الأديب الطموح*
منذ طفولته ، كان طموحه : أكبر من عمره بكثير ، حيث كانت رقبته القصيرة جداً ، تمتد لأكثر مما قسم الله له من الحظ ... إنه يحب البروز ، ويبحث عن الشهرة ... والغاية في قاموسه تبرر الوسيلة ... وكبر صاحبنا ، واختصر دراسته (على قدِّ الحال ) ، و( على قدِّ بساطك مدَّ رجليك ) ... ولكن نفسيته كانت تقضُّ مضجعه باستمرار ، ( وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبت في مرادها الأجسام ) ... فالوجاهة متأصلة في دمه ، تكبر وتتعاظم يوماً بعد يوم ... ولا تدعه يرتاح أو يستقر ... رغم أنه تخصص في مهنة هندسية هامة وعمل بها ردحاً من الزمن ، وأغدقت عليه الأموال الكفيلة بحياةٍ هانئةٍ كريمةٍ ...
ذات يومٍ ، صعد الدم إلى رأسه بقوةٍ جارفةٍ ، فجن جنونه ... جنون الوجاهة والبروز و العظمة... فأخذ رأسه بين يديه، وغاب ، غاب في تفكير عميق ، وعميق جداً ... إنه يبحث عن الشهرة !... عن الوجاهة !... عن العظمة !... من أين يبدأ ؟... متى ؟... كيف؟... فسلم الشهرة مرهق ... لا بأس ، "فمن أراد أن يكون حمّالاً، عليه أن يرفع عتبة بابه " ... "ومن طلب العلى سهر الليالي "... ولم يستغرق في تفكيره طويلاً ، ولمعت الفكرة في رأسه ، وعصفت كهوج الرياح ، سيصبح أديباً !... أجل ، سيصبح أديباً بقدرة قادر،وكيف لا؟!... فهل الأديب الفلاني أفضل منه ؟!... وهل الكاتب الفلاني يتميز عنه؟!...وهل الشاعر الفلاني غيره؟!... سيصبح أديباً مهما كلَّف الأمرُ ...
وقام لتوِّه إلى المرآةِ ، رمقها ،"بحلق " عينيه بها ، تفرس في وجهه ، في شكله ، أخذ " سيجارة " ، وضعها بين شفتيه ، ثم أشعلها... و"مجَّ" منها ما استطاع ، و"شفط" دخانها إلى صدره ، فتحشرج "بسعلةٍ " حادةٍ و"قحَّةٍ " واكبت خروج الدخان من أنفه الأفطس ، الذي يضيق حتى عن التنفس ... وبعصبية متوحشةٍ ، تناول " كذلكه " ووضعه فوق عينيه ، قارصا به ارنبة أنفه ، وأصلح من حال السلسال الفضي ، لمتدلي من خلف أذنيه بحيث وصل إلى جيب قميصه الأحمر... ثم ما لبث أن " حملق " في رأسه ، وراح ينفض شعره بيديه حتى تشعث ... وأصبح في منظره ، كما المجنون ... وصدق من قال : " الفنون جنون " أو العكس ، "الجنون فنون " ... وقطَّب صاحبنا جبينه ... لقد اكتشف السرَّ الدفين ، سرَّ لعبته الأدبية ، ومن أين سيبدأ بها ...
لقد قرر ترك شعر رأسه وذقنه يطولان ويمتدان ... ليكتمل " القط
بجهازه " ، ويكتمل " النقل بالزعرور "... وعقد العزم على تغيير لباسه ، ودروشة حاله ، وإهمال نفسه ، نعم ، هكذا تتطلب الحكاية... وإلاَّ ... وهكذا اكتملت الصورة الكاريكاتورية ، وأعجب صاجبنا الأديب الجديد بها ... ووجد العاطل عن العمل ضالته... وكذلك أديبنا المميز جداً عمل أديباً على هواه ومزاجيته ، وفتح دكاناً للأدب ، ولم ينم ليلته من الأحلام التي راودته ، وطاف بها ، وطافت به على جناح الأوهام إلى أبعد الآفاق ، وأمتطى بآماله " كُدش " السَّحابِ ...
ولم تكد تبزغ شمس الصباح ، حتى زفَّ البشرى المضحكة المبكية إلى زوجته ،التي تقبلتها على مضضٍ، وأشفقت على حاله ، ولم تفتح " ناعها " ولو بكلمة واحدة ... وبدأ أديبنا المقدام بتنفيذ هلوسته ، وتجسيد أضغاث أحلامه ... فاستأجر شقة له في ضاحية المدينة في بناء حديث ، مرتفع ، يطلُّ على البحر ... ليخلق المنظر الشاعري ،الذي يفجر الأفكار ،ويسيل الكلمات والمواضيع ، كما يسيل اللعاب لطيب الطعام ... وكما سيسيل لعابك " قرفاً " من أفكار أديبنا الطموح ... و" تنخَّعَ " حضرة الأديب الفذ ودفع بدل المكتب الأدبي ، ما ادخره بعرق جبينه طيلة مدة عمله ... وحرم عائلتـه المسكينة من الاستفادة من المبلـغ ... وأثث المكتب بكـل
الحاجيات والمتطلبات " شيء مثل الكذب " و " الحكي ليـس كمـا الرؤية " ... أليس هكذا تتطلب الوجاهة ؟! وأليس كذلك تقتضي العبقرية ...
ولم يعد أمام أديبنا إلى أن يثور ، ويحطِّم ، ويهدم ، ويثير الضجة حوله كتاباته ... تماماً كما تثير"البغال الإنكليزية"أو "الحمير القبرصية" أو " الكدش المهرية " الغبار بحوافرها عندما تثار ...
ها هو أديبنا الكبير "أفندم " ، كبير وكبير جداً ، لأنه " كسر مزراب العين " ... " وعملها في كيس الطحين "... كما " القط الذي شكرنا مسلكه " ... يأتي قبل شروق الشمس إلى مكتبه ، ويبقى حتى منتصف الليل ، وربما ينام على كرسيه وعينيه " مبحلقتين " لأن فكرته لم تتجسد في موضوع ما ... يرتمي يومياً خلف مكتبه ، يجتر الحروف والكلمات والخواطر ، يُسوِّد الأوراق ثم يمزقها ، "يغبُّ " من لفائف الدخان ، يرتشف القهوة الممزوجة برماد سيجارته ، ويكتب ، ويكتب ، و" يشقع " في حروفه وكلماته وخواطره وموضوعاته،التي تشبهه...لقد وحم بالوهم ، فأتت أدبياته طبقاً لم وحم به...وانتشر إنتاج أديبنا الكبير في الأسواق ، وكتبت عنه الصحف الصفراء فقط ... فتلقفته الأيدي الضائعة في حالك الضباب ... والنفوس التائهة في صحاري العطش والتلهف...فاندثر الغبار، الذي " زعقه "حافر الحمار " وبانت القرعه من أم قرون "...
* نشرت في صحيفة الأنوار يوم السبت 26 أيلول 1998
في العدد 13438 صفحة 18 القسم الثقافي
منذ طفولته ، كان طموحه : أكبر من عمره بكثير ، حيث كانت رقبته القصيرة جداً ، تمتد لأكثر مما قسم الله له من الحظ ... إنه يحب البروز ، ويبحث عن الشهرة ... والغاية في قاموسه تبرر الوسيلة ... وكبر صاحبنا ، واختصر دراسته (على قدِّ الحال ) ، و( على قدِّ بساطك مدَّ رجليك ) ... ولكن نفسيته كانت تقضُّ مضجعه باستمرار ، ( وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبت في مرادها الأجسام ) ... فالوجاهة متأصلة في دمه ، تكبر وتتعاظم يوماً بعد يوم ... ولا تدعه يرتاح أو يستقر ... رغم أنه تخصص في مهنة هندسية هامة وعمل بها ردحاً من الزمن ، وأغدقت عليه الأموال الكفيلة بحياةٍ هانئةٍ كريمةٍ ...
ذات يومٍ ، صعد الدم إلى رأسه بقوةٍ جارفةٍ ، فجن جنونه ... جنون الوجاهة والبروز و العظمة... فأخذ رأسه بين يديه، وغاب ، غاب في تفكير عميق ، وعميق جداً ... إنه يبحث عن الشهرة !... عن الوجاهة !... عن العظمة !... من أين يبدأ ؟... متى ؟... كيف؟... فسلم الشهرة مرهق ... لا بأس ، "فمن أراد أن يكون حمّالاً، عليه أن يرفع عتبة بابه " ... "ومن طلب العلى سهر الليالي "... ولم يستغرق في تفكيره طويلاً ، ولمعت الفكرة في رأسه ، وعصفت كهوج الرياح ، سيصبح أديباً !... أجل ، سيصبح أديباً بقدرة قادر،وكيف لا؟!... فهل الأديب الفلاني أفضل منه ؟!... وهل الكاتب الفلاني يتميز عنه؟!...وهل الشاعر الفلاني غيره؟!... سيصبح أديباً مهما كلَّف الأمرُ ...
وقام لتوِّه إلى المرآةِ ، رمقها ،"بحلق " عينيه بها ، تفرس في وجهه ، في شكله ، أخذ " سيجارة " ، وضعها بين شفتيه ، ثم أشعلها... و"مجَّ" منها ما استطاع ، و"شفط" دخانها إلى صدره ، فتحشرج "بسعلةٍ " حادةٍ و"قحَّةٍ " واكبت خروج الدخان من أنفه الأفطس ، الذي يضيق حتى عن التنفس ... وبعصبية متوحشةٍ ، تناول " كذلكه " ووضعه فوق عينيه ، قارصا به ارنبة أنفه ، وأصلح من حال السلسال الفضي ، لمتدلي من خلف أذنيه بحيث وصل إلى جيب قميصه الأحمر... ثم ما لبث أن " حملق " في رأسه ، وراح ينفض شعره بيديه حتى تشعث ... وأصبح في منظره ، كما المجنون ... وصدق من قال : " الفنون جنون " أو العكس ، "الجنون فنون " ... وقطَّب صاحبنا جبينه ... لقد اكتشف السرَّ الدفين ، سرَّ لعبته الأدبية ، ومن أين سيبدأ بها ...
لقد قرر ترك شعر رأسه وذقنه يطولان ويمتدان ... ليكتمل " القط
بجهازه " ، ويكتمل " النقل بالزعرور "... وعقد العزم على تغيير لباسه ، ودروشة حاله ، وإهمال نفسه ، نعم ، هكذا تتطلب الحكاية... وإلاَّ ... وهكذا اكتملت الصورة الكاريكاتورية ، وأعجب صاجبنا الأديب الجديد بها ... ووجد العاطل عن العمل ضالته... وكذلك أديبنا المميز جداً عمل أديباً على هواه ومزاجيته ، وفتح دكاناً للأدب ، ولم ينم ليلته من الأحلام التي راودته ، وطاف بها ، وطافت به على جناح الأوهام إلى أبعد الآفاق ، وأمتطى بآماله " كُدش " السَّحابِ ...
ولم تكد تبزغ شمس الصباح ، حتى زفَّ البشرى المضحكة المبكية إلى زوجته ،التي تقبلتها على مضضٍ، وأشفقت على حاله ، ولم تفتح " ناعها " ولو بكلمة واحدة ... وبدأ أديبنا المقدام بتنفيذ هلوسته ، وتجسيد أضغاث أحلامه ... فاستأجر شقة له في ضاحية المدينة في بناء حديث ، مرتفع ، يطلُّ على البحر ... ليخلق المنظر الشاعري ،الذي يفجر الأفكار ،ويسيل الكلمات والمواضيع ، كما يسيل اللعاب لطيب الطعام ... وكما سيسيل لعابك " قرفاً " من أفكار أديبنا الطموح ... و" تنخَّعَ " حضرة الأديب الفذ ودفع بدل المكتب الأدبي ، ما ادخره بعرق جبينه طيلة مدة عمله ... وحرم عائلتـه المسكينة من الاستفادة من المبلـغ ... وأثث المكتب بكـل
الحاجيات والمتطلبات " شيء مثل الكذب " و " الحكي ليـس كمـا الرؤية " ... أليس هكذا تتطلب الوجاهة ؟! وأليس كذلك تقتضي العبقرية ...
ولم يعد أمام أديبنا إلى أن يثور ، ويحطِّم ، ويهدم ، ويثير الضجة حوله كتاباته ... تماماً كما تثير"البغال الإنكليزية"أو "الحمير القبرصية" أو " الكدش المهرية " الغبار بحوافرها عندما تثار ...
ها هو أديبنا الكبير "أفندم " ، كبير وكبير جداً ، لأنه " كسر مزراب العين " ... " وعملها في كيس الطحين "... كما " القط الذي شكرنا مسلكه " ... يأتي قبل شروق الشمس إلى مكتبه ، ويبقى حتى منتصف الليل ، وربما ينام على كرسيه وعينيه " مبحلقتين " لأن فكرته لم تتجسد في موضوع ما ... يرتمي يومياً خلف مكتبه ، يجتر الحروف والكلمات والخواطر ، يُسوِّد الأوراق ثم يمزقها ، "يغبُّ " من لفائف الدخان ، يرتشف القهوة الممزوجة برماد سيجارته ، ويكتب ، ويكتب ، و" يشقع " في حروفه وكلماته وخواطره وموضوعاته،التي تشبهه...لقد وحم بالوهم ، فأتت أدبياته طبقاً لم وحم به...وانتشر إنتاج أديبنا الكبير في الأسواق ، وكتبت عنه الصحف الصفراء فقط ... فتلقفته الأيدي الضائعة في حالك الضباب ... والنفوس التائهة في صحاري العطش والتلهف...فاندثر الغبار، الذي " زعقه "حافر الحمار " وبانت القرعه من أم قرون "...
* نشرت في صحيفة الأنوار يوم السبت 26 أيلول 1998
في العدد 13438 صفحة 18 القسم الثقافي
تعليق