وسط السواد الكثيف تسللت، انسلت ريما كقطعة من الظلام بثيابها الحالكة التي تغطي بعناية كل خلية من جسدها، و وجهها الذي أغرقته كاملا بالفحم المطحون حتى لم يعد يبدو منها سوى بياض عينيها كشرارة متقافزة، و لو استطاعت لطلته هو أيضا!
بخفة الفهود تنقلت بين ثكنات المعسكر الإسرائيلي الرابض كضبع شرس ينتظر الفريسة التالية كي يطبق عليها أنيابه الخائنة، تخرج من طيات ثيابها إحدى القنابل و تثبتها في خبرة و دراية حيث خططوا مسبقا، تعدّها للإنفجار حين تأمرها، ثم تتحرك من جديد إلى نقطة أخرى، دون أدنى صوت، يعينها جسدها الضئيل ذو الأعوام الستة عشر ، و ما يقرب عقدا كاملا من التدريب المستمر..
واحدة بعد واحدة تثبتها، في صبر و حذر، تدفنها بين الرمال و بين أذيال الخيمة، تطوي عليها ذرات الرمال في عناية كأنما تطوي الغطاء لصغيراتها، حتى انتهى مخزونها من القنابل و لم يعد أمامها سوى الإنتظار من أجل اللحظة الحاسمة،
و هو ما تجيده بالفعل.
لقد قضت عمرها كله تنتظر، ألفته و ألفها حتى أصبح جزءا من تكوينها و صارت هي إحدى معالمه، تربى لديها نوع من الصبر لا ينفد، صبر من اعتاد أن تلك هي الطريقة الوحيدة للعيش، و ليس لديها الخيار.
في حداثتها كانت تنتظر يوميا مع أترابها إشارة الأمان تنبئها بأنهم يستطيعون الذهاب إلى المدرسة دون أن يداهمهم هجوم مباغت من دبابات استحلت أن تتخذ الأطفال أهدافا لها، و تترقب طول الطريق و طول الدرس قنبلة أو رصاصات أو صاروخ، و تحمد الله كل ثانية أن تأجل أجلها للثانية التالية.. و قد يأتي الأمان و قد لايجيء، و يتأجل اليوم الدراسي أياما، أو شهورا، أو حتى تلغيه قنبلة عجول تنسف المدرسة كلها، و يتجمع الأطفال في بيت أحد المعلمين ليتابعوا المهمة، و تمضي الأيام !
و تعود، تنتظر بخوف عودة كل شقيق و كل صديق و جار، أو عودة خبر عن جرحه أو مقتله، و يستحيل آخر اليوم عيدا إذا اكتمل العدد، أو يستحيل هما و حزنا يجلب المزيد من الأحزان، و المزيد من الانتظار!
ثم تنتظر كل ليلة عودة أبيها من الخارج يحمل لها و لإخوتها العشرة ما يبلغهم، و لا يكاد يكفي لذلك، فتندس في الفراش المكتظ مع أخواتها و تعود تنتظر ،
تنتظر النوم يأتيها كي يرحمها من جوعها و من خوفها الدائم من الغارات الغادرة، و يطول انتظارها و لا يأتيها النوم إلا لماما.
كانت تعلم أن مخاوفها و إن لم تتحقق اليوم فستتحقق غدا، هكذا مخاوف الأطفال في فلسطين، و هكذا رأتها تتحقق واحدة بعد الأخرى لكل الأهل و الأصحاب.
و حين أتى دور مخاوفها هي تحقق لها أبشعها!
أحد عشر فتى و فتاة و والديها، لم يبق منهم سواها!
رأت بعينيها الرشاشات تحصدهم واحدا بعد الآخر، و انتظرت أيضا حتى استوعبت الحدث و أتاها الخبر يغرس دستة من الخناجر في قلبها فلا يدع به خلية لم تثخنها الجراح!
في ذهول كادت أن تلقي بنفسها في مرمى الرصاص لولا اختطفتها ذراع قوية.
نظرت فإذا به حسن، جارها الشاب يحمل رغم إصاباته البالغة خمسا من أطفال الحي عداها إلى مكان ما وسط المجهول.
مازالت تذكر كم بكت و تأوهت و انتحبت، كم ظلت تختبئ في فراشها بلا طعام أو شراب لا تدري أتنتظر الموت أم تخشى الحياة.
و تركها حسن حتى هدأت ثم أتاها فجلس إلى جوارها و قال كلماته التي لن تنساها أبدا:
- إبكيهم أو لا تبكيهم فلن يعودوا، لقد جربت قبلك و لم يعد لي أحد من أهلي، فالموت طريق لا رجعة فيه. لكن إذا استحالت أحزانك و آلامك قنابل تتفجر في وجوه القتلة، فربما أحلامهم تعود، ربما الأقصى يعود، ربما فلسطين تعود.
و هكذا بدأت ريما نوعا جديدا من الانتظار،
تربص الفهد لا توجس الغزلان، تتسلل بسوادها و خفتها و جسدها الضئيل، تضرب حيث تؤلم الضربات، تنقض و تلسع ثم تختفي تماما، كالسراب، كأنها لم تكن، تاركة لهم الحيرة و الغيظ و التخبط، و شيئا من الخوف!
و يجن جنونهم يبحثون عنها في كل مكان بلا جدوى،
و هكذا سموها: الشبح!
و هكذا أصبحت ريما جوهرة الفريق طيلة ثمانية أعوام قضتها تنتظر الضربة الكبرى حتى واتتها أخيرا.
و ها هي ذي تنتظر الإشارة كي تعطي أمرا واحدا فيشتعل اللهب و يكبد الجيش اسرائيلي أكبر الخسائر، و وزيرهم و عدد لابأس به من كبار معاونيه!
بحنكة راحت تتراجع إلى حيث اتفقت مع أفراد فريقها حين دوّى في مكبرات الصوت هتاف صارم بالعبرية التي تعرفها جيدا، و اتسعت عيناها في ذعر..
إنه تفتيش مفاجئ لم يكن بالجدول اليوم !
إجراء أمني زائد كما يبدو من أجل زيارة الوزير، من جهاز الإرسال الذي تحمله في أذنها سمعت الهتاف الهامس بصوت حسن:
- ريما سيتم العثور على القنابل في غضون دقائق يجب أن يتم التفجير مبكرا، تراجعي على الفور سننفذ الخطة (ب)!
التفتت كي تتراجع عندما أوقفها صياح بالعبرية يحمل أقذر الشتائم!
تسمرت مكانها و قلبها يهوي بين قدميها بينما يقترب منها الجندي متفحصا و سلاحه مشهر في وجهها قبل أن تتهلل ملامحه و يهتف:
- أنت الشبح! لقد اعتقلت الشبح!
اقترب منها ليفتشها بملامح صارمة مكفهرة و قلبه يرقص فرحا بين جنبيه!
لقد قبض هو على الشبح الذي دوّخ قادته جميعا!
سيرقى، و سيكافأ، و سيحيا في رغد أخيرا بعد أن ذاق من الذل كؤوسا أثملته!
بينما راح الدم يغلي في رأس ريما، هل فشلت الخطة؟
و اعتقلها كلب حقير و انتهى الأمر!
لا و ألف لا!
لقد عاشت عمرها كله من أجل هذه اللحظة،
جهاز التفجير في يدها، لكنها مازالت في حيز القنابل!
هتفت فجأة:
- انتظر! سأخبرك بمكان باقي الفريق!
التمعت عينا الجندي و أحلام الترقيات و المكافآت تداعب خياله المريض، سألها:
- أين؟
قالت:
- (ب) الآن!
قطب الجندي حاجبيه و تساءل:
- ماذا؟ أين هذا؟
تابعت في ثقة:
- ثلاثة، إثنان، واحد..
انتبه الجندي إلى أنها لا تحدثه هو بل ترسل رسالة إلى أصدقائها فانقض عليها من فوره بينما هتفت هي و هي تسقط تحت ثقل انقضاضته:
- صفر!
و بكل عزم تعتصر زر التفجير في قبضتها فتدوّي الانفجارات المتتابعة، و يسود الهرج و الذعر بينما التفجيرات تحصد الجنود و المعدات، و تمزق جسد ريما في ثانية واحدة.
* * *
"ماذا حدث؟ هل نجحت الخطة؟ هل نجوت؟ هل أصبت؟ هل فقدت الوعي؟ هل أسرت؟
و كم مضى من الوقت؟"
تفحصت ريما نفسها، لا شيء يؤلمها على الإطلاق! يغمرها إحساس رائع لم تشعر بمثيله في حياتها، السلام، السلام التام..
و شيء ما يؤكد لها أنها لن تخش شيئا بعد الآن.
يالها من خفة، كأنها تطير، تطفو فوق الأرض، خارج حدود جسدها، لا تخضع لقوانين الجاذبية، و ثمة كائنات رائعة حولها تحيط بها، تحتضنها، تحدثها حديثا شجيا يثلج صدرها و يطمئنها أكثر و أكثر!
تلفتت حولها، الإنفجارات المتتالية تحصد الخسائر في المعسكر، حسن و الرفاق يركضون مبتعدين و قد انشغل الجنود عنهم بمصائبهم المتتابعة، و جسدها الممزق منتثر فوق الرمال، لكنها لم تمت، من قال إنها ماتت؟! إنها تحيا !
الآن أدركت أن النصر لها، و أنها منطلقة من فورها إلى الفردوس أخيرا بلا أي انتظار.
* * *
بخفة الفهود تنقلت بين ثكنات المعسكر الإسرائيلي الرابض كضبع شرس ينتظر الفريسة التالية كي يطبق عليها أنيابه الخائنة، تخرج من طيات ثيابها إحدى القنابل و تثبتها في خبرة و دراية حيث خططوا مسبقا، تعدّها للإنفجار حين تأمرها، ثم تتحرك من جديد إلى نقطة أخرى، دون أدنى صوت، يعينها جسدها الضئيل ذو الأعوام الستة عشر ، و ما يقرب عقدا كاملا من التدريب المستمر..
واحدة بعد واحدة تثبتها، في صبر و حذر، تدفنها بين الرمال و بين أذيال الخيمة، تطوي عليها ذرات الرمال في عناية كأنما تطوي الغطاء لصغيراتها، حتى انتهى مخزونها من القنابل و لم يعد أمامها سوى الإنتظار من أجل اللحظة الحاسمة،
و هو ما تجيده بالفعل.
لقد قضت عمرها كله تنتظر، ألفته و ألفها حتى أصبح جزءا من تكوينها و صارت هي إحدى معالمه، تربى لديها نوع من الصبر لا ينفد، صبر من اعتاد أن تلك هي الطريقة الوحيدة للعيش، و ليس لديها الخيار.
في حداثتها كانت تنتظر يوميا مع أترابها إشارة الأمان تنبئها بأنهم يستطيعون الذهاب إلى المدرسة دون أن يداهمهم هجوم مباغت من دبابات استحلت أن تتخذ الأطفال أهدافا لها، و تترقب طول الطريق و طول الدرس قنبلة أو رصاصات أو صاروخ، و تحمد الله كل ثانية أن تأجل أجلها للثانية التالية.. و قد يأتي الأمان و قد لايجيء، و يتأجل اليوم الدراسي أياما، أو شهورا، أو حتى تلغيه قنبلة عجول تنسف المدرسة كلها، و يتجمع الأطفال في بيت أحد المعلمين ليتابعوا المهمة، و تمضي الأيام !
و تعود، تنتظر بخوف عودة كل شقيق و كل صديق و جار، أو عودة خبر عن جرحه أو مقتله، و يستحيل آخر اليوم عيدا إذا اكتمل العدد، أو يستحيل هما و حزنا يجلب المزيد من الأحزان، و المزيد من الانتظار!
ثم تنتظر كل ليلة عودة أبيها من الخارج يحمل لها و لإخوتها العشرة ما يبلغهم، و لا يكاد يكفي لذلك، فتندس في الفراش المكتظ مع أخواتها و تعود تنتظر ،
تنتظر النوم يأتيها كي يرحمها من جوعها و من خوفها الدائم من الغارات الغادرة، و يطول انتظارها و لا يأتيها النوم إلا لماما.
كانت تعلم أن مخاوفها و إن لم تتحقق اليوم فستتحقق غدا، هكذا مخاوف الأطفال في فلسطين، و هكذا رأتها تتحقق واحدة بعد الأخرى لكل الأهل و الأصحاب.
و حين أتى دور مخاوفها هي تحقق لها أبشعها!
أحد عشر فتى و فتاة و والديها، لم يبق منهم سواها!
رأت بعينيها الرشاشات تحصدهم واحدا بعد الآخر، و انتظرت أيضا حتى استوعبت الحدث و أتاها الخبر يغرس دستة من الخناجر في قلبها فلا يدع به خلية لم تثخنها الجراح!
في ذهول كادت أن تلقي بنفسها في مرمى الرصاص لولا اختطفتها ذراع قوية.
نظرت فإذا به حسن، جارها الشاب يحمل رغم إصاباته البالغة خمسا من أطفال الحي عداها إلى مكان ما وسط المجهول.
مازالت تذكر كم بكت و تأوهت و انتحبت، كم ظلت تختبئ في فراشها بلا طعام أو شراب لا تدري أتنتظر الموت أم تخشى الحياة.
و تركها حسن حتى هدأت ثم أتاها فجلس إلى جوارها و قال كلماته التي لن تنساها أبدا:
- إبكيهم أو لا تبكيهم فلن يعودوا، لقد جربت قبلك و لم يعد لي أحد من أهلي، فالموت طريق لا رجعة فيه. لكن إذا استحالت أحزانك و آلامك قنابل تتفجر في وجوه القتلة، فربما أحلامهم تعود، ربما الأقصى يعود، ربما فلسطين تعود.
و هكذا بدأت ريما نوعا جديدا من الانتظار،
تربص الفهد لا توجس الغزلان، تتسلل بسوادها و خفتها و جسدها الضئيل، تضرب حيث تؤلم الضربات، تنقض و تلسع ثم تختفي تماما، كالسراب، كأنها لم تكن، تاركة لهم الحيرة و الغيظ و التخبط، و شيئا من الخوف!
و يجن جنونهم يبحثون عنها في كل مكان بلا جدوى،
و هكذا سموها: الشبح!
و هكذا أصبحت ريما جوهرة الفريق طيلة ثمانية أعوام قضتها تنتظر الضربة الكبرى حتى واتتها أخيرا.
و ها هي ذي تنتظر الإشارة كي تعطي أمرا واحدا فيشتعل اللهب و يكبد الجيش اسرائيلي أكبر الخسائر، و وزيرهم و عدد لابأس به من كبار معاونيه!
بحنكة راحت تتراجع إلى حيث اتفقت مع أفراد فريقها حين دوّى في مكبرات الصوت هتاف صارم بالعبرية التي تعرفها جيدا، و اتسعت عيناها في ذعر..
إنه تفتيش مفاجئ لم يكن بالجدول اليوم !
إجراء أمني زائد كما يبدو من أجل زيارة الوزير، من جهاز الإرسال الذي تحمله في أذنها سمعت الهتاف الهامس بصوت حسن:
- ريما سيتم العثور على القنابل في غضون دقائق يجب أن يتم التفجير مبكرا، تراجعي على الفور سننفذ الخطة (ب)!
التفتت كي تتراجع عندما أوقفها صياح بالعبرية يحمل أقذر الشتائم!
تسمرت مكانها و قلبها يهوي بين قدميها بينما يقترب منها الجندي متفحصا و سلاحه مشهر في وجهها قبل أن تتهلل ملامحه و يهتف:
- أنت الشبح! لقد اعتقلت الشبح!
اقترب منها ليفتشها بملامح صارمة مكفهرة و قلبه يرقص فرحا بين جنبيه!
لقد قبض هو على الشبح الذي دوّخ قادته جميعا!
سيرقى، و سيكافأ، و سيحيا في رغد أخيرا بعد أن ذاق من الذل كؤوسا أثملته!
بينما راح الدم يغلي في رأس ريما، هل فشلت الخطة؟
و اعتقلها كلب حقير و انتهى الأمر!
لا و ألف لا!
لقد عاشت عمرها كله من أجل هذه اللحظة،
جهاز التفجير في يدها، لكنها مازالت في حيز القنابل!
هتفت فجأة:
- انتظر! سأخبرك بمكان باقي الفريق!
التمعت عينا الجندي و أحلام الترقيات و المكافآت تداعب خياله المريض، سألها:
- أين؟
قالت:
- (ب) الآن!
قطب الجندي حاجبيه و تساءل:
- ماذا؟ أين هذا؟
تابعت في ثقة:
- ثلاثة، إثنان، واحد..
انتبه الجندي إلى أنها لا تحدثه هو بل ترسل رسالة إلى أصدقائها فانقض عليها من فوره بينما هتفت هي و هي تسقط تحت ثقل انقضاضته:
- صفر!
و بكل عزم تعتصر زر التفجير في قبضتها فتدوّي الانفجارات المتتابعة، و يسود الهرج و الذعر بينما التفجيرات تحصد الجنود و المعدات، و تمزق جسد ريما في ثانية واحدة.
* * *
"ماذا حدث؟ هل نجحت الخطة؟ هل نجوت؟ هل أصبت؟ هل فقدت الوعي؟ هل أسرت؟
و كم مضى من الوقت؟"
تفحصت ريما نفسها، لا شيء يؤلمها على الإطلاق! يغمرها إحساس رائع لم تشعر بمثيله في حياتها، السلام، السلام التام..
و شيء ما يؤكد لها أنها لن تخش شيئا بعد الآن.
يالها من خفة، كأنها تطير، تطفو فوق الأرض، خارج حدود جسدها، لا تخضع لقوانين الجاذبية، و ثمة كائنات رائعة حولها تحيط بها، تحتضنها، تحدثها حديثا شجيا يثلج صدرها و يطمئنها أكثر و أكثر!
تلفتت حولها، الإنفجارات المتتالية تحصد الخسائر في المعسكر، حسن و الرفاق يركضون مبتعدين و قد انشغل الجنود عنهم بمصائبهم المتتابعة، و جسدها الممزق منتثر فوق الرمال، لكنها لم تمت، من قال إنها ماتت؟! إنها تحيا !
الآن أدركت أن النصر لها، و أنها منطلقة من فورها إلى الفردوس أخيرا بلا أي انتظار.
* * *
تعليق