[align=justify][align=right][align=center]مطــرٌ أســود[/align]
أفاق من نومه يرنو لسعةٍ من ثنايا الحلم، ارتدى معطفه الأبيض ولفحته البيضاء، امتدت يده إلى زجاجة عطره استعداداً لارتياد قلب المدينة البيضاء ذات الأمل والغناء والحسناوات والعصافير المغردة وأشكال الجمال من كل لون.
لكَم تمنى رؤيتها منذ أن انشق عنه طوق الوعي عند الثالثة عشرة من عمره وهو يحلم بذاك الصخب الذي طالما عزف سحره وروعته على أوتار سمعه.
غادر البيت ووقف ينتظر مرور مركبة تقلّه إلى مدينة الأحلام، انتظر إحدى وعشرين دقيقة حتى توقفت أمامه مركبة بدون سائق، استقلها وانطلقت به، كانت تسير بسرعة جنونية ولكنها لم تزل أمام بيته في نفس المكان تقذف الرماد على ثوب الحرير.
بينما كان يرتشف قطرات الدهشة، أخذ المقعد يهبط للأسفل وينحسر من تحته حتى شعر بجسمة يحتكّ بقار الشارع ثم سقط من ثقب في أسفل المركبة، وقف ينتظر أخرى وأسرّ في نفسه ألا يستقل مركبةً بدون سائق.
مجدداً وقفت بالقرب منه حافلة، نظر داخلها فرأي السائق وركاب آخرين، صعد إليها مطمئناً واتخذ مجلسه إلى جوار أحدهم، انطلقت بهم.
"ترى كم من الوقت تستغرق للوصول إلى قلب المدينة؟"
همّ ليسأل مَن بجواره فإذا به يراه فأراً كبيرا، قام ليغير مكانه فوجد جميع الركاب فئران تجلس على المقاعد، أما السائق فقد غدا أفعواناً أسود برأسٍ ضخم سرعان ما تحرك باتجاه الفئران تاركاً ذيله ليتحكم بالمقود، ولقف واحداً وعشرين فأراً ثم تقدم نحوه فاتحاً فكيه الكبيرين يريد التهامه، فما كان أمامه للخلاص إلا أن يقفز من النافذة خارج الحافلة مفضّلا الارتطام على المبيت في جوف أفعى.
أفاق من لحظته على سخونة دمائه النازفة، وبإصابع مرتجفة أخذ يسحب من فمه خيوط دماءٍ كانت تتجمد لتغدو كالمطاط الأسود، سحب واحداً تلو الآخر، توقف النزف بعدما تجمع لديه واحدٌ وعشرون خيطا.
نفض غبار معطفه ووقف ينتظر من جديد.
ما أقسى حضور حالته هذه، رنّ هاتفه النقال.
على الطرف الآخر: اشتقت إليكَ
: شوقي لكِ لا يبدَّد
: أين انت؟
: في قلب المدينة البيضاء
: ماذا تفعل؟
: أقطف الحلم عن أهداب الصباح، أشم العطر من طاقات المسك، أغازل زهوراً تملأ أوعية الهواء، أرتوي الزلال وأسكب اللبن في أكواب موضوعة، هنا في المدينة البيضاء أقشّر حبّات اللؤلؤ وأضع القشر في حافظتي، أغترف بيميني وشمالي من أنهارها
: إذن أنتَ في كرنفال!
: بل أبهى
: منذ متى؟
: حضرتُ منذ الساعة الثالثة عشرة وهاهي تعدّت الواحدة والعشرين ومازلتُ أتنقل في ساحاتها الفاتنة وميادينها الساحرة
: حسناً فلتهنأ يا بنيّ، ولكن أخبرني كلما فاض الضرع باللبن
: إن شاء الله يا أمي
:وداعاً يا أمل عمري.
قفل الهاتف ليعيده إلى جيبه فإذا به يتحرك في يده، نظر إليه فوجده برصاً قذراً أسود، قذفه بعيداً وهو لم يزل يقف أمام بيته في الشارع رقم واحد وعشرين.
قرر الذهاب مترجلاً فمازال لديه بعضٌ من طاقة، سار فوصل نهاية الشارع، ثم اتجه إلى اليسار في شارعٍ جديد على مدخله لافتة مكتوب عليها "أنت متجه إلى الشارع رقم اثنين وعشرين" ولكنه نفس الشارع الذي فيه بيته بنفس الأبنية والأسوار والأشجار التي يألفها، واصل السير حتى انفصل أحد نعليّ حذائه، فأكمل سيره بخطىً عرجاء حتى انقلب الجو وهبت رياح شديدة أشبه بالعاصفة كادت أن تذهب بلفحته لولا تشبّثه الشديد بها لتبقى ساترةً لأثر جرحٍ قديم في عنقه.
لم تستمر العاصفة كثيراً بل تمخّضت عن مطرٍ غزيرٍ صبغ ملابسه بلون ليالي الشتاء الحالكة، استمر هطول الأمطار حتى تكونت بحيرةٌ من مياه سوداء، وفيما هو يفكر كيف يمكنه اجتيازها، فإذا بتمساح يقترب من حافتها ويعرض عليه أن ينقله للضفة الأخرى على ظهره، تردد قليلاً وما أن لاحت في خياله أضواء المدينة قفز معتلياً ظهره، انطلق التمساح إلى عرض البحيرة، وبحركاتٍ عابثة أخذ يلف به دونما اقترابٍ من ضفافها، فأدرك عدم جديته في المساعدة وطلب منه أن يعيده إلى حيث أقلّه، شنّج التمساح جسمه فبرزت حراشفه كالإبر وراحت تؤلمه بوخزها حتى سقط من فوق ظهره إلى قاع البحيرة.
هنالك وجد امرأةً ترتدي ثوباً أسوداً تجلس القرفصاء أمام بقرةٍ سوداء تحلبها، اقترب منها وطلب كوباً من لبن إذ بلغ به الإرهاق والجوع مبلغه، تناولت المرأة كوباً وسكبت بعضاً مما في الإناء المتجمع فيه اللبن، أخذ ينظر إليه بلونه الأبيض المثير وسط هذا السواد الذي يلف كل شئ حوله ويمني نفسه بارتواءٍ قريب، ولكن اللبن كان يغور في الكوب إلى العدم، فكلما سكبت المرأة المزيد منه يبقى الكوب خالياً حتى نفذ كل ما لديها من لبن، دُهشت المرأة مما ترى وقالت له: ابتعد من هنا أيها السيئ الطالع.
تركها ومضى وقد انحدرت من عينيه إحدى وعشرون دمعة سوداء كانت تتحجّر كالخرز قبل وصولها إلى خديه، أخذ يجمعها ويضع كل خرزة في خيط من خيوط الدم الأسود ثم لبسها كقلادة واحدة وعاد ادراجه إلى المنزل رقم واحد وعشرين فوجد قلب المدينة يخفق في بيته، وفي استقباله واحدٌ وعشرون شخصاً، وزّع عليهم القلادات وقال: البسوها ولا تنزعوها حتى آتي لكم بأكواب اللبن.
في مساءٍ دامعة مقلتاه دخل غرفته واستلقى على سريره غاضَّ الطرف عن غروره.
أغمض عينيه لعلّ الحلم يعقد نواصيه على روعه، هنالك أيقن أن آماله تطفو على سطح السراب ورأي عبر المسافات أمه ساجدةً تقول: يارب أجرِ الأبيض في عروق وليدي
[align=center]تحيـــاتي[/align].[/align][/align]
أفاق من نومه يرنو لسعةٍ من ثنايا الحلم، ارتدى معطفه الأبيض ولفحته البيضاء، امتدت يده إلى زجاجة عطره استعداداً لارتياد قلب المدينة البيضاء ذات الأمل والغناء والحسناوات والعصافير المغردة وأشكال الجمال من كل لون.
لكَم تمنى رؤيتها منذ أن انشق عنه طوق الوعي عند الثالثة عشرة من عمره وهو يحلم بذاك الصخب الذي طالما عزف سحره وروعته على أوتار سمعه.
غادر البيت ووقف ينتظر مرور مركبة تقلّه إلى مدينة الأحلام، انتظر إحدى وعشرين دقيقة حتى توقفت أمامه مركبة بدون سائق، استقلها وانطلقت به، كانت تسير بسرعة جنونية ولكنها لم تزل أمام بيته في نفس المكان تقذف الرماد على ثوب الحرير.
بينما كان يرتشف قطرات الدهشة، أخذ المقعد يهبط للأسفل وينحسر من تحته حتى شعر بجسمة يحتكّ بقار الشارع ثم سقط من ثقب في أسفل المركبة، وقف ينتظر أخرى وأسرّ في نفسه ألا يستقل مركبةً بدون سائق.
مجدداً وقفت بالقرب منه حافلة، نظر داخلها فرأي السائق وركاب آخرين، صعد إليها مطمئناً واتخذ مجلسه إلى جوار أحدهم، انطلقت بهم.
"ترى كم من الوقت تستغرق للوصول إلى قلب المدينة؟"
همّ ليسأل مَن بجواره فإذا به يراه فأراً كبيرا، قام ليغير مكانه فوجد جميع الركاب فئران تجلس على المقاعد، أما السائق فقد غدا أفعواناً أسود برأسٍ ضخم سرعان ما تحرك باتجاه الفئران تاركاً ذيله ليتحكم بالمقود، ولقف واحداً وعشرين فأراً ثم تقدم نحوه فاتحاً فكيه الكبيرين يريد التهامه، فما كان أمامه للخلاص إلا أن يقفز من النافذة خارج الحافلة مفضّلا الارتطام على المبيت في جوف أفعى.
أفاق من لحظته على سخونة دمائه النازفة، وبإصابع مرتجفة أخذ يسحب من فمه خيوط دماءٍ كانت تتجمد لتغدو كالمطاط الأسود، سحب واحداً تلو الآخر، توقف النزف بعدما تجمع لديه واحدٌ وعشرون خيطا.
نفض غبار معطفه ووقف ينتظر من جديد.
ما أقسى حضور حالته هذه، رنّ هاتفه النقال.
على الطرف الآخر: اشتقت إليكَ
: شوقي لكِ لا يبدَّد
: أين انت؟
: في قلب المدينة البيضاء
: ماذا تفعل؟
: أقطف الحلم عن أهداب الصباح، أشم العطر من طاقات المسك، أغازل زهوراً تملأ أوعية الهواء، أرتوي الزلال وأسكب اللبن في أكواب موضوعة، هنا في المدينة البيضاء أقشّر حبّات اللؤلؤ وأضع القشر في حافظتي، أغترف بيميني وشمالي من أنهارها
: إذن أنتَ في كرنفال!
: بل أبهى
: منذ متى؟
: حضرتُ منذ الساعة الثالثة عشرة وهاهي تعدّت الواحدة والعشرين ومازلتُ أتنقل في ساحاتها الفاتنة وميادينها الساحرة
: حسناً فلتهنأ يا بنيّ، ولكن أخبرني كلما فاض الضرع باللبن
: إن شاء الله يا أمي
:وداعاً يا أمل عمري.
قفل الهاتف ليعيده إلى جيبه فإذا به يتحرك في يده، نظر إليه فوجده برصاً قذراً أسود، قذفه بعيداً وهو لم يزل يقف أمام بيته في الشارع رقم واحد وعشرين.
قرر الذهاب مترجلاً فمازال لديه بعضٌ من طاقة، سار فوصل نهاية الشارع، ثم اتجه إلى اليسار في شارعٍ جديد على مدخله لافتة مكتوب عليها "أنت متجه إلى الشارع رقم اثنين وعشرين" ولكنه نفس الشارع الذي فيه بيته بنفس الأبنية والأسوار والأشجار التي يألفها، واصل السير حتى انفصل أحد نعليّ حذائه، فأكمل سيره بخطىً عرجاء حتى انقلب الجو وهبت رياح شديدة أشبه بالعاصفة كادت أن تذهب بلفحته لولا تشبّثه الشديد بها لتبقى ساترةً لأثر جرحٍ قديم في عنقه.
لم تستمر العاصفة كثيراً بل تمخّضت عن مطرٍ غزيرٍ صبغ ملابسه بلون ليالي الشتاء الحالكة، استمر هطول الأمطار حتى تكونت بحيرةٌ من مياه سوداء، وفيما هو يفكر كيف يمكنه اجتيازها، فإذا بتمساح يقترب من حافتها ويعرض عليه أن ينقله للضفة الأخرى على ظهره، تردد قليلاً وما أن لاحت في خياله أضواء المدينة قفز معتلياً ظهره، انطلق التمساح إلى عرض البحيرة، وبحركاتٍ عابثة أخذ يلف به دونما اقترابٍ من ضفافها، فأدرك عدم جديته في المساعدة وطلب منه أن يعيده إلى حيث أقلّه، شنّج التمساح جسمه فبرزت حراشفه كالإبر وراحت تؤلمه بوخزها حتى سقط من فوق ظهره إلى قاع البحيرة.
هنالك وجد امرأةً ترتدي ثوباً أسوداً تجلس القرفصاء أمام بقرةٍ سوداء تحلبها، اقترب منها وطلب كوباً من لبن إذ بلغ به الإرهاق والجوع مبلغه، تناولت المرأة كوباً وسكبت بعضاً مما في الإناء المتجمع فيه اللبن، أخذ ينظر إليه بلونه الأبيض المثير وسط هذا السواد الذي يلف كل شئ حوله ويمني نفسه بارتواءٍ قريب، ولكن اللبن كان يغور في الكوب إلى العدم، فكلما سكبت المرأة المزيد منه يبقى الكوب خالياً حتى نفذ كل ما لديها من لبن، دُهشت المرأة مما ترى وقالت له: ابتعد من هنا أيها السيئ الطالع.
تركها ومضى وقد انحدرت من عينيه إحدى وعشرون دمعة سوداء كانت تتحجّر كالخرز قبل وصولها إلى خديه، أخذ يجمعها ويضع كل خرزة في خيط من خيوط الدم الأسود ثم لبسها كقلادة واحدة وعاد ادراجه إلى المنزل رقم واحد وعشرين فوجد قلب المدينة يخفق في بيته، وفي استقباله واحدٌ وعشرون شخصاً، وزّع عليهم القلادات وقال: البسوها ولا تنزعوها حتى آتي لكم بأكواب اللبن.
في مساءٍ دامعة مقلتاه دخل غرفته واستلقى على سريره غاضَّ الطرف عن غروره.
أغمض عينيه لعلّ الحلم يعقد نواصيه على روعه، هنالك أيقن أن آماله تطفو على سطح السراب ورأي عبر المسافات أمه ساجدةً تقول: يارب أجرِ الأبيض في عروق وليدي
[align=center]تحيـــاتي[/align].[/align][/align]
تعليق