كــلــمة الســــر
في المدينة العتيقة إقامة مربعة الشكل لأحد المستبديـن في عهد الاستعمار ، تعتبر آية في الجمال والبناء والإتقان ، تتوفـر على ساحة واسعة ، وبيـوت ممتدة ، وأبواب مقوسة عالية ،حواشيها مزخرفة كما هو الشأن بالنسبة لسقوف قاعات الاجتماعات الخاصة ، وسواريها من المرمر المجزّع ، وأرضها فرشت بالزليج المتقن التشكيل والوضع ، وروضها يشمل كـل أنواع الأشجار المثمرة ، والورود المبهجة الآسرة .
هذه الإقامة كـثرت حولها الأقاويـل ، خصوصا لما تركها المالك الوحيد لها بعد وفاة أبيه ، ولجأ إلى السكن في منزل بسيط . حيث يحكى أن كل من اكتراها للسكن فيها ، يدخلها حيا ، ويخرج منها ميتا ، ولا أحد يعرف السبب ، لأن الحقيقة يحملها معهم الموتى إلى قبورهم .
أيمن ، وأيسر شقيقان توأمان عاشا وحيديـن دون أهـل في دار للأيتام بعد وفاة والديهما في حرب التحريـر . كانا يتشابهان إلى درجة أن لا أحد يستطيع التميـيـز بينهما . لكن ما كان يميزهما هـو سلوكهما . فأيمن كان مثالا في الانضباط والاستقامة والاجتهاد ، بينما كان أيسر يمثـل النقـيض لأخيه . سلوك هذا الأخير غير اللائق دفع إدارة الدار إلى اتخاذ قرار طرده منها بعد استنفاذ كـل وسائـل الإصلاح والإقناع . طرد أيسـر ، دفـع أيمـن إلى الانقطاع عـن دراسته والبحث عـن عمل لإنقاذ أخيه من الضياع . العثور على عمل لم يكن من الأمور الصعبة في الخمسينات من القرن الماضي . لقد وجد أيمن عملا له في مركز البريد الرئيسي للمدينة الكائن قرب إقامة الرجل المستبد . بحث له عن سكـن يقيم فيه مع أخيه لكن أثمنة الإيجار لم تكن تناسب راتبه الزهيد . بعد جهد مضن في البحث ، وبصدفة عندما كان جالسا في المقهى يحتسي فنجان قهوة سمع أحد رواد المقهى يناديه :
ــ أيمن ، يا أيمن .
لما التفـت إلى الوراء ، لمعرفة المنادي تفاجأ بوجود صديق دراسة المرحلة الابتدائية عـبد النور ، حمل فـنجان قهوته ، وذهب للسلام عليه والجلوس معه .
ــ عـبد النور أهلا وسهلا ، كيف الحال ، أيـن كـنت طيلة هذه المدة التي لم نلتـق فيها ؟؟
ــ بخير والحمد لله ، أنا أعمل في العاصمة ، هـل ما زلت تتابع دراستك ؟
ــ لا قـد انقطعت عنها مكرها .
ــ لـقد كـنت متفوقا في دراستك ، وهذا أمر كان يشهد لك به الجميع . فما الذي حدث ؟
ــ أخي أيسر .
ــ لم أفهم .
ــ لقد طرد من دار الأيتام .
ــ وما دخل طرد أخيك في الانقطاع عـن دراستك ؟
ــ تعرف كـل شيء وتريد التهكم بي يا عبد النور .
ــ أبدا يا أيمن ، وأنت تعرف أنني لست من النوع الذي ذكرت .
ــ أيسر هـو كـل ما أملك في هذه الدنيا ، ولا يمكنني أن أتركه يواجه التشرد والضياع ، بعدما ألقي به إلى الشارع .
ــ فهمتك الآن وأرجـو المعذرة عما قلته بسبب النسيان . لكن قـل لي ، قـبـل أن أناديك كـنت هائما تفكر كأن شيئا يشغل بالك .
ــ صحيح يا أخي عبد النور ، لقـد كـنت أفكر في مأوى ألجأ إليه أنا وأخي .
ــ أنت ابـن حلال وإذا رضيت سوف أحل مشكلتك الآن .
ــ كيف لا أرضى ، وأنا قد بحث في المدينة كلها ،ولم أجد
سكنا يناسب اكتراؤه راتبي الزهـيد ؟
ــ إذن قـم معي سوف أدلك على الدار وإذا أعجبتك يمكنك السكن فيها المدة التي تريد دون مقابـل ، يكـفي فـقـط أن تعتني بنباتاتها وأشجارها ، وتحرسها من اللصوص .
سدد عـبد النـور ثمن المشروبيـن ، وقـصدا سيارته المتوقفة جنب المقهى . ركباها وفي طريقهما إلى الدار تابعا حديثهما عـن ذكرياتهما المشتركة أثناء الدراسة . لما وصلا ، أعطى عبد النور المفاتيح التي كان يحملها معه داخل سيارته لأيمن وأخبره أن الدار مجهزة بكـل ما يلزم وودعه على أمل الالتقاء به في فرصة أخرى . لما فـتح أيمن الباب ودخل بقي كالمصعوق لا يدري أهـو في حلم أم يقيـن ؟ كيف لشخص من الرعاع مثله أن يسكن إقامة لا يملكها إلا ذوو الجاه والسلطان ؟ خرج بسرعة دون أن يحاول التعرف على محتوياتها ، وأحضر معه أخاه أيسر . هذا الأخير اختار التجـول بين أشجارها ، بينما أيمن ذهـب لتحديد الشقة التي سيقـضيان فيها الليلة الأولى . كانت الدار كلها مليئة بالغبار لا بد مـن تـنظيفها كي تصبح صالحة للسكن . حمل أيمـن سطلا وبحث عـن الحنفية لملئه بالماء لكنه لم يعثـر عـليها ، فخرج يبحث عـن أيسر كي يساعده على البحث ، ولما كان قرب شجرة البـرتقال رأى بئرا بجانبه ، أخذ الدلو ودلاها في البئر ولما امتلأت بالماء أراد رفعها فالتوى الحبل على عنقه وثـقـلت الدلو إلى درجة أنه لم يستطع فعـل أي شيء معها . كـل محاولات التخلص من الحبل باءت بالفشـل . ولما كاد أيمن أن ينهار سمع صوتا يخاطبه قائلا له :
ــ الحصول على ماء البئر لا يتم إلا بذكر كلمة السر .
ــ أي كلمة سـر تقصد ؟
ــ سأطرح عليك لغزا إذا عرفت حله نجوت وغنمت ،وإذا فشلت كان مصيرك كمن سبقوك .
ــ وهـل لا بد من الإجابة عـن اللغز ، أنا لا أريد لا غـنيمة ولا ماء ؟
ــ لا يمكن الرجوع إلى الوراء ، وكـل وقت يمر، هـو في غـير صالحك لأن الدلو سيزداد ثـقـله .
ــ حسنا ما هـو هذا اللغز ؟
ــ أيام الأسبوع سبعة ، وكل يومين منه يتشابهان سوى واحد فما هـو ؟
فكر أيمن ولم يعثر على جواب مقـنع ، فما كان منه إلا أن أعطاه جوابا معتمدا فيه على الحظ .
ــ اليوم هــو يوم الاثنين .
لما نطق أيمـن بالجواب أحس بخفة الدلو ، وتخلص عنقه من التواء الحبل عليه ، وذلك علامة على صحة الجواب .
ــ هنيئا لك لقد عرفت الجواب ، ومكافأتك هي داخل الدلو ، فما عليك الآن سوى تذكر كلمة السر عندما تريد الماء ، ولا تبح بها إلى أي مخلوق لأن ذلك سوف يعرض حياتـك للخطر .
رفـع أيمـن الدلو ووجد بداخلها كيسا من النقود ، أخذه ووضعه في جـيـبه ، ثـم كي لا يقـع لأيسر ما وقع له ، عمد إلى قـفـل وأغـلـق باب البئر ، ووضع المفـتاح الذي كان مشدودا بخيط في عنقه . عاد بسطل الماء إلى الغرفة من أجل تنظيفها من الغبار ، وقـبـل أن يفعـل ، جـلس على كرسي وبدأ يفكر من جديد في اللغـز . فاهتدى إلى أن الجواب بالفعل كان صحيحا . فهذه الأيام : الأحد والسبت ، والثلاثاء والأربعاء ، والخميس والجمعة ، تتشابه من حيث عدد الحروف ، ما عـدا الاثـنين .
نظف أيمـن الغرفة ، وقضى فيها ليلته مع أخيه الذي لم يخبره بحقيقة ما جرى له عملا بوصية صاحب الصوت . وطلب منه وألح في طلبه أن لا يـقـتـرب من البئر أو يحاول الحصول على مائها لأنه سوف يكـفـيه مشقة ذلك . بعـد مرور الشهر الأول من السكن في الإقامة المربعة الشكل ، ظهر الغنى على أيمن بشكل سريع . فهو كان يحصل يوميا على كيس من النقود بعد استقائه من البئر . غـنى أيمن ، وإلحاحه على أخيه في عدم الاقـتراب من البئر ـ كـل محظور مرغوب فيه ـ جعلاه يشك في أمر أخيه . فراقبه مرارا إلى أن رآه يفتح القـفـل ويعيد المفتاح إلى عنقه ، ويرفع دلو الماء ، ويأخذ منه الكيس ويضعه في جيبه .
أيمن كان يعرف جيدا نزق أخيه ، لذلك كان يحرص أشد الحرص على عدم ترك مفتاح قـفـل البئر في مكان يمكن أن يعثر عليه أيسر . لكـن في يوم قائظ وبعد عودته من العمـل ، قصد البئر وأخرج الماء ورجع إلى الحمام من أجل الاستحمام . نزع ملابسه بسرعة ودون أن يدري وضع معها المفتاح وترك كل شيء في الخارج ودخل ليغتسـل . أيسر الذي كان كامنا غير بعيد يراقـب كل حركات أخيه ، والذي كان يترصّده ويرقبه منذ مدة طويلة ، اهـتبـل الفرصة التي لا يمكن أن تعوض ، وتسلل من مكانه وهـو يمشي على بنانه ، وأخذ المـفـتاح ، ودون أن يحدث أي ضجيج توجه بأقـصى سرعة إلى الهدف . فـتح الباب ودلى الدلو في البئر ولما امتلأت ماء أراد رفعها فالتوى الحبـل على عـنـقـه وثـقـلت الدلو ولم يعد في مُكـنه رفعها . فسمع صوتا يطلب منه النطق بكلمة السر.
ــ أي كلمة سر تـقـصد ؟
ــ سأطرح عليك لغزا إذا توصلت إلى حله نجوت وغنمت ، وإذا فشلت كان مصيرك كمن سبقوك .
ــ حسنا ما هـو هذا اللغـز قله بسرعة وخلصني من فضلك من ورطتي ؟
ــ أيام الأسبوع سبعة ، وكل يومين منه يتشابهان سوى واحد فما هــو ؟
دون تـفـكـير في العواقـب ، وكي لا ينكشف أمره مع أيمن تسرع أيسر ونطق بالجواب الخاطئ . آنذاك ازداد ثـقـل الدلو ، وضغط الحبل على عنقه إلى أن لاقى مآله المحتوم .
لما خرج أيمن من الحمام ، انتبه إلى ثيابه المبعثرة ، وبسرعة بديهته أدرك الذي وقع . عاريا ركض نحو البئر ، ومن بعيد رأى بابها المفتوحة ، وجسد أخيه المدلى رأسه إلى داخل البئر . أمام هول الفاجعة ما كان من أيمن إلا أن شهق شهقة صعدت معها روحه إلى خالقها .
مأخوذة من مجموعتي القصصية : متعدد لوجه واحد ، الصادرة سنة 2007
أحمد القاطي
تعليق