إبن فرناس والقبة السماوية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • إيهاب فاروق حسني
    أديب ومفكر
    عضو اتحاد كتاب مصر
    • 23-06-2009
    • 946

    إبن فرناس والقبة السماوية

    من عباقرة العلم
    12- 18







    ابن فرناس و القُبَّـة السَّمـاوية




    (1)

    في ليالي صيف قرطبةٍ السَّاحرة ... كثيراً ما كان " بن فرناس" يجلس على سفوح الجبال الخضراء ... يغرق معها في ظلمةِ الليلِ الغامض ... يتأمل النجوم المضيئة في السَّماء ليلاً ... السُّحبِ ... الــقمر ... يُفكِّر فيما وراءها من أسرارٍ ... هكذا هو منذ طفولتهِ ... يتأمل كثيراً ... يسأل كثيراً : ما هذه المصابيح المضيئة ؟ ... مَنْ الذي علَّقها في السَّماء ؟ ... لماذا تظهر ليلاً ولا تظهر في النَّهار ؟ ... لماذا تسقط الأمطار أحياناً ؟ ... ما هذه السُّحب التي تُشبه دُخاناً كثيفاً ؟ ...
    لقد شغلته السَّماء كثيراً ... ... حاول أن يقترب منها ... كان حلمه أن يصعد إليها ... فلم يجد غير سفوح الجبال ... يصعد إليها كُل ليلةٍ أو نهار ...
    قال له أحدُ مُعَلِّميه في كُتَّابِ قرطبةٍ :
    - أسئلتك صَعبة ... لن يجيبك أحدُُ عليها ...عليك أن تجد الإجابة بنفسك !
    منذ تلك اللحظة وهو يبحث عنها ... لكنَّه لم يجد الإجابة التي تريح رأسه الملتهب بالأفكار ...



    (2)


    في صباح يومٍ شتوي باردٍ ... خَرَجَ " بن فرناس " إلى قلبِ المدينةِ ... سَار في الطريقِ إلى مسجد قرطبةٍ – كعادتهِ – كانت الأمطار غزيرةً ... والنَّاس يحاولون الاختباء منها أسفل المظلاَّتِ والقباب الخشبية ... لم يشعر هو بما يشعرون به ... لكنَّه ظلَّ يُفكِّر في تلك القطراتِ المتساقطة من السَّماء ... ورغم خوف الناس من صوت الرعد ... وذلك البَرق الذي يلمع كسوطٍ ناري من حين لآخر ... إلا إنه حاول أن يبحث عن الإجابة ... لقد عَمِل بنصيحةِ مُعَلِّمه ... وراح يقرأ كُتب العلماء السَّابقين ... يلتهم ما بين سطورها ... فعرف الكثير ... وعلم بعض الأسرار ... لكنَّ الطريق لا زال طويلاً أمامه ... عليه أن يبحث ويبحث حتى يصل إلى ما لم يصل إليه أحدُُ قبله ...
    وها هو ذا قد أصبح شاباً ... يملك من قوة العقل والقدرة البدنية الكثير ، فلم يبق أمامه سِوى أن يعمل بجدٍ وكدٍ ...
    راح ينظر إلى السَّماء مرةً أخرى ... الأمطار تتساقط كالسيول ... والناس يُحـاولون الاحتماء تحت القِبابِ والمظلاَّت الخشبية ... حتى خلتِ الأزقة من السائرين ... خطرت له فكرة رائعة ... فكرة مجنونة ... لو أظهرها للآخرين لظنَّوا به الجنون ... فآثر الاحتفاظ بها لنفسه ... لكنَّه أصرَّ على تنفيذها ... مهما كلَّفه ذلك من وقتِ وجهـدٍ ...



    (3)


    في تلك الليلة استسلم ابن فرناس للنوم ... وحَلِمَ ... رأى جسده محلقاً في الفضاء ... يحاول أن يُمسك السَّماء بيديهِ ... وكُلَّما اقترب منها بعدت عنه ... لكنَّه لم ييأس ... وأصرَّ على اللحاق بها ... حتى أمسكَ بطرفِ شعاعٍ من ضوءٍ مارقٍ ... أخَذّه بقوةٍ إلى قلبِ السَّماء ...



    (4)


    ظلَّ يعمل لسنواتٍ طويلةٍ في معملهِ بالبيتِ الذي يقيم فيه ... لم يدرِ أحدُ جيرانه بما يفعله ... لكنَّهم يعـرفونه جيداً ... يخالطونه في مجالس الأدب والعلم ... وكثيراً ما كانوا يستمعون إلى أشعارهِ البديعة... ويُشاهدون مناظراته اللغوية ... ومحاضراته في علم النَّحو ... ينصتون إلى أنغام موسيقاه العذبة ... يقولون عنه : إنه متعدد المواهب ! ويؤمن بأن العالم لا يجب أن يخفي علمه عن الآخرين ...
    كثيراً ما كانوا يُشاهدون أدخنةً كثيفةً تتصاعد من منافذ بيته... حتى أن الحاقدين عليه أشاعوا عنه أنه ساحرُُ ... يسمعونه ليلاً يقول: مفاعيل ! مفاعيل! لكنَّه لم يبالِ بهم ... وآثَر أن يعمل في صمتٍ ... يريد أن يصلَ إلى تلك الصورة المنقوشة في رأسهِ ... أن يُخرجها إلى الوجود ...



    (5)


    وفي أحد الأيَّام ... خَرَج " بن فرناس " في ثيابٍ جميلةٍ ... ذهبَ إلى الأمير ، وطلب الدخول عليه ... فسَمح له بلقائهِ ... ولِمَ لا ؟ ألم يكن طبيبه الخاص ؟ وأقرب علماء قرطبةٍ إلى قلبه ... بل وأكثر علماء عصره نبوغاً ...
    ولمَّا دخل عليه ... وقف أمامه صامتاً ... تشع من عينيه فرحةٍ بالغةٍ ... فاستغرب الأمير وقفته ... وسأله :
    - ماذا تريد يا بن فرناس ؟
    - لقد أمسكت السَّماء بيدي هاتين !
    نَظرَ إليه الأمير بدهشةٍ ... وراح يُحدِّث نفسه قائلاً :
    - لولا أني أعرفه جيداً لظننت به الجنون ...
    لكنَّه يُحسَّ بأنه قد جاءه بشيءٍ خطيرٍ ... فسأله بشكٍ ورغبةٍ في الفهم :
    - كيف أمسكتَ السَّماء بيديك ؟
    قال ابن فرناس بحماسٍ :
    - لا أستطيع أن أصف ذلك إليك ... عليك أن تُشاهده بنفسك ...



    (6)

    جَلَسَ الأمير وحاشيته داخل غُرفةٍ مُظلمةٍ ... تعصف بهم الظنون ... وتدفعهم الرغبةُ في الفهم إلى مُسايرة ابن فرناس حتى النهاية ... إنَّها الرغبة نفسها التي جاءت بهم من قصر الإمارة إلى ذلك البيتِ البسيط في قلب المدينة... وهَاهم جالسين في انتظار ما وعدهم به ابن فرناس ... الذي قادهم إلي بيتهِ ثم اختفى فجأة ...
    بدأتِ أصابع الملل تتسلل إلى صَدرِ الأمير ... حتَّى شَعرَ بالضيق ...
    في تلك اللحظةِ صَاحَ صوتُُ مفاجئ :
    - أنظروا إلى سقفِ الغرفةِ !
    كان الصوتُ يعزفُ على أوتـار الدهشةِ والانبهــار ...
    لم يُصدِّقون ذلك ... إن ما يرونه بأعينهم أشبه بمعجزةٍ من السَّماء ... لو لم يرونه بأعينهم لما صدقوه... رأوا قُبَّة على هيئة السماء في سقف بيته ... تتلألأ فيها النجوم وتحيط بِها الغيوم ... البرق والرعـــد ... الشمس والقمر و الكواكب تدور في مداراتها ...
    - شَيءُُ لا يُصدِّقه عقل ! السَّماء في سقف بيتِ ابن فرناس !
    هكذا صَاح الأمير ...
    لقـــد استطاع ابن فرناس أن يحدث ظواهر الطبيعة في سقفِ بيتهِ : الرعد والبرق ... سقوطرذاذ من الماء على هيئة مطر ... كيف استطاع ذلك ؟ ... بطرق آلية ... ربما بواسطة بعض الأدوات والآلات التيانتهى من صنعها ووضعها في أماكن معينة من القبة التي أجرى فيها تجربته العظيمة، ومثَّلها كهيئة السماء : فيها الأفلاك والنجوم والسحب ...
    (7)
    شَاعَ الخَبَرُ بين أهل المدينـةِ ...
    - ابن فرناس عالمُُ فلكيُُ عبقريُُ ... أحضر السَّماء في بيتهِ !
    لم يُصدّق النَّاس ذلك ... أرادوا أن يروا بأعينهم ... فذهبوا إليه ... تجمعوا أمام بيتهِ ... قال بعضهم :
    - إنه يسحر العيون !
    لكنهم لم يتراجعوا ...
    وحيــن رأوا تلك القُبَّة السَّماوية المذهلة ...ذهلوا ... وخرجوا كالمسحورين ...
    ولم تمضِ ســوى دقائق معدودة حين بدءوا يهتفون باسمهِ في أنحاء قرطبةٍ ...
    ومنذ تلك اللحظة أصبح بيتُ ابن فرناس مزاراً ، يلجأ إليه كلّ من يرغب في الصعود إلى السَّماءِ
    إيهاب فاروق حسني
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    الأستاذ المبدع ايهاب حسني
    مشروع قصص تاريخية تنسج بيراعك تحمل عمقا مميزا ونكهة متجددة مدهشة
    أتمنى أن يطل نور مؤلفاتك للناشئة ونجده على أرفف مكتباتنا

    تحية اعجاب وتقدير
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • مصطفى شرقاوي
      أديب وكاتب
      • 09-05-2009
      • 2499

      #3
      وهاقد فعلها بن فرناس

      تعليق

      • إيهاب فاروق حسني
        أديب ومفكر
        عضو اتحاد كتاب مصر
        • 23-06-2009
        • 946

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
        الأستاذ المبدع ايهاب حسني
        مشروع قصص تاريخية تنسج بيراعك تحمل عمقا مميزا ونكهة متجددة مدهشة
        أتمنى أن يطل نور مؤلفاتك للناشئة ونجده على أرفف مكتباتنا

        تحية اعجاب وتقدير
        الزميلة المبدعة مها راجح...
        تحية خالصة من القلب...
        كلماتك سفينة نجاة في بحرٍ متلاطمٍ... خاصة وأني أعاني في الاونة الأخيرة مع الناشرين الذين يرغبون في فرض أفكارهم علىّ - علماً بأني أنشر لدى مجموعة من كبرى دور النشر في مصر - لكنّ خللاً قد أصاب الناشرين منذ انتشرت حمّى تسمى المنحة الأمريكية، تلك التي تضمن للناشرين بيع عدداً كبيراً من النسخ بمبالغ باهظة ولكن بشروط أمريكية... صار الأمريكان يعبثون بكل شئ في حياتنا... أتصدقين أن لي سلسلة من الروايات للناشة لدى دار نشر شهير قد وقعت عقودها وتقاضيت أجري عنها منذ عام 2006 وقد تمت مراجعتها منذ عام ( final ) ومع ذلك لم تصدر حتى تاريخه ( 5 روايات ) بسبب المنحة الأمريكية... ما علينا... ما العمل ؟!.... لابدّ أن نعمل دون توقف ولتصدر المؤلفات في أي وقت يناسب هوى الناشرين ...
        أشكرك على تلك الكلمة التي تطوق عنقي... وتدفعني للاستمرار.والمثابرة..
        دمت مبدعة وليكن تواصلنا دافعاً لنا على الاستمرار...
        إيهاب فاروق حسني

        تعليق

        • إيهاب فاروق حسني
          أديب ومفكر
          عضو اتحاد كتاب مصر
          • 23-06-2009
          • 946

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة مصطفى شرقاوي مشاهدة المشاركة
          وهاقد فعلها بن فرناس
          الزميل المبدع مصطفى شرقاوي...
          تحية من القلب...
          أشكر لك مرورك الكريم...
          نعم لقد فعلها إبن فرناس... بل فعل ما هو أكثر بكثير... إنه عبقري من عباقرة الإسلام... وغيره الكثيرين... لقد استولى الأوربيون على فكر هؤلاء بعد اضطهاد الموريسكيين في إسبانيا... حين قاموا بالاستيلاء على مؤلفاتهم العلمية وحرق المؤلفات الدينية... كانت فترة عصيبة انقلبت بعدها الموازين...
          دمت مبدعاً... مزيداً من التواصل والمودة...
          إيهاب فاروق حسني

          تعليق

          • مها راجح
            حرف عميق من فم الصمت
            • 22-10-2008
            • 10970

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة إيهاب فاروق حسني مشاهدة المشاركة
            الزميلة المبدعة مها راجح...
            تحية خالصة من القلب...
            كلماتك سفينة نجاة في بحرٍ متلاطمٍ... خاصة وأني أعاني في الاونة الأخيرة مع الناشرين الذين يرغبون في فرض أفكارهم علىّ - علماً بأني أنشر لدى مجموعة من كبرى دور النشر في مصر - لكنّ خللاً قد أصاب الناشرين منذ انتشرت حمّى تسمى المنحة الأمريكية، تلك التي تضمن للناشرين بيع عدداً كبيراً من النسخ بمبالغ باهظة ولكن بشروط أمريكية... صار الأمريكان يعبثون بكل شئ في حياتنا... أتصدقين أن لي سلسلة من الروايات للناشة لدى دار نشر شهير قد وقعت عقودها وتقاضيت أجري عنها منذ عام 2006 وقد تمت مراجعتها منذ عام ( final ) ومع ذلك لم تصدر حتى تاريخه ( 5 روايات ) بسبب المنحة الأمريكية... ما علينا... ما العمل ؟!.... لابدّ أن نعمل دون توقف ولتصدر المؤلفات في أي وقت يناسب هوى الناشرين ...
            أشكرك على تلك الكلمة التي تطوق عنقي... وتدفعني للاستمرار.والمثابرة..
            دمت مبدعة وليكن تواصلنا دافعاً لنا على الاستمرار...
            استاذنا ايهاب
            ساءني ما قرأت هنا
            ثمة علامة استفهام كبيرة أمامي ..لم؟
            قاتل الله تلك التحولات التي جعلت القلعة الأمريكية عاليـــــــــــــة

            نحن على ما يبدو مسيرين لخدمة العم سام
            حسبنا الله ونعم الوكيل
            رحمك الله يا أمي الغالية

            تعليق

            • ريمه الخاني
              مستشار أدبي
              • 16-05-2007
              • 4807

              #7
              مااقراه هذه الايام اعادة صياغة لتراثنا او حتى وقائع حقيقية ,عبر إضاءات واسقاطات حديثة واظنها من خير الطرق والاساليب
              لك تحيتي وتقديري وتثبيت

              تعليق

              • محمد معمري
                أديب وكاتب
                • 26-05-2009
                • 460

                #8
                [align=justify]بسم الله الرحمن الرحيم
                السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
                أخي الكريم إيهاب فاروق حسني أقف هنا أمام نص عملاق سبكت خيوطه يد فنان ماهر أحسن اختيار الألوان ذوقا وموضعا...
                إنها قصة للشخصيات التاريخية التي تذكرنا بــ "عباس ابن فرناس" أول من حاول الطيران.. وصاغها الكاتب في قالب رائع المبنى والمعنى...
                دمت مبدعا ومتألقا...
                مودتي وتقديري.[/align]
                [glint]
                كل مواضيعي قابلة للنقد

                [/glint]https://maammed.blogspot.com/

                تعليق

                • إيهاب فاروق حسني
                  أديب ومفكر
                  عضو اتحاد كتاب مصر
                  • 23-06-2009
                  • 946

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة محمد معمري مشاهدة المشاركة
                  [align=justify]بسم الله الرحمن الرحيم
                  السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
                  أخي الكريم إيهاب فاروق حسني أقف هنا أمام نص عملاق سبكت خيوطه يد فنان ماهر أحسن اختيار الألوان ذوقا وموضعا...
                  إنها قصة للشخصيات التاريخية التي تذكرنا بــ "عباس ابن فرناس" أول من حاول الطيران.. وصاغها الكاتب في قالب رائع المبنى والمعنى...
                  دمت مبدعا ومتألقا...
                  مودتي وتقديري.[/align]
                  الزميل المبدع الأستاذ محمد معمري
                  تحية لك من القلب...
                  أسعدني مرورك الكريم...
                  هذه القصة واحدة من سلسلة تحاول إعادة الحقّ إلى مستحقيه... العلماء المسلمين لهم فضل كبير على العالم بما خلّفوه من علومٍ ونظريات في غاية الأهمية.. ولا زال بعضها يدرس حتى يومنا هذا...
                  لكننا - مع الأسف - قد أصابتنا عقدة الخواجة... وصرنا نلهث خلف كل ما يرد إلينا من الخارج ، حتى لو كان مسروقاً منّا أصلاً...
                  شكراً لك أستاذي...
                  مزيداً من التواصل والمودة...
                  إيهاب فاروق حسني

                  تعليق

                  يعمل...
                  X