دقـــــــــات الرحيـــــــــــــل
تحير الدكتور " أحمد " من أمر عم "صالح" ذلك الكهل الذى جاوز الثمانين ويصر على الجلوس في طرف محطة القطار حاملا ساعته الكبيرة وعيناه معلقتان بكل قطار قادم ...
سنوات طويلة وكلما أتى لزيارة عائلته يجده جالسا في نفس المكان وفي عينيه نفس نظرة الانتظار والترقب وكأن الزمن قد توقف عنده ...
سأل أهله عن قصته فأخبروه أنه ينتظر عودة ابنه الذي سافر للعمل بالعراق ... سنوات مرت لا يغير عم صالح من طقوسه اليومية فهو يصحو فى الفجر ويتخذ طريقه إلى المسجد مارا بالجسر وصوته يتعالى بالتسابيح والأدعية حتى يصل ويصلي جماعة وبعدها يظل جالسا في المسجد يصلي ويدعو حتى يعلو صوت بكائه ...
الجميع تأخذهم به الشفقة وإن كانت مشوبة ببعض السخرية
لهذه الساعة التي يصر على حملها طوال الوقت ؛ ثم يجلس في محطة القطار وبجانبه ساعته حتى موعد آخر قطار، لم يغير طقوسه أبدا فلا توقفه حرارة صيف ولا برودة شتاء حتى تعود الجميع على رؤيته وكأنه أصبح جزءا من هذه المحطة ...
الكل أحبه وتعاطف معه ومع قصته الحزينة التى بدأت عندما كان يعمل بستانيا فى فيلا الثري شريف الذى أحبه لإخلاصه وتفانيه في خدمته وكان دائما مايأتي ابنه ليشاهد هذه الساعة العجيبة وفرحة شديدة ترتسم على وجهه وهو يرى العصفور يخرج منها مع دقات الساعة ببندولها الذى يتحرك إلى جهة اليمين تارة والى اليسار تارة اخرى وكثيرا مارآه الثري شريف رغم محاولاته الصغيرة للتخفي والحذر ...
وعندما قرر هذا الثري السفر للخارج وتصفية جميع أعماله أهدى عم صالح الساعة لعلمه إن ابنه يحبها ...
كان عم صالح يضع الساعة فى بيته فكانت تمثل لوحة جمالية شاذة عما حولها من فقر ولكنه كان سعيدا لسعادة ابنه بها ...
وكبر الصبى وقد أدرك أن زمن الأحلام قد ولى وعليه تقبل الواقع والفقر ؛ كانت لديه طموحاته فتطلع إلى السفر إلى إحدى الدول العربية مثل باقي شباب القرية ...
أقنع والده بضرورة السفر حتى يستطيع تحقيق أحلامه فى الزواج والحياة ووعده أن يبنى له بيتا جديدا ...
وسافر الإبن إلى العراق وظلت خطاباته هي بلسم الحياة لعم صالح وداوم على إرسال النقود لوالده لتعينه على الحياة .... حتى انقطعت خطاباته ولم يعد والده يعلم عنه ؟؟
ومنذ ذلك اليوم وعم صالح يأخذ طريقه إلى محطة القطار وعيناه معلقتان بالقضبان الحديدية التي لا تأتي بمن يؤنس وحدته ... قضبان لا تعرف الحب ولا العذاب ولا الانتظار ومازالت الساعة بجانبه وكأنها الشيء الوحيد الذى يربط بينه وبين ابنه الغائب ..
وتمر الأيام وهو قابع بجانب المحطة وفى قلبه رجاء وفى عينيه بقايا حلم لا يتحقق ويظل يغني بصوت جميل أحبه الجميع من رواد المحطة وهو يقول : الاولة آه الثانية آه الثالثة آه
الاولة عيروني ان نافلاح الثانية ازرع واقلع للي نام وارتاح الثالثة آه اللي احبه شط مني وراح
الاولة عيروني ان نا فلاح بدفية وعيشي حاف
الثانية ازرع واقلع للي نام وارتاح فى دهبية ... بميت مجداف
الثالتة اللي احبه شط مني وراح فى صبحية ... ماقال لي عواف
حتى تخنقه الدموع التي يأبى أن يراها أحد...
ومع آخر قطار وموعد وصوله يعود إلى بيته وتتكرر نفس المشاهد وكأنها صورة كربونية ...
رق قلب الدكتور أحمد لقصة عم صالح فكان كلما أتى لزيارة عائلته يذهب إليه ويتابع حالته الصحية ووعده بعمل بعض الاتصالات لمعرفة أي جديد عن ابنه الغائب...
وعند عودته للقرية في المرة التالية وجد عم صالح مايزال قابعا في ركن المحطة ولكنه يعاني المرض فيده باردة ووجهه شاحب ..
مما دفعه لتكثيف اتصالاته لعله يستطيع الوصول لإبنه الذي تعلق قلب عم صالح به حتى أوشك على الانهيار ...
وعاد إليه مسرعا مرة أخرى فوجده في حالة انهيار تام ودموعه الصامتة ترك لها العنان وماعاد يريد أن يخفيها ...
وكأن شيئا هائلا قد وقع وقبل أن يسأله أشار له جانبا فوجد الساعة قد توقفت لأول مرة منذ أهداها له الثري شريف..
نظر إليه الدكتور أحمد وهو يحاول انتقاء الكلمات التي يطيب بها خاطره.. وأمسك بيده فوجدها باردة برودة الموت صلبة صلابة الحرمان ... واهنة مثل الانتظار..
حتى سقطت اليد الطيبة من يده ...
رحل الأب وعندما رجع وجد برقية من السفارة تحمل نبأ وفاة الابن دون معرفة الأسباب في تمام الساعة .... بتاريخ ....!!
توقف الدكتور أحمد عن قراءة البرقية وعادت عيناه إلى موعد الوفاة فوجدها نفس الساعة التي توقفت فيها الساعة عن دقاتها وفي نفس التاريخ ...
وظل يردد " سبحان الله ... سبحان الله ولاحول ولا قوة إلا بالله"
وعندما عاد لزيارة أهله مرة أخرى اتجهت عيناه إلى مكان عم صالح وصدى أغنيته يتردد بين جنبات المحطة ..!!
/
/
/
ماجي
تعليق