دعاء قديم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالجواد خفاجى
    عضو الملتقى
    • 18-07-2007
    • 49

    دعاء قديم

    --------------------------------------------------------------------------------

    قصة قصيرة
    عبدالجواد خفاجى


    [align=center]
    دعـاء قـديم[/align]


    [align=justify]
    كانت جدتى ـ رحمها الله ـ كلما جاءت لزيارة بيت ابنها الذى هو أبى تنظر إلىَّ بتأمل شديد ، وهى تحدجنى بعينيها الغائرتين فى محجريهما ، وأنا الجالس فوق مصطبتى خلف منضدة متهالكة عليها أكداس من الأوراق والكراريس والكتب المدرسية ، وكثير من المجلات والجرائد التى كان يجلبها أبى من القاهرة ، وغير ذلك المحبرة وأقلام الحبر وأقلام الرصاص، وبقية أدوات الكتابة ، وراديو " ترانزستور " صغير فى حجم الكفِّ ، ومصباح كيروسين نمرة خمسة .. أتذكر أنها ذات ليلة لم أكن وقتها قد تجاوزت العاشرة من عمرى ، وبعد أن فرغتْ من صلاة العشاء ، وهى المتجهة صوب القِبْلة ظلَّت تحدجنى كعادتها ، ثم رفعت يديها عاليًّا ، ودعت لى .. سمعتها تقول : " ربنا يكتِّر من أوراقك " .. هكذا نطقت ، وهكذا كان نص ابتهالها ..وفيما بدا أن الله ـ سبحانه ـ قد استجاب لها ، وأكثر بالفعل من أوراقى ، وها أنذا أقترب من الخمسين خريفًا ولم أعد مالكًا لشىء غير أوراقى البيضاء المكدسة التى أدشنها ؛ لأكتب فيها ، وأكداس من أوراقٍ أخرى كتبت فيها ، وغير ذلك أطنان من كتب قرأتها ، وأطنان من كتب تنتظر القراءة .. حتى لأن مشكلتى أضحت وأمست فى كيفية العثور على ورقة بعينها أريده الآن ، أو كتاب بعينه أريده الآن ، وإن كان ثمة مشكلة أخرى هى أننى لم أعد أستسيغ الحياة إلا بين هذه الأكداس والقناطير المقنطرة من الكتب والأوراق .
    والإشكالية أننى حقيقة لم أعد حرًّا كما كنت أيام كانت جدتى ترانى جالسًا خالى البال هانئًا بجلستى خلف منضدتى ، ويدى ممسكة بالقلم ، وأحيانًا إصبعى على أزرار الراديو الصغير ، وأحيانًا أخرى أقرأ بصوتٍ عالٍ فى كتاب " الدين " حتى تسمعنى وتفهمنى .
    لقد أمسيت مسئولاً عن أسرة كثيرة العدد ، لها مطالبها وأوراقها الأخرى؛ كى تعيش ، ولو على حدِّ الكفاف ، ولقد أضحى مطلوبًا منى أن أكون مالكًا لأوراق أخرى يسمونها أوراق النقد أو أوراق البنكنوت ، وفيما أظن أن جدتى لم تكن تقصدها ساعة أن دعت لى ، والنيَّة محلها القلب ، والقلب دليله العين ، وعين جدتى كانت على أوراق الكتابة والقراءة ساعة أن ابتهلتْ .. يا لك الله أيتها الجدة .. كيف هُنتُ عليكِ إلى هذا الحدُّ ، وكيف لم تشمل نيتك تلك الأوراق الأخرى التى يحترمها الناس ويقدرون مالكها ؟ ! .
    لقد ماتت الجدة وتركتنى لأوراقى الكثيرة ، ماتت مستريحة البال والضمير ، وقد استجاب الله لدعائها ؛ ورأتنى بأم عينها قبل أن تموت ، وأنا مستغرق بين أوراقى فى شرود لانهائى وأسف تليد ، وصمتٍ أشبه بصمت القبور ، رأتنى ـ رغم كلول بصرها فى أيامها الأخيرة ـ وأنا منهمك فى أكل جثث الموتى من كتاب إلى كتاب ، أقلب الصفحة تلو الصفحة ، وأقرأ حتى مطلع الفجر .. سمعتها أيضًا ـ وهى فى سكرات الموت ـ تكرر دعاءها مرة أخرى ! ، وفيما بدا أن الله ـ سبحانه ـ استجاب لدعائها للمرة الثانية ، والدليل أن أوراقى وكتبى تزيد يومًا بعد يوم ، وساعة بعد ساعة ، منذ تللك اللحظة التى اسلمت فيها جدتى الروح إلى بارئها ، وحتى هذه الساعة . ماتت جدتى وتركتنى لزوجة لا ترحم ، تأمرنى كما تأمر أولادها : " اكتب يا ولد .. اقرأ يا ولد " .. هى مسكينة ، تظن أننا يمكن أن نصل جميعنا إلى شىء من وراء القراءة والكتابة ، كما تظن أننا فى مجتمع يحترم العلم والأدب والثقافة ، ويقدر رجالهم .. هى تظن هكذا ، ومن ثم تشدِّدُ من أوامرها .. أنا شخصيًّا استجيب لأوامرها تلك ، ليس لأننى أخشاها ـ حاشا لله أن أخشى امرأة ـ ولكن لأننى أجد راحتى فى القراءة ، أحيانًا تظن المسكينة أننى أغشَّها وهى ترانى صامتًا أحدق فى صفحة الكتاب ؛ فتأمرنى : " اقرأ بصوتٍ عالٍ " ؛ فأقرأ بصوتٍ عالٍ .. الذى أخشاه حقيقة السؤال : وماذا بعد ؟ .. كثيرًا ما نويت أن أسألها : وماذا بعد ؟ ولكنى كنت أتراجع فى اللحظة التى يتهيأ فيها اللسان للكلام . أخيرًا فضَّلت أن نسير على عمانا ، ولا داعى للسؤال .
    فكرت مرة فى جدتى الثانية ( أم والدتى ) كى تدعو لى هى الأخرى بنفس دعاء جدتى الأولى مع تحوير طفيف فى النص ، فبدلاً من القول : " ربنا يكتِّر أوراقك " وحسب ، تقول : " ربنا يكتر أوراقك النقدية " .. هكذا فكرت ، وبحثت عن جدتى الثانية ، حتى قيل لى إنها تعيش فى القاهرة ، واجتهدت فى البحث والسؤال حتى حصلت على عنوانها من أجد عمال التراحيل الكهول ، ، قيل إنه كان يتردد على بيتها أثناء رحلاته المكوكية إلى القاهرة فى الستينيات ، وهكذا حكى لى ذلك الكهل أيضًا وهو يملى علىَّ العنوان .
    والحقيقة لم أتكاسل ، ولم أتوان ، وركبت قطار الصعيد المتجه إلى القاهرة ، وخضت تجربة البحث فى أحراش القاهرة الشعبية عن جدتى إلى أن وصلت العنوان المكتوب فى الورقة التى بللها العرق بين أصابعى ، وكانت المفاجأة أننى وجدت فى نفس العنوان محلين ، أحدهما تعلوه لافتة كُتِب عليها :" تسال القدس " والآخر تعلوه لافتة كُتِب عليها: " كوافير الصفا والمروة " ، وغير ذلك لم ألحظ بابًا أدلف منه إلى داخل المبنى الذى بدا حديثًا جدًا ، فيما بدا السؤال عن جدتى قديمًا جدًّا .. وفيما رحت أتساءل عن علاقة الصفا والمروة بالكوافير ، والقدس بالتسالى ، دلفت إلى محلٍ مقابل كان يجلس فيه رجل كهل منكفئٌ على نعلٍ قديم يعمل فيه بمغرزه .. سألته عن جدى وجدتى فتبسم ، وتأملنى مليًّا ، ثم قال : " الله يرحم أيامها .. مدفونين فى قرافة قايتباى .. روح اقرا على روحهما الفاتحة.. " .
    والحقيقة أننى لم أذهب إلى القرافة ، ولم أقرأ على روحهما الفاتحة ، وقد أصبت بصدمة ، وبخيبة أمل كبيرة ، وكان علىَّ أن استقل قطار الصعيد لأعود من حيث أتيت . وها أنا عائد إلى أوراقى المكدسة وإلى زوجةٍ تأمرنى : " اقرأ يا ولد .. اكتب يا ولد .. " ، وسأواجه نفس المصير المطيَّن بالطين .[/align]



    ( تمت )

    عبدالجواد خفاجى
    e.m:khfajy58@yahoo.c om
    [B][size=5][font=Simplified Arabic][color=#800080]لأنى استنطق الصمت كان لابد أن أُسْكِتَ الضجيج [/color][/font][/size][/B]
  • عبلة محمد زقزوق
    أديب وكاتب
    • 16-05-2007
    • 1819

    #2
    هههههههههههههه
    سأدعو لكَ الله بقلب خالص ان يكثر من أوراقك النقدية... ويرزقك من حيث لا تحتسب بما يرضيك ويكفيك... فيغنيك
    والدعاء من جدتك الروحية عبلة زقزوق
    قل آمين
    ههههههههههههه

    عندما ينطق لسان القلب بالدعاء للأبناء نظن أننا أوفيناهم حقهم بجميل الرجاء لله
    ولكن نتناسى ما سوف تقدم عليه الأيام مع هؤلاء الأبناء فنظنهم سيعيشون في رغد نعيمنا مدى عمرهم الطويل
    فنغفل عن الدعاء لهم بما يسعدهم ويرضيهم في مواجهة صعوبات الحياة
    بدوام الصحة والرزق والسلامة من كل مكروه كان.

    وختاماً:
    رحم الله أمواتنا وأموات المسلمين أجمعين
    وسلمك الله وحفظك انت واسرتك الكريمة اخينا الفاضل
    ـ عبد الجواد خفاجي
    ولا تنسانا بمثل جميل الدعاء
    فجميعنا في اشد الحاجة لطيب الدعاء
    التعديل الأخير تم بواسطة عبلة محمد زقزوق; الساعة 22-07-2007, 06:24.

    تعليق

    • عبدالجواد خفاجى
      عضو الملتقى
      • 18-07-2007
      • 49

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة عبلة محمد زقزوق مشاهدة المشاركة
      هههههههههههههه
      سأدعو لكَ الله بقلب خالص ان يكثر من أوراقك النقدية... ويرزقك من حيث لا تحتسب بما يرضيك ويكفيك... فيغنيك
      والدعاء من جدتك الروحية عبلة زقزوق
      قل آمين
      ههههههههههههه

      عندما ينطق لسان القلب بالدعاء للأبناء نظن أننا أوفيناهم حقهم بجميل الرجاء لله
      ولكن نتناسى ما سوف تقدم عليه الأيام مع هؤلاء الأبناء فنظنهم سيعيشون في رغد نعيمنا مدى عمرهم الطويل
      فنغفل عن الدعاء لهم بما يسعدهم ويرضيهم في مواجهة صعوبات الحياة
      بدوام الصحة والرزق والسلامة من كل مكروه كان.

      وختاماً:
      رحم الله أمواتنا وأموات المسلمين أجمعين
      وسلمك الله وحفظك انت واسرتك الكريمة اخينا الفاضل
      ـ عبد الجواد خفاجي
      ولا تنسانا بمثل جميل الدعاء
      فجميعنا في اشد الحاجة لطيب الدعاء

      الأديبةالجادة / عبلة محمد زقزوق
      لك التحية والتجلَّة
      أسعدنى توقفك الكريم عند النص ، وسعدت أكثر بالتعليق اللطيف الذى يشف عن إنسانيتك الوارفة ، وذوقك المتميز .
      حقيقة لك منى الدعاء أيضًا بطول العمر والصحة ، وموفور السعادة ، لا حرمنا الله من دعواتك ومن خفة ظلك ، ومن إنسانيتك التى أمطرتنى دعاءً ولطفًا وتمنيات .

      لكنى حقيقة توقفت عند هذا الذى يحدث ـ فى الغالب ــــ عندما يخلط المتلقون للنصوص القصصية بين الراوى والمؤلف .. مثل هذا الخلط يحدث كثيرًا بين بطل القصة / الشخصية المحورية التى تسرد خاصة إذا كانت تسرد بضمير الـ" أنا " وبين المؤلف نفسه أو كاتب النص الذى ـ من المفترض ـ أنه مستقل عن الشخصية القصصية الساردة ( الراوى / السارد ) .. المؤلف بالضرورة مستقل عن شخصيات قصصه ، وعن الرواة أو الساردين حتى وإن جاء القص بضمير الـ " أنا " .. السارد / الراوى شخصية وهمية اخترعها المؤلف لأداء دور سردى ، ومن ثم هى أداة من ضمن الأدواة الفنية ، فى حين أن المؤلف شخصية حقيقة تقع خارج النص ، وهو صاحب أو مخترع لعشرات الساردين الذين يسردون بضمائر مختلفة فى مجمل نصوصه التى كتبها .
      لذا استميحك العذر ، بضرورة الفصل بين الراوية ( السارد / بطل القصة الذى يقص بضمير الأنا ) وبين المؤلف عبدالجواد خفاجى مخترع هذا السارد / الأداة . لعلنى أحترز بهذا الفصل الضرورى من انسحاب أحداث القصة المتخيلة ( غير الحقيقية )على تفاصيل حياتى ( الحقيقية ) المغايرة والبعيدة تمامًا عن محتوى القصة ، ومن ثم حتى لا يظنن ظان أن هذه القصة إنما هى سرد لوقائع حقيقة أو سيرة ذاتية والأمر ليس كذلك .
      كل ما يمكن أن يكون بين النص ومؤلفه هو تلك الرؤية التى يتضمنها النص والتى يمكن إلصاقها بالمؤلف باعتبار أنه سخَّر كل أدوات النص ( اللغة ـ آليات السرد ـ السارد .... ....... إلخ ) من أجل توصيل تلك الرؤية .
      لك تحيات ومودة عبدالجواد خفاجى
      التعديل الأخير تم بواسطة عبدالجواد خفاجى; الساعة 23-07-2007, 00:51.
      [B][size=5][font=Simplified Arabic][color=#800080]لأنى استنطق الصمت كان لابد أن أُسْكِتَ الضجيج [/color][/font][/size][/B]

      تعليق

      • عبلة محمد زقزوق
        أديب وكاتب
        • 16-05-2007
        • 1819

        #4
        هههههههههههههه
        مع العذر أخينا الفاضل والكاتب الروائي جميل الحرف والفكرة والسرد الشيق
        عبد الجواد خفاجي
        نعم يا أخي صدق حرفك لذا ألتمس منك العذر
        برغم أنني عندما سطرت التعليق كنت اعلم انها مشاعر كاتب اتت اليه نتيجة عوامل داخلية او خارجية آثرت أو أثرت في مشاعر فكره .... ولكن كما يقال يا أخي القافية تحكم.... فجاء الرد هكذا.

        أخينا الفاضل الأديب الروائي عبد الجواد خفاجي
        أنني أقدر وأثمن ما جاء على لسان المداد منكم في الرد على التعليق حيث أنني اعتبره بمثابة تشريح لحالة الكاتب لحظة الكتابة وتذكرة وعلم.

        فجميعنا كتاب ولنا مع تفاعلات الاحداث الشخصية والغير الشخصية وقفات بمداد الفكر لذا نعلم جيدا الحالة المزاجية المصاحبة لكل موضوع يسطر بانامل الفكر.
        فأرجو أن تتقبل مني وافر ودي وتقديري واحترامي لمداد الفكر منكم دائما وابدا
        أختكم في الله

        تعليق

        • عبدالجواد خفاجى
          عضو الملتقى
          • 18-07-2007
          • 49

          #5
          فأرجو أن تتقبل مني وافر ودي وتقديري واحترامي لمداد الفكر منكم دائما وابدا
          أختكم في الله
          ::::
          لا عليك أديبتنا الفاضلة / عبلة محمد زقزوق
          تحياتى مرة أخرى وأشكر تفضلك بالعودة إلى الموضوع
          وكل عام وأنتم بخير بمناسبة رمضان الكريم
          دمتى طيبة
          [B][size=5][font=Simplified Arabic][color=#800080]لأنى استنطق الصمت كان لابد أن أُسْكِتَ الضجيج [/color][/font][/size][/B]

          تعليق

          يعمل...
          X