التَّرَبُّصُ بِوَجْهِ الْقَمَرِ ...

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أ. جمعة الفاخري
    أديب وكاتب
    • 20-07-2007
    • 276

    التَّرَبُّصُ بِوَجْهِ الْقَمَرِ ...

    ـ المساءُ الصيفيُّ يلملمُ أطرافَهُ لينسحبَ في هدوءٍ .. الطيورُ البريَّةُ تستعرضُ قدرتَها على الطيرانِ .. تؤوبُ بِطاناً إلى أعشاشِهَا مودعةً في أذنِ المساءِ صَدَى تغريدِهَا الطروبِ .. أمامَ البيوتِ البيضاءِ يفغرُ فاهُ المسودَّ كَمِفْحَمَةٍ قديمَةٍ .. اليدُ العجوزُ الخبيرةُ تُسَجِّرُهُ باتصالٍ .. تلقِمُهُ بقايا جذوعِ شجرةٍ متيبِّسَةٍ فَتَتَأَجَّجُ في أَعْمَاقِهِ ثورةٌ حمراءُ مَشْبُوْبَةٌ .. تَسْرِي في أوصالِهِ حُمَّى الاحتراقِ .. يَتَمَدَّدُ بِأَلْسَنَةٍ مُتَرَاقِصَةٍ مُتَلَمِّساً قُبْلاتٍ حَرَّى .. فيما يَتَوَعُّدُ اللهبُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْ أََََحْشَائِهِ النَّازِلِيْنَ إلى أعماقِهِ .. !!
    *****
    قَبَّلَ اليدَ الخبيرةَ المعروقَةَ بلحسَاتٍ دافئَةٍ .. طَالَ الْعِنَاقُ فغدَتِ القبلاتُ لَسْعاً .. ارتدَّتِ اليدُ الْمَعْرُوْقََةُ بَعَفْوِيَّةٍ إثرَ لَذْعَةٍ مُفاجئةٍ .. لَحَسَتْهَا الْعَجُوْزُ خطفاً ثمَّ عادَتْ تُمَسِّدُ خَدَّيْ رَغيفٍ رَطِبٍ لتنيمَهُ على السطحِ الحديديِّ الملتهبِ .. وتتركُهُ للتمدِّدِ والانتفاخِ والاحمرارِ المثيرِ ..
    *****
    في أَعمَاقِهِ يتلظَّى جمرٌ كسولٌ مُوَارَبٌ على نُعاسٍ مُنْتَظَرٍ .. اشتعالُهُ النَّزِِقُُ يُهيِّجُ أعماقَهُ المستفزَّةَ فتهيِّئُ ألسنَةً حمرَاءَ متوعِّدةً الدَّاخِلِيْنَ بالاحتراقِ .. عَلَى فَمِهِ الْمَفْغُوْرِ رَشْرَشتِ اليدُ العجوْزُ قَطْرَاتِ مَاءٍ مُمَلَّحٍ لِتُنِيْمَ ذَؤْابَاتٍ لَهَبِيَّةً مُتَمَرِّدَةً ..
    *****
    في الاستدَارَةِ الحديديَّةِ المحمرَّةِ يبلغُ القمرُ الأرضيُّ سِنَّ النضجِ مُنزلقاً نحوَ الاكتمالِ .. على جدارِهِ المسودِّ يَنْتَفِخُ الرَّغِيْفُ .. يستديرُ محمرًّا كوجهِ قمرٍ صيفيٍّ .. تتَوَرَّدُ خدَّاهُ كحسناءَ دَاهَمَهَا الْخَفَرُ .. تمتدُّ اليدانِ المعروقتانِ تُمَسِّدانِ أطرافَهُ .. يَغدو اللَّذْعُ قَرْصاً ودوداً .. تَخْفُتُ الحرارةُ .. تُمْسِيْ دِفْئاً .. أَطْرَافُهُ تَحْمَرُّ كَكَفِّ عروسٍ مُحَنَّاةٍ .. بَدَا آيلاً لِلنُّضْجِ .. فيما تتوَهَّجُ انفرَاجَةُ أَمَلٍ بَاسِقٍ على الوجْهِ الْمُتَغَضِّنِ ..
    *****
    على كَتِفِ الْخُوْرِ تَنْتَصِبُ بيوتُ الشَّعْرِ كَجَنَاحِي نَسْرٍ .. البُطُوْنُ الْجُوْعَى تَحْلُمُ بِالامْتِلاءِ .. العيونُ تتسَلَّقُ أعمدةَ الدخانِ حُلْماً بمعانقةِ الاستدَارَةِ السَّمْرَاءِ .. النُّفُوْسُ اللَّهفَى تَنْشُجُ بِالْفَرَحِ سَاحِبَة مِنْ أعْمَاقِهَا أنفاساً مُلَغَّمَةً بالأمنياتِ .. النسمَاتُ النمَّامَةُ تَهْرَعُ بِرَائِحَةِ النُّضْجِ رَسَائِلَ فرحٍ عجولٍ .. الأنوفُ تَشْرَئِبُّ نحوَ الرائحَةِ الأخَّاذَةِ .. الرائحَةُ الشَّهِيِّةُ دَعْوَاتٌ مِلْحاحَةٌ لِمَهْرَجَانِ شَبَعٍ مُرْتَقَبٍ ..!
    *****
    في الأفقِ الأرجوانيِّ الغربيِّ تَذْرِفُ الشمسُ آخرَ دمعَةٍ صفراءَ قبلَ غيابِها في الخلاءاتِ القصيَّةِ .. في المرعى القريْبِ تصاَيحَتِ الشِّيَاهُ مُتقفِّيَةً خُطا راعٍ تلقَّى ـ عن بُعْدٍ ـ دَعْوَةً شَهِيَّةً .. اختلطَ الصياحُ بأصواتِ الصغارِ العائدينَ من لعبِهِمِ البرئِ الحميمِ .. على الفوَّهَةِ المستديرةِ الْتَقَتِ العيونُ .. تقاسمتِ النظراتِ الآمِلَةَ .. خفَقَتِ الْقُلُوْبُ بحبٍّ مخبوءٍ .. امْتَدَّتِ الأيدي تتقاسَمُ قِطَعاً سَاخِنَةً مُحْمَرَّةً .. امتلأتِ البطونُ فاطمأنَّتِ الأعماقُ بِشَبَعٍ شَهِيٍّ..!
    *****
    الليلُ العجولُ يرتدي جلبابَهُ الرماديَّ .. يلقي على الكونِ عباءَتَهُ السوداءَ .. يشعلُ في السماءِ البعيدةِ قناديلَهُ الصغيرَةَ المتناثرةَ ويرحلُ .. ابتلعتِ الأغنامُ صياحَها اللحوحَ .. دسَّتِ رؤوسَهَا في أحواضِ العلفِ .. بدا مضغُهَا الشهيُّ كوشوشاتِ العاشقينَ .. تَفرَّقَ الآكلونَ في كلِّ اتجاهٍ فيمَا ظلَّ التنُّوْرُ العتيقُ فَاغِراً فَمَهَ الأسْوَدَ المُسْتديرَ .. مُبِيْحاً لليدينِ المُغْرَمَتِيْنِ بِاللَّذع الحميمِ فعلَ تَلْغِيْمِ أحشائِهِ بالجمرِ المُبارِكِ لأَلفِ مَرَّةٍ قادمَةٍ .. !!

    اجدابيا 24/9/2004 ف
    alfakhrey@yahoo.com
  • راضية العرفاوي
    عضو أساسي
    • 11-08-2007
    • 783

    #2

    سرد شيّق تنبعث منه رائحة قمر/ خبز ناضج

    عند القراءة وجدتني ألاحق أنفاسي أرقب تلك اليد العجوز التي أشتهي تقبيلها..
    المكان كلّه يمّم وجهه تجاه "اليدُ الْمَعْرُوْقََةُ" "المُغْرَمَتِيْنِ بِاللَّذع الحميمِ"

    ..نعم..ما أجملها من صور ،تتحرّك بين اليد والتنّورالعتيق وما حولها
    ( واليد في الصورة عامّة أداة توجيه الرؤية ) فكيف بها إذا كانت يد مباركة

    تصنع (القمر) لمن حولها..


    المبدع أستاذ جمعة الفاخري
    ليبارك الرب نبض مدادك

    كل الورد والتقدير

    [font=Simplified Arabic][color=#0033CC]
    [size=4]الياسمينة بقيت بيضاء لأن الياسمينة لم تنحنِ
    فالذي لاينحني لايتلوّث
    والذي لايتلوّن تنحني أمامه كل الأشياء
    [size=3]عمر الفرا[/size][/size]
    [/color][/font]

    تعليق

    • أ. جمعة الفاخري
      أديب وكاتب
      • 20-07-2007
      • 276

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة راضية العرفاوي مشاهدة المشاركة

      سرد شيّق تنبعث منه رائحة قمر/ خبز ناضج

      عند القراءة وجدتني ألاحق أنفاسي أرقب تلك اليد العجوز التي أشتهي تقبيلها..
      المكان كلّه يمّم وجهه تجاه "اليدُ الْمَعْرُوْقََةُ" "المُغْرَمَتِيْنِ بِاللَّذع الحميمِ"

      ..نعم..ما أجملها من صور ،تتحرّك بين اليد والتنّورالعتيق وما حولها
      ( واليد في الصورة عامّة أداة توجيه الرؤية ) فكيف بها إذا كانت يد مباركة

      تصنع (القمر) لمن حولها..


      المبدع أستاذ جمعة الفاخري
      ليبارك الرب نبض مدادك

      كل الورد والتقدير


      الرائعة / راضية العرفاوي ..
      ــ سررت كثيراً بمرورك الكريم وقراءتك الواعية .. وأنَّك تقاسمينني المشاعرَ عينَها نحوَ تلكَ اليدِ المباركةِ .. فنقبِّلها معاً بيدي قلبينا ..
      شكراً لأنك هنا .. قارئة متذوِّقة ومبدعة رائعة ..
      فيض محبتي واحترامي ..

      تعليق

      • راضية العرفاوي
        عضو أساسي
        • 11-08-2007
        • 783

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة أ. جمعة الفاخري مشاهدة المشاركة


        مُبِيْحاً لليدينِ المُغْرَمَتِيْنِ بِاللَّذع الحميمِ فعلَ تَلْغِيْمِ أحشائِهِ بالجمرِ المُبارِكِ لأَلفِ مَرَّةٍ قادمَةٍ .. !!

        اجدابيا 24/9/2004 ف
        alfakhrey@yahoo.com

        من يقرأ هذه القصة القصيرة لا يستطيع منع نفسه من العودة لمرافئ الإبداع واللغة الثريّة وجمالية صورها..

        هنا تأخذني الدهشة أمام النهاية التي يظنّ القارئ/ ة أنّ الزمن فيها مغلق بفعل مشهد الغروب ولكنّه ..

        ينفتح ( بإباحة اللذع الحميم لليدين المباركتين لأيّام أخر) " لأَلفِ مَرَّةٍ قادمَةٍ .. !! ".

        يا الله ..وكأن النص/ اللغة يعدنا بتكرار المشهد الذي أسرنا - مشهد اليد المباركة التي تصنع الخبز والقمر - لألف مرة قادمة..


        (لأَلفِ مَرَّةٍ قادمَةٍ .. !!) لا يمكنني تخيّل القصة بدونها ..

        -----------

        أيضا ما شدّني في الصورة/المشهد هو اليد التي أوجزت الحضور ، أقصد حضورالمرأة العجوز بكامل جسدها وملامحها
        إذ أن اليد المليئة بالدفء والحنان والعطاء بلا حدود ، هذه اليد التي تعجن الخبز بالعطف وعرق تعبها
        ازاحت كامل الجسد ليكون أكثر حضورا في بيئته ..

        أقرأ الصور
        و
        أحنّ لخبز أمّي




        لله درك أستاذنا الفاضل جمعة الفاخري
        ليبارك الرب صدق مدادك
        ورد وتقدير

        [font=Simplified Arabic][color=#0033CC]
        [size=4]الياسمينة بقيت بيضاء لأن الياسمينة لم تنحنِ
        فالذي لاينحني لايتلوّث
        والذي لايتلوّن تنحني أمامه كل الأشياء
        [size=3]عمر الفرا[/size][/size]
        [/color][/font]

        تعليق

        يعمل...
        X