائد حيث لم يحرص الشاعر على التزام التقفية فيها حرصه على نظائرها الآنفة الذكر؛ وقد جاء ذلك في قصائد (ص 9 ، 13 ، 16)؛ كما اختفت آثار القافية اختفاء تاما في قصيدتين هما (ص 7 ، 32).
          *مآخـــذ ونقـد:
          لا نقصد من هذا الجانب ـ كما قد يتبادر لكثير من النقاد والقراء ـ أكثر من إبداء الرأي الخاص في بعض الجوانب أو العبارات التي وردت في بعض القصائد، وتراءى لنا أنها لم تكن مناسبة للموضع الذي جاءت فيه، وأنها لم تحقق الغاية الفنية والفكرية المنشودة التي سعى إليها الشاعر .. وقبل ذلك وبعده، نودّ التأكيد على أن هذه الطروحات والملاحظات ليست أكثر من وجهات نظر، أو آراء خاصة قابلة للأخذ بها والموافقة عليها، أو رفضها؛ كما أنها أولا وأخيرا، أو من قبل ومن بعد، ليست ملزمة لأحد فضلا عن الشاعر نفسه الذي له الحق في عدم الالتفات إليها فضلا عن إكبارها .. فمن ذلك ما جاء في قوله:
          "أو أطعنهم في الظهــر" (8)
          وأرى استمرار استخدام "لم" هنا كما سلف في الأبيات الأخرى، وأرى أنها أجدر من تغييرها إلى "أو".
          ومن ذلك استخدام ما دأب المحدثون على استخدامه والإفراط فيه وهو تعبير "البكارة" وما تنطوي عليه من معان وإيحاءات، حيث استخدمه في قصيدة "ليلى لا تجدد أحزان قيس" (ص11) وكنت أوثر تحويل العبارة لتصبح: "تعالي إلى عالم مترع بالألق"!
          وربما أجترئ أكثر عندما أطالب الشاعر برؤيتي تبديل عبارة "أصعد في الليل مطالع صدقك" (23) لتصبح: أرصد مطالع .."، أو "أصعد معارج" ليتجسد التناسب بين العبارات أو الألفاظ، إلا إذا كان الشاعر يسعى إلى تبديل العلاقات بين الألفاظ وما توحي به من توسيع الدلالات ؛ وله مطلق الحق في ذلك!
          ومهما يكن فقد أمتعنا الشاعر الكبير الدكتور حسين علي محمد بهذا الديوان إمتاعا واسعا وعميقا، وحقق لنا رحلة مجنحة في فضاء الشاعرية الرحبة والإبداع الفذ في أحد دواوينه الممتعة، مما عودنا عليه في كثير من دواوينه وأعماله الأدبية المتميزة ، آملين أن نلتقي به في إبداعات متميزة أخرى، مع أمنياتنا الثرة له بالتوفيق والسداد!!
          (انتهت الدراسة)

          تعليق

          يعمل...
          X