--------------------------------------------------------------------------------
قصة قصيرة
عبدالجواد خفاجى
[align=center]
دعـاء قـديم[/align]
[align=justify]
كانت جدتى ـ رحمها الله ـ كلما جاءت لزيارة بيت ابنها الذى هو أبى تنظر إلىَّ بتأمل شديد ، وهى تحدجنى بعينيها الغائرتين فى محجريهما ، وأنا الجالس فوق مصطبتى خلف منضدة متهالكة عليها أكداس من الأوراق والكراريس والكتب المدرسية ، وكثير من المجلات والجرائد التى كان يجلبها أبى من القاهرة ، وغير ذلك المحبرة وأقلام الحبر وأقلام الرصاص، وبقية أدوات الكتابة ، وراديو " ترانزستور " صغير فى حجم الكفِّ ، ومصباح كيروسين نمرة خمسة .. أتذكر أنها ذات ليلة لم أكن وقتها قد تجاوزت العاشرة من عمرى ، وبعد أن فرغتْ من صلاة العشاء ، وهى المتجهة صوب القِبْلة ظلَّت تحدجنى كعادتها ، ثم رفعت يديها عاليًّا ، ودعت لى .. سمعتها تقول : " ربنا يكتِّر من أوراقك " .. هكذا نطقت ، وهكذا كان نص ابتهالها ..وفيما بدا أن الله ـ سبحانه ـ قد استجاب لها ، وأكثر بالفعل من أوراقى ، وها أنذا أقترب من الخمسين خريفًا ولم أعد مالكًا لشىء غير أوراقى البيضاء المكدسة التى أدشنها ؛ لأكتب فيها ، وأكداس من أوراقٍ أخرى كتبت فيها ، وغير ذلك أطنان من كتب قرأتها ، وأطنان من كتب تنتظر القراءة .. حتى لأن مشكلتى أضحت وأمست فى كيفية العثور على ورقة بعينها أريده الآن ، أو كتاب بعينه أريده الآن ، وإن كان ثمة مشكلة أخرى هى أننى لم أعد أستسيغ الحياة إلا بين هذه الأكداس والقناطير المقنطرة من الكتب والأوراق .
والإشكالية أننى حقيقة لم أعد حرًّا كما كنت أيام كانت جدتى ترانى جالسًا خالى البال هانئًا بجلستى خلف منضدتى ، ويدى ممسكة بالقلم ، وأحيانًا إصبعى على أزرار الراديو الصغير ، وأحيانًا أخرى أقرأ بصوتٍ عالٍ فى كتاب " الدين " حتى تسمعنى وتفهمنى .
لقد أمسيت مسئولاً عن أسرة كثيرة العدد ، لها مطالبها وأوراقها الأخرى؛ كى تعيش ، ولو على حدِّ الكفاف ، ولقد أضحى مطلوبًا منى أن أكون مالكًا لأوراق أخرى يسمونها أوراق النقد أو أوراق البنكنوت ، وفيما أظن أن جدتى لم تكن تقصدها ساعة أن دعت لى ، والنيَّة محلها القلب ، والقلب دليله العين ، وعين جدتى كانت على أوراق الكتابة والقراءة ساعة أن ابتهلتْ .. يا لك الله أيتها الجدة .. كيف هُنتُ عليكِ إلى هذا الحدُّ ، وكيف لم تشمل نيتك تلك الأوراق الأخرى التى يحترمها الناس ويقدرون مالكها ؟ ! .
لقد ماتت الجدة وتركتنى لأوراقى الكثيرة ، ماتت مستريحة البال والضمير ، وقد استجاب الله لدعائها ؛ ورأتنى بأم عينها قبل أن تموت ، وأنا مستغرق بين أوراقى فى شرود لانهائى وأسف تليد ، وصمتٍ أشبه بصمت القبور ، رأتنى ـ رغم كلول بصرها فى أيامها الأخيرة ـ وأنا منهمك فى أكل جثث الموتى من كتاب إلى كتاب ، أقلب الصفحة تلو الصفحة ، وأقرأ حتى مطلع الفجر .. سمعتها أيضًا ـ وهى فى سكرات الموت ـ تكرر دعاءها مرة أخرى ! ، وفيما بدا أن الله ـ سبحانه ـ استجاب لدعائها للمرة الثانية ، والدليل أن أوراقى وكتبى تزيد يومًا بعد يوم ، وساعة بعد ساعة ، منذ تللك اللحظة التى اسلمت فيها جدتى الروح إلى بارئها ، وحتى هذه الساعة . ماتت جدتى وتركتنى لزوجة لا ترحم ، تأمرنى كما تأمر أولادها : " اكتب يا ولد .. اقرأ يا ولد " .. هى مسكينة ، تظن أننا يمكن أن نصل جميعنا إلى شىء من وراء القراءة والكتابة ، كما تظن أننا فى مجتمع يحترم العلم والأدب والثقافة ، ويقدر رجالهم .. هى تظن هكذا ، ومن ثم تشدِّدُ من أوامرها .. أنا شخصيًّا استجيب لأوامرها تلك ، ليس لأننى أخشاها ـ حاشا لله أن أخشى امرأة ـ ولكن لأننى أجد راحتى فى القراءة ، أحيانًا تظن المسكينة أننى أغشَّها وهى ترانى صامتًا أحدق فى صفحة الكتاب ؛ فتأمرنى : " اقرأ بصوتٍ عالٍ " ؛ فأقرأ بصوتٍ عالٍ .. الذى أخشاه حقيقة السؤال : وماذا بعد ؟ .. كثيرًا ما نويت أن أسألها : وماذا بعد ؟ ولكنى كنت أتراجع فى اللحظة التى يتهيأ فيها اللسان للكلام . أخيرًا فضَّلت أن نسير على عمانا ، ولا داعى للسؤال .
فكرت مرة فى جدتى الثانية ( أم والدتى ) كى تدعو لى هى الأخرى بنفس دعاء جدتى الأولى مع تحوير طفيف فى النص ، فبدلاً من القول : " ربنا يكتِّر أوراقك " وحسب ، تقول : " ربنا يكتر أوراقك النقدية " .. هكذا فكرت ، وبحثت عن جدتى الثانية ، حتى قيل لى إنها تعيش فى القاهرة ، واجتهدت فى البحث والسؤال حتى حصلت على عنوانها من أجد عمال التراحيل الكهول ، ، قيل إنه كان يتردد على بيتها أثناء رحلاته المكوكية إلى القاهرة فى الستينيات ، وهكذا حكى لى ذلك الكهل أيضًا وهو يملى علىَّ العنوان .
والحقيقة لم أتكاسل ، ولم أتوان ، وركبت قطار الصعيد المتجه إلى القاهرة ، وخضت تجربة البحث فى أحراش القاهرة الشعبية عن جدتى إلى أن وصلت العنوان المكتوب فى الورقة التى بللها العرق بين أصابعى ، وكانت المفاجأة أننى وجدت فى نفس العنوان محلين ، أحدهما تعلوه لافتة كُتِب عليها :" تسال القدس " والآخر تعلوه لافتة كُتِب عليها: " كوافير الصفا والمروة " ، وغير ذلك لم ألحظ بابًا أدلف منه إلى داخل المبنى الذى بدا حديثًا جدًا ، فيما بدا السؤال عن جدتى قديمًا جدًّا .. وفيما رحت أتساءل عن علاقة الصفا والمروة بالكوافير ، والقدس بالتسالى ، دلفت إلى محلٍ مقابل كان يجلس فيه رجل كهل منكفئٌ على نعلٍ قديم يعمل فيه بمغرزه .. سألته عن جدى وجدتى فتبسم ، وتأملنى مليًّا ، ثم قال : " الله يرحم أيامها .. مدفونين فى قرافة قايتباى .. روح اقرا على روحهما الفاتحة.. " .
والحقيقة أننى لم أذهب إلى القرافة ، ولم أقرأ على روحهما الفاتحة ، وقد أصبت بصدمة ، وبخيبة أمل كبيرة ، وكان علىَّ أن استقل قطار الصعيد لأعود من حيث أتيت . وها أنا عائد إلى أوراقى المكدسة وإلى زوجةٍ تأمرنى : " اقرأ يا ولد .. اكتب يا ولد .. " ، وسأواجه نفس المصير المطيَّن بالطين .[/align]
( تمت )
عبدالجواد خفاجى
e.m:khfajy58@yahoo.c om
قصة قصيرة
عبدالجواد خفاجى
[align=center]
دعـاء قـديم[/align]
[align=justify]
كانت جدتى ـ رحمها الله ـ كلما جاءت لزيارة بيت ابنها الذى هو أبى تنظر إلىَّ بتأمل شديد ، وهى تحدجنى بعينيها الغائرتين فى محجريهما ، وأنا الجالس فوق مصطبتى خلف منضدة متهالكة عليها أكداس من الأوراق والكراريس والكتب المدرسية ، وكثير من المجلات والجرائد التى كان يجلبها أبى من القاهرة ، وغير ذلك المحبرة وأقلام الحبر وأقلام الرصاص، وبقية أدوات الكتابة ، وراديو " ترانزستور " صغير فى حجم الكفِّ ، ومصباح كيروسين نمرة خمسة .. أتذكر أنها ذات ليلة لم أكن وقتها قد تجاوزت العاشرة من عمرى ، وبعد أن فرغتْ من صلاة العشاء ، وهى المتجهة صوب القِبْلة ظلَّت تحدجنى كعادتها ، ثم رفعت يديها عاليًّا ، ودعت لى .. سمعتها تقول : " ربنا يكتِّر من أوراقك " .. هكذا نطقت ، وهكذا كان نص ابتهالها ..وفيما بدا أن الله ـ سبحانه ـ قد استجاب لها ، وأكثر بالفعل من أوراقى ، وها أنذا أقترب من الخمسين خريفًا ولم أعد مالكًا لشىء غير أوراقى البيضاء المكدسة التى أدشنها ؛ لأكتب فيها ، وأكداس من أوراقٍ أخرى كتبت فيها ، وغير ذلك أطنان من كتب قرأتها ، وأطنان من كتب تنتظر القراءة .. حتى لأن مشكلتى أضحت وأمست فى كيفية العثور على ورقة بعينها أريده الآن ، أو كتاب بعينه أريده الآن ، وإن كان ثمة مشكلة أخرى هى أننى لم أعد أستسيغ الحياة إلا بين هذه الأكداس والقناطير المقنطرة من الكتب والأوراق .
والإشكالية أننى حقيقة لم أعد حرًّا كما كنت أيام كانت جدتى ترانى جالسًا خالى البال هانئًا بجلستى خلف منضدتى ، ويدى ممسكة بالقلم ، وأحيانًا إصبعى على أزرار الراديو الصغير ، وأحيانًا أخرى أقرأ بصوتٍ عالٍ فى كتاب " الدين " حتى تسمعنى وتفهمنى .
لقد أمسيت مسئولاً عن أسرة كثيرة العدد ، لها مطالبها وأوراقها الأخرى؛ كى تعيش ، ولو على حدِّ الكفاف ، ولقد أضحى مطلوبًا منى أن أكون مالكًا لأوراق أخرى يسمونها أوراق النقد أو أوراق البنكنوت ، وفيما أظن أن جدتى لم تكن تقصدها ساعة أن دعت لى ، والنيَّة محلها القلب ، والقلب دليله العين ، وعين جدتى كانت على أوراق الكتابة والقراءة ساعة أن ابتهلتْ .. يا لك الله أيتها الجدة .. كيف هُنتُ عليكِ إلى هذا الحدُّ ، وكيف لم تشمل نيتك تلك الأوراق الأخرى التى يحترمها الناس ويقدرون مالكها ؟ ! .
لقد ماتت الجدة وتركتنى لأوراقى الكثيرة ، ماتت مستريحة البال والضمير ، وقد استجاب الله لدعائها ؛ ورأتنى بأم عينها قبل أن تموت ، وأنا مستغرق بين أوراقى فى شرود لانهائى وأسف تليد ، وصمتٍ أشبه بصمت القبور ، رأتنى ـ رغم كلول بصرها فى أيامها الأخيرة ـ وأنا منهمك فى أكل جثث الموتى من كتاب إلى كتاب ، أقلب الصفحة تلو الصفحة ، وأقرأ حتى مطلع الفجر .. سمعتها أيضًا ـ وهى فى سكرات الموت ـ تكرر دعاءها مرة أخرى ! ، وفيما بدا أن الله ـ سبحانه ـ استجاب لدعائها للمرة الثانية ، والدليل أن أوراقى وكتبى تزيد يومًا بعد يوم ، وساعة بعد ساعة ، منذ تللك اللحظة التى اسلمت فيها جدتى الروح إلى بارئها ، وحتى هذه الساعة . ماتت جدتى وتركتنى لزوجة لا ترحم ، تأمرنى كما تأمر أولادها : " اكتب يا ولد .. اقرأ يا ولد " .. هى مسكينة ، تظن أننا يمكن أن نصل جميعنا إلى شىء من وراء القراءة والكتابة ، كما تظن أننا فى مجتمع يحترم العلم والأدب والثقافة ، ويقدر رجالهم .. هى تظن هكذا ، ومن ثم تشدِّدُ من أوامرها .. أنا شخصيًّا استجيب لأوامرها تلك ، ليس لأننى أخشاها ـ حاشا لله أن أخشى امرأة ـ ولكن لأننى أجد راحتى فى القراءة ، أحيانًا تظن المسكينة أننى أغشَّها وهى ترانى صامتًا أحدق فى صفحة الكتاب ؛ فتأمرنى : " اقرأ بصوتٍ عالٍ " ؛ فأقرأ بصوتٍ عالٍ .. الذى أخشاه حقيقة السؤال : وماذا بعد ؟ .. كثيرًا ما نويت أن أسألها : وماذا بعد ؟ ولكنى كنت أتراجع فى اللحظة التى يتهيأ فيها اللسان للكلام . أخيرًا فضَّلت أن نسير على عمانا ، ولا داعى للسؤال .
فكرت مرة فى جدتى الثانية ( أم والدتى ) كى تدعو لى هى الأخرى بنفس دعاء جدتى الأولى مع تحوير طفيف فى النص ، فبدلاً من القول : " ربنا يكتِّر أوراقك " وحسب ، تقول : " ربنا يكتر أوراقك النقدية " .. هكذا فكرت ، وبحثت عن جدتى الثانية ، حتى قيل لى إنها تعيش فى القاهرة ، واجتهدت فى البحث والسؤال حتى حصلت على عنوانها من أجد عمال التراحيل الكهول ، ، قيل إنه كان يتردد على بيتها أثناء رحلاته المكوكية إلى القاهرة فى الستينيات ، وهكذا حكى لى ذلك الكهل أيضًا وهو يملى علىَّ العنوان .
والحقيقة لم أتكاسل ، ولم أتوان ، وركبت قطار الصعيد المتجه إلى القاهرة ، وخضت تجربة البحث فى أحراش القاهرة الشعبية عن جدتى إلى أن وصلت العنوان المكتوب فى الورقة التى بللها العرق بين أصابعى ، وكانت المفاجأة أننى وجدت فى نفس العنوان محلين ، أحدهما تعلوه لافتة كُتِب عليها :" تسال القدس " والآخر تعلوه لافتة كُتِب عليها: " كوافير الصفا والمروة " ، وغير ذلك لم ألحظ بابًا أدلف منه إلى داخل المبنى الذى بدا حديثًا جدًا ، فيما بدا السؤال عن جدتى قديمًا جدًّا .. وفيما رحت أتساءل عن علاقة الصفا والمروة بالكوافير ، والقدس بالتسالى ، دلفت إلى محلٍ مقابل كان يجلس فيه رجل كهل منكفئٌ على نعلٍ قديم يعمل فيه بمغرزه .. سألته عن جدى وجدتى فتبسم ، وتأملنى مليًّا ، ثم قال : " الله يرحم أيامها .. مدفونين فى قرافة قايتباى .. روح اقرا على روحهما الفاتحة.. " .
والحقيقة أننى لم أذهب إلى القرافة ، ولم أقرأ على روحهما الفاتحة ، وقد أصبت بصدمة ، وبخيبة أمل كبيرة ، وكان علىَّ أن استقل قطار الصعيد لأعود من حيث أتيت . وها أنا عائد إلى أوراقى المكدسة وإلى زوجةٍ تأمرنى : " اقرأ يا ولد .. اكتب يا ولد .. " ، وسأواجه نفس المصير المطيَّن بالطين .[/align]
( تمت )
عبدالجواد خفاجى
e.m:khfajy58@yahoo.c om
تعليق