زعل الذللاَق
قصة قصيرة
كانت القرية من بعيد تبدو للعيان كومة من الحجارة ، تتراص الدور الطينية جنبا إلى جنب بينما يفصلها من الأمام أزقة ضيقة ، أما السوق فكان بضعة دكاكين صغيرة تصطف الواحدة تلو الأخرى لتشكل نسقا مألوفا مع البنية العمرانية بشكل عام .
كان المساء ينسجم مع عودة رعاة الأغنام وصوت الأجراس المعلقة في أعناقها يمتزج بالثغاء وأصوات الرعاة ، وزعيق الأطفال ، ليشكل مقطوعة موسيقية طبيعية .
بباب دكان حسين بن شنوان ، هناك فسحة يجلس عليها كريم بن حماد وبعض رجال القرية يلعبون لعبة السيجة ، فيما تنتشر في الفضاء أصوات صرصار الليل وأصوات الضفادع المنبعثة من بركة القرية التي تشبه المستنقع ، وتمتزج الأصوات جميعها بعضها ببعض ( بسيمفونية) سحرية خالدة .
بباب الدكان كانت تصنع الحكايات ، كنت أحب الجلوس في الأمسيات لأستمع إلى أحاديث الرجال التي تعبر عن أحداث مرت بهم ومصائب حلت عليهم ، لدرجة كان يجف ريقي من هول ما اسمع .
كان حسين يشعل الفانوس الذي يعمل على الجاز ( الكيروسين ) عندما جلست أنا مسترخيا ومتناسيا الأوامر البيتية الصارمة ،والتي تتلخص في عدم الخروج من المنزل عند قدوم المساء .
سعل حمدو بشدة حتى توقع الجميع أنه سيموت لو استمر في السعال بهذا الشكل ، لم يعد يقدر على استرداد أنفاسه ، وطال الأمر لدرجة تجمدت بمكاني أنتظر النتيجة المفجعة ، لكن سرعان ما تمخض عنه أن بصق مضغة بحجم البيضة ، قذفها بعيداِ بطريقة إعتاد عليها وقال بعد أن استرد أنفاسه بلهجته القروية الفجة:
- لعنة الله على هالدخان ... الدخان الهيشي قتلني يا جماعة .
- مليح ما قضى عليك يا رجال ... اتركه أو دخن دخان شامي أحسن إلك وأخف .
قال كريم وهو يفرك بباطن كفه ورق دخان "الهيشي ) ذو الرائحة الفتاكة ،الذي يكفي أن تجلس بجواره حتى تنفجر من السعال ، لذلك انتابتني نوبة من _ العطس _ المتواصل بسبب قربي الشديد منه .
لكني لم اشعر باشمئزاز بسبب ذلك ، بل كانت هذه الرائحة جزء من الجو السحري الذي أعيشه هذه اللحظات .
كان الليل يرخي سدوله على المكان ، وانشغلت أراقب النجمات التي بدت تظهر في السماء وبدت لي أنها هي التي تصدر تلك (السيمفونية ) وتلك الأصوات الليلية ، واستسلمت بكل حواسي لهذا المشهد البديع .
تنبهت بعد لحظات لوجود زعل الذلاق في الجلسة ، فيما حسين يقوم بتعليق الفانوس على جدار الدكان مستخدما عصا دست بين حجارة الجدار ، لكن فتيلة الفانوس بدأت تخبو وتخرج سناجا اسود مما دفع محمود إلى القول مداعبا :
- ما أجت الفتيلة تخرب .. إلا لما جانا زعل ..؟
- يا سيدي نوره كفاية ... نورين مضويات مع بعضهم البعض ما بصير .
صاح كريم ممازحا ، فيما لاذ زعل بصمت مطبق ، وهو يعبث بعلبة تبغه وقداحته بعصبية ليست مفتعلة .. مما دفع حسين أن يقول متسائلا :
- شو مالك يا أبو محمد ..؟ !! أنت مش على عوايدك ...؟ شو فيه عندك ..؟
- الله يستر ... أكيد صاير معك اشي غريب وعجيب مثل عوايدك ..؟
قال كريم ، حوقل زعل وفتح علبة تبغه ووضع بين أصابعه النحيلة ورقة (الأوتومان ) وفرك بأصابع يده الأخرى أوراق التبغ وقال :
- صار معي قصة ليلة أمس لا يصدقها احد ..
مر فترة صمت لبعض الوقت قبل أن يتابع ويقول :
- أمس لما نزلت على الوادي (البكساسة ) * كنت اركب على حماري الأخضر .
قاطعه كريم :
- على حد علمي حمارك لونه اسمر ...؟
- بقلك حماري أخضر .. شوفه قد البغل .. علوه علو البغل .
أجاب زعل وهو يشير بيده اليمنى إلى ارتفاع حماره ، في حين كانت يده اليسرى ممسكة بالعلبة والسيجارة وتابع قائلا :
- حماري قد البغل ... قول بغل يا أخي .
قال ذلك بنبرة حاسمة .
صاح محمود :
- حمار ولا بغل .. اترك الرجال يكمل القصة .
كانت مداخلة محمود كافية لزعل بأن يقوم بلف سيجارته يبلل أطراف ورق الاوتومان بطرف لسانه ويقرض أطرافها ويغلق علبة التبغ بيده الأخرى ..ووضعها في زاوية فمه ، وهنا استحثه محمود قائلا :
- أكمل يا أبو محمد.
انشغل زعل في إشعال سيجارته ، لكن قداحته لم تشتعل وبعد عدة محاولات فاشلة قال حسين وهو يتقدم ويشعل له السيجارة :
- إلك عندي نص دزينة حجار قداحه ... كمل القصة يا رجال .
اشتعلت سيجارة زعل واسترسل في الحديث وبدأ يسرد القصة بشكل مثير ، فيما رحت أنا أتخيل الأحداث كما يرويها .
تخيلته يركب حمارا ضخما بحجم البغل ، الظلام دامس ، والحمار يشق طريقه نحو الجبال المحيطة بقريتنا من الغرب حيث لا انس ولا جان في تلك السهوب ، وبعد عدة كيلو مترات تبدأ منحدرات خطيرة وشديدة الوعورة وموحشة ، فبين الصخور وفي ألمغر الكثيرة والنتوآت الصخرية والمنحدرات ، تسكن الذئاب والضباع وابن آوى ، وبين الشجيرات وبين الصخور تنتشر الأفاعي السامة تبحث عن فريستها ، تخيلت زعل يحمل بندقية " الموزار" التي يحرص على حد زعمه أن تكون جاهزة للاستعمال السريع في لحظة الخطر .
تخيلته يحمل لوكسا ( مصباح ) يحتوي على ست بطاريات جافة على حد زعمه أيضا ... الظلام دامس ، وصوت وقع حوافر الحمار ترتفع وتتسارع حينا وتتباطأ حينا عندما يصل الحمار إلى منطقة شديدة الوعورة ، ثم تنشط من جديد .
زعل يسحب نفسا عميقا من سيجارته ، أصوات ابن آوى يتردد صداها بين الوديان والمنحدرات بشكل يبعث على الرهبة ، خيالات وذكريات ومناظر موتى تتسرب إلى خياله لتناسب الحالة العامة من الرهبة ، يتذكر موت صديقه عطا ، بل يراه شبحا ينتصب أمامه كل حين ، أفكار موحشة تراوده وتمعن في الولوج إلى قعر جمجمته ، يغذيها هذا الجو المشحون بالوحشة .
كل هذه التفاصيل رأيتها بخيالي فيما زعل يكمل قصته ، ثم توقف عن السرد وتوقف معها خيالي عن العمل ، وتحسست يده مكان علبة التبغ غير أن محمود كان قد لف له لفافة التبغ وأشعلها وقدمها إليه وسرعان ما قال بصوت لا يخلو من بحة :
- وين علبة التتن يا جماعة ..؟
- هذي علبة التتن حقك .. لفيت لك سيكارة تعمر راسك فيها ..كمل يا أبو محمد .
قال محمود وهو يعيد له علبة التبغ .
تناول زعل علبة التبغ من يد محمود وعدل من جلسته وتابع يسرد بقية الحكاية :
- والله ويوم إني وصلت للبكساسة ، نزلت عن ظهر الحمار ، ونزلت عنه الشد ، وربطته وعلقت له عليقه الشعير ، وفرشت الجودله * في جنب بيت فقوس ، وحطيت حجر وسادة إلي ، ولباروده في جنبي واللوكس أبو ست بطاريات تحت راسي ، وما صرت مرتمي على الجودله إلا وانا نايم .
ارتفعت يده إلى فمه وحاول إشعال سيجارته يشعلها مرة ثانية ، كان حسين يسبقه لإشعالها من جديد ، سحب نفسين عميقين ثم تابع :
- والله يا أخوان وانا بين النايم والصاحي .. واني بحس باشي يدفعني في جنبي .
هنا بدأ خيالي ينشط من جديد ، رأيته نائما في تلك الرقعة من الارض الموحشة ، وثمة شيء يدفعه ويلكزه ، يده النحيلة تمتد بحرص وهدوء الى اللوكس ، ويده الأخرى تمتد الى البندقية المجهزة للرماية ، نهض بسرعة خاطفة ، أزاح بقدمه تلك الفرشة المتهرئة ، وأضاء اللوكس عندها انتشرت بقعة ضوء دائرية ، فيما يده الأخرى على الزناد .
صاح زعل بقوة وجلس نصف جلسة متحفزا متمترسا ، توقف خيالي عن العمل حين توقف ليسحب نفسا من سيجارته .
عدت الى ببصري الى الجلسة انتظر بفارغ الصبر أن يكمل الحكاية وبعد قذف بعقب السيجارة قال :
- مديت البندقية وضويت اللوكس ، يتعرفوا شو شفت ..؟
ابتلعت ريقي الجاف بصعوبة ، في حين رد الجميع بالنفي ، عندها عاد الى جلسته مسترخيا وقال بهدوء وبرود :
- كانت يا إخوان فقوسه بتكبر ... كانت الفقوسة اللي تدفعني في جنبي ,
سرت همهمة بين الرجال ، ثم بدأـ الضحكات من هنا وهناك ، لكن خيالي الطفولي راح يرسم لي فقوسه ضخمة تجتاح قريتنا ، وتحاصر الأطفال في منازلهم .
بدأت أتخيل فقوسه تدخل بيتنا من النافذة ، تزحف نحوي تنوي قتلي ، ولم ينقذني من هذا الكابوس إلا صوت حسين وهو يقدم له حجارة القداحة قائلا :
- تفضل يا أبو محمد ، هي حجار القداحة اللي وعدتك فيها .
نهض الرجال ضاحكين ينفضون الأتربة التي علقت بمؤخراتهم ، في حين نهضت أنا متكاسلا متثاقلا ، ومتمنيا ألا تنتهي هذه الأمسية ، وسرعان ما عادت حسابات العودة الى البيت حيث العقاب العائلي الصارم .
انتهت
• البكساسة : اسم منطقة ارض زراعية
• الجودلة : هي فرشة من الملابس القديمة توضع لوقاية ظهر الحمار من الأذى .
قصة قصيرة
كانت القرية من بعيد تبدو للعيان كومة من الحجارة ، تتراص الدور الطينية جنبا إلى جنب بينما يفصلها من الأمام أزقة ضيقة ، أما السوق فكان بضعة دكاكين صغيرة تصطف الواحدة تلو الأخرى لتشكل نسقا مألوفا مع البنية العمرانية بشكل عام .
كان المساء ينسجم مع عودة رعاة الأغنام وصوت الأجراس المعلقة في أعناقها يمتزج بالثغاء وأصوات الرعاة ، وزعيق الأطفال ، ليشكل مقطوعة موسيقية طبيعية .
بباب دكان حسين بن شنوان ، هناك فسحة يجلس عليها كريم بن حماد وبعض رجال القرية يلعبون لعبة السيجة ، فيما تنتشر في الفضاء أصوات صرصار الليل وأصوات الضفادع المنبعثة من بركة القرية التي تشبه المستنقع ، وتمتزج الأصوات جميعها بعضها ببعض ( بسيمفونية) سحرية خالدة .
بباب الدكان كانت تصنع الحكايات ، كنت أحب الجلوس في الأمسيات لأستمع إلى أحاديث الرجال التي تعبر عن أحداث مرت بهم ومصائب حلت عليهم ، لدرجة كان يجف ريقي من هول ما اسمع .
كان حسين يشعل الفانوس الذي يعمل على الجاز ( الكيروسين ) عندما جلست أنا مسترخيا ومتناسيا الأوامر البيتية الصارمة ،والتي تتلخص في عدم الخروج من المنزل عند قدوم المساء .
سعل حمدو بشدة حتى توقع الجميع أنه سيموت لو استمر في السعال بهذا الشكل ، لم يعد يقدر على استرداد أنفاسه ، وطال الأمر لدرجة تجمدت بمكاني أنتظر النتيجة المفجعة ، لكن سرعان ما تمخض عنه أن بصق مضغة بحجم البيضة ، قذفها بعيداِ بطريقة إعتاد عليها وقال بعد أن استرد أنفاسه بلهجته القروية الفجة:
- لعنة الله على هالدخان ... الدخان الهيشي قتلني يا جماعة .
- مليح ما قضى عليك يا رجال ... اتركه أو دخن دخان شامي أحسن إلك وأخف .
قال كريم وهو يفرك بباطن كفه ورق دخان "الهيشي ) ذو الرائحة الفتاكة ،الذي يكفي أن تجلس بجواره حتى تنفجر من السعال ، لذلك انتابتني نوبة من _ العطس _ المتواصل بسبب قربي الشديد منه .
لكني لم اشعر باشمئزاز بسبب ذلك ، بل كانت هذه الرائحة جزء من الجو السحري الذي أعيشه هذه اللحظات .
كان الليل يرخي سدوله على المكان ، وانشغلت أراقب النجمات التي بدت تظهر في السماء وبدت لي أنها هي التي تصدر تلك (السيمفونية ) وتلك الأصوات الليلية ، واستسلمت بكل حواسي لهذا المشهد البديع .
تنبهت بعد لحظات لوجود زعل الذلاق في الجلسة ، فيما حسين يقوم بتعليق الفانوس على جدار الدكان مستخدما عصا دست بين حجارة الجدار ، لكن فتيلة الفانوس بدأت تخبو وتخرج سناجا اسود مما دفع محمود إلى القول مداعبا :
- ما أجت الفتيلة تخرب .. إلا لما جانا زعل ..؟
- يا سيدي نوره كفاية ... نورين مضويات مع بعضهم البعض ما بصير .
صاح كريم ممازحا ، فيما لاذ زعل بصمت مطبق ، وهو يعبث بعلبة تبغه وقداحته بعصبية ليست مفتعلة .. مما دفع حسين أن يقول متسائلا :
- شو مالك يا أبو محمد ..؟ !! أنت مش على عوايدك ...؟ شو فيه عندك ..؟
- الله يستر ... أكيد صاير معك اشي غريب وعجيب مثل عوايدك ..؟
قال كريم ، حوقل زعل وفتح علبة تبغه ووضع بين أصابعه النحيلة ورقة (الأوتومان ) وفرك بأصابع يده الأخرى أوراق التبغ وقال :
- صار معي قصة ليلة أمس لا يصدقها احد ..
مر فترة صمت لبعض الوقت قبل أن يتابع ويقول :
- أمس لما نزلت على الوادي (البكساسة ) * كنت اركب على حماري الأخضر .
قاطعه كريم :
- على حد علمي حمارك لونه اسمر ...؟
- بقلك حماري أخضر .. شوفه قد البغل .. علوه علو البغل .
أجاب زعل وهو يشير بيده اليمنى إلى ارتفاع حماره ، في حين كانت يده اليسرى ممسكة بالعلبة والسيجارة وتابع قائلا :
- حماري قد البغل ... قول بغل يا أخي .
قال ذلك بنبرة حاسمة .
صاح محمود :
- حمار ولا بغل .. اترك الرجال يكمل القصة .
كانت مداخلة محمود كافية لزعل بأن يقوم بلف سيجارته يبلل أطراف ورق الاوتومان بطرف لسانه ويقرض أطرافها ويغلق علبة التبغ بيده الأخرى ..ووضعها في زاوية فمه ، وهنا استحثه محمود قائلا :
- أكمل يا أبو محمد.
انشغل زعل في إشعال سيجارته ، لكن قداحته لم تشتعل وبعد عدة محاولات فاشلة قال حسين وهو يتقدم ويشعل له السيجارة :
- إلك عندي نص دزينة حجار قداحه ... كمل القصة يا رجال .
اشتعلت سيجارة زعل واسترسل في الحديث وبدأ يسرد القصة بشكل مثير ، فيما رحت أنا أتخيل الأحداث كما يرويها .
تخيلته يركب حمارا ضخما بحجم البغل ، الظلام دامس ، والحمار يشق طريقه نحو الجبال المحيطة بقريتنا من الغرب حيث لا انس ولا جان في تلك السهوب ، وبعد عدة كيلو مترات تبدأ منحدرات خطيرة وشديدة الوعورة وموحشة ، فبين الصخور وفي ألمغر الكثيرة والنتوآت الصخرية والمنحدرات ، تسكن الذئاب والضباع وابن آوى ، وبين الشجيرات وبين الصخور تنتشر الأفاعي السامة تبحث عن فريستها ، تخيلت زعل يحمل بندقية " الموزار" التي يحرص على حد زعمه أن تكون جاهزة للاستعمال السريع في لحظة الخطر .
تخيلته يحمل لوكسا ( مصباح ) يحتوي على ست بطاريات جافة على حد زعمه أيضا ... الظلام دامس ، وصوت وقع حوافر الحمار ترتفع وتتسارع حينا وتتباطأ حينا عندما يصل الحمار إلى منطقة شديدة الوعورة ، ثم تنشط من جديد .
زعل يسحب نفسا عميقا من سيجارته ، أصوات ابن آوى يتردد صداها بين الوديان والمنحدرات بشكل يبعث على الرهبة ، خيالات وذكريات ومناظر موتى تتسرب إلى خياله لتناسب الحالة العامة من الرهبة ، يتذكر موت صديقه عطا ، بل يراه شبحا ينتصب أمامه كل حين ، أفكار موحشة تراوده وتمعن في الولوج إلى قعر جمجمته ، يغذيها هذا الجو المشحون بالوحشة .
كل هذه التفاصيل رأيتها بخيالي فيما زعل يكمل قصته ، ثم توقف عن السرد وتوقف معها خيالي عن العمل ، وتحسست يده مكان علبة التبغ غير أن محمود كان قد لف له لفافة التبغ وأشعلها وقدمها إليه وسرعان ما قال بصوت لا يخلو من بحة :
- وين علبة التتن يا جماعة ..؟
- هذي علبة التتن حقك .. لفيت لك سيكارة تعمر راسك فيها ..كمل يا أبو محمد .
قال محمود وهو يعيد له علبة التبغ .
تناول زعل علبة التبغ من يد محمود وعدل من جلسته وتابع يسرد بقية الحكاية :
- والله ويوم إني وصلت للبكساسة ، نزلت عن ظهر الحمار ، ونزلت عنه الشد ، وربطته وعلقت له عليقه الشعير ، وفرشت الجودله * في جنب بيت فقوس ، وحطيت حجر وسادة إلي ، ولباروده في جنبي واللوكس أبو ست بطاريات تحت راسي ، وما صرت مرتمي على الجودله إلا وانا نايم .
ارتفعت يده إلى فمه وحاول إشعال سيجارته يشعلها مرة ثانية ، كان حسين يسبقه لإشعالها من جديد ، سحب نفسين عميقين ثم تابع :
- والله يا أخوان وانا بين النايم والصاحي .. واني بحس باشي يدفعني في جنبي .
هنا بدأ خيالي ينشط من جديد ، رأيته نائما في تلك الرقعة من الارض الموحشة ، وثمة شيء يدفعه ويلكزه ، يده النحيلة تمتد بحرص وهدوء الى اللوكس ، ويده الأخرى تمتد الى البندقية المجهزة للرماية ، نهض بسرعة خاطفة ، أزاح بقدمه تلك الفرشة المتهرئة ، وأضاء اللوكس عندها انتشرت بقعة ضوء دائرية ، فيما يده الأخرى على الزناد .
صاح زعل بقوة وجلس نصف جلسة متحفزا متمترسا ، توقف خيالي عن العمل حين توقف ليسحب نفسا من سيجارته .
عدت الى ببصري الى الجلسة انتظر بفارغ الصبر أن يكمل الحكاية وبعد قذف بعقب السيجارة قال :
- مديت البندقية وضويت اللوكس ، يتعرفوا شو شفت ..؟
ابتلعت ريقي الجاف بصعوبة ، في حين رد الجميع بالنفي ، عندها عاد الى جلسته مسترخيا وقال بهدوء وبرود :
- كانت يا إخوان فقوسه بتكبر ... كانت الفقوسة اللي تدفعني في جنبي ,
سرت همهمة بين الرجال ، ثم بدأـ الضحكات من هنا وهناك ، لكن خيالي الطفولي راح يرسم لي فقوسه ضخمة تجتاح قريتنا ، وتحاصر الأطفال في منازلهم .
بدأت أتخيل فقوسه تدخل بيتنا من النافذة ، تزحف نحوي تنوي قتلي ، ولم ينقذني من هذا الكابوس إلا صوت حسين وهو يقدم له حجارة القداحة قائلا :
- تفضل يا أبو محمد ، هي حجار القداحة اللي وعدتك فيها .
نهض الرجال ضاحكين ينفضون الأتربة التي علقت بمؤخراتهم ، في حين نهضت أنا متكاسلا متثاقلا ، ومتمنيا ألا تنتهي هذه الأمسية ، وسرعان ما عادت حسابات العودة الى البيت حيث العقاب العائلي الصارم .
انتهت
• البكساسة : اسم منطقة ارض زراعية
• الجودلة : هي فرشة من الملابس القديمة توضع لوقاية ظهر الحمار من الأذى .
تعليق