الأديب الطموح*

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسين أحمد سليم
    أديب وكاتب
    • 23-10-2008
    • 147

    الأديب الطموح*

    الأديب الطموح*

    منذ طفولته ، كان طموحه : أكبر من عمره بكثير ، حيث كانت رقبته القصيرة جداً ، تمتد لأكثر مما قسم الله له من الحظ ... إنه يحب البروز ، ويبحث عن الشهرة ... والغاية في قاموسه تبرر الوسيلة ... وكبر صاحبنا ، واختصر دراسته (على قدِّ الحال ) ، و( على قدِّ بساطك مدَّ رجليك ) ... ولكن نفسيته كانت تقضُّ مضجعه باستمرار ، ( وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبت في مرادها الأجسام ) ... فالوجاهة متأصلة في دمه ، تكبر وتتعاظم يوماً بعد يوم ... ولا تدعه يرتاح أو يستقر ... رغم أنه تخصص في مهنة هندسية هامة وعمل بها ردحاً من الزمن ، وأغدقت عليه الأموال الكفيلة بحياةٍ هانئةٍ كريمةٍ ...
    ذات يومٍ ، صعد الدم إلى رأسه بقوةٍ جارفةٍ ، فجن جنونه ... جنون الوجاهة والبروز و العظمة... فأخذ رأسه بين يديه، وغاب ، غاب في تفكير عميق ، وعميق جداً ... إنه يبحث عن الشهرة !... عن الوجاهة !... عن العظمة !... من أين يبدأ ؟... متى ؟... كيف؟... فسلم الشهرة مرهق ... لا بأس ، "فمن أراد أن يكون حمّالاً، عليه أن يرفع عتبة بابه " ... "ومن طلب العلى سهر الليالي "... ولم يستغرق في تفكيره طويلاً ، ولمعت الفكرة في رأسه ، وعصفت كهوج الرياح ، سيصبح أديباً !... أجل ، سيصبح أديباً بقدرة قادر،وكيف لا؟!... فهل الأديب الفلاني أفضل منه ؟!... وهل الكاتب الفلاني يتميز عنه؟!...وهل الشاعر الفلاني غيره؟!... سيصبح أديباً مهما كلَّف الأمرُ ...
    وقام لتوِّه إلى المرآةِ ، رمقها ،"بحلق " عينيه بها ، تفرس في وجهه ، في شكله ، أخذ " سيجارة " ، وضعها بين شفتيه ، ثم أشعلها... و"مجَّ" منها ما استطاع ، و"شفط" دخانها إلى صدره ، فتحشرج "بسعلةٍ " حادةٍ و"قحَّةٍ " واكبت خروج الدخان من أنفه الأفطس ، الذي يضيق حتى عن التنفس ... وبعصبية متوحشةٍ ، تناول " كذلكه " ووضعه فوق عينيه ، قارصا به ارنبة أنفه ، وأصلح من حال السلسال الفضي ، لمتدلي من خلف أذنيه بحيث وصل إلى جيب قميصه الأحمر... ثم ما لبث أن " حملق " في رأسه ، وراح ينفض شعره بيديه حتى تشعث ... وأصبح في منظره ، كما المجنون ... وصدق من قال : " الفنون جنون " أو العكس ، "الجنون فنون " ... وقطَّب صاحبنا جبينه ... لقد اكتشف السرَّ الدفين ، سرَّ لعبته الأدبية ، ومن أين سيبدأ بها ...
    لقد قرر ترك شعر رأسه وذقنه يطولان ويمتدان ... ليكتمل " القط
    بجهازه " ، ويكتمل " النقل بالزعرور "... وعقد العزم على تغيير لباسه ، ودروشة حاله ، وإهمال نفسه ، نعم ، هكذا تتطلب الحكاية... وإلاَّ ... وهكذا اكتملت الصورة الكاريكاتورية ، وأعجب صاجبنا الأديب الجديد بها ... ووجد العاطل عن العمل ضالته... وكذلك أديبنا المميز جداً عمل أديباً على هواه ومزاجيته ، وفتح دكاناً للأدب ، ولم ينم ليلته من الأحلام التي راودته ، وطاف بها ، وطافت به على جناح الأوهام إلى أبعد الآفاق ، وأمتطى بآماله " كُدش " السَّحابِ ...
    ولم تكد تبزغ شمس الصباح ، حتى زفَّ البشرى المضحكة المبكية إلى زوجته ،التي تقبلتها على مضضٍ، وأشفقت على حاله ، ولم تفتح " ناعها " ولو بكلمة واحدة ... وبدأ أديبنا المقدام بتنفيذ هلوسته ، وتجسيد أضغاث أحلامه ... فاستأجر شقة له في ضاحية المدينة في بناء حديث ، مرتفع ، يطلُّ على البحر ... ليخلق المنظر الشاعري ،الذي يفجر الأفكار ،ويسيل الكلمات والمواضيع ، كما يسيل اللعاب لطيب الطعام ... وكما سيسيل لعابك " قرفاً " من أفكار أديبنا الطموح ... و" تنخَّعَ " حضرة الأديب الفذ ودفع بدل المكتب الأدبي ، ما ادخره بعرق جبينه طيلة مدة عمله ... وحرم عائلتـه المسكينة من الاستفادة من المبلـغ ... وأثث المكتب بكـل
    الحاجيات والمتطلبات " شيء مثل الكذب " و " الحكي ليـس كمـا الرؤية " ... أليس هكذا تتطلب الوجاهة ؟! وأليس كذلك تقتضي العبقرية ...
    ولم يعد أمام أديبنا إلى أن يثور ، ويحطِّم ، ويهدم ، ويثير الضجة حوله كتاباته ... تماماً كما تثير"البغال الإنكليزية"أو "الحمير القبرصية" أو " الكدش المهرية " الغبار بحوافرها عندما تثار ...
    ها هو أديبنا الكبير "أفندم " ، كبير وكبير جداً ، لأنه " كسر مزراب العين " ... " وعملها في كيس الطحين "... كما " القط الذي شكرنا مسلكه " ... يأتي قبل شروق الشمس إلى مكتبه ، ويبقى حتى منتصف الليل ، وربما ينام على كرسيه وعينيه " مبحلقتين " لأن فكرته لم تتجسد في موضوع ما ... يرتمي يومياً خلف مكتبه ، يجتر الحروف والكلمات والخواطر ، يُسوِّد الأوراق ثم يمزقها ، "يغبُّ " من لفائف الدخان ، يرتشف القهوة الممزوجة برماد سيجارته ، ويكتب ، ويكتب ، و" يشقع " في حروفه وكلماته وخواطره وموضوعاته،التي تشبهه...لقد وحم بالوهم ، فأتت أدبياته طبقاً لم وحم به...وانتشر إنتاج أديبنا الكبير في الأسواق ، وكتبت عنه الصحف الصفراء فقط ... فتلقفته الأيدي الضائعة في حالك الضباب ... والنفوس التائهة في صحاري العطش والتلهف...فاندثر الغبار، الذي " زعقه "حافر الحمار " وبانت القرعه من أم قرون "...
    * نشرت في صحيفة الأنوار يوم السبت 26 أيلول 1998
    في العدد 13438 صفحة 18 القسم الثقافي
    حسين أحمد سليم
    hasaleem
  • مصطفى بونيف
    قلم رصاص
    • 27-11-2007
    • 3982

    #2
    الأستاذ القدير حسين أحمد سليم

    في البداية كم تأسفت لأنني لم أنتبه لهذا النص إلا متأخرا ..فمعذرة يا أستاذي .
    ثم اسمح لي بأن أنزع القبعة لأنحني لنصكم الجميل هذا والذي استطعت أن تصور لنا ...الأدب والأدباء ....وهم ليسوا بأدباء...ولا علاقة لهم به ...
    "عندما يصبح الأدب عمل من لا عمل له " !
    ابتلى الله أمتنا بهذا النوع - الكلوشار- من الكتاب والأدباء ...فكانت شطحاتهم الأولى نطحات ...ليصبحوا نجوما في عصر وبلد لا يقرأ سكانه .

    دمت طيبا يا طيب
    تحيتي
    [

    للتواصل :
    [BIMG]http://sphotos.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-snc3/hs414.snc3/24982_1401303029217_1131556617_1186241_1175408_n.j pg[/BIMG]
    أكتب للذين سوف يولدون

    تعليق

    • مصطفى شرقاوي
      أديب وكاتب
      • 09-05-2009
      • 2499

      #3
      تحياتي يا أستاذ .......

      وما الأدب !

      الاديب منذ نعومة اظافره وهو من ترفعه رفعته وتهمه همته وتنساق العبارات من جليل كلمته ,

      وما الأدب ؟

      كلمة ومعناها الكثير , خوض في المسير مذكر سالم وجمع تكسير , عوالم من عالم وحالم صغير .

      لا أراها فيمن يمتهنها كمهنه , هي في الذات مملوكه وموهبه ليست في أفكار صعلوكه , شطحات النطحات وأفكار وترنمات ولا تقع العين إلا على ما تهواه

      يسرني أن أقرأ لك كثيرا ......
      دمت بخير يا أستاذ / حسين

      تعليق

      • رنا خطيب
        أديب وكاتب
        • 03-11-2008
        • 4025

        #4
        الأستاذ الأديب حسين احمد سليم
        شكرا لك على هذا المقال الذي حكيت فيه واقعا مأسويا ملموسا لا غبار عليه..

        نحن نعيش في عصر ضياع المعنى و إبحاره بعيدا عن شاطئه .. فمن أين ستأتي الرسالة الحقيقة للإنسان بمختلف مسمياته سواء كان مثقفا أم أديبا أم سياسيا...

        هناك من يتخبط في سعيه للوصول إلى عالم الألقاب و الشهرة بأسرع وقت و بأي ثمن.. فهو يريد للمجتمع أن يشير إلى الفلان المتألق ..

        صدقني إذا قلت لك يا سيدي بأنه هناك أغنياء لا ينقصهم من المال و السلطان شيئا ومع ذلك يبحثون عن تألق مزيف في عالم الأدب لتكتمل صورة تألقهم. فيقمون بشراء منتجات أدبية و نسبها إلى أسمائهم و يسجلون في منظمات ترعى العمل الأدبي ..لكن هيهات بين النسخة الأصلية و بين المقلدة أن تقارن و لا بد للحقيقة أن تكشفها يوما..

        للأسف الأدب أصبح وظيفة لمن ليس له وظيفة.. بريستيج متألق أمام المجتمع المخملي.. و من يتخذ من الأدب مهنة و شهرة للتألق سوف يفشل في النهاية..

        لكل صهوة فرس خيّالها.. و في النهاية لا يصح إلا الصحيح

        لقد آثرت شجوني في هذا المقال الساخر و لم استطع أن ارسم حروفا مضحكة هنا لما فيه المقال من الم

        دمت سالما
        رنا خطيب

        تعليق

        يعمل...
        X