مفهوم " كتابة الجسد" وتداعياته في الأدب العربي
بقلم /د. مصطفى عطية جمعة
مصطلح " كتابة الجسد " تعبير شاع في الأوساط الأدبية في السنوات الأخيرة ، ويعني أن يعبر الأديب عما هو موجود ملموس حسي بالنسبة إليه ، ومن هذا الحسي جسده ، هذا البناء العضوي الذي يحوينا ، ونتعايش به ، ونتلذذ بحواسه . وطرحوا فكرة أن نعبر عن أجسادنا بكل أعضائها ، دون التفرقة بين عضو وآخر ، ويستطيع القارئ الفطن أن يعي أن هذه الفكرة تحمل في ثناياها مفهومًا علمانيًا ماديًا أساسه : لا للروح ولا للتعبير عنها ، لأنها غير ملموسة ، وإنما التعبير عن الجسد المادي فقط ، وأنه لا قيود أخلاقية على الكتابة الجسدية ، فلا فرق بين اليد والأعضاء الجنسية ، فالمنظور ثابت : نعبر عن كل جسدنا ولذائذه ، مثل لذة الطعام والشراب والجنس .
هكذا شاع المصطلح في الأدب الغربي ، وكان يضاد الكتابات الأدبية التي اتخذت الروح والعقل ميدانًا لها ، فأغرقت في الفلسفة ، وهومت في الشعور ، ونست أن للجسد حق عليها ، فتجاهلته وتجاهلت إحساساته ، فكانت الصيحة المعلنة : لنعد لأجسادنا ولنعبر عن حواسنا . وقد جاء هذا المصطلح متماشيًا مع الجيل الثالث من جماعات حقوق الإنسان ، هذا الجيل الذي راح يعترف بحقوق الشواذ : اللواطيين والسحاقيات ، وطالب بشرعية العلاقة ، وشرعية زواجهم ، وهاجم نظام الزواج القديم . فظهرت كتابات حملت اسم " كتابة الجسد " في شعر وقصة ومسرح وفن تشكيلي، ورأى الجمهور الغربي عرايا على المسرح تحت دعوى مسرح الجسد ، وقرأ في الأدب : علاقة بين المحارم : الأب وابنته والأم وابنها ، والطالب ومعلمته ، ورأى لوحات تشكيلية حملت صورًا لأعضاء الجنس وبعض الفنانين استخدم السائل المنوي في لوحاته .
وكالعادة انتقل المصطلح إلى أدبنا العربي بموجة تهليل لكل ما هو قادم من الغرب ، وادّعى من روّجوه أنهم ينقلون آخر إبداعات أوروبا ، وطالبوا بشرعية كتاباتهم ، فكان أن ظهرت موجة كبيرة بين الشعراء والقصاصين تبنت الكتابة الجسدية ، فرأينا بعض قصائد النثر التي كتبت عما نفعله في دورات المياه ، وعن المعاكسات في المواصلات العامة وعن الرغبات المحرمة المكبوتة نحو المحارم . واشتدت الموجة أكثر مع ظهور رواية الكاتب المغربي " محمد شكري " والتي حملت عنوان "الخبز الحافي ، سيرة روائية محرمة " وفيها استعرض الكاتب / الروائي تاريخه مع جسده منذ طفولته ، مع والديه ، وأقرانه ، وعلاقاته وهو مراهق مع بنات الهوى ، في مراكش والدار البيضاء . وكل ما خطّه كان بشفافية مطلقة عن حياته – كما ادعى - ، دون زيف أو ادعاء . والغريب أن هذه الرواية ترجمت ونشرت في فرنسا وحققت شهرة كبيرة ، قبل أن تنشر في بيروت ، ولأنها منعت منذ الإصدار الأول ، فقد تم بيعها سرًا بعشرات الآلاف من النسخ ، فكل ما هو ممنوع مرغوب ، ونال كاتبها شهرة لم يحلم بمثلها ، وفجّرت هذه الرواية أزمة في الجامعة الأمريكية في القاهرة ، حين أقرها أحد أساتذة الأدب على الطلاب ، واعترض عليها أولياء الأمور ، والمعروف أن الجامعة الأمريكية لا يلتحق بها إلا أبناء الطبقة الغنية المتغربة ولكن لفظاظة الرواية اهتاج الطلاب والطالبات وأولياء الأمور .
وعلى الجانب الآخر ( الأنثوي ) ، ظهرت الكاتبة الجزائرية " أحلام مستغانمي " التي كتبت رواية " سيرة جسد " وحققت من ورائها شهرة ضخمة بسبب تبني جماعات حقوق الإنسان الغربية لقضيتها ، وتعاطف العلمانيين العرب ضد الإسلاميين ، حيث تناولت مستغانمي سيرتها الجنسية كامرأة ، في كل تقلباتها وعلاقاتها الذكورية والأنثوية ، واعتبرت أنها مقموعة في مجتمعها الشرقي الذكوري ، وقد ازدادت شهرتها بعدما اشترى المخرج العالمي يوسف شاهين هذه الرواية ، وقرر أن يحولها إلى فيلم سينمائي ، وكان هذا منذ عشر سنوات ، وحتى الآن لم يظهر الفيلم للوجود ، ومازالت الرواية محبوسة في أدراج مكتب يوسف شاهين .
وسار الأدباء العرب على نفس النهج ، ولعلنا نذكر أزمة الروايات الثلاث التي فجّرها نائب الإخوان المسلمين في مصر " محمد جمال حشمت " ضد وزارة الثقافة ، حيث نشرت سلسلة أصوات أدبية ثلاث روايات على نفس المنوال السابق للأدباء : ياسر شعبان ، ومحمود حامد ، وتوفيق عبد الرحمن ، واندفعت الأقلام العلمانية تهاجم الإسلاميين وتدافع عن حق المبدع في الكتابة ، ولو قرأوا بتمعن هذه الروايات في ضوء قيم المجتمع ، لربما غيروا رأيهم .
فرواية الطبيب ياسر شعبان جاءت معبرة عن أجواء الانحراف في المستشفيات المصرية من خلال علاقة طبيب شاب مع الممرضات والطبيبات والمرضى .
أما رواية المخرج توفيق عبد الرحمن ، فقد سار على نفس منوال " محمد شكري " ، فاستعرض سيرة جسده مع تمصير الطرح والأحداث ، بفجاجة شديدة ، ووقاحة في اللفظ والوصف .
أما رواية الأديب محمود حامد فهي وللمفارقة لا تحتوي إلا على مشاهد جنسية بسيطة وقليلة وموظفة فنيًا في العمل الأدبي ، وهي في مجملها راوية راقية فنيًا وفكريًا ، وتضمنت دفاعًا عن الإسلاميين بشكل لافت ، حيث عقدت موازنة بين سلوك بطل منحرف وشقيقه الإسلامي الملتزم في حياتهما . وهذه الرواية تعرضت لظلم كبير ، وقد أصيب كاتبها بالإحباط واعتزل الكتابة الأدبية نهائيًا ، وهذا يدل على أن المسألة ليست حكمًا نقديًا قيميًا بل مجرد أهواء ونزعات .
المشكلة أن الأدباء الشباب العرب لم يتشربوا قيم الإسلام ولا تصوراته للكون والحياة وبالتالي فهم عرضة لكل ناعق غربي ينعق بالجديد ، دون وعي وإبداع حقيقي .
بقلم /د. مصطفى عطية جمعة
مصطلح " كتابة الجسد " تعبير شاع في الأوساط الأدبية في السنوات الأخيرة ، ويعني أن يعبر الأديب عما هو موجود ملموس حسي بالنسبة إليه ، ومن هذا الحسي جسده ، هذا البناء العضوي الذي يحوينا ، ونتعايش به ، ونتلذذ بحواسه . وطرحوا فكرة أن نعبر عن أجسادنا بكل أعضائها ، دون التفرقة بين عضو وآخر ، ويستطيع القارئ الفطن أن يعي أن هذه الفكرة تحمل في ثناياها مفهومًا علمانيًا ماديًا أساسه : لا للروح ولا للتعبير عنها ، لأنها غير ملموسة ، وإنما التعبير عن الجسد المادي فقط ، وأنه لا قيود أخلاقية على الكتابة الجسدية ، فلا فرق بين اليد والأعضاء الجنسية ، فالمنظور ثابت : نعبر عن كل جسدنا ولذائذه ، مثل لذة الطعام والشراب والجنس .
هكذا شاع المصطلح في الأدب الغربي ، وكان يضاد الكتابات الأدبية التي اتخذت الروح والعقل ميدانًا لها ، فأغرقت في الفلسفة ، وهومت في الشعور ، ونست أن للجسد حق عليها ، فتجاهلته وتجاهلت إحساساته ، فكانت الصيحة المعلنة : لنعد لأجسادنا ولنعبر عن حواسنا . وقد جاء هذا المصطلح متماشيًا مع الجيل الثالث من جماعات حقوق الإنسان ، هذا الجيل الذي راح يعترف بحقوق الشواذ : اللواطيين والسحاقيات ، وطالب بشرعية العلاقة ، وشرعية زواجهم ، وهاجم نظام الزواج القديم . فظهرت كتابات حملت اسم " كتابة الجسد " في شعر وقصة ومسرح وفن تشكيلي، ورأى الجمهور الغربي عرايا على المسرح تحت دعوى مسرح الجسد ، وقرأ في الأدب : علاقة بين المحارم : الأب وابنته والأم وابنها ، والطالب ومعلمته ، ورأى لوحات تشكيلية حملت صورًا لأعضاء الجنس وبعض الفنانين استخدم السائل المنوي في لوحاته .
وكالعادة انتقل المصطلح إلى أدبنا العربي بموجة تهليل لكل ما هو قادم من الغرب ، وادّعى من روّجوه أنهم ينقلون آخر إبداعات أوروبا ، وطالبوا بشرعية كتاباتهم ، فكان أن ظهرت موجة كبيرة بين الشعراء والقصاصين تبنت الكتابة الجسدية ، فرأينا بعض قصائد النثر التي كتبت عما نفعله في دورات المياه ، وعن المعاكسات في المواصلات العامة وعن الرغبات المحرمة المكبوتة نحو المحارم . واشتدت الموجة أكثر مع ظهور رواية الكاتب المغربي " محمد شكري " والتي حملت عنوان "الخبز الحافي ، سيرة روائية محرمة " وفيها استعرض الكاتب / الروائي تاريخه مع جسده منذ طفولته ، مع والديه ، وأقرانه ، وعلاقاته وهو مراهق مع بنات الهوى ، في مراكش والدار البيضاء . وكل ما خطّه كان بشفافية مطلقة عن حياته – كما ادعى - ، دون زيف أو ادعاء . والغريب أن هذه الرواية ترجمت ونشرت في فرنسا وحققت شهرة كبيرة ، قبل أن تنشر في بيروت ، ولأنها منعت منذ الإصدار الأول ، فقد تم بيعها سرًا بعشرات الآلاف من النسخ ، فكل ما هو ممنوع مرغوب ، ونال كاتبها شهرة لم يحلم بمثلها ، وفجّرت هذه الرواية أزمة في الجامعة الأمريكية في القاهرة ، حين أقرها أحد أساتذة الأدب على الطلاب ، واعترض عليها أولياء الأمور ، والمعروف أن الجامعة الأمريكية لا يلتحق بها إلا أبناء الطبقة الغنية المتغربة ولكن لفظاظة الرواية اهتاج الطلاب والطالبات وأولياء الأمور .
وعلى الجانب الآخر ( الأنثوي ) ، ظهرت الكاتبة الجزائرية " أحلام مستغانمي " التي كتبت رواية " سيرة جسد " وحققت من ورائها شهرة ضخمة بسبب تبني جماعات حقوق الإنسان الغربية لقضيتها ، وتعاطف العلمانيين العرب ضد الإسلاميين ، حيث تناولت مستغانمي سيرتها الجنسية كامرأة ، في كل تقلباتها وعلاقاتها الذكورية والأنثوية ، واعتبرت أنها مقموعة في مجتمعها الشرقي الذكوري ، وقد ازدادت شهرتها بعدما اشترى المخرج العالمي يوسف شاهين هذه الرواية ، وقرر أن يحولها إلى فيلم سينمائي ، وكان هذا منذ عشر سنوات ، وحتى الآن لم يظهر الفيلم للوجود ، ومازالت الرواية محبوسة في أدراج مكتب يوسف شاهين .
وسار الأدباء العرب على نفس النهج ، ولعلنا نذكر أزمة الروايات الثلاث التي فجّرها نائب الإخوان المسلمين في مصر " محمد جمال حشمت " ضد وزارة الثقافة ، حيث نشرت سلسلة أصوات أدبية ثلاث روايات على نفس المنوال السابق للأدباء : ياسر شعبان ، ومحمود حامد ، وتوفيق عبد الرحمن ، واندفعت الأقلام العلمانية تهاجم الإسلاميين وتدافع عن حق المبدع في الكتابة ، ولو قرأوا بتمعن هذه الروايات في ضوء قيم المجتمع ، لربما غيروا رأيهم .
فرواية الطبيب ياسر شعبان جاءت معبرة عن أجواء الانحراف في المستشفيات المصرية من خلال علاقة طبيب شاب مع الممرضات والطبيبات والمرضى .
أما رواية المخرج توفيق عبد الرحمن ، فقد سار على نفس منوال " محمد شكري " ، فاستعرض سيرة جسده مع تمصير الطرح والأحداث ، بفجاجة شديدة ، ووقاحة في اللفظ والوصف .
أما رواية الأديب محمود حامد فهي وللمفارقة لا تحتوي إلا على مشاهد جنسية بسيطة وقليلة وموظفة فنيًا في العمل الأدبي ، وهي في مجملها راوية راقية فنيًا وفكريًا ، وتضمنت دفاعًا عن الإسلاميين بشكل لافت ، حيث عقدت موازنة بين سلوك بطل منحرف وشقيقه الإسلامي الملتزم في حياتهما . وهذه الرواية تعرضت لظلم كبير ، وقد أصيب كاتبها بالإحباط واعتزل الكتابة الأدبية نهائيًا ، وهذا يدل على أن المسألة ليست حكمًا نقديًا قيميًا بل مجرد أهواء ونزعات .
المشكلة أن الأدباء الشباب العرب لم يتشربوا قيم الإسلام ولا تصوراته للكون والحياة وبالتالي فهم عرضة لكل ناعق غربي ينعق بالجديد ، دون وعي وإبداع حقيقي .
تعليق