من عباقرة العلم
12- 18
في ليالي صيف قرطبةٍ السَّاحرة ... كثيراً ما كان " بن فرناس" يجلس على سفوح الجبال الخضراء ... يغرق معها في ظلمةِ الليلِ الغامض ... يتأمل النجوم المضيئة في السَّماء ليلاً ... السُّحبِ ... الــقمر ... يُفكِّر فيما وراءها من أسرارٍ ... هكذا هو منذ طفولتهِ ... يتأمل كثيراً ... يسأل كثيراً : ما هذه المصابيح المضيئة ؟ ... مَنْ الذي علَّقها في السَّماء ؟ ... لماذا تظهر ليلاً ولا تظهر في النَّهار ؟ ... لماذا تسقط الأمطار أحياناً ؟ ... ما هذه السُّحب التي تُشبه دُخاناً كثيفاً ؟ ...
لقد شغلته السَّماء كثيراً ... ... حاول أن يقترب منها ... كان حلمه أن يصعد إليها ... فلم يجد غير سفوح الجبال ... يصعد إليها كُل ليلةٍ أو نهار ...
قال له أحدُ مُعَلِّميه في كُتَّابِ قرطبةٍ :
- أسئلتك صَعبة ... لن يجيبك أحدُُ عليها ...عليك أن تجد الإجابة بنفسك !
منذ تلك اللحظة وهو يبحث عنها ... لكنَّه لم يجد الإجابة التي تريح رأسه الملتهب بالأفكار ...
في صباح يومٍ شتوي باردٍ ... خَرَجَ " بن فرناس " إلى قلبِ المدينةِ ... سَار في الطريقِ إلى مسجد قرطبةٍ – كعادتهِ – كانت الأمطار غزيرةً ... والنَّاس يحاولون الاختباء منها أسفل المظلاَّتِ والقباب الخشبية ... لم يشعر هو بما يشعرون به ... لكنَّه ظلَّ يُفكِّر في تلك القطراتِ المتساقطة من السَّماء ... ورغم خوف الناس من صوت الرعد ... وذلك البَرق الذي يلمع كسوطٍ ناري من حين لآخر ... إلا إنه حاول أن يبحث عن الإجابة ... لقد عَمِل بنصيحةِ مُعَلِّمه ... وراح يقرأ كُتب العلماء السَّابقين ... يلتهم ما بين سطورها ... فعرف الكثير ... وعلم بعض الأسرار ... لكنَّ الطريق لا زال طويلاً أمامه ... عليه أن يبحث ويبحث حتى يصل إلى ما لم يصل إليه أحدُُ قبله ...
وها هو ذا قد أصبح شاباً ... يملك من قوة العقل والقدرة البدنية الكثير ، فلم يبق أمامه سِوى أن يعمل بجدٍ وكدٍ ...
راح ينظر إلى السَّماء مرةً أخرى ... الأمطار تتساقط كالسيول ... والناس يُحـاولون الاحتماء تحت القِبابِ والمظلاَّت الخشبية ... حتى خلتِ الأزقة من السائرين ... خطرت له فكرة رائعة ... فكرة مجنونة ... لو أظهرها للآخرين لظنَّوا به الجنون ... فآثر الاحتفاظ بها لنفسه ... لكنَّه أصرَّ على تنفيذها ... مهما كلَّفه ذلك من وقتِ وجهـدٍ ...
في تلك الليلة استسلم ابن فرناس للنوم ... وحَلِمَ ... رأى جسده محلقاً في الفضاء ... يحاول أن يُمسك السَّماء بيديهِ ... وكُلَّما اقترب منها بعدت عنه ... لكنَّه لم ييأس ... وأصرَّ على اللحاق بها ... حتى أمسكَ بطرفِ شعاعٍ من ضوءٍ مارقٍ ... أخَذّه بقوةٍ إلى قلبِ السَّماء ...
ظلَّ يعمل لسنواتٍ طويلةٍ في معملهِ بالبيتِ الذي يقيم فيه ... لم يدرِ أحدُ جيرانه بما يفعله ... لكنَّهم يعـرفونه جيداً ... يخالطونه في مجالس الأدب والعلم ... وكثيراً ما كانوا يستمعون إلى أشعارهِ البديعة... ويُشاهدون مناظراته اللغوية ... ومحاضراته في علم النَّحو ... ينصتون إلى أنغام موسيقاه العذبة ... يقولون عنه : إنه متعدد المواهب ! ويؤمن بأن العالم لا يجب أن يخفي علمه عن الآخرين ...
كثيراً ما كانوا يُشاهدون أدخنةً كثيفةً تتصاعد من منافذ بيته... حتى أن الحاقدين عليه أشاعوا عنه أنه ساحرُُ ... يسمعونه ليلاً يقول: مفاعيل ! مفاعيل! لكنَّه لم يبالِ بهم ... وآثَر أن يعمل في صمتٍ ... يريد أن يصلَ إلى تلك الصورة المنقوشة في رأسهِ ... أن يُخرجها إلى الوجود ...
وفي أحد الأيَّام ... خَرَج " بن فرناس " في ثيابٍ جميلةٍ ... ذهبَ إلى الأمير ، وطلب الدخول عليه ... فسَمح له بلقائهِ ... ولِمَ لا ؟ ألم يكن طبيبه الخاص ؟ وأقرب علماء قرطبةٍ إلى قلبه ... بل وأكثر علماء عصره نبوغاً ...
ولمَّا دخل عليه ... وقف أمامه صامتاً ... تشع من عينيه فرحةٍ بالغةٍ ... فاستغرب الأمير وقفته ... وسأله :
- ماذا تريد يا بن فرناس ؟
- لقد أمسكت السَّماء بيدي هاتين !
نَظرَ إليه الأمير بدهشةٍ ... وراح يُحدِّث نفسه قائلاً :
- لولا أني أعرفه جيداً لظننت به الجنون ...
لكنَّه يُحسَّ بأنه قد جاءه بشيءٍ خطيرٍ ... فسأله بشكٍ ورغبةٍ في الفهم :
- كيف أمسكتَ السَّماء بيديك ؟
قال ابن فرناس بحماسٍ :
- لا أستطيع أن أصف ذلك إليك ... عليك أن تُشاهده بنفسك ...
جَلَسَ الأمير وحاشيته داخل غُرفةٍ مُظلمةٍ ... تعصف بهم الظنون ... وتدفعهم الرغبةُ في الفهم إلى مُسايرة ابن فرناس حتى النهاية ... إنَّها الرغبة نفسها التي جاءت بهم من قصر الإمارة إلى ذلك البيتِ البسيط في قلب المدينة... وهَاهم جالسين في انتظار ما وعدهم به ابن فرناس ... الذي قادهم إلي بيتهِ ثم اختفى فجأة ...
بدأتِ أصابع الملل تتسلل إلى صَدرِ الأمير ... حتَّى شَعرَ بالضيق ...
في تلك اللحظةِ صَاحَ صوتُُ مفاجئ :
- أنظروا إلى سقفِ الغرفةِ !
كان الصوتُ يعزفُ على أوتـار الدهشةِ والانبهــار ...
لم يُصدِّقون ذلك ... إن ما يرونه بأعينهم أشبه بمعجزةٍ من السَّماء ... لو لم يرونه بأعينهم لما صدقوه... رأوا قُبَّة على هيئة السماء في سقف بيته ... تتلألأ فيها النجوم وتحيط بِها الغيوم ... البرق والرعـــد ... الشمس والقمر و الكواكب تدور في مداراتها ...
- شَيءُُ لا يُصدِّقه عقل ! السَّماء في سقف بيتِ ابن فرناس !
هكذا صَاح الأمير ...
لقـــد استطاع ابن فرناس أن يحدث ظواهر الطبيعة في سقفِ بيتهِ : الرعد والبرق ... سقوطرذاذ من الماء على هيئة مطر ... كيف استطاع ذلك ؟ ... بطرق آلية ... ربما بواسطة بعض الأدوات والآلات التيانتهى من صنعها ووضعها في أماكن معينة من القبة التي أجرى فيها تجربته العظيمة، ومثَّلها كهيئة السماء : فيها الأفلاك والنجوم والسحب ...
(7)
شَاعَ الخَبَرُ بين أهل المدينـةِ ...
- ابن فرناس عالمُُ فلكيُُ عبقريُُ ... أحضر السَّماء في بيتهِ !
لم يُصدّق النَّاس ذلك ... أرادوا أن يروا بأعينهم ... فذهبوا إليه ... تجمعوا أمام بيتهِ ... قال بعضهم :
- إنه يسحر العيون !
لكنهم لم يتراجعوا ...
وحيــن رأوا تلك القُبَّة السَّماوية المذهلة ...ذهلوا ... وخرجوا كالمسحورين ...
ولم تمضِ ســوى دقائق معدودة حين بدءوا يهتفون باسمهِ في أنحاء قرطبةٍ ...
ومنذ تلك اللحظة أصبح بيتُ ابن فرناس مزاراً ، يلجأ إليه كلّ من يرغب في الصعود إلى السَّماءِ
12- 18
ابن فرناس و القُبَّـة السَّمـاوية
(1)
(1)
في ليالي صيف قرطبةٍ السَّاحرة ... كثيراً ما كان " بن فرناس" يجلس على سفوح الجبال الخضراء ... يغرق معها في ظلمةِ الليلِ الغامض ... يتأمل النجوم المضيئة في السَّماء ليلاً ... السُّحبِ ... الــقمر ... يُفكِّر فيما وراءها من أسرارٍ ... هكذا هو منذ طفولتهِ ... يتأمل كثيراً ... يسأل كثيراً : ما هذه المصابيح المضيئة ؟ ... مَنْ الذي علَّقها في السَّماء ؟ ... لماذا تظهر ليلاً ولا تظهر في النَّهار ؟ ... لماذا تسقط الأمطار أحياناً ؟ ... ما هذه السُّحب التي تُشبه دُخاناً كثيفاً ؟ ...
لقد شغلته السَّماء كثيراً ... ... حاول أن يقترب منها ... كان حلمه أن يصعد إليها ... فلم يجد غير سفوح الجبال ... يصعد إليها كُل ليلةٍ أو نهار ...
قال له أحدُ مُعَلِّميه في كُتَّابِ قرطبةٍ :
- أسئلتك صَعبة ... لن يجيبك أحدُُ عليها ...عليك أن تجد الإجابة بنفسك !
منذ تلك اللحظة وهو يبحث عنها ... لكنَّه لم يجد الإجابة التي تريح رأسه الملتهب بالأفكار ...
(2)
في صباح يومٍ شتوي باردٍ ... خَرَجَ " بن فرناس " إلى قلبِ المدينةِ ... سَار في الطريقِ إلى مسجد قرطبةٍ – كعادتهِ – كانت الأمطار غزيرةً ... والنَّاس يحاولون الاختباء منها أسفل المظلاَّتِ والقباب الخشبية ... لم يشعر هو بما يشعرون به ... لكنَّه ظلَّ يُفكِّر في تلك القطراتِ المتساقطة من السَّماء ... ورغم خوف الناس من صوت الرعد ... وذلك البَرق الذي يلمع كسوطٍ ناري من حين لآخر ... إلا إنه حاول أن يبحث عن الإجابة ... لقد عَمِل بنصيحةِ مُعَلِّمه ... وراح يقرأ كُتب العلماء السَّابقين ... يلتهم ما بين سطورها ... فعرف الكثير ... وعلم بعض الأسرار ... لكنَّ الطريق لا زال طويلاً أمامه ... عليه أن يبحث ويبحث حتى يصل إلى ما لم يصل إليه أحدُُ قبله ...
وها هو ذا قد أصبح شاباً ... يملك من قوة العقل والقدرة البدنية الكثير ، فلم يبق أمامه سِوى أن يعمل بجدٍ وكدٍ ...
راح ينظر إلى السَّماء مرةً أخرى ... الأمطار تتساقط كالسيول ... والناس يُحـاولون الاحتماء تحت القِبابِ والمظلاَّت الخشبية ... حتى خلتِ الأزقة من السائرين ... خطرت له فكرة رائعة ... فكرة مجنونة ... لو أظهرها للآخرين لظنَّوا به الجنون ... فآثر الاحتفاظ بها لنفسه ... لكنَّه أصرَّ على تنفيذها ... مهما كلَّفه ذلك من وقتِ وجهـدٍ ...
(3)
في تلك الليلة استسلم ابن فرناس للنوم ... وحَلِمَ ... رأى جسده محلقاً في الفضاء ... يحاول أن يُمسك السَّماء بيديهِ ... وكُلَّما اقترب منها بعدت عنه ... لكنَّه لم ييأس ... وأصرَّ على اللحاق بها ... حتى أمسكَ بطرفِ شعاعٍ من ضوءٍ مارقٍ ... أخَذّه بقوةٍ إلى قلبِ السَّماء ...
(4)
ظلَّ يعمل لسنواتٍ طويلةٍ في معملهِ بالبيتِ الذي يقيم فيه ... لم يدرِ أحدُ جيرانه بما يفعله ... لكنَّهم يعـرفونه جيداً ... يخالطونه في مجالس الأدب والعلم ... وكثيراً ما كانوا يستمعون إلى أشعارهِ البديعة... ويُشاهدون مناظراته اللغوية ... ومحاضراته في علم النَّحو ... ينصتون إلى أنغام موسيقاه العذبة ... يقولون عنه : إنه متعدد المواهب ! ويؤمن بأن العالم لا يجب أن يخفي علمه عن الآخرين ...
كثيراً ما كانوا يُشاهدون أدخنةً كثيفةً تتصاعد من منافذ بيته... حتى أن الحاقدين عليه أشاعوا عنه أنه ساحرُُ ... يسمعونه ليلاً يقول: مفاعيل ! مفاعيل! لكنَّه لم يبالِ بهم ... وآثَر أن يعمل في صمتٍ ... يريد أن يصلَ إلى تلك الصورة المنقوشة في رأسهِ ... أن يُخرجها إلى الوجود ...
(5)
وفي أحد الأيَّام ... خَرَج " بن فرناس " في ثيابٍ جميلةٍ ... ذهبَ إلى الأمير ، وطلب الدخول عليه ... فسَمح له بلقائهِ ... ولِمَ لا ؟ ألم يكن طبيبه الخاص ؟ وأقرب علماء قرطبةٍ إلى قلبه ... بل وأكثر علماء عصره نبوغاً ...
ولمَّا دخل عليه ... وقف أمامه صامتاً ... تشع من عينيه فرحةٍ بالغةٍ ... فاستغرب الأمير وقفته ... وسأله :
- ماذا تريد يا بن فرناس ؟
- لقد أمسكت السَّماء بيدي هاتين !
نَظرَ إليه الأمير بدهشةٍ ... وراح يُحدِّث نفسه قائلاً :
- لولا أني أعرفه جيداً لظننت به الجنون ...
لكنَّه يُحسَّ بأنه قد جاءه بشيءٍ خطيرٍ ... فسأله بشكٍ ورغبةٍ في الفهم :
- كيف أمسكتَ السَّماء بيديك ؟
قال ابن فرناس بحماسٍ :
- لا أستطيع أن أصف ذلك إليك ... عليك أن تُشاهده بنفسك ...
(6)
جَلَسَ الأمير وحاشيته داخل غُرفةٍ مُظلمةٍ ... تعصف بهم الظنون ... وتدفعهم الرغبةُ في الفهم إلى مُسايرة ابن فرناس حتى النهاية ... إنَّها الرغبة نفسها التي جاءت بهم من قصر الإمارة إلى ذلك البيتِ البسيط في قلب المدينة... وهَاهم جالسين في انتظار ما وعدهم به ابن فرناس ... الذي قادهم إلي بيتهِ ثم اختفى فجأة ...
بدأتِ أصابع الملل تتسلل إلى صَدرِ الأمير ... حتَّى شَعرَ بالضيق ...
في تلك اللحظةِ صَاحَ صوتُُ مفاجئ :
- أنظروا إلى سقفِ الغرفةِ !
كان الصوتُ يعزفُ على أوتـار الدهشةِ والانبهــار ...
لم يُصدِّقون ذلك ... إن ما يرونه بأعينهم أشبه بمعجزةٍ من السَّماء ... لو لم يرونه بأعينهم لما صدقوه... رأوا قُبَّة على هيئة السماء في سقف بيته ... تتلألأ فيها النجوم وتحيط بِها الغيوم ... البرق والرعـــد ... الشمس والقمر و الكواكب تدور في مداراتها ...
- شَيءُُ لا يُصدِّقه عقل ! السَّماء في سقف بيتِ ابن فرناس !
هكذا صَاح الأمير ...
لقـــد استطاع ابن فرناس أن يحدث ظواهر الطبيعة في سقفِ بيتهِ : الرعد والبرق ... سقوطرذاذ من الماء على هيئة مطر ... كيف استطاع ذلك ؟ ... بطرق آلية ... ربما بواسطة بعض الأدوات والآلات التيانتهى من صنعها ووضعها في أماكن معينة من القبة التي أجرى فيها تجربته العظيمة، ومثَّلها كهيئة السماء : فيها الأفلاك والنجوم والسحب ...
(7)
شَاعَ الخَبَرُ بين أهل المدينـةِ ...
- ابن فرناس عالمُُ فلكيُُ عبقريُُ ... أحضر السَّماء في بيتهِ !
لم يُصدّق النَّاس ذلك ... أرادوا أن يروا بأعينهم ... فذهبوا إليه ... تجمعوا أمام بيتهِ ... قال بعضهم :
- إنه يسحر العيون !
لكنهم لم يتراجعوا ...
وحيــن رأوا تلك القُبَّة السَّماوية المذهلة ...ذهلوا ... وخرجوا كالمسحورين ...
ولم تمضِ ســوى دقائق معدودة حين بدءوا يهتفون باسمهِ في أنحاء قرطبةٍ ...
ومنذ تلك اللحظة أصبح بيتُ ابن فرناس مزاراً ، يلجأ إليه كلّ من يرغب في الصعود إلى السَّماءِ
تعليق