[frame="15 98"]ابني كاتب قصة قصيرة جدا !
أنا كاتب كبير ، أو على الأقل هذا ما يقولونه حين يذكرون اسمي .كتبت الرواية والقصة القصيرة والمقالة والبحث ،وقرأ ما كتبت الألوف وربما الملايين ،لكنني في الواقع مجرد مدرس بسيط .لم أجن من مؤلفاتي غير الصداع وإن كنت لا أنكر المتعة اللذيذة التي تصاحبني أثناء الكتابة حتى ليخيل إلي أنني أعيد خلق العالم من جديد.
ولأن مصاريف البيت ظلت ترهقني على الدوام ، فقد قررت أن أبعد أولادي ما استطعت عن الكتابة والأدب .وجهتهم كلهم نحو الشعب العلمية لعلهم يصبحون مهندسين وأطباء وصيادلة ،أو أي شيء ماعدا أن يصيروا كتابا مثلي ،فيضيعون أعمارهم فيما لا فائدة منه في هذا الوطن البليد .
وقد كنت أحسبني نجحت ، خاصة بالنسبة لإبني الأكبر الذي يدرس الهندسة ولم يبق له سوى سنة على التخرج . نعم : حسبتني نجحت حتى كان هذا المساء حين فاجأني "المهندس " - كما نسميه في البيت - وقدم لي ورقة طالبا رأيي . سألته :
- ما هذا يا بني ؟
- قصة قصيرة جدا يا أبي .قال وهو ينظر إلي بزهو.
- قصة قصيرة جدا ؟! تساءلت مستغربا ، لكن ما شأنك أنت والقصة وأنت لم تقرأ حتى ما كتبت أنا ؟
- إنها مجرد محاولة يا أبي . قال وقد شعر بقليل من الخجل.
سأقول لكم صراحة أنني غضبت . ليس لأنه اقترب من العالم الذي حاولت إبعاده عنه، كلا . فلي أصدقاء مهندسون وأطباء ومحامون من سائر الأقطار العربية يكتبون أفضل مني . فكرت أن أقول له ( هل تعلم يا بني أنني قبل أن أدخل الثانوية كنت قد قرأت تقريبا جميع مؤلفات المنفلوطي وجرجي زيدان وجبران وطه حسين وعبد الحليم عبد الله واحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ و..و ) لكني رأيت أن لا فائدة من ذكر كل هذه الأسماء التي لا شك لا يعرف عنها شيئا . كما خفت أن يصاب بإحباط ما ، فكان لا بد من الرفق به ، ومخاطبته بالتي هي أحسن حسب ما تعلمناه في مناهج التربية. قلت وأنا أبتسم :
- لا ضير من المحاولة يا بني ، لكن هل لي أن أسألك من أين جاءتك الفكرة ، فقد فاجأتني ؟
- الصراحة يا أبي – قال وهو يجلس على مقعد جنب مكتبي – كنت أطالع ما ينشر على المنتديات ، فقلت لنفسي لماذا لا أجرب مثلهم خاصة وأن الأفكار لا تنقصني .
تذكرت بيت المعري " هذا ما جناه علي أبي وما جنيت على أحد " صعب أن تكون أبا لأحدهم حقا ! والأصعب أن تكون أبا لإبن عبيط . هذا الذي أمامي تجاوز العشرين من عمره منذ سنتين أو ثلاث . لو كان مراهقا صغيرا لهان الأمر . ماذا أقول له بالله عليكم . يعتقد أن القصة هي مجرد فكرة ما تخطر على بال أحدهم ، فيخطها هكذا ببساطة على الورق ويمضي !
كيف أفهم هذا العبيط أمامي أنني – وأنا من أنا – لم أكتب قصصا قصيرة جدا إلا في ما ندر رهبة من هذا الفن الوليد من جهة ، وخوفا أن أقع في ما لا تحمد عقباه من جهة أخرى ؟ بل إن النصوص القصيرة جدا التي كتبتها لم أكن أقصد عن سابق إصرار وترصد أن تكون قصيرة جدا بل جاءت كذلك من تلقاء نفسها . وها هو ابني يكتب سطرا أو سطرين ويتجاسر ويسميها قصصا قصيرة وهو لا يعرف فن القص أصلا فماذا عساي أفعل ؟
شعرت أن لعنة الأدب تطاردني في ذريتي ، ولكن بشكل معكوس مأساوي. شعرت برغبة عارمة في التدخين رغم أني كنت قد توقفت عنه منذ أزيد من سنة . شعرت برغبة في أن أصرخ رغم أني فقدت قوة صوتي في ضجيج الحياة الخانق.
قلت له :
- اسمع يا بني ، نحن في شبابنا لم نكن نعرف الأنترنت وكان كل من يريد نشر كتاب قد ينتظر سنوات لنشره.
كان الناس يعرضون ما يكتبونه على الأصدقاء أولا ويسهرون الليالي ينقحون ويضيفون وينقصون ، بل إن كلمة واحدة أو عبارة واحدة كانت تفتح نقاشا طويلا ، وحين يدفع بالكتاب لدار النشر كان يمر على أيدي مصححين ومراجعين ثم لجنة جودة ثم مقص الرقيب ثم لجنة ..ولجنة..قبل أن يرى النور إن كتب له أن يرى النور أصلا.
فكيف بالله يا بني تتخذ لك من بعض " المخربشين " في المنتديات قدوة وأغلبهم لا يتقن حتى أبسط قواعد اللغة ؟
قال لي وهو يحاول عدم إغضابي فيما يبدو :
- صحيح ، أوافق على كل ما قلت لكن رأيك في محاولتي يهمني جدا ، أنت لم تلق عليها حتى مجرد نظرة.
نظرت إلى الورقة وقرأت :
[frame="2 98"]" رأى الطالب متسولا يمد يده للعابرين والناس يدسون فيها الدنانير . قوس نفسه تحت شجرة مستخرجا من أعماقه كل مشاعر البؤس ومد يده بدوره.كانت الحمامة فوق الشجرة أول المتصدقين عليه !" [/frame]
هذه هي قصة ابني أعرضها عليكم بعد تصحيحها طبعا . صدقوني لم أعرف أكان يجب علي أن أضحك أم أبكي . هذا هو ابني الطالب إذن يتقوس تحت الشجرة ويمد يده للعابرين ! ما شاء الله ! سألت نفسي : ( ماذا يريد هذا التافه أن يقول ؟)
تمنيت لحظتها لو أن البقر كان يطير لعل الصدقة تكون أكبر!
وقفت طويلا أنظر للورقة ثم أخيرا قررت :
- كن كاتبا كما تشاء يا بني ، لكن بشرط واحد فقط أن تتنازل عن الاسم العائلي !
ملاحظة : القصة خيالية وأي تشابه مع شخصيات واقعية لا شك حدث عن سابق إصرار وترصد لا شعوري.[/frame][/quote]
أنا كاتب كبير ، أو على الأقل هذا ما يقولونه حين يذكرون اسمي .كتبت الرواية والقصة القصيرة والمقالة والبحث ،وقرأ ما كتبت الألوف وربما الملايين ،لكنني في الواقع مجرد مدرس بسيط .لم أجن من مؤلفاتي غير الصداع وإن كنت لا أنكر المتعة اللذيذة التي تصاحبني أثناء الكتابة حتى ليخيل إلي أنني أعيد خلق العالم من جديد.
ولأن مصاريف البيت ظلت ترهقني على الدوام ، فقد قررت أن أبعد أولادي ما استطعت عن الكتابة والأدب .وجهتهم كلهم نحو الشعب العلمية لعلهم يصبحون مهندسين وأطباء وصيادلة ،أو أي شيء ماعدا أن يصيروا كتابا مثلي ،فيضيعون أعمارهم فيما لا فائدة منه في هذا الوطن البليد .
وقد كنت أحسبني نجحت ، خاصة بالنسبة لإبني الأكبر الذي يدرس الهندسة ولم يبق له سوى سنة على التخرج . نعم : حسبتني نجحت حتى كان هذا المساء حين فاجأني "المهندس " - كما نسميه في البيت - وقدم لي ورقة طالبا رأيي . سألته :
- ما هذا يا بني ؟
- قصة قصيرة جدا يا أبي .قال وهو ينظر إلي بزهو.
- قصة قصيرة جدا ؟! تساءلت مستغربا ، لكن ما شأنك أنت والقصة وأنت لم تقرأ حتى ما كتبت أنا ؟
- إنها مجرد محاولة يا أبي . قال وقد شعر بقليل من الخجل.
سأقول لكم صراحة أنني غضبت . ليس لأنه اقترب من العالم الذي حاولت إبعاده عنه، كلا . فلي أصدقاء مهندسون وأطباء ومحامون من سائر الأقطار العربية يكتبون أفضل مني . فكرت أن أقول له ( هل تعلم يا بني أنني قبل أن أدخل الثانوية كنت قد قرأت تقريبا جميع مؤلفات المنفلوطي وجرجي زيدان وجبران وطه حسين وعبد الحليم عبد الله واحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ و..و ) لكني رأيت أن لا فائدة من ذكر كل هذه الأسماء التي لا شك لا يعرف عنها شيئا . كما خفت أن يصاب بإحباط ما ، فكان لا بد من الرفق به ، ومخاطبته بالتي هي أحسن حسب ما تعلمناه في مناهج التربية. قلت وأنا أبتسم :
- لا ضير من المحاولة يا بني ، لكن هل لي أن أسألك من أين جاءتك الفكرة ، فقد فاجأتني ؟
- الصراحة يا أبي – قال وهو يجلس على مقعد جنب مكتبي – كنت أطالع ما ينشر على المنتديات ، فقلت لنفسي لماذا لا أجرب مثلهم خاصة وأن الأفكار لا تنقصني .
تذكرت بيت المعري " هذا ما جناه علي أبي وما جنيت على أحد " صعب أن تكون أبا لأحدهم حقا ! والأصعب أن تكون أبا لإبن عبيط . هذا الذي أمامي تجاوز العشرين من عمره منذ سنتين أو ثلاث . لو كان مراهقا صغيرا لهان الأمر . ماذا أقول له بالله عليكم . يعتقد أن القصة هي مجرد فكرة ما تخطر على بال أحدهم ، فيخطها هكذا ببساطة على الورق ويمضي !
كيف أفهم هذا العبيط أمامي أنني – وأنا من أنا – لم أكتب قصصا قصيرة جدا إلا في ما ندر رهبة من هذا الفن الوليد من جهة ، وخوفا أن أقع في ما لا تحمد عقباه من جهة أخرى ؟ بل إن النصوص القصيرة جدا التي كتبتها لم أكن أقصد عن سابق إصرار وترصد أن تكون قصيرة جدا بل جاءت كذلك من تلقاء نفسها . وها هو ابني يكتب سطرا أو سطرين ويتجاسر ويسميها قصصا قصيرة وهو لا يعرف فن القص أصلا فماذا عساي أفعل ؟
شعرت أن لعنة الأدب تطاردني في ذريتي ، ولكن بشكل معكوس مأساوي. شعرت برغبة عارمة في التدخين رغم أني كنت قد توقفت عنه منذ أزيد من سنة . شعرت برغبة في أن أصرخ رغم أني فقدت قوة صوتي في ضجيج الحياة الخانق.
قلت له :
- اسمع يا بني ، نحن في شبابنا لم نكن نعرف الأنترنت وكان كل من يريد نشر كتاب قد ينتظر سنوات لنشره.
كان الناس يعرضون ما يكتبونه على الأصدقاء أولا ويسهرون الليالي ينقحون ويضيفون وينقصون ، بل إن كلمة واحدة أو عبارة واحدة كانت تفتح نقاشا طويلا ، وحين يدفع بالكتاب لدار النشر كان يمر على أيدي مصححين ومراجعين ثم لجنة جودة ثم مقص الرقيب ثم لجنة ..ولجنة..قبل أن يرى النور إن كتب له أن يرى النور أصلا.
فكيف بالله يا بني تتخذ لك من بعض " المخربشين " في المنتديات قدوة وأغلبهم لا يتقن حتى أبسط قواعد اللغة ؟
قال لي وهو يحاول عدم إغضابي فيما يبدو :
- صحيح ، أوافق على كل ما قلت لكن رأيك في محاولتي يهمني جدا ، أنت لم تلق عليها حتى مجرد نظرة.
نظرت إلى الورقة وقرأت :
[frame="2 98"]" رأى الطالب متسولا يمد يده للعابرين والناس يدسون فيها الدنانير . قوس نفسه تحت شجرة مستخرجا من أعماقه كل مشاعر البؤس ومد يده بدوره.كانت الحمامة فوق الشجرة أول المتصدقين عليه !" [/frame]
هذه هي قصة ابني أعرضها عليكم بعد تصحيحها طبعا . صدقوني لم أعرف أكان يجب علي أن أضحك أم أبكي . هذا هو ابني الطالب إذن يتقوس تحت الشجرة ويمد يده للعابرين ! ما شاء الله ! سألت نفسي : ( ماذا يريد هذا التافه أن يقول ؟)
تمنيت لحظتها لو أن البقر كان يطير لعل الصدقة تكون أكبر!
وقفت طويلا أنظر للورقة ثم أخيرا قررت :
- كن كاتبا كما تشاء يا بني ، لكن بشرط واحد فقط أن تتنازل عن الاسم العائلي !
ملاحظة : القصة خيالية وأي تشابه مع شخصيات واقعية لا شك حدث عن سابق إصرار وترصد لا شعوري.[/frame][/quote]
تعليق