قصّة موسى بين النّقل والتأويل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحلام الحلواني
    أديب وكاتب
    • 21-06-2009
    • 208

    #16
    المشاركة الأصلية بواسطة أحمد الأقطش مشاهدة المشاركة
    الأستاذة الكريمة أحلام ،،



    أتابع ما تدرجينه في هذا الموضوع، كما أتابع ما يدرجه الأستاذ فتحي. حقيقة ً .. أجد كثيراً من التفصيلات متفقاً عليها، لكن مناطق الاختلاف منصبّة على نقاط بعينها كنتُ أتمنى التركيز عليها دون هذه الحلقات الكثيرة. ولكن على كل حال، فلا ملل مِن الغوص في الآيات الكريمة.

    أتفق في المجمل العام مِن طرحك، لأنه قائم على التدقيق في ألفاظ القرآن. ولكن اسمحي لي ببعض التعقيبات السريعة:



    أنتِ انتقدتِ الإسرائيليات، وحسناً فعلتِ. ولكنك وقعتِ في شَرَكِ النظريات التاريخية، وبخاصة ما يتعلق بحقبة الهكسوس، فهي فترة غامضة في التاريخ المصري القديم نظراً لقلّة الأدلة الأثرية وشحّ الروايات التاريخية القديمة، كتاريخ مانيتون إن كنتِ على دراية به.

    موسى وقومه ليس لهم ذِكر في التواريخ والآثار المصرية المكتشفة حتى الآن، فكيف - ونحن نتعامل مع القصص الحق - نجزم بمثل هذه النظريات التي تواجه الكثير مِن النقد داخل الأروقة العلمية؟ يجب أن يكون القصص القرآني بمنأى عن هذه الأمواج المتلاطمة.



    الله لم يذكر أنّ هناك مَن أرسل هذا الرجل، فلماذا التكهّن بدور لامرأة فرعون؟ هذه الجزئية تنطبق على ما تفضلتِ بانتقاده في قولك:



    .. فمحاولة ملء الفجوات القصصية على هذا النسَق هي التي جعلت القصّاص منذ عصر التابعين يحكون الكثير من الحكايات التي يظنون أنّ الأحداث تسبك بها. أحسنتِ بنقدك لهذه الحكايات التي ليس لها أصل، فلماذا قمتِ بنفس الصنيع هنا؟

    متابع لباقي الموضوع، وأشيد بتناسقه الداخلي
    مع خالص التحية

    ،،


    أستاذي الكريم

    أحمد الأقطش

    أحسنت النقد والله , ولكن اسمح لي أن أفند هذه الحيثيات البسيطة :

    * بالنسبة لما ورد في كتب التاريخ من أخبار الهكسوس , ذكرته هُنا لأنّه لا يتعارض مع ما ورد في القرآن من رفعٍ لنبيه يوسف عليه السلام وأبويه على العرش , بل هو يتماها معه إلى حد ما . وأنا ذكرت في السابق , أنني ربما ألجأ إلى كتب التاريخ فقط , لتقوية الدليل القرآنيّ . وبما أنني ذكرت أن الكلام ليس من كتاب الله , أكون قد حيدت ذهن القاريء عن الاعتقاد به كمُسلّم به , ليبقى نظرية قابلة للتحقيق , أو البقاء في طيّ النّسيان . قد يأتي من بعدنا , ويجدوا أدلّة قويّة تؤيد ذلك , أو تنفيه .

    * بالنسبة للرجل الذي جاء وأخبر موسى - عليه السلام - ذكرته بالرجل , ولكنني وضعت تكهنات لأبيّن لمن عرّفوه بمؤمن آل فرعون , أو رجل من بني إسرائيل , أنّه يُمكن أن يكون أيضا مبعوثا من قِبل أمّه التي ربّته , وهذا أقوى , لأنّها الأكثر اطلاعا على ما يدور في قصر الملك , وهي الأكثر حرصا على سلامة ابنها . أي أن هذا تكهّن يردّ على تكهّناتهم . لكنني شددت , أن لا مجال للتكهّن في أمره , ما دام الله لم يذكره أو يصفه لنا . فرأيي واضح : هو رجل جاء من أقصى المدينة يسعى , وفقط .

    * بالنّسبة لآثار الاسرائيليين , كنت قد قرأت لأحد الجيولوجيين المصريين قديما ( للأسف لم أعثر عليه الآن ) أنّ الحفريات في منطقة الفيوم , كشفت عن صور للفراعنة وهم يستعبدون الاسرائيليين , وصورت القبطي باللون الأسمر , والاسرائيلي باللون الأبيض . وقرأوا تحتها شيئا من هذا القبيل : العصا بيدي , أراقبك أيها العبد , فلا تُحاول أن تتقاعس عن العمل ..... لا أذكره جيدا ( للأمانة ) . لكنني بطبيعة الحال , لا أسلّم تماما بهذه الأمور , إلا إذا وجدت شيئا ملموسا يُقابله في القرآن أو السنة .

    يهمّني جدا أن أجد في الكُتب العلميّة ما يتوافق مع ما ذُكّر في القرآن الكريم , بل هذا يُقوّي من الحماسة القصصيّة , ويجعلها أكثر وضوحا أحيانا , ولا أجد ضيرا في ذلك .

    مودتي واحترامي

    تعليق

    • أحلام الحلواني
      أديب وكاتب
      • 21-06-2009
      • 208

      #17
      خروج موسى وقومه من مصر , وتوجّههم إلى الأرض المُقَدّسة

      دعونا أيها الاخوة , قبل الذهاب إلى الآيات , التي تحمل بين جنباتها إشارات قويّة عن مسيرة موسى وقومه نحو الأرض التي كتبها لهم , أن نتأمّل بعض الآيات التي ذُكرت وقت الخروج , إذ قال سُبحانه :
      وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ .

      الأعراف
      ( 137 )

      لقد اختلف بعض المُفسّرين حول الاستضعاف مشارق الأرض ومغاربها , وحول الأرض المُوَرّثة وطبيعتها وموقعها . وأنا بكُلّ بساطة , لا أجد أي سبب لهذا الاختلاف . فالآية تتحدّث عن أمرين : التوريث , وتمام الكلمة , أي : قضاء الأمر الذي وعد الله بقضائه , وهو , إنقاذ بني إسرائيل , وتدمير آل فرعون . كما أنّ هُناك دلالة جليّة وواضحة على ما وضّحناه سابقا في قضيّة التنكيل ببني إسرائيل , وسببه . فالله عزّ وجلّ يُجزي بني إسرائيل على صبرهم , والصبر معناه التمسّك بالمباديء , ألا وهي دين الله . ففرعون أرادهم أن يتركوا دينهم , ويؤمنوا له , فلم يستجيبوا لطلبه , وصبروا على المِحن , حتى جاءهم الفرج , فحقّت لهم الجائزة , وهي : أن يُوَرّثوا مشارق ومغارب الأرض المُباركة , التي سنرى لاحقا أنّها تحوي الأرض المُقدّسة أيضا .

      ثُمّ قوله تعالى :

      فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
      وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
      كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
      الشعراء
      ( 57 - 59 )

      الله هُنا يتحدّث عن فرعون وجنوده الذين لحقوا بقوم موسى لارجاعهم . فتركوا الجنّات والعُيون والمقام الكريم
      , ولم يعودوا إليها أبدا . ثُمّ يستدرك الله بقوله :
      كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
      فهو استدراك للكلام , بمعناه ومبناه . وعطفَ على الجنّات والعيون التوريثَ في الماضي , أي أنّ هذه النّعم , تمتّع بها من قبلُ بنو إسرائيل , عندما كانوا يسيطرون على إقتصاد البلاد بعد نبيّ الله يوسف - عليه السلام - . وقال العُلماء : أن لا معنى للتوريث إن لم ينعموا به , ولم يثبُت عن بني إسرائيل رجوعهم إلى مصر بعد الخروج مُطلقا , ولا حتى في عهد سُليمان الذي حكم الأرض بقُوّة الله الواحد . كذلك الآية التي تتحدّث عن تدمير كلّ شيء في قاله سبحانه :
      وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ .
      فكيف يدّعي البعضُ أنّ بني إسرائيل رجعوا إلى مصر , وتورّثوا الجنّات والعيون التي تركها فرعون وجُنده ؟! كذلك ما يتبع من الآيات الكريمات التي تتحدّث بالتفصيل حول مسار موسى وقومه بعد تجاوُز البحر , والتي سنتتبعها جيّدا , وسنرى : أن لا أساس لهذا الخلط مُطلَقا , ولم يعُد بنو إسرائيل إلى مصر .
      ******
      تصوّروا يا سادة , الوضع غربيّ البحر , بعد هلاك فرعون وجُنده في ساعة واحدة , وفي وقت واحد . الملك , وبعض الوزراء المُهمّين ( كهامان ) وصفوة الجيش العليّ , كُلّهم هلكوا :
      إنّهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين
      / الأنبياء

      فلمّا آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين
      / الزخرف

      ومن النّاحية النّظريّة , أرى أنّ البحر بدأ بالانطباق من النّاحية الشرقية , ناحية بني إسرائيل , بشكل مُنتظم ومُتدرّج نحو الغرب , فيخرُج الموج على الشطيء الغربي دون الشرقيّ , ويُغرق من بقي منهم على الشاطيء أيضا . والله أعلم . فأغرقناهم أجمعين , تجعلني أؤكد على هذا المبدأ , إذ لم يبق ممّن لحقوا بموسى وقومه أحدا . كما أنّ نجاة جميع قوم موسى :
      وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ
      / الشعراء

      يُحتّم عدم لحاق الموج بهم ساعة الانطباق , والله سبحانه أعلا وأعلم .
      لا شكّ أنّ الفوضى عمّت البلاد , والفراغ الأمني الذي تركه الجُنود , جعل الفقراء والضّعفاء يبدأون بالسّلب والنّهب والتدمير لما تركه الأغنياء والمقربون من فرعون وملإه . وساد الحُزن , وتعالت صيحات الثّكالى , ونال آلَ فرعون ما ناله على يديه بنو إسرائيل من قبل . فدمّر اللهُ ما كانوا يعرشون ويبنون .
      انتهى السّرد لهذه القصّة في سورة القصص عند غرق فرعون وجنوده , ثُمّ توجه الله إلى نبيّه مُحمّد - صلى الله عليه وسلم - يُخاطبُه :

      وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
      وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
      وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
      وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
      فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
      قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
      فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
      وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
      الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ
      وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ
      أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
      وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ
      إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
      القصص
      ( 44 - 56 )


      لاحظوا يا سادة , أنّ الله بدأ سورة القصص بذكر آيات الكتاب المُبين الظاهر الواضح , ثُمّ راح يسرد قصّة موسى من يوم مولده حتى النّجاة ببني إسرائيل , وهلاك فرعون . ثُمّ توجّه إلى رسوله عليه السلام بالقول :
      وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
      وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
      وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
      لقد تناول العُلماء هذه الآيات من جوانب عديدة , أهمّها التدليل على نُبُوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - أمام أهل الكتاب , إذ أنّ هذه القصص من الغيبيات بالنّسبة للعرب خاصّة , والنّاس عامّة . وكان معروفا عنه صلى الله عليه وسلم عدم تعلُّمه للقراءة والكتابة , فمن أين لهُ بهذه الأخبار عن الأمم السابقة , بهذه التفاصيل الدقيقة ؟! وهُنا سأفجر قنبلة لن يرضى عنها الكثيرون , إذ أنّني سأختلف مع كافّة المُفسرين والعُلماء , ليس من حيث الدلالة الواضحة على نُبوّة رسولنا الأكرم ( لا سمح الله ) , ولكن من حيث التفسير للآيات , فأقول , وعلى الله أتوكّل , وأدعوه أن يغفر لي إن أخطأت , وأن يجزيني خير الجزاء إن أصبت :
      وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
      أجمع العُلماء والمُفسّرون على أنّ المقصود بالجانب الغربيّ , هو الجانب الغربيّ من الجبل الذي كلّم الله فيه موسى - عليه السّلام - وقالوا عن قضاء الأمر : ما فرضه الله على موسى وقومه . وهذا يعني بعد تلقيه الكتاب , وهو ما كان بعد هلاك آل فرعون وما قبله من القرون أيضا :
      وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
      مع أنّ الله في هذه السورة , لم يذكر الموعد بينه وبين موسى وقومه عند الجانب الأيمن من الطور .
      سؤالي
      : كيف عرفوا أنّ الله يتحدّث عن الجانب الغربي من الجبل , وأجمعوا جميعا على ذلك ؟

      بحثت في كل آيات القرآن عن أيّ آية تتحدّث عن جانبٍ غربيٍّ لأيّ جبل , فلم أجد سوى الحديث عن جانب الطور , وجانب الطور الأيمن , وشاطي الوادي الأيمن . فمن أين عرفوا أنّ الجانب الأيمن من الطور هو الجانب الغربيّ وليس الشرقيّ مثلا , وهم لا يعرفون أصلا مكان الطور ؟!
      كما أنّ الله تحدث عن ثلاث مناطق في هذه الآيات : الجانب الغربيّ , مدين , والطور . فما هي الحكمة من ذكر الجبل مرّتين ؟
      أقول وبالله التوفيق : أنّ الله تحدّث لمُحمّد عن قصة واحدة في هذه السورة , ولم يأت على ذكر أيّ نبيّ غير موسى وهارون ( عليهما السلام ) من حيث الحادثة القصصية . إذا : المناطق الثلاث هي من شأن موسى - عليه السلام - وهي المناطق التي تواجد فيها هو في القصّة , ومحطّاته الأهم في حياته , وهي :
      الجانب الغربيّ من البحر ( مصر ) , ومدين ( حيث تزوج , وثوى فيها فترة من الزمن ) , وجبل الطور ( الذي كلّم الله فيه لأوّل مرّة , وتلقّى التكليف الالهيّ في الرّسالة ) .

      التّفصيل :

      قال سُبحانه :
      وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
      بحثت عن كلمة ( قضينا ) في القرآن , فوجدت الآتي :
      وقضينا إليه الأمر أنّ دابر هؤلاء مقطوع
      / الحجر

      وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفسدُنّ في الأرض مرّتين ولتعلُنّ عُلُوّا كبيرا
      / الاسراء

      فلمّا قضينا عليه الموتَ ما دلّهم على موته إلا دابّة الأرض تأكل منسأته
      / سبأ


      ولو تتبعنا كل كلمة قضاء في القرآن , لوجدناها تتراوح في المعنى بين : الحُكم , والانهاء للحاجة . مثل قوله : فوكزه موسى فقضى عليه , أي أنهى حياته , أجهز عليه .
      ولكن : قضينا إلى موسى الأمر , لا تُقابلها بالمعنى والمبنى سوى : وقضينا إليه الأمر . وهو لوط - عليه السلام . أي أنّ : قضينا إلى موسى الأمر , تُقابل : قضينا إلى لوط الأمر . وكلاهما جاءتا بعد تكذيبهما من الذين بُعثوا إليهم , ونزول العذاب بمن كذّبوهما .
      قضى الله إلى موسى الأمر بإهلاك فرعون وجنوده وتدمير ما كانوا يصنعون ويبنون ويعرشون , كما قضى إلى لوط الأمر بقطع دابر الذين جاءوا بالفاحشة وإهلاكهم , وتدمير ما كانوا يصنعون ويبنون تدميرا مُبرما .
      ثُمّ قال الله لرسوله عليه السلام , وما كُنت من الشاهدين , أي : لم تشهد هذا القضاء الذي أنجزناه لموسى في الجانب الغربيّ من البحر , ولكننا نحن من أخبرناك به , وعلمناك ما لم تكن تعلم , لا أنت , ولا قومك . والآيات السابقات لهذا في سورة القصص تشهد على القول , ثُمّ يُتبع هذا بقوله سبحانه :
      وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ
      جاء من بعد القوم الذين شهدوا هذه الأحداث بأعيُنهم ( قوم موسى ) أقواما مرّ عليهم الزّمن الطويل , فنسوا كُلّ ذلك , وارتدوا عن دين الله , وفسقوا , وأفسدوا . وها هم يعيشون بينكم في المدينة المنورة ( يهود بني النضير والقينقاع ) . إقرأوا إن شئتم الآيات التي ذكرتها في الأعلى , والتي تُبيّن مجادلة اليهود لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , مُباشرة بعد الآيات الثلاث التي نبحثها الآن , وفي ذات السورة ( القصص ) .
      ثُمّ أتبع الله الخطاب لرسوله عليه السلام , فقال :
      وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
      وهُنا نسأل , لماذا ذكر الله مدين عن دون البلاد والأقوام ؟ فهناك ثمود وعاد وغيرهم من الأقوام الذين بعث لهم رسلا تتلوا عليهم آياته . وكان الله يُعددهم في عدة سور . فلماذا مدين بالذات ؟ وجاءت الآية بين آيتين ذكر الله في الأولى قضاء الأمر لموسى , والأخيرة نداءه لموسى من جانب الطور . وهذا كما أسلفنا بعد أن قصّ على محمد - صلى الله عليه وسلّم - قصة موسى وفرعون حتى هلاك الأخير !!! أليست هذه علامات واضحة وجليّة على أن الذي كان ثاويا في مدين يتلو على الناس آيات الله هو موسى - عليه السلام - وليس شُعيبا - عليه السّلام - ؟ ولكنّ موسى - عليه السلام - لم يكُن مُرسَلا من ربّه عند لجوءه إلى مدين هاربا من القوم الظالمين , ولم يؤتَ الكِتاب إلا بعد هلاك فرعون , فكيف كان يتلو على أهل مدين آيات الله ؟
      الجواب : سنراه واضحا وجليّا في مُتابعة أحداث القصّة .
      قبل الخروج من هذا الموضوع إلى السرد القصصي للأحداث , أودّ أن أنوّه , أنّ ما جاء على لسان أبي هُريرة ( رضي الله عنه ) حول تفسير الآية :
      وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
      إذ قال رضي الله عنه : إنّه ناداكم أنتم يا أمّة مُحمّد . ليس عليه خلاف أبدا , ولا يتناقض في حال من الأحوال , مع مُناداة الله لموسى - عليه السلام - وتكليفه بالمُهمّة . إذ أنّه عليه السلام واعده ربّه مرة ثانية عند الطور :
      وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
      وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
      الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
      الأعراف
      ( 155 - 157 )


      الأهمّيّة هُنا تكمُنُ في ذكر الأماكن , وتعيينها كمحطات رئيسة في حياة نبي من أولي العزم , اسمه : موسى بن عمران ( عليه وعلى محمد وسائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتمّ التّسليم )
      *****

      الآن , لو صحّ لنا أن نُقسّم قصّة موسى عليه السلام وقومه إلى جُزئين , فسنجد أنفسنا نتحدّثُ عن شعب , عاش الظُّلم : مفعولا به , وفاعلا له . فالجزء الذي كان فيه مظلوما , انتهى إلى هذا الحدّ . الآن , سنرى هذا الشعب المظلوم الصّابر , ماذا فعل بعد أن رفع عنه الله الظّلم , وأورثه الأرض المُباركة , وكتب عليه دخول الأرض المُقدّسة . كما أنّنا لن نجد في هذه الدّنيا كِتابا , يصف اليهود بنفسياتهم , وأحوالهم الأخلاقية , وتقلّباتهم الفكرية , كما في كتاب الله الذي بين أيدينا .

      فلنُتابع

      تعليق

      • أحلام الحلواني
        أديب وكاتب
        • 21-06-2009
        • 208

        #18
        الطريق إلى الطور , والميثاق مع الله

        تنَفّس بنو إسرائيل الصّعداء , وبدأوا أولى أيّامهم أحرارا , مُنعتقين من عبوديّة فرعون وملإه لهم . وعلى الفور , جاءت البُشرى بجائزة الصّبر التي أعدها الله لهم , وواعدهم جانب الطور الأيمن , ليأخذوا ميثاق ربهم , فيرثوا الأرض المُباركة , ويدخلوا الأرض المُقدّسة التي كتبها لهم :

        يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَن / طه80

        فضرب الله لهم لميقاته ثلاثين ليلة , ثُمّ زادها عشرا , لتُتِمّ الأربعين , حتى يستقبلهم جميعا عند الجانب الأيمن من الطّور :

        وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً /
        الأعراف 142

        سيسألني سائل : الله واعد موسى أربعين ليلة , فكيف تقولين أنّه واعد بني إسرائيل ؟
        أقول : الله واعد النّبيّ القائد , المُخوّل بالوحي , ليأتي مع رعيّته إلى ميقاته , فلمّا رأى أنّ الرّعيّة بطيئة في السير , خاف أن يتأخّر عن الموعد , فسبقهم إلى هُناك , مُستخلفا أخاه النّبيّ هارون فيهم . فلمّا وصل قبلهم , سأله ربّه عن سبقه لقومه :

        وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ؟ / طه 83

        وهُنا يسأل العليم بالاجابة نبيّهُ للبيان وليس للاستفهام , فيُجيبُهُ موسى :

        هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى / طه 84

        إذا , القضيّة ليست قضيّة استعجال اللقاء للاشتياق إليه , لأنّهُ يعلم أنّه لن يلقى الله إلا في الموعد المُحدّد من قبله سُبحانه . الاشتياق لسماع صوت الرّب ولقائه موجود , لكنّ الاستعجال بالوصول إلى الطّور ليس لهُ مُبرّر إلا ما ردّ به موسى على سؤال ربّه جلّ وعلا , وهو : طلب رضاه على عبده المُطيع لأمره , المُلتزم بدقّة مواعيده . فَتَرَكَ أخاه مع القوم يسيرون على أثره براحتهم , وأوصاهُ أن يتّبع أوامر الله , وينتهي عن نواهيه , ولا يسمح للمُفسدين أن يُضلّلوا القوم في رحلتهم الطّويلة , فقال :

        اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين / الأعراف 142

        هارون - عليه السّلام - كان أيضا من المُرسَلين , وهو يعلم ما يجب عليه أن يفعله , ولكنّ قلق موسى - عليه السّلام - الدّائم على قومه , كان يُحتّمُ عليه تكرار النُّصح والتوجيه , خاصّة أنّه يعلم بضعف ايمانهم , ودلالة ضعف الايمان كانت : طلبهم من موسى أن يجعل لهم إلها كآلهة أوّل قوم صادفوهم بعد تحركهم عبر صحراء سيناء :

        وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون .
        إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ .
        قَالَ : أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِين ؟!الأعراف 138

        إنّهم لا زالوا يجهلون شرع الله وأوامره , التي وعدهم أن يُعطيهم إيّاها عند ميقاته في الطور , والتي فيها :

        مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْء / الأعراف 145

        فبيّن لهم موسى قبل أن يتركهم مع أخيه بُطلان ما يقوم به هؤلاء الوثنيين من عبادة للاصنام , وأنّ الله اختار بني إسرائيل من بين البشر ليكونوا أئمّة ودُعاةً إلى الحق , وقد فضّلهم الله على العالمين بهذه المُهمّة السامية , لصبرهم على ما لحقهم من فرعون وظُلمه :

        وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ / الأعراف 137

        وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين / القصص 5

        وصل موسى إلى الطور في الميقات المُحدّد , وراح يُناجي ربّه , ويستمع إلى كلامه , فهامت نفسه بصوت الله وحُبّه , ليجد نفسه تطلب طلبا ليس من حقّه :

        قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْك .

        فنبّهه الله أنّه لا ينبغي لبشرٍ أن يراه في هذه الدّنيا , لأنّ عيون النّاس , وعُقولهم , غير مُصمّمة لتحمُّل هذا النور العظيم :

        قَالَ لَن تَرَانِي .

        ثُمّ أراد سُبحانه أن يُبرهن على قُوّة هذا النّور , فاستدرك قائلا :

        وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي .
        فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين . / الأعراف 143

        وهذا البُرهانُ العمَليّ , مِن دَكِّ الجَبَلِ وتسويته في الأرض , لم يتحمّل مَشهدهُ موسى , فخرّ مغشيّا عليه , فماذا سيحصُل لهُ لو رأى الله ؟
        اعترف موسى بذنبه , وأناب إلى الله وهو مؤمن صادق . فسلّمه سبحانه الكتاب جُملة واحدة , مكتوب على ألواح , فيه تفصيل كُلِّ شيء :

        وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ

        ثُمّ توجّه إليه بالخطاب :

        فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
        سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
        وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون .الأعراف ( 145 - 148 )

        كان يُفترضُ أن يحضر هذا التتويج قوم موسى معه , ليأخذوا موثقا من الله , ولكنّهم ضلّوا من بعد أن تركهم , وعبدوا العجل , وبقوا عليه عاكفين حيثُ عبدوه , فجاءت الصاعقة الكُبرى من هذا النّبأ على موسى , إذ أخبره ربّه بالحدث , وهو يتساءل بينه وبين نفسه عن تأخّر قومه , فقال :

        فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيّ / طه 85

        فانطلق موسى من فوره غضبانا , وحزينا . فلمّا وصل إليهم , رأى ما رآه من حالهم وهم يعبدون العجل من دون الله , وكأنّهم لم يشهدوا مهلك فرعون وملإه منذ فترة وجيزة , فألقى الألواح من يده , وأخذ برأس أخيه ولحيته يلوم عليه :

        وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين / الأعراف 150

        ثُمّ قال الله في سورة البقرة , آية 51 :

        وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُون .

        لاحظوا أيها الأخوات والاخوة , إلى هذه الأحوال الخطيرة التي وردت في الآيتين أعلاه :

        *عبادة الأصنام .
        *استضعاف هارون - عليه السلام - والقلّة التي وقفت معه , ومحاولة قتله .
        *وصف الذين فعلوا ذلك بالقوم الظالمين , وهم الأكثريّة .

        إنّها نفس أعمال فرعون وملإه .

        عندما هدأ موسى - عليه السلام - من ثورته , توجّه أوّلا إلى ربه يدعوه :

        قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين .

        ما أجملك يا كليم الله , وما أرحمك وأصبرك على الأذى والبلوى .
        فأخذ الألواح التي فيها التوراة , هُدى ونورا لمن آمن بها , وعمل بمُقتضاها . وراح يتقصى الأمر من قومه , ويسألهم عن سبب فعلتهم الشّنيعة , وغير المُغتفرة هذه . فقال قومه :

        يَا قَوْمِ : أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ؟
        أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْد ؟
        أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ؟

        ثلاثة أسئلة استنكارية من موسى لقومه , تعمل عمل اللوم والتوبيخ . كما أنّها تُريد أن تتبيّن الأمر , من خلال ما يأتي القوم من تفنيد وإجابة .

        *ألم يعدكم الله وعدا لن يُخلفه بإعطائكم ميثاقه , في الكتاب الهادي إلى التوريث ؟ إذ أنّهم إن لم يلتزموا بالكتاب , فلن يكون هُناك توريث .

        *هل طالت عليكم المسافة , فطال عليكم اللقاء ؟

        أنظروا إلى معاني العهد :

        * الميثاق
        * الولاية
        * الايمان
        * رعاية الحُرمة
        * الوفاء
        * المعرفة
        * اللقاء

        فمع أيٍّ من هذه المعاني تنسجم جُملة : فطال عليكم العهد ؟

        ليأتي بعد ذلك التساؤل :

        * فأخلفتُم موعدي ؟

        الموعد هُنا ليس الوعد , إذ أن الوعد كان من الله معهم في السؤال الأول , ولكنّ الموعد الذي ضربه موسى لهم , هو الالتقاء عند الطور , فأخلفوا ذلك الموعد , لماذا ؟

        قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ
        فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِي / طه 87


        قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى / طه 91


        طيّب , قال موسى : وأنت يا هارون ما الذي منعك من أن تتّبعني , وتُواصل السير ورائي إذ رأيتهم ضلّوا , وبقوا في مكانهم عاكفين على عبادة هذا الصنم ؟

        قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا
        أَلاَّ تَتَّبِعَنِ ؟ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟! / طه 92 - 93

        قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي / طه 94

        إجابة منطقيّة جدّا , إذ أنّ موسى - عليه السّلام - كان قد أوصى أخاه بالاصلاح بين بني إسرائيل , بعد أن أخلفه عليهم , لا أن يُقسّمهم إلى حزبين .
        أمّا من قال من المفسرين بأنّ موسى لامَ على أخيه لأنّه لم يُقاتل الذين عبدوا العجل . فكيف يُقاتلهم , وهم أصلا كادوا أن يقتلوه , دلالة على كثرتهم , وتغلّبهم على من لم يعبد العجل ؟! لهذا , آثر أن يبقى معهم , يرقبهم حتى عودة أخيه .
        إذا , الذين عبدوا العجل قالوا ما عندهم , واتهموا السّامريّ باستغلال تحرّيهم حُرمّة الأوزار , ممّا حملوه معهم من زينة , وحُليّ آل فرعون , لأنّها حسب ما يعرفون , وِزرٌ يجب التّخلُّص منه , فأخذ الحُليّ من الذّهب والفِضّة , وصهرها بالنّار , وصنع منها جسدَ عِجلٍ لهُ صوت ( خُوار ) . وهذا ليس بالأمر الصعب من النّاحية العلميّة , ما دام جسد الصّنم فارغا , وفمُهُ مفتوحا , إذا ما وُجّه نحو زاوية مُعيّنة لتضربه الرّيح , يخرُجُ صوتٌ كخوار الثور . ولا أستطيع أن أحلّل المسألة بالطريقة التي حلّلتها كُتُب التفسير , لأمرين :

        * أن لا دليلا قطعيًا من الكتاب والسّنة على ما يقولون بما يَخُصُّ أثر الرّسول , وحفنة التُّراب التي أخذها السّامريّ , ونفثها في وجه الثور ليكون لهُ خُوار .

        * كما أنّه لا يتسنّى لأحد أن يرى جبريل عليه السّلام , ولكنّه قد يأتي على شكل بشر , كما ورد في الحديث الصحيح , عندما جاء يُعلّم النّاس دينهم , فسأل رسولَ الله عن الايمان والاحسان .... الخ الحديث .

        هُنا سأقول : لا أعلم , ولن أسهب كثيرا في الحديث حول هذا الأمر .
        توجّه موسى بالسؤال إلى السّامريّ :

        قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ
        قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي
        قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا / طه 95 - 97

        عُذرُهُ أقبح من ذنبه , لكنّه اعترف بجريمته . أمر عليه السّلام شعبه بعدم مُخالطة هذا الرّجل مدى الحياة , وأنّ حسابه سيكون مع الله عند موته ولقائه . ثُمّ أخذ صنمه الذي أضلّ به القوم , وحرّقهُ , وقذفه في البحر . ثُمّ قال لقومه :

        إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا / طه 98

        الآن , ماذا مع الذين عبدوا العجل من قوم موسى وهارون ؟

        إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
        وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيم / الأعراف 152 - 153

        إذا , هُناك من عبدوا العجل , فنالهم غضب من الله وذلّة في الحياة الدُّنيا . وهُناك من سكتوا عنهم ولم يُجابهوهم أو ينصحوهم , فاعتُبرت لهم سيئة , ثُمّ تابوا إلى الله , فتاب عليهم , وهُناك من لم يرض عن هذا , ونصحهم , وهو : هارون - عليه السّلام - , فدعا له أخوه بالمغفرة على التقصير . وحاشهما عليهما السّلام من التقصير . لكنّه تواضع الأنبياء أمام ربهم , وشعورهم الدائم بالتقصير .
        موسى - عليه السلام - مكث ينتظر حُكم الله فيمن عبد العجل , فجاء :

        وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ , فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم /البقرة 54

        وحتّى يُثبت الذين عبدوا العجل ندمهم :

        وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ , قَالُواْ : لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين / الأعراف 149

        فراحوا يقتلون أنفسهم وهم مذلولون مقهورون , وهكذا , تاب الله عليهم بعد موتهم .
        كلّ شيء أصبح على ما يُرام , وعاد بنو إسرائيل إلى رُشدهم , فحدّد الله مع موسى - عليه السلام - موعدا آخر لقومه , ولكن هذه المرّة , مع الصفوة منهم . سبعين رجلا يختارهم موسى من خيرة رجالهم , وبالتساوي بين أسباطهم الاثني عشر . فطلب منه قومه أن يُمدّهم بالطعام والشراب , ما داموا سيبقون لفترة أطول في مكانهم على البحر , وما دام الله قد غفر لهم :

        وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون / الأعراف 160

        ذهب موسى مع السبعين رجلا إلى ميقات الله , ليأخذوا ميثاق ربّهم , ويعتذروا إليه عمّا فعله قومهم , ويتوبوا ليغفر لهم . فلمّا وصلوا الطور , وكلّم الله نبيّهُ موسى - عليه السلام - وشرح لهم بنود الميثاق , وهي :

        وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ
        وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ .

        لكنّهم أبوا أن يعقدوا أي اتفاق , وطلبوا طلبا غريبا وجريئا :

        وإذ قُلتم : يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُون / البقرة 55

        هؤلاء هم الصفوة من بني إسرائيل , يتجرأون على الله بكل هذه الوقاحة .
        فتوجه إليه موسى بالتضرُّع والدعاء , بعد أن رأى القوم صرعى , ميّتين من هذه الصاعقة :

        فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ : رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ , أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا ؟ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء , أَنتَ وَلِيُّنَا , فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
        وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك / الأعراف 155

        فعفى الله عنهم , لعلّهم يشكرون , وأبرم الاتفاق معهم , وأخذ عليهم المواثيق :

        وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل / المائدة 12

        وهكذا , اختار السبعون رجلا منهم اثني عشر نقيبا , من كُلّ سبط واحد , ليذهبوا إلى القوم , فيُخبروهم بما جرى في الميثاق , ويأتوا بالرّجال القادرين على القتال , وعلى رأسهم , نبيّ الله هارون - عليه السّلام - , فلمّا وصلوا إلى الطور , ووقفوا قُبالة بيت المقدس , جاءهم أمر الله بالدُّخول إلى المدينة المُقدّسة :

        وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ
        يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِين / المائدة 20 - 21

        وقف عليه السلام يرفع من معنوياتهم , ويُشجّعهم , ويهوّن عليهم الأمر , ويُذكّرهم بأيّام العُبوديّة , وكيف منّ الله عليهم بالتحرّر , وها هم الآن ملوكا يملكون أنفسهم وعوائلهم . لكنّ جُبنهم , وتعودهم على العبوديّة , جعلهم يخافون الدّخول , وبدأوا يحتجّون بأنّ هذه الأرض فيها قوما جبّارين .
        والحقيقة أنّني ضحكت من قول الكثيرين من المُفسّرين , إذ وصفوا القوم الجبّارين على أنّهم عمالقة , بحيث يضع الواحد منهم اثني عشر رجلا من بني إسرائيل في سلّة خُضاره , ويأتي بهم إلى زوجه ليقول لها : هؤلاء القوم يُريدون مُقاتلتنا , فاستهزأت منهم زوجه وقالت , لو شئتُ سحقتهم تحت قدمي .
        كأنّني أشاهد فيلما كرتونيّا لــ ( أليس في بلاد العجائب ) .

        قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون / المائدة 22

        فقال لهما نبيّا الله ( موسى وهارون ) وقد وصفهما الله بالرّجُلين اللذين أنعم الله عليهما :

        ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين / المائدة 23

        أي أنّهم مُنتصرون لمجرّد أن يدخلوا الباب , حتى دون قتال . فلو دخلوا لوجدوا أنّ الله قد أنهى لهم الأمر بكلّ بساطة . ولكنّهم جهلة مجرمون متمرّدون . وكأنّهم لم يروا بأمّ أعينهم كيف قضى الله على أقوى رجل في العالم في ذلك الوقت , مع جنوده ووزرائه في طرفة عين . فمن هؤلاء الذين وصفهم بنو إسرائيل بالجبّارين بجانب فرعون وجُنده ؟ ألا يرون أنّهم محصورون داخل أسوار مدينة لها أبواب ؟! أيّ تعنّت هذا يا ربّ مِن هؤلاء الجُبناء !!!!

        فما كان جوابهم إلا أن قالوا :

        يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون / المائدة 24

        فلمّا رأى موسى قومه وقد أجمعوا على رأي واحد , وقرّروا عدم الدخول , توجّه إلى ربّه بالقول :

        رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين / المائدة 25


        هُنا , تدخّل ربُّ العِزّة , وأراد أن يُذكّرهم بالميثاق الذي قطعوه على أنفسهم , فماذا فعل ؟

        وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا / النّساء 154

        حتى أنّ الله وصف جبل الطور فوقهم كأنّهُ ظُلّة ( غمامة ) فقال :

        وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون / الأعراف 171

        وبعد مُوافقتهم على الدُّخول , خفّف الله عليهم الأمر أكثر , وطلب منهم أن يدخلوا المدينة وهم ساجدين , ويُردّدون : حِطّة :

        وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِين / البقرة 58

        إذا , كُلُّ ما عليهم فعله هو : أن يدخلوا الباب سُجّدا , وهُم يدعون الله أن يحُطّ عنهم خطاياهم . هُنا , ارتكبوا الخطأ الذي استوجب غضب الله وسخطه عليهم , أكثر من رفضهم الأوامر بالدّخول :

        فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُون / البقرة 59

        أوّل عقابٍ فوريٍّ للذين بدّلوا القول , واستهزأوا بأمر الله وكلماته , أن أنزل عليهم رجزا من السّماء . وكما شرحنا معنى الرّجز في السّابق , هو : الموت . أي : حَكم عليهم بالموت فورا . ذلك لأنّهم بدل أن يقولوا : حِطّة , قالوا : حِيتاه , أي : حِنطة . لأنّ الكلمتين قريبتين باللفظ , لكنّهما بعيدتين بالمعنى . ثُمّ حَكم على الباقين الذين عصوا أمر الرُّسُل رُغم أخذ المواثيق منهم , وإقرارهم بذلك , أن يتيهوا في الأرض أربعين سَنَة . والتوهان في اللغة يعني : الحَيْرة . أي أنّهم احتاروا إلى أين يذهبون , وفي أيّ أرض يسكنون , بعد رفضهم السكن في الأرض التي كتبها الله لهم . فرجعوا إلى زوجاتهم وأولادهم عند خليج العَقبة , ومكثوا ما شاء الله لهم أن يمكثوا , حتّى ملّوا من المنّ والسلوى , فقالوا لموسى - عليه السلام - :

        يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُون / البقرة 61


        الأخوات والاخوة الكرام

        من تتبّع قصة موسى - عليه السلام - من خلال كُتب عديدة , وجد أن الاختلاف بين المُفسّرين أو العلماء , أو الباحثين في قصص القرآن الكريم , ليس بهذا الحجم الذي يُمكن أن يُحدث شرخا في القصّة بشكل عام . لكنّ الحشو من التفاصيل التي تكاد تقترب إلى الأسطورة أو الخيال منها أكثر إلى الواقع , هُو ما يؤرّق الانسان الحريص .

        سأتوقف قليلا هُنا , حتى أفسح المجال لمن لديه أيّ مُلاحظة , خاصّة بعد الصدمة التي قد يكون البعض تلقّاها حول موقع الطور الذي كلّم الله فيه موسى - عليه السّلام - , وتفسير بعض الآيات على نحو لا يتفق مُطلقا مع ما ذهب إليه المُفسّرون سابقا .
        فمن لديه أيّ استفسار , أنا مُستعدّة للرد عليه . فأنا أعدّ بعض الصور للخرائط ,التي تُبيّن خطّ السّير لبني إسرائيل , مع مُقارنتها بالآيات التي أشارت إلى بعض المواقع دون تسميتها أو تحديدها بالضّبط , لكنّنا من خلال الاستنباط والتّجميع لبعض المعلومات المُهمّة , استطعنا الوصول إليها , وتحديدها .

        كما سنأتي لا حقا إلى ذكر قصص فرعيّة مع موسى - عليه السّلام - مثل قصّة الخضر والبقرة والوفاة . وهي ستُفيدنا في الاقتراب أكثر إلى ما ذهبنا إليه في هذا البحث .

        يتبع

        تعليق

        • أبو صالح
          أديب وكاتب
          • 22-02-2008
          • 3090

          #19
          المشاركة الأصلية بواسطة عبدالرؤوف النويهى مشاهدة المشاركة
          [align=justify]القصص القرآنى ..متعة وأى متعة .
          "نحن نقص عليك أحسن القصص" صدق الله العظيم

          قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر من القصص التى أعادت بناء تفكيرى فى سنواتى الأولى من عمرى .

          كنت كثير الأسئلة لما يحدث أمامى من الأمور اليومية ..حتى كانت أمى أطال الله عمرها ومتعها بالصحة ،تضيق بى ...فأذهب إلى جدتى أم والدى رحمة الله عليهما ..فتستمع إلى ّ ثم تجيب وفقاً لما تعلمه ..لكنه لم يكن يشفى غليلى ..فكان العبث فى مكتبة والدى ومحاولة القراءة ..للبحث عن الحقيقة .

          كنت صغيراً وأنا أتلو القرآن على شيخ الكُتاب ..وأتعجب من كثرة أسئلة سيدنا موسى وعدم صبره رغم تحذير سيدنا الخضر له.

          ومرت سنوات العمر سراعاً ..وتبين لى أن ما يحدث من أمور الحياة ومايشاع أمامك من مواضيع قد لاتستند إلى الحقيقة ..

          وكم كان أحمد شوقى ..رائعاً .. عندما قال :
          " لا تأخذنا من الأمور بظاهر ***إن الظواهر تخدع الرائينا"

          أستاذتنا الباحثة القديرة /أحلام الحلوانى ..

          فى انتظار ما يُشفى غليلى ويُثلج صدرى.[/align]


          تثبيت
          مداخلتك عزيزي عبدالرؤوف النويهي، عن سيدنا الخضر عليه السلام أثارت شجون كثيرة

          فمثلا من هو سيدنا الخضر عليه السلام؟ وأين كان يعيش؟ ومتى وكيف ألتقيا؟

          خصوصا، بعد ما شاهدته في المعبد الكبير للديانة البوذيّة في العاصمة الكوريّة الجنوبيّة سيؤول، حيث هو من المعالم المقررة في أي رحلة سياحية في العاصمة، ويمكن لكل زائر أن ينتبه على حائط المعبد الخارجي تم رسم لوحة بانوراميّة لقصة حياة بوذا، وسبحان الله كان تلوينه باللون الأخضر، ولو كان معك القرآن الكريم ستجد الكثير من الحوادث التي وردت في سورة الكهف في هذه اللوحة

          فهل سيدنا الخضر عليه السلام هو بوذا؟ خصوصا وأننا نعلم بأن هُبل واللاّت والعزّى كانت تمثل شخصيات صالحة كذلك، ولكونهم كانوا صالحين تم عمل أصنام وأضرحة لعبادتهم بسبب صلاحهم يتم الظنّ بأنهم سيقرّبوهم إلى الله زلفا؟ وحسب ما هو معلوم فأن بوذا نشأ في شبه القارة الهندية، فمتى زار سيدنا موسى عليه السلام تلك المناطق؟

          ما رأيكم دام فضلكم؟

          تعليق

          • أحمد الأقطش
            أديب وكاتب
            • 30-05-2008
            • 376

            #20
            الأخت الكريمة الأستاذة أحلام ،،

            استمتعتُ بحقّ بهذا الجهد الطيب في ربط المعاني القرآنية والتدبّر في القصص المبين، ولا ينبغي أن أكتب تعليقي قبل أن أنوّه إلى هذا الأمر الذي يشجّع على القراءة الواعية للنصوص بعيداً عن حشو المفسّرين.

            واسمحي لي بهذه التعقيبات المحدودة:

            المشاركة الأصلية بواسطة أحلام الحلواني مشاهدة المشاركة
            أجمع العُلماء والمُفسّرون على أنّ المقصود بالجانب الغربيّ , هو الجانب الغربيّ من الجبل الذي كلّم الله فيه موسى - عليه السّلام - وقالوا عن قضاء الأمر : ما فرضه الله على موسى وقومه
            بدايةً .. لم يقل الله تعالى "الجانب الغربي" بالنعت بل (جانب الغربيّ) بالإضافة، إذ في الكلام حذف لأن "الغربي" صفة للشيء المحذوف وليس صفة للجانب. ومِن أمثلته قوله تعالى: (وذلك دين القيّمة) أي دين الملة القيمة. يقول القرطبي: ((أي بجانب الجبل الغربيّ)). اهـ ويقول ابن كثير: ((يعني: ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطىء الوادي)). اهـ فالجبل غربيّ بالنسبة للوادي الأيمن.

            المشاركة الأصلية بواسطة أحلام الحلواني مشاهدة المشاركة
            بحثت في كل آيات القرآن عن أيّ آية تتحدّث عن جانبٍ غربيٍّ لأيّ جبل , فلم أجد سوى الحديث عن جانب الطور , وجانب الطور الأيمن , وشاطي الوادي الأيمن . فمن أين عرفوا أنّ الجانب الأيمن من الطور هو الجانب الغربيّ وليس الشرقيّ مثلا , وهم لا يعرفون أصلا مكان الطور ؟!
            وأنا مثلك .. بحثتُ عن أيّ آية تتحدث عن الجانب الغربي لأي بحر:

            المشاركة الأصلية بواسطة أحلام الحلواني مشاهدة المشاركة
            ثُمّ قال الله لرسوله عليه السلام , وما كُنت من الشاهدين , أي : لم تشهد هذا القضاء الذي أنجزناه لموسى في الجانب الغربيّ من البحر

            فلم أجد أيّ شيء! فتبقى هذه المعاني في دائرة الاحتمال غير مجزوم بها.

            مع خالص التحية
            ،،
            [poem=font="Mudir MT,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="http://www.almolltaqa.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/97.gif" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
            تاقَت نفسي إلى نزولِ الماءِ=فأطهّر جُثتي مِن الأقذاءِ
            لكنّ تَراكُمَ الهوى في بَدَني=يقذفني في دوّامةِ الأشياءِ![/poem]
            ... أحمد

            تعليق

            • أحمد الأقطش
              أديب وكاتب
              • 30-05-2008
              • 376

              #21
              المشاركة الأصلية بواسطة أحلام الحلواني مشاهدة المشاركة
              فلمّا وصلوا إلى الطور , ووقفوا قُبالة بيت المقدس, جاءهم أمر الله بالدُّخول إلى المدينة المُقدّسة
              أين ورد في الآيات التي تفضلتِ بذكرها أن الطور قبالة بيت المقدس؟

              المشاركة الأصلية بواسطة أحلام الحلواني مشاهدة المشاركة
              فقال لهما نبيّا الله ( موسى وهارون ) وقد وصفهما الله بالرّجُلين اللذين أنعم الله عليهما
              كيف فهمتِ مِن قوله تعالى: (قال رجلان مِن الذين يخافون أنعم الله عليهما) أنهما موسى وهارون؟ إن موسى في الأساس هو الذي أمرهم بدخول الأرض، فتذمَّر القوم عليه. فالمقصود هنا كما هو واضح أنّ هناك رجلين من الصالحين ببني إسرائيل حضّا قومهما على الدخول والتوكّل على الله. فأنا أرى رأيك فيه شيء مِن التكلّف.

              المشاركة الأصلية بواسطة أحلام الحلواني مشاهدة المشاركة
              سأتوقف قليلا هُنا , حتى أفسح المجال لمن لديه أيّ مُلاحظة , خاصّة بعد الصدمة التي قد يكون البعض تلقّاها حول موقع الطور الذي كلّم الله فيه موسى - عليه السّلام -
              الصدمة هو في خلوّ هذا البحث الجميل - مع طوله - مِن الدليل على أن الطور قبالة بيت المقدس! كنتُ أرجو أن تسهبي في هذه النقطة إسهاباً شديداً، لأن أغلب ما تفضلتِ بذِكره لا يمسّ جوهر هذه القضية.

              أرجو أن يتسع صدرك لهذه الملاحظات .. وتقبلي خالص التحية
              ،،
              [poem=font="Mudir MT,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="http://www.almolltaqa.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/97.gif" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
              تاقَت نفسي إلى نزولِ الماءِ=فأطهّر جُثتي مِن الأقذاءِ
              لكنّ تَراكُمَ الهوى في بَدَني=يقذفني في دوّامةِ الأشياءِ![/poem]
              ... أحمد

              تعليق

              • فتحى حسان محمد
                أديب وكاتب
                • 25-01-2009
                • 527

                #22
                الأستاذة / أحلام الحلوانى
                يخيل إليك انك جمعت القصة الجمع الصحيح ، ورتبتيها الترتيب الصحيح ، ولكن قد اختلط عليك الأمر تماما 0
                الشروح لا اختلف معك فى شرحها 0
                ويظل الترتيب غير صحيح
                أين جبل الطور ؟؟؟ لم تجيبى اجابة قاطعة كما يبدو من استهجانك وسخريتك ؟؟!! فقد ذكرت الجبل وشرقه وغربه وما إلى ذلك 0
                قد غفلت عن الكثير جدا يا أستاذة ، وسنوضحه 0
                اعتقد أن القصة من وجهة نظرك لم تنتهى بعد ، وهذا صحيح ولكنك اتيت بالنهاية قبل أن تكملى احداثا مرت 0
                كنت انتظر النهاية ، ولكنك تتوقفين ، ومفروض التوقف كان ينتهى عند نهاية الجزء الأول بالقضاء الذى يضم هلاك فرعون ، ثم قوم فرعون مع ابن فرعون من تولى ملك مصر بعده ، ثم قارون ، ثم الأمر من الله بالخروج من مصر مكرمين لا هاربين 0
                وكان مفترض الجزء التانى من بداية الخروج حتى موت موسى 0
                الجزء الثاني لملحمة سيدنا موسى
                1- من الشخصية الرئيسية أى البطل ؟ أتغير عن الجزء الأول ؟ لا ، إنه موسى ومعه هارون وفتاه يوشع بن نون0
                2- ما فكرة القصة فى الجزء الثاني ؟
                أهي نفس فكرة القصة فى الجزء الأول أم مختلفة ؟ إنها مختلفة0
                موسى يريد أن يدخل بيت المقدس فى الأرض المقدسة بفلسطين ، ويكون ذلك هدفه { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ }المائدة21] ليمكن قومه بنى إسرائيل منها ويكونوا أصحابها وملاكها والمستفيدين بخيرها لأن الله كتبها لهم ، إذن فكرة القصة مختلفة عن الجزء الأول التى انصبت على موسى الذى كان يريد أن يحرر بنى إسرائيل من الخروج من أسر فرعون ، والقضاء عليه والخروج من عبادته واستعباده ، والهدف التمكين لهم من ملك مصر وخيرها وحريتهم نحو عبادة الله الواحد القهار الذي لا تجوز ولا تصح العبادة إلا له 0
                3- ما الحالة التى يريد تناولها ؟
                هل ستتعاون بنو إسرائيل مع موسى ويعينونه على تحقيق هدفه الذى هو هدفهم أيضا ويوفون بعهده معه ، أم لن يعينوه وسيكفرون به ويكونون هم أنفسهم هم العقبة لتحقيق هدفه والوصول إلى حاجته وحاجتهم ؟ نعم لن يعينوه بل كفروا به وأخلفوا عهدهم معه ، لأنهم جبناء خائفون ؛ لأن الأرض المقدسة فيها قوم أقوياء ولذلك لن نحارب معك ولن ندخل الأرض المقدسة ما دام فيها هؤلاء الجبارون ، وسندخلها إذا خرجوا أى يريدون أن يحققوا حاجتهم وما يريدون دون عناء أو جهاد أو صراع أو بذل أى مجهود 0
                البداية
                {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى }طه77ﭽﭣ] جاء الأمر إلى موسى وهم متملكون فى مصر وعلى أهبة الاستعداد – الأمر بأن يعبر البحر للمرة الثالثة فى أمان واطمئنان لا يخافون أن يدركهم فرعون فقد هلك وأريناكم جسده وتأكدتم من ذلك عندما أخرجنا جسده من البحر لتتأكدوا من موته بأعينكم ، ولا تخش غرقا فقد جربت من قبل الطريق فى البحر عندما كنت محاصرا من فرعون ، فأخرج واتجه إلى سيناء حيث اخصك بكلامى ولقائى للمرة الثانية بعد ثلاثين يوما واعطيك كتابى الذى ستعبدوننى على هداه ، واعرفك بعد ذلك أين تذهب من أجل الهدف الأكبر المراد ﭽ وهو الأرض المقدسة التى كتبت لكم 0 ويطيع موسى ربه ويخبر قومه أن جاء الأمر من الله بالخروج من مصر وأطاعوه وخرجوا معه مطمئنين معززين مكرمين محملين بالخيرات وبأمر من الله ، لا من أحد سواه0
                أسس القصة
                البداية - الابتلاء - الزلة - العقدة - الانفراجة - التعرف - النهاية

                تعليق

                • أحلام الحلواني
                  أديب وكاتب
                  • 21-06-2009
                  • 208

                  #23
                  أهلا بأساتذتي الكرام

                  دعوني أبدأ النقاش مع أستاذي أحمد الأقطش

                  الحقيقة , أنا لا أعلم الغيب , لكن خبرتي فيمن يُناقشني , تجعلني أتنبأ بما يُفكر , ووالله عندما كنت أكتب هذا البحث , كُنت أضع في مُخيّلتي ما سيسألني عنه أخي أحمد أو أخي فتحي . لذا , تجدني وضعت الردود الشّافية مُقدّما .

                  أخي أحمد , نحن مُتّفقان تماما على أنّ ذكرا لجانب الغربيّ من البحر ليس موجودا في القرآن . لكنّ أفعال القضاء للأمر موجودة في الجانب الغربيّ من البحر الأحمر . أي أنّ هُناك شيءٌ اسمه الجانب الغربيّ من البحر , لكن ليس هُناك دليل واحد , على أنّ هُناك شيءٌ اسمه الجانب الغربيّ من الجبل .
                  دعني أقرّب لك الصورة : لو سألتك مثلا , أين كان بنو إسرائيل يُظلمون , ويُعذّبون , ويُقتّلون , ثُمّ جاءهم المُخلّص , والوعد بالقضاء على فرعون وجُنده , ثُمّ قضاء هذا الوعد حقا وصدقا , في الجانب الغربي من الجبل , أم الجانب الغربيّ من البحر ؟

                  أنت لا تستطيع أن تُقارن بين من بيّن بالدّلائل الحيّة لمعاني القضاء للأمر , ثُمّ البحث عن المكان من خلالها , وبين من اكتفى بالقول : قضاء الأمر هو : ما ألزم الله به موسى وقومه , والجانب الغربي هو : الجبل , ثُمّ يصمت .
                  عندما تُريد أن تُثبت شيئا , تبحث عن دليل ظاهر , فإن لم تجد , تبحث في القرائن , فإن لم تجد , تلجأ إلى القياس , حتى تصل إلى الحقيقة . وأنا جئتكم بالقرائن والقياس النّقلي والعقلي , إضافة إلى الشرح المنطقي والموضوعي . فمن رفضه , عليه إثبات عكسه بذات قُوّة القرائن والقياس .

                  *****

                  بالنّسبة للطور وموقعه :

                  لقد بيّنت بالدليل المادي والقرائن والقياس على وُجوده خلال هذا البحث , ولكن يبدو أنّك لم تتمعّن في القراءة كما يجب . ولا بأس عليك في ذلك , سأجمع لك الأدلّة جُملة واحدة هُنا :

                  1 ) ذكرنا معنى الطور في اللغة , وبيّنت أنّه الجبل المُنبت , أي : فيه شجر . كما أثبتّ أنّه صاحب أوّل شجرة زيتون في الأرض . وعندما ذهبت إلى الجبل الذي يعتقد النّاس أنّه جبل الطور في صحراء سيناء , وجدتُهُ جبلا بٌركانيّا لا ثمرٌ فيه ولا حياة , وهو ضمن سلسلة مُتشعّبة من الجبال الوعرة , التي لا يُمكن لموسى وأهله أن يكونوا قد وصلوا إلى هُناك في أيّ حال من الأحوال , لوحشيّة المكان , ومخاطره .
                  2 ) جبل صحراء سيناء يقع في جنوبها , ولو فرضنا أن موسى - عليه السّلام - خرج من مدين مُتّجها إلى مصر , فلن يمر من جنوب سيناء , بل سيسلك الطريق حول هضبة التيه شمالا , خارجا من خليج العقبة , واصلا إلى خليج السُويس . أو يسلك طريق مدين / أريحا , ثُم يصعد إلى القدس , ليتّجه جنوبا إلى غزّة / دلتا النيل غربا , ثُمّ يُكمل إلى شمال شرق الفيّوم .
                  3 ) مُعظم المُفسّرين قالوا بأنّ جبل الطور موجود في الشام , والقليل منهم قالوا أنّه في القدس .
                  4 ) وصف الله للوادي جانب الطور , بالمُقدّس . وليس هُناك ذكر للأرض المُقدّسة في القرآن سوى بيت المقدس . وهي المدينة التي وقف أمامها بنو إسرائيل ورفضوا دخولها بسبب القوم الجبّارين ( كما وصفوهم هم ) . إذا , الواد المُقدّس لا يُمكن أن يوجد إلا في الأرض المُقدّسة .
                  5) الآية , وهي الحُجّة الدامغة :

                  وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا / النّساء 154

                  والرّجلان اللذان أنعم الله عليهما , قالا لبني إسرائيل وهم على أبواب القُدس :

                  ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين / المائدة

                  فأين برأيك سيكون الطور الذي رفعه الله فوق رؤوس بني إسرائيل وهم أمام مدينة القُدس يأبون دخولها ؟!
                  هل سيأتي به الله من الصين مثلا ؟
                  أكيد , أنّه جبل الطور في القدس , وأنا لست أول من قال ذلك , بل هُناك الكثيرون من المفسرين والعُلماء , ولكنّهم لم يُثبتو هذا بالأدلّة كما فعلت أنا . كما أنني سمعت عن بعض سلاطين الدولة العثمانية , كانوا لا يصعدون إلى جبل الطور , إلا وهم حُفاة , وهذا دليل على أنّهم عرفوا ذلك قبلي , وقبل أي شخص يزعم أنّه هو من اكتشف ذلك .
                  إذا , أنا لم أكتشف ذلك , إنّما قرأته في الكُتب , ودعّمته بالأدلّة .

                  اقرأ هذه الآيات :


                  وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ


                  يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ

                  قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ

                  قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

                  قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ

                  قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ

                  لاحظ , لو أنّهما لم يكونا موسى وهارون , لقال موسى عليه السلام : ربّ لا أملك إلا نفسي وأخي وهذين الرجلين الذين أنعمت عليهما .

                  لذا اختلف العلماء في الرجلين , وهناك من قال بأنهما من مدينة القدس نفسها , فأسلما . وهناك من قال أنّهما مؤمن آل فرعون ويوشع بن نون .
                  لو فرضنا أن كلامهم صحيح , لكان موسى قد امتلك أمرهما أيضا , أليس ؟

                  في النهاية , أشكرك على وصف البحث بالجميل . لكنّني أؤكد لك , أنّه أخذ منّي الكثير الكثير من البحث والتقصّي للحقائق , وقراءة كُتب لا أستطيع إحصاءها . ناهيك عن أنّني لم أنهه بعد , وورائي الكثير , ولم أكشفه .

                  مودّتي

                  تعليق

                  • أحلام الحلواني
                    أديب وكاتب
                    • 21-06-2009
                    • 208

                    #24
                    أستاذي الأديب

                    فتحي حسان محمد

                    اسمح لي أوّلا أن أحييك على حماسك في البحث والتقصّي , ودعني أخبرك أنّني لست قاصّة ولا روائيّة , كما أنّ الله لم يُنعم عليّ بهذه النّعمة كما فعل معكم . ورجاء , لا تجعلني أكرّر عليك ذلك مرّة أخرى , فأنا لست قاصّة ولا روائيّة .

                    بالنّسبة لاختلاط الأمور , فأنا لا أدّعي الكمال ( لا سمح الله ) , فقد تختلط بعض الأمور عليّ , لأنّني رأيت بأمّ عينيّ كيف اختلطت على عُلماء السّلف , والمُتخصّصين بالقصص القرآنيّ بالذّات .

                    كلّ ما أفعله , أنّني آتي بالسّور التي ذكرت خبرا عن موسى - عليه السّلام - وأضعها جميعا أمامي , ثُمّ أفتح كُتُب التّفسير , لحوالي خمسة أو ستة من المُفسّرين الكبار , وأقرأ كلّ ما كتبوه , وأوردوه من آراء حول هذه القصّة في كلّ آية وحديث . ما أذهلني فعلا , أنّني وجدت اختلافا في رأي المُفسّر نفسه عند التنقل بين السور . كما أنني اكتشفت أن المفسرين ليس عندهم معرفة دقيقة للمناطق , والطبيعة الجغرافية , والتاريخ . ثُم لاحظت أن بعضهم ينقُل عن الآخر ما يتناقض مع الأحداث القصصية ذاتها . الأمر الذي شجعني على البحث أكثر , وحفّزني لاستخدام تقنيات حديثة في الرّصد المعلوماتي الدقيق .

                    بما أنّني تجرأت على العلماء , دعني إذا أن أتجرّأ عليك أنت أيضا , وأصف لك ما تكتبه عن هذه القصّة بالذّات :
                    فأنت تجمع ما كتبه الآخرون دون تفحُّص , وتُلحقه بالقصّة بما يتلاءهم مع التمثيل الدرامي المُشوّق , دون مُراعاة للحقائق القرآنيّة الثابتة , أو مُناقشة ما جاء به العلماء والمفسّرون من أقاويل . كما أنّك تتعامل مع الحشو القصصي على أنّه حقائق ثابتة , لا لبس فيها . وهذه أعتبرها جريمة أخلاقيّة من حيث النّقل غير المُوثّق , وتلبيس القصص القرآني لثوبٍ غير ثوبه , مما يجعلك تقع في التقوّل على الله ما لم يقل . وها أنت تريد أن تكمل بابن فرعون الذي لم يذكر القرآن عنه شيئا , وقد انتهى القصص القرآني عند مهلكه وقومه .

                    بالنّسبة للأحداث , والقصص التي وردت عن موسى - عليه السّلام - لا يستطيع أحد أن يحدد وقتها , لكننا نستطيع أن نتوقع بأنّها حدثت بعد الحكم على قوم موسى بالتيه في الأرض , ما عدا عبادة العجل والمن والسلوى والاستسقاء والقوم الذين يعبدون الأصنام .... أي : القصص التي ذكرها الله بمواكبة سيرهم إلى الأرض التي كتبها الله لهم , وهي : الأرض المقدّسة . وكما نرى ونعلم من سياق الترتيب القرآني , فالله واعد بني إسرائيل في الطور بعد أربعين ليلة , فور مُجاوزتهم البحر . وليس للطور مكان سوى القُدس , التي أمرهم أن يدخلوها فرفضوا , فكان ما كان من عبادة العجل , وأخذ الألواح , والعقاب , ثم الموعد الثاني في نفس الطور , ثم الوصول إلى القدس . ولم يكن هُناك قوما جبارين , بل كانوا أناسا مشركين , الله قادر عليهم كما كان قادرا على فرعون , ولم يطلب منهم سوى دخول المدينة ساجدين , فيكون النصر باذن الله , وهذا ما بيّنه لهم أنبياءهم , وبالحرف الواحد : إذا دخلوا عليهم الباب فهم منتصرون , مغفور لهم كل ذنوبهم . دلال ليس بعده ولا قبله دلال . ولم يؤت شعب , ولا أمة على الأرض ما أوتي بنو إسرائيل من هذه التسهيلات , لكنهم شدّدوا على أنفسهم , فشدّدَ الله عليهم , فأين القصص الأخرى سنحشوها في هذه الفترة الوجيزة ؟ كل الآيات تؤكّد على أمر واحد : أنّ مدينة القدس لم تكُن عصيّة على بني إسرائيل , وكان يُمكن لله أن يفتح أبوابها ويُخرج أهلها منها , لكن بني إسرائيل لم يُبدو أي استعداد للتضحية من أجل الله في هذا الأمر , واتخذوا القرارات بعيدا عن أنبيائهم , ونقضوا العهد والميثاق معه .

                    أستاذ فتحي , لا تتهمني بالخلط , فأنا أعلم أنني بشر , ويمكن أن أخطيء . لكنك باتهامي به دونك , يعني لي أمرا واحدا : أنك لا تُخطيء , وأنّك بكل ما تأتي به من أخبار على لسان القصصيين , والاسرائيليين , والمُخمّنين , والخياليين , والأسطوريين , وعُشّاق القصص البوليسية , والاثارة , هو الخالي من الخلط والتخبُّط والتأويل , والتدليس , ونسب ما ليس من الكتاب إلى الكتاب . وكلّ هذا تحت شعار : قصص حسب الترتيب القرآنيّ .

                    أدعوك أخي أن تُناقشني بأسلوب علميّ , كما يفعل الأستاذ أحمد الأقطش . ائتني بالآية , أو الحدث الذي تراه غير صحيح , أو ليس في محلّه . فقد أكون مخطأة فعلا , فتنبهني إلى خطأي , حتى لا أحمل وزره , فتكون قد ساعدت أختك على لفظه .

                    أمّا أن تتعامل مع البحث وكأنّه مُنافسٌ لقصصك , فهذا إجحاف في حقي وحقك معا .

                    أرجو أن أكون قد أوصلت لك الصورة بوضوح

                    مودّتي واحترامي

                    أحلام الحلواني

                    تعليق

                    • فتحى حسان محمد
                      أديب وكاتب
                      • 25-01-2009
                      • 527

                      #25
                      الاستاذة الفاضلة والباحثة النبيلة / احلام الحلوانى
                      تستحقيق كل شكر على مجهودك الرائع ، ولكن يا سيدتى تغضبين غضبا شديدا عند كل خلاف أو اختلاف 0
                      لا اخالفك فى كونى اعتمدت كثيرا على تفسير المفسرين ، ولم يكن هذا يهمنى كثيرا فيما اصبو إليه من ترتيب صحيح ، ولذلك قلت لك لا اخالفك فى الشرح بل اعجبنى جدا وسعيد به جدا ، اما كون الترتيب به شيئ من اللبس ، فقد التبست القصة على الجميع ، ومنهم أنا بالطبع ولكنى ظللت فيها شهورا طويلة ليل نهار ، لم اكن ابحث عن التفاسير بقدر ما كان يهمنى خط سير الأحداث 0
                      عندما تكملين باقى القصة ستعرفين بالفروق ، وستعاودك الحيرة الكبيرة والشك فيما رتبتى ، صدقينى ، القصة مرهقة وصعبة جدا لا ريب فى ذلك على الإطلاق 0
                      على العموم أستاذة أحلام لا احد يستطيع أنكار جهدك العظيم ، واجرك واجرى على الله ، اعرف انك لا تريدين شيئا من احد ، كما أنا كذلك 0
                      سنعاود التفحص سويا وطرح وجهات النظر 0
                      لا احتكر المعرفة ولا الحقيقة لنفسى فقط ، كما لا ادعى كمال صوابها على الوجه الكامل 0
                      والله المستعان
                      لا اريدك أن تغضبى ، فقد سبق أن هاجمت ما اكتبه فيها ولم اغضب منك مطلقا ، لما المسه من نية حسنة وصادقة عندك ، وعندى نفس النية 0
                      شكرا أستاذة أحلام
                      ولنا عودة
                      أسس القصة
                      البداية - الابتلاء - الزلة - العقدة - الانفراجة - التعرف - النهاية

                      تعليق

                      • أحلام الحلواني
                        أديب وكاتب
                        • 21-06-2009
                        • 208

                        #26
                        أستاذي فتحي

                        بعد كلّ غضبة أغضبها , تأتيني بكلام رقيق ومؤدّب ومهذّب , يجعلني أخجل من نفسي , وأؤنّبها على ما فعلت .

                        أرجو أن لا تأخذ كلامي على أنّه غضب منك , إنّما هو لله فقط .
                        أنا متشوّقة لقراءة باقي قصتك , لكنّني أحذرك من الآن : لن أرحمك في أي خطأ , تذكّر هههه

                        مودّتي الدائمة

                        تعليق

                        • فتحى حسان محمد
                          أديب وكاتب
                          • 25-01-2009
                          • 527

                          #27
                          [align=justify][align=center]الأستاذة الفاضلة والباحثة العظيمة / أحلام الحلوانى [/align]
                          ملحوظة مهمة جدا:
                          من يتدبر قصة سيدنا موسى آية بآية لن يصل ابدا إلى اسرارها ؛ لأن الآيات موزعة فى القرآن كله فى 124آية ، فى 32 سورة ، وآيتان اخريان على سبيل العظة والعبرة لسيدنا محمد وامته ولا يخصان متن القصة 0
                          لذلك من يقفذ إلى المداخلة ومعه آية لا تكن مداخلته صائبة على الأرجح0
                          حيث القصة لا يستطيع احد تناولها جزء جزء أو قطعة قطعة أو حتى حدث بحدث ، إلا حال جمعها وفهمها ، ثم محاولة ترتيبها ، وتكون الأحداث جميعها حاضرة فى المخيلة المتيقظة تماما 0
                          ثم فتح عدد من المصاحف على القدر المستطاع - وهذا ما فعلته - للنظر فى آية يأتى الحدث مختصرا ومكتنزا غير مبسوط ولكنه يجمع عددا من الأحداث ، ثم فى آية أخرى من سورة أخرى مبسوط بتوسع ولكنه غير كامل لما حوته الآية محل التدبر وسير الحدث 0
                          مثال متى هلك قوم فرعون ؟! ستقولون هلكوا قبل فرعون بطبيعة الحال ؛ لأن فرعون وهامان وجنودهما هلكوا فى البحر ، أو تقولون هلكوا بعد فرعون وهامان وجنودهما0
                          فى حال هلاكهم قبل فرعون يستدعى السؤال ولماذا لم يهلك فرعون وهامان وجنودهما معهم بفيضان النيل أو غيره ، أم تم استثناء فرعون حتى يهلك كما هو مقرر له فى البحر؟!
                          وفى حال هلاكهم بعد فرعون هذا معناه أن موسى عاد إليهم ليخلص باقى بنى إسرائيل منهم ويبلغهم رسالة ربه بالسماح له بخروج باقى قومه معه ، وعندما رفضوا تحققت فيهم التسع آيات المعروفة الجراد والقمل والدم وغيره0
                          فالإحتمال الأول غير معقول ؛ لأن موسى طلب منه الله أن يتوجه بالرسالة الأولى إلى فرعون لا إلى قوم فرعون ، فكيف يخالف موسى أوامر الله ويذهب إلى القوم قبل حاكمهم الجبار ؟!
                          وإن ابلغهم فى نفس توقيت إبلاغ فرعون ، فلماذا يهلكون قبله ويستثنى هو وهامان وجنودهما ؟!!
                          الراجح - عندى - الاحتمال الثانى وهو الذى أخذت به 0
                          [/align]
                          أسس القصة
                          البداية - الابتلاء - الزلة - العقدة - الانفراجة - التعرف - النهاية

                          تعليق

                          • أحلام الحلواني
                            أديب وكاتب
                            • 21-06-2009
                            • 208

                            #28
                            المشاركة الأصلية بواسطة أحمد الأقطش مشاهدة المشاركة
                            الأخت الكريمة الأستاذة أحلام ،،


                            بدايةً .. لم يقل الله تعالى "الجانب الغربي" بالنعت بل (جانب الغربيّ) بالإضافة، إذ في الكلام حذف لأن "الغربي" صفة للشيء المحذوف وليس صفة للجانب. ومِن أمثلته قوله تعالى: (وذلك دين القيّمة) أي دين الملة القيمة. يقول القرطبي: ((أي بجانب الجبل الغربيّ)). اهـ ويقول ابن كثير: ((يعني: ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطىء الوادي)). اهـ فالجبل غربيّ بالنسبة للوادي الأيمن.




                            أستاذ أحمد الأقطش

                            أتعرف أستاذي , أنّك جئت بدليل آخر , وقويّ على صحّة قولي في هذا الموضوع ؟
                            أنا أعتذر حقا إذ لم أنتبه جيّدا إلى مُداخلتك القيّمة جدا جدا هُنا .

                            جانب الغربي , أي أنّ الغربيّ هي صفة لمكان محذوف . فإذا قُلنا أنّ هذا المكان هو : الجبل , يُصبح الجبل نفسه غربيّا . وهذا ينفي صحّة ما ذهب إليه المفسّرون والعلماء , وينسفه نسفا , لأنّهُ يُحتّم وجود جبلٍ آخر شرقيّاً , إلا إذا جاء أحدٌ وقال : أنّ الجبل الذي دكّه الله كان شرقيا , ليُصبح عندنا جبلا شرقيّا , وآخر غربيّا . ولكنّ الله تحدّث عن الطور صراحة ضمن كلامه عن المناطق الثّلاث : جانب الغربيّ , مدين , جانب الطّور . وليس هُناك أيّ مُسوّغ لتكرار المكان في نفس الآية .
                            ومع تتبُّع قصّة موسى - عليه السّلام - في سورة القصص , نجد أنّ الله ذكر مُباشرة هذه الآية الكريمة , بعد هلاك فرعون , وانتهاء الحديث في القصّة , لالتصاقها بموسى وقومه , وفرعون وقومه .
                            نظرة بسيطة في الخارطة , سنجد أنّ هُناك ذنبين للبحر الأحمر : ذنب شرقي , واسمه : خليج العقبة . وذنب غربي , واسمه : خليج السويس . والله قضى لموسى الأمر , جانب الذّنب الغربي للبحر الأحمر ( خليج السُويس ) ممّا يؤكد على صحّة التحليل الذي قدّمتُه .

                            أشكرك على هذه المعلومة القيّمة

                            مودتي

                            تعليق

                            • أحلام الحلواني
                              أديب وكاتب
                              • 21-06-2009
                              • 208

                              #29
                              أستاذي الأديب

                              فتحي حسان محمد

                              تحيّة طيبة

                              أنا لست غاضبة , صدّقني . اسمعني جيّدا , وأصغي بعناية إلى ما أقول , لطفا لا أمرا .

                              أنت تتحدّث بلغة عجيبة وغريبة , وتسأل أسئلة أغرب وأعجب . من خلالها تجعلني والقراء نلبس الحائط , وتُشتّت أفكارنا التي لا تحتمل كل هذا التشتيت . مع أنّه من الصعب على أحد أن يُشتّت أفكاري , لأنّني شديدة التركيز في القراءة .

                              لاحظ أنّك تسأل أسئلة تخُصُّ تصوُّرك أنت في الموضوع , وليس ما كتبته أنا من تحليل له . أي , بمعنى أسهل :
                              أنت قرأت الآيات , ثُمّ قرأت القصص التي حيكت حولها , ثُمّ تصورت الأحداث على ضوء ما قرأت , ووضعت السيناريوهات المُحتملة , إضافة إلى التبويب والتقسيم لفصولها ومشاهدها , ورسّخت هذا كُلّه كحقائقَ مُسلّمٍ بها , ويجدُرُ بي أن أعرفها من علم الغيب في عقلك , لأناقشك بها . هل يُعقلُ هذا ؟!

                              أنا رتّبتُ لك الأحداث على ضوء الآيات القرآنيّة فقط , والسّرد القُرآنيّ , وكشفت اللّبس عن بعض الآيات المُختَلَفِ في تفسيرها , وهذا كلُّ ما أعرفه عن القصّة موضوع النّقاش .

                              أنظر إلى أسئلتك :

                              مثال : متى هلك قوم فرعون ؟! ستقولون هلكوا قبل فرعون بطبيعة الحال ؛ لأن فرعون وهامان وجنودهما هلكوا فى البحر ، أو تقولون هلكوا بعد فرعون وهامان وجنودهما0
                              أين جاء ذكر هلاك قوم فرعون قبل فرعون وهامان فيما كتبتُهُ أنا , أو بعده ؟ ومن قال أنّ قوم فرعون هلكوا أصلا ؟
                              أنت تريد أن تُهلك النّاس جميعا ( على ما يبدو ) لتُورّث بنو إسرائيل مصر !!

                              ثمّ هذا القول :

                              أم تم استثناء فرعون حتى يهلك كما هو مقرر له فى البحر؟!
                              كأنّنا كتبنا قصّة من أفكارنا , فقررنا هذا , ولم نُقرّر ذاك , أمرك عجيب والله ههههه .

                              ثُمّ هذا الذي هُو من غرائب الكلام وعجائبه :

                              وفى حال هلاكهم بعد فرعون هذا معناه أن موسى عاد إليهم ليخلص باقى بنى إسرائيل منهم ويبلغهم رسالة ربه بالسماح له بخروج باقى قومه معه ، وعندما رفضوا تحققت فيهم التسع آيات المعروفة الجراد والقمل والدم وغيره0
                              هل ترانا نُفصّل قصّة على ذوقنا يا أستاذ ؟
                              من الذي عاد ؟ موسى عاد ؟ عن أيّ شيء تتحدّث ؟
                              ألا تستطيع أن تُدرك أنّك تصنع قصّة من الخيال من خلال هذه الأسئلة ؟!
                              هل أنا قلت أنّ موسى جاء إلى فرعون أوّلا , أو إلى قومه أوّلا ؟ أنا لم أقل شيئا من هذا أبدا . والقصّة واضحة تماما :

                              موسى وُلد في زمن التذبيح , رمته أمّه في البحر بايحاء من الرّب , التقطه آل فرعون , رجع إلى أمه لترضعه , ربّته زوجة فرعون , قتل مصريّا في شبابه , هرب إلى مدين , تزوج , خرج بأهله , التقى في الطور مع ربه , أمره ليذهب ويُخلّص قومه من فرعون وملإه , راح إلى فرعون مع أخيه , أراهم الآيات الكُبرى , بعث الله عذابا على فرعون وملإه حتى سمح لموسى وقومه بالرحيل , لحق بهم عند البحر , انشق البحر , تجاوزه بنو اسرائيل , لحقهم فرعون وجنده , انطبق البحر عليهم , وأغرقهم جميعا . وهنا انتهى الكلام عن مصر وفرعون وقومه .
                              هل عندك الجزء الثاني لابن فرعون ؟
                              وربما الجزء الثالث لحفيده , إن نجحت القصّة ولاقت رواجا !!! هههههه

                              ماذا أقول لك ؟
                              أنا مستغربة والله .
                              عموما , أنت حرٌّ في أفكارك , وعندما تعرض قصّتك , سأبيّن لك كل ما فيها من خروج عن النصّ القرآني .

                              مودتي الدائمة

                              تعليق

                              • أحلام الحلواني
                                أديب وكاتب
                                • 21-06-2009
                                • 208

                                #30
                                أرضُ التّيه

                                هل هُناك أرضٌ اسمها : أرض التّيه ؟
                                إن كانت موجودة , فأين هي ؟
                                ومن أسماها بأرض التّيه , ولماذا ؟

                                إنّ التّخبُّط الذي نراهُ جليّا في شرح المُفسّرين للآية الكريمة :

                                قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ

                                قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
                                المائدة 25 - 26


                                والأسماء كبيرة , لا أريد أن أوردها هُنا لأنّني أستشعر جلالها , فأرهب من أصحابها . رحمهم الله جميها , فقد اجتهدوا , وأخطأوا , ومن حقهم علينا أن ندفع عنهم هذا الخطأ , فنَبَرّهم .
                                قالوا : قال من عندهم علم الكتاب الأوّل . أيّ أنّهم لم يجدوا ذكرا لهذا التّيه في كُتُبنا , فلجأوا إلى أهل الكتاب . لا حول ولا قُوّة إلا بالله . ولكنّ منهم من اجتهد , ولم يذكر شيئا عن التّيه , إلا أنّ الله غضب على بني إسرائيل لنقضهم العهد , ونأيهم عن آيات الله , وعصيانهم لرسله , فحرّم الأرض المُقدّسة على الصالح والطالح منهم , حتّى مضى الأربعون عاما , فنشأ نشىءٌ جديد , فقادهم موسى - عليه السلام - مع يوشع بن نون ( فتاه ) وقتل زعيم الجبارين , ودخل بيت المقدس .
                                حتى من اجتهد بعيدا عن تُرّاهات اليهود , أخطأ أخطاءً جسيمة . فما بالك بالآخرين , الذين راحوا يروون قصصا أسطوريّة خُرافية حول هذا التّيه , حتى أنّهم حددوا جنود بني إسرائيل بستين ألف مقاتل , والأرض التي تاهوا فيها ستّة فراسخ , وكُلّما مشوا ليخرجوا منها وجدوا أنفسهم يعودون إلى نفس نُقطة الانطلاق , فدعا لهم موسى ربّه بأن يرزقهم المنّ والسلوى حتى يتقووا على معيشتهم , وأن يُفجّر لهم من حجر الطور الأبيض ماء , وبقوا على حالهم هذا حتى انقضت الأربعين سنة . ثُمّ منهم من اعتبر أرض التّيه السّحرية , بأنها دليل على إعجاز الله .
                                والله إنّها قصص أغرب من الخيال , وما أنزل الله بها من سُلطان , والآيات الكريمات في قُرآنه تحكم عليهم لا لهم , وسنرى كيف أنّهم وقعوا فريسة الاسرائيليين كما وقع النّصارى وغيرهم ممن اعتمدوا كتبهم , وأقرّوا على كذبهم وتدليسهم في دين الله .
                                دعونا من هذا كُلّه , ولنمشي خُطوة بخُطوة مع كلام الله , الصادق , الدّقيق , المُقنع :
                                بعد أن بدّل الذين ظلموا من بني إسرائيل قولا غير الذي قيل لهم , واستهزأوا بآيات الله , غضب الله عليهم غضبا شديدا , فأنزل على الذين ظلموا رجزا من السّماء , فأماتهم جميعا , ثُمّ حرّم بذنبهم الأرض المُقدّسة على بني إسرائيل لعصيانهم الأوامر , ونقضهم للعهد والميثاق مع الله , فلم يكُن من موسى - عليه السّلام _ إلا أن دعى ربّه بأن يفرُق بينه هو وأخيه , وبين القوم الفاسقين :

                                قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
                                قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ

                                المائدة 25 - 26


                                ففرّق الله بينهم , وقضى على الفاسقين , وطلب من نبيّه أن لا يتحسّر عليهم , وبقي من بقيَ معه , ولم يعُد أمامه من أمر إلا أن يعود إلى باقي القوم , من نساء وأطفال وشيوخ , حيث تركوهم عند رأس الخليج في العقبة . ومكوثهم مكانهم قُبالة بيت المقدس , يُعرّضهم للخطر , فقد يدعو ملك بيت المقدس ملوك المدن الأخرى فينقضوا عليهم .

                                رجع موسى وقومه إلى الرّعيّة , ولم يعُد بمقدور بنو إسرائيل أن يتخذوا أيّ قرار في سُكناهم , وسأشرح لكم الأمر :
                                الله سبحانه بعث بنيّييه موسى وهارون - عليهما السّلام - ليُخلّصا قومهما من الظُّلم , والعبوديّة , والقتل غير المُبرّر , وينقلاهم من أرض الكُفر إلى أرض الايمان , والحُرّيّة , الأرض المُباركة , والمُقدّسة التي ورّثها لهم بِما صبروا . ثُمّ تجاوز عن خطأهم لمّا طلبوا من موسى أن يجعل لهم إله كما للقوم الذين مرّوا بهم وهم عاكفون على الأصنام , وكذلك عفا عنهم يوم عبدوا العجل , ثُمّ صبر عليهم لمّا رفضوا الدّخول إلى الأرض المُقدّسة , حتى استهزأوا بكلام الله وبدّلوه وغيّروه . ورُغم كُلّ التّسهيلات التي أعطاهم إيّاها في دخول الأرض المُقدّسة , حتّى أنّه أبعد عنهم فرضيّة القتال , واكتفى بدخولهم الباب ساجدين ليتمّ الفتح . كُلّ هذه الأحداث حصلت , ليكون لبني إسرائيل أرضا , ومُلكا , وحُرّيّة . هُم رفضوا دخول الأرض وهي حلال عليهم , فماذا يصنعون الآن وقد حُرّمت عليهم ؟ أين يذهبون ؟ في أيّ أرض يعيشون ؟ ولأيّ شعب يلجأون ؟
                                أليست هذه الأسئلة تدعو إلى الحيرة المُطبِقة ؟
                                هذا هو التّيه , الحيرة في الأمر . مكثوا في العراء , لا يعرفون ماذا يصنعون , وإلى أين يذهبون . عاطلون عن العمل , غير قادرين على اتّخاذ القرارات , شلل تام في الحضارة , لا أمل بالغدّ , لاهدف بعد أن أضاعوا الهدف . هل هذه حياة ؟ الأفضل لهم أن يموتوا . لذا , جاءوا إلى نبيّهم موسى - عليه السّلام - مُنكسرين , مذلولين , وقالوا :

                                يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا .البقرة


                                أدعُ لنا ربّك, وكأنّه ليس ربّهم . ولكنّهم يعلمون أنّ الرّبّ غاضبٌ عليهم , كما علم فرعون من قبل , وقال :

                                يا موسى أدع لنا ربّك بما عَهِد عندك / الأعراف


                                فقال لهم موسى - عليه السّلام - أنّ الطّلب لما هو أفضل , يعني السعي إلى تحقيقه . إذا شئتم أن تحصلوا على ما هو أفضل من المنّ والسّلوى , فاسعوا إليه . قال سبحانه :

                                قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ / البقرة


                                اهبطوا مِصراً , أرضا , بلدا , قرية . ليس مُهم أيّ أرض , المُهم , أنّه لم يبقَ أمامهم للخروج مما هم فيه من حال التشرّد , والعطال , والحرمان من نبات الأرض , والعيش الكريم , إلا أن يتحركوا إلى البلاد المُجاورة , وأقرب بلد لهم , هي البلد التي استقبلت موسى - عليه السلام - عندما هرب من فرعون , إنّها ( مدين ) , حيث كان أخوال أولاد موسى - عليه السّلام - . ولكن , هل ستسعهم ( مدين ) وحدها ؟ بطبيعة الحال , توزعوا على عدة قُرى :

                                وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُون / البقرة

                                اضطروا أن يتمسكنوا للناس ليقبلوهم ضيوفا ثقيلين عندهم , ويتذلّلوا لهم , ويعملوا عندهم خدما كما كانوا عند فرعون وقومه .
                                كيف عرفنا أنّ موسى نزل على نسيبه في مدين ؟ هذه الآية الكريمة :

                                وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
                                وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ

                                وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ

                                وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون / القصص .

                                كما قُلنا من قبل , أنّ الله عزّ وجل كان يقُصّ على نبيّه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قصّة موسى - عليه السّلام - من بداية سورة القصص , حتى هلاك فرعون , فجاء إلى هذه الآية , ليتوجّه إلى رسوله الأكرم , ويقول له : أنت يا محمّد لم تكُن شاهدا على هذه الأحداث ليقول النّاس بأنّك تعلمتها عن بشر . فلم تكُن جانب الشاطيء الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر , فأغرقنا فرعون وجنده , ولم تكُن في أهل مدين ثاويا إذ كنت تتلو آياتنا , وما كنت جانب الطور إذ نادينا موسى , وأعطيناه الأوامر , والكتاب , وأخبرناه بأن الرّحمة كتبناها على أولاء الذين يتبعون النّبيّ الأمّي آخر الزمان .
                                إذا , كلّها أماكن كان فيها موسى عليه السلام , ذكرها الله في القصّة , ومحمد صلى الله عليه وسلم , لم يكن شاهدا عليها , ومع ذلك , قصّها على النّاس بتفصيل ودقّة .
                                والدّليل على أنّ الله قصد موسى - عليه السلام - وليس شعيبا - عليه السّلام - , إذ أنّ شُعيبا كان مُقيما دائما في مدين , وهو من أصل مديَن , وكلمة ( ثاويا ) تعني : نازلا , أي مقيما إقامة مؤقّتة . وفي المعاجم معناها : ضيفا . ويُقال : أثويتُهُ : أي أجبرته على الاقامة . والمثوى هو : المنزل , فأثوى : أنزل , وثاويا : نازلا . والدّليل العقلي يقول : أنّ الله يتحدّث هُنا عن قصّة موسى عليه السّلام , وعن الطور والمُناداة , وجانب الغربي وقضاء الأمر لموسى , فما الذي أقحم سيرة شُعيب هُنا ؟ وما الحكمة من ذلك ؟
                                مُهِمّة موسى في تخليص قومه من فرعون وملإه , تكلّلت بالنّجاح , ولكنّ مُهمّته بدخول الأرض المقدّسة لم تتمّ , بسبب عصيان قومه له . لم يعد له الآن من عمل , إلا أن يدعو إلى الله , ويتلو آياته التي فيها شريعته , ويُعلّمهم الدّين , ويُصلح بين النّاس في حال النّزاع , ويعيش مع زوجه وأولاده . ومن رعاية الله له , أن أعاده إلى أهل زوجه , وأخوال أولاده .
                                بهذا التصوّر , الذي أراه أقرب إلى الواقع , وأصوب بدعم الآيات له , نضع إجابات كثيرة أرهقت العلماء , وجعلتهم يتخبّطون في تفسيراتهم , ومن ضمنها قصّة البقرة , ومكان حدوثها , وقصّة الخضر , ومجمع البحرين , وداود - عليه السّلام - وطريق سيرهم إلى القدس , والنهر الذي صادفهم . كلّها أصبحت جليّة أمامنا , ومُقنعة , وقابلة للتّصديق .

                                فهل نُكمل ؟
                                أحبّ أن أسمع منكم
                                مع أنّني سأكمل على كلّ الأحوال , ولكنّني أحب أن أسمع من القراء , إن كانوا يحبّون الاستماع إلى أن يدخل بنو إسرائيل القدس , وثُمّ التحليل للافساد , ثمّ نقل التوريث إلى أمّة محمّد , لنصل إلى ما يحدث الآن , وعلاقته ببني إسرائيل .

                                يتبع

                                تعليق

                                يعمل...
                                X