المقامة النواسية / عبد الرشيد حاجب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الرشيد حاجب
    أديب وكاتب
    • 20-06-2009
    • 803

    المقامة النواسية / عبد الرشيد حاجب

    المقامة النواسية

    عبد الرشيد حاجب


    حدثنا الأستاذ عبد الله بن عربان ، صاحب الفم (الخربان) ، الذي ترك أسنانه تسقط ، وشعره مشعثا دون مشط ، وهندامه يهترئ كالمتسولين ، حتى صار كأنه خارج من كهف للغابرين ،ليوفر كما قال ثمن السيارة ، فيصير حديث أهل العمارة ، عشرون عاما وهو يجمع الدينار فوق الدينار ، حتى أحرج أهل الدار ، أمام الغريب والجار، بإدمانه ثمار الصبار ، وصار اللحم في البيت هو العدس ، من شاء رضي ومن شاء عبس ، المهم أن المال يتكدس ، فلس يتبعه فلس !
    حدثنا بفصاحته المعهودة ، ونحن مشمئزون من عاداته المنبوذة ، فقد كان اللعاب من فمه يتناثر ، ودمعه إذا ضحك من إحدى عينيه يتقاطر ، فلا هو استعمل كعباد الله منديلا ، ولا نحن وجدنا لتفادي نثار لعابه سبيلا ، لكننا صراحة كنا نحب دعاباته ، وتسحرنا طريقته في سرد حكاياته ، بل وعشقنا منه حتى الإستطراد ، وخروجه من موضوع لآخر حتى يبلغ المراد ، وكيف لا وهو أستاذ الأدب القدير ، الذي لا يضاهيه منا كبير أو صغير ، يحفظ المعلقات عن ظهر قلب ، ينشدها كأنه يلهو ويلعب ، لا تستعصي عليه شاردة ، ولا تفلت منه واردة ، قال : " وأخيرا وصلت السيارة للميناء ، فزغردت الزوجة ورقص الأبناء ، طبل أولادي بالأواني ، ورقصت بناتي كالغواني ، والحمد لله أننا لا نملك غير تلفاز قديم مبحوح ، وإلا كانوا حولوا الشقة لديسكو مفضوح !
    صدقوني حين رأيتها خفق لها قلبي ، وطار في عشقها ما بقي من لبي ، حمراء فاقع لونها الشفاف ، بها مسحة من الطهر والعفاف ، بل كدت أرى فيها غنج هيفاء الوهبية ، ودلال نانسي العجرمية ، فعذرا يا سيدتي فيروز ويا ديميس روسوس ، أنا مستعد أن أعتنق من أجل "الحمراء " مذهب الهندوس ! "
    ثم إني تقدمت لإدارة الجمارك ، وأنا أهنئ نفسي وأبارك ، أحمل تحت ابطي رزمة من الأوراق ، وأتنقل من رواق لرواق ، يرشدونني من مكتب لمكتب، وأنا راضي مبتسم لم أغضب ، وما لي أنا والغضب ، والدنيا ألحان وطرب !حتى أني كنت يومها أرتدي سروالا جديدا ، كأني طفل يستقبل العيد سعيدا ، بل كدت لولا الحياء أصفر ، وأتهادى في الأروقة وأتبختر ، لكنكم تعرفونني أمقت الصفير ، وأنهر تلاميذي عنه كما أنهرهم عن الشخير ، وكم رددت أن المدرسة للذكاء والمهارة ، لا للشيطنة والشطارة ، عفوا عفوا يا إخواني ، لقد ألهاني الاستطراد وأغواني ، المهم أني وجدت نفسي في مكتب التقني المهندس ، وما علمت أني دخلت مغارة الدس ، وقد فهمت أن لا أحد يخرج من هنا بالورقة ، حتى تتم الصفقة ، فاحترت في أمري ، وبدأ الضيق يعتصر صدري ، فمن أين آتيه أنا بالمليون ، هل يحسبني من أصحاب السيكار والغليون ، ألا لعنة الله علي يوم اخترت قسم الآداب ، فلم أجن منه في حياتي غير العذاب ، قلت له : (يا سيدي أنا مجرد مدرس أدب ، فكيف بالله أحقق لك الطلب ، وحاشا الله أن أقول إنها رشوة ، هي والحق يقال مجرد قهوة ، بل هي هدية يهديها المواطن للمسؤول ، يشكره بها عن الجهد المبذول ، تماما كهدية الخليفة للشاعر ، عما أغرقه به من فيض المشاعر ، بل حتى النواسي السكير ، ما خلت يوما جيبه من الدنانير ، ولو عاش في عصر أرباب الاستيراد والتصدير ، لتبعته أفخر الخمور حيث يسير ، وفتحت أمامه أبواب الليموزين أينما يستدير ، أمام الديسكوهات والمواخير ، غفرالله لأبي نواس حين قال نهارا جهارا : اسقيني خمرا حتى أرى الديك حمارا ، وها إني أرى نفسي الآن حمارا بن حمارة ، وأنا الذي لم أدخل في حياتي خمارة ، إذ كان علي التفكير في قهوتك قبل السيارة ! )
    وهل تصدقون يا إخوتي ، أن ذكر النواسي كان سبب نجاتي ، فقد كنت أنوي أن أترك المقعد ، وأقف أمامه أتباكى وأرتعد ، لعله يشفق على حالي ، وجوع الأيام والليالي . تلومونني عن التذلل ؟! وكيف يا إخواني لا أتذلل ، وقد ترك الشك لنفسي يتسلل ، أن السيارة قد تصادر ، في انتظار تأكيد بعض المصادر ، وما يأتي من فوق من أوامر ، بحجة أن أرقام الهيكل مزورة ، أو أن بعض المعلومات في الوثائق محورة ، مما يعني أن السيارة قد تكون مسروقة ، وسحقا لسنوات عمري المحروقة !
    المهم أن الرجل ما إن سمع اسم أبي نواس ، حتى تفجر حنينه إلى الكأس ، فقام يفتح خزانة ، بصف من الزجاجات مزدانة ، فصب لنفسه صبا ، وعب منها عبا ، ثم جاء يجلس قربي ، كأنه أحد أصدقاء دربي ، ووضع يده على كتفي ، وفي عينيه شيء من الأسف ، ثم قال: انا أحفظ هذا البيت منذ كنت صغيرا ، ولم أعرف له لحد الآن تفسيرا ، والندماء يروونه للسخرية ، لكني لا أحسب النواسي بهذه السطحية، وقد أشاد بعلمه علماء عظام ، وأنت لا شك تعرف بيته الشهير في المعتزلي النظام :
    وقل لمن يدعي في العلم فلسفة **حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
    فإن فسرت لي بيت الديك والحمار ، ستعود بسيارتك اليوم للدار ، وأريده تفسيرا بالدليل والبرهان ، فهل تراك تقبل الرهان ؟
    قلت : وهل ينفق المرء ماله ، ويسرق قوت عياله ، ليشرب حتى يرى الجمال قبحا ، ألا سحقا لمن لم يتأمل البيت وترحا ، إنما يقصد النواسي بالديك طلوع الفجر ، وهو الذي تبدأ مجالسه غالبا بعد العصر ، لكنه لا ينتظر هذا الطلوع ، الذي تتفرق بعده الجموع ، ويذكر الناس بتعاقب الليل والنهار ، وبديع ما خلق الواحد القهار ، فانظر كيف ربط بين صياح الديك ونهيق الحمير ، والله في كتابه الكريم يقول : ( وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) ، فإلام عساه يرمي هذا الزنديق السكير ، أتراه يشير لصوت المؤذن الجهير ، فهو وحده يقوم مع الديك يدعو الناس للمساجد ، ألا لعنة الله على الشاعر الجاحد ، الذي ذكرني بالروائي الجزائري كاتب ياسين ، يشبه الصوامع بصواريخ تنتظر الانطلاق منذ سنين ، أظنك أدركت سيدي ما خفي من المعاني ، وأنا لا أود الاسترسال فضميري يعاني ، ويجرح مشاعري ويخدش إيماني .
    ثم إن المهندس حدق بي طويلا دون كلام ، ثم قام لأوراقي يوقعها و يضع عليها الأختام ، ويسلمها لي ويأمرني بالذهاب في سلام ، فأسرعت لسيارتي وأنا أقول بارك الله فيك يا بن الكرام ، لكن ما إن ركبت وانطلقت حتى وجدتني أصرخ ،: رحمك الله وغفر لك يا نواسي ، فيعلم الله لولاك كم كنت سأقاسي !
    الجزائر أوت 2009
    "ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب"​
  • مصطفى بونيف
    قلم رصاص
    • 27-11-2007
    • 3982

    #2
    الأستاذ الأخ عبد الرشيد حاجب

    لعل فت المقامة من بواكير الأدب الساخر في أدبتا العربي حيث برع فيها بديع الزمان الهمذاني الذي طالما أضحكنا في عرض مواقفه الطريفة ، لغة جميلة خفيفة .
    ما قرأته لك هنا مختلف تماما .
    لغة جميلة محكمة ، خفة دم ، وعمق .

    رائع يا أستاذنا كما عرفناك .

    مصطفى بونيف
    [

    للتواصل :
    [BIMG]http://sphotos.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-snc3/hs414.snc3/24982_1401303029217_1131556617_1186241_1175408_n.j pg[/BIMG]
    أكتب للذين سوف يولدون

    تعليق

    • غاده بنت تركي
      أديب وكاتب
      • 16-08-2009
      • 5251

      #3







      أبدعت يا رائع هنا لله دركَ شكر يتبعه شكر يتلوه شكر ,,
      نســــــــــــــــــــامح : لكن لا ننســـــــــى
      الحقوق لا تـُعطى ، وإنما تـُـنـتزَع
      غادة وعن ستين غادة وغادة
      ــــــــــــــــــ لاوالله الاّ عن ثمانين وتزيد
      فيها العقل زينه وفيها ركاده
      ــــــــــــــــــ هي بنت ابوها صدق هي شيخة الغيد
      مثل السَنا والهنا والسعادة
      ــــــــــــــــــ مثل البشاير والفرح ليلة العيد

      تعليق

      • هاله دياب
        عضو الملتقى
        • 18-02-2009
        • 65

        #4
        الكاتب الكبير عبد الرشيد حاجب اسلوب رائع في طرح مشكلة يعاني منها الكثير في وقت باتت فيه الرشوة أو فنجان القهوة كما أسميتها عبئا ثقيلا على أكتاف المراجعين للدوائر الحكومية أو حجر عثرة يجب تخطيه لتلبية طلبك
        لنا الله يا أستاذي فالحال من سيء إلى أسوأ
        :emot112:إذا هبت رياحك فاغتنمها
        فإن لكل خافقة سكون

        تعليق

        • نجوى النابلسي
          عضو الملتقى
          • 07-08-2009
          • 43

          #5
          الأستاذ عبد الرشيد حاجب

          قد ابدعت والله في هذا الفن الذي كدنا ننساه بل واستطعت استخدامه وتوظيف بطريقة ذكية ليخدم مشاكلنا اليومية.

          متألق دوماً

          تعليق

          • عبد الرشيد حاجب
            أديب وكاتب
            • 20-06-2009
            • 803

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة مصطفى بونيف مشاهدة المشاركة
            الأستاذ الأخ عبد الرشيد حاجب

            لعل فت المقامة من بواكير الأدب الساخر في أدبتا العربي حيث برع فيها بديع الزمان الهمذاني الذي طالما أضحكنا في عرض مواقفه الطريفة ، لغة جميلة خفيفة .
            ما قرأته لك هنا مختلف تماما .
            لغة جميلة محكمة ، خفة دم ، وعمق .

            رائع يا أستاذنا كما عرفناك .

            مصطفى بونيف
            الأخ المبدع الساخر العزيز مصطفى ، أشكرك على المرور والإعجاب والتثبيت ...فأما عشق المقامة ،فهو عشق للغة ، وممارسة للرياضة اللغوية في كتابتها وأظن في قراءتها أيضا ، بحيث يطفو المخزون على السطح بسبب السجع المفروض فيها ...فمن أراد أن يتمرن لتقوية عضلاته اللغوية فعليه بها ، فسيجد فيها إن شاء الله ما يثري لغته ويغنيها ...
            محبتي.
            "ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب"​

            تعليق

            • الدكتور محسن الصفار
              عضو أساسي
              • 06-07-2009
              • 1985

              #7
              استاذي عبد الرشيد حاجب
              ما اجمل المقامة العصرية التي صغتها
              تحياتي واحترامي
              [B][SIZE="5"]لست هنا كي استعرض مهاراتي اللغوية او الادبية بل كي اجعل ما في قلبي من الم وغصة ريشة ترسم على شفاهكم ابتسامة [/SIZE][/B]
              مدوناتي
              [url]www.msaffar.jeeran.com[/url]
              [url]www.msaffar.maktoobblog.com[/url]

              تعليق

              • مالكة عسال
                أديبة وكاتبة
                • 21-11-2007
                • 175

                #8
                رد

                المشاركة الأصلية بواسطة عبد الرشيد حاجب مشاهدة المشاركة
                المقامة النواسية

                عبد الرشيد حاجب


                حدثنا الأستاذ عبد الله بن عربان ، صاحب الفم (الخربان) ، الذي ترك أسنانه تسقط ، وشعره مشعثا دون مشط ، وهندامه يهترئ كالمتسولين ، حتى صار كأنه خارج من كهف للغابرين ،ليوفر كما قال ثمن السيارة ، فيصير حديث أهل العمارة ، عشرون عاما وهو يجمع الدينار فوق الدينار ، حتى أحرج أهل الدار ، أمام الغريب والجار، بإدمانه ثمار الصبار ، وصار اللحم في البيت هو العدس ، من شاء رضي ومن شاء عبس ، المهم أن المال يتكدس ، فلس يتبعه فلس !
                حدثنا بفصاحته المعهودة ، ونحن مشمئزون من عاداته المنبوذة ، فقد كان اللعاب من فمه يتناثر ، ودمعه إذا ضحك من إحدى عينيه يتقاطر ، فلا هو استعمل كعباد الله منديلا ، ولا نحن وجدنا لتفادي نثار لعابه سبيلا ، لكننا صراحة كنا نحب دعاباته ، وتسحرنا طريقته في سرد حكاياته ، بل وعشقنا منه حتى الإستطراد ، وخروجه من موضوع لآخر حتى يبلغ المراد ، وكيف لا وهو أستاذ الأدب القدير ، الذي لا يضاهيه منا كبير أو صغير ، يحفظ المعلقات عن ظهر قلب ، ينشدها كأنه يلهو ويلعب ، لا تستعصي عليه شاردة ، ولا تفلت منه واردة ، قال : " وأخيرا وصلت السيارة للميناء ، فزغردت الزوجة ورقص الأبناء ، طبل أولادي بالأواني ، ورقصت بناتي كالغواني ، والحمد لله أننا لا نملك غير تلفاز قديم مبحوح ، وإلا كانوا حولوا الشقة لديسكو مفضوح !
                صدقوني حين رأيتها خفق لها قلبي ، وطار في عشقها ما بقي من لبي ، حمراء فاقع لونها الشفاف ، بها مسحة من الطهر والعفاف ، بل كدت أرى فيها غنج هيفاء الوهبية ، ودلال نانسي العجرمية ، فعذرا يا سيدتي فيروز ويا ديميس روسوس ، أنا مستعد أن أعتنق من أجل "الحمراء " مذهب الهندوس ! "
                ثم إني تقدمت لإدارة الجمارك ، وأنا أهنئ نفسي وأبارك ، أحمل تحت ابطي رزمة من الأوراق ، وأتنقل من رواق لرواق ، يرشدونني من مكتب لمكتب، وأنا راضي مبتسم لم أغضب ، وما لي أنا والغضب ، والدنيا ألحان وطرب !حتى أني كنت يومها أرتدي سروالا جديدا ، كأني طفل يستقبل العيد سعيدا ، بل كدت لولا الحياء أصفر ، وأتهادى في الأروقة وأتبختر ، لكنكم تعرفونني أمقت الصفير ، وأنهر تلاميذي عنه كما أنهرهم عن الشخير ، وكم رددت أن المدرسة للذكاء والمهارة ، لا للشيطنة والشطارة ، عفوا عفوا يا إخواني ، لقد ألهاني الاستطراد وأغواني ، المهم أني وجدت نفسي في مكتب التقني المهندس ، وما علمت أني دخلت مغارة الدس ، وقد فهمت أن لا أحد يخرج من هنا بالورقة ، حتى تتم الصفقة ، فاحترت في أمري ، وبدأ الضيق يعتصر صدري ، فمن أين آتيه أنا بالمليون ، هل يحسبني من أصحاب السيكار والغليون ، ألا لعنة الله علي يوم اخترت قسم الآداب ، فلم أجن منه في حياتي غير العذاب ، قلت له : (يا سيدي أنا مجرد مدرس أدب ، فكيف بالله أحقق لك الطلب ، وحاشا الله أن أقول إنها رشوة ، هي والحق يقال مجرد قهوة ، بل هي هدية يهديها المواطن للمسؤول ، يشكره بها عن الجهد المبذول ، تماما كهدية الخليفة للشاعر ، عما أغرقه به من فيض المشاعر ، بل حتى النواسي السكير ، ما خلت يوما جيبه من الدنانير ، ولو عاش في عصر أرباب الاستيراد والتصدير ، لتبعته أفخر الخمور حيث يسير ، وفتحت أمامه أبواب الليموزين أينما يستدير ، أمام الديسكوهات والمواخير ، غفرالله لأبي نواس حين قال نهارا جهارا : اسقيني خمرا حتى أرى الديك حمارا ، وها إني أرى نفسي الآن حمارا بن حمارة ، وأنا الذي لم أدخل في حياتي خمارة ، إذ كان علي التفكير في قهوتك قبل السيارة ! )
                وهل تصدقون يا إخوتي ، أن ذكر النواسي كان سبب نجاتي ، فقد كنت أنوي أن أترك المقعد ، وأقف أمامه أتباكى وأرتعد ، لعله يشفق على حالي ، وجوع الأيام والليالي . تلومونني عن التذلل ؟! وكيف يا إخواني لا أتذلل ، وقد ترك الشك لنفسي يتسلل ، أن السيارة قد تصادر ، في انتظار تأكيد بعض المصادر ، وما يأتي من فوق من أوامر ، بحجة أن أرقام الهيكل مزورة ، أو أن بعض المعلومات في الوثائق محورة ، مما يعني أن السيارة قد تكون مسروقة ، وسحقا لسنوات عمري المحروقة !
                المهم أن الرجل ما إن سمع اسم أبي نواس ، حتى تفجر حنينه إلى الكأس ، فقام يفتح خزانة ، بصف من الزجاجات مزدانة ، فصب لنفسه صبا ، وعب منها عبا ، ثم جاء يجلس قربي ، كأنه أحد أصدقاء دربي ، ووضع يده على كتفي ، وفي عينيه شيء من الأسف ، ثم قال: انا أحفظ هذا البيت منذ كنت صغيرا ، ولم أعرف له لحد الآن تفسيرا ، والندماء يروونه للسخرية ، لكني لا أحسب النواسي بهذه السطحية، وقد أشاد بعلمه علماء عظام ، وأنت لا شك تعرف بيته الشهير في المعتزلي النظام :
                وقل لمن يدعي في العلم فلسفة **حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
                فإن فسرت لي بيت الديك والحمار ، ستعود بسيارتك اليوم للدار ، وأريده تفسيرا بالدليل والبرهان ، فهل تراك تقبل الرهان ؟
                قلت : وهل ينفق المرء ماله ، ويسرق قوت عياله ، ليشرب حتى يرى الجمال قبحا ، ألا سحقا لمن لم يتأمل البيت وترحا ، إنما يقصد النواسي بالديك طلوع الفجر ، وهو الذي تبدأ مجالسه غالبا بعد العصر ، لكنه لا ينتظر هذا الطلوع ، الذي تتفرق بعده الجموع ، ويذكر الناس بتعاقب الليل والنهار ، وبديع ما خلق الواحد القهار ، فانظر كيف ربط بين صياح الديك ونهيق الحمير ، والله في كتابه الكريم يقول : ( وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) ، فإلام عساه يرمي هذا الزنديق السكير ، أتراه يشير لصوت المؤذن الجهير ، فهو وحده يقوم مع الديك يدعو الناس للمساجد ، ألا لعنة الله على الشاعر الجاحد ، الذي ذكرني بالروائي الجزائري كاتب ياسين ، يشبه الصوامع بصواريخ تنتظر الانطلاق منذ سنين ، أظنك أدركت سيدي ما خفي من المعاني ، وأنا لا أود الاسترسال فضميري يعاني ، ويجرح مشاعري ويخدش إيماني .
                ثم إن المهندس حدق بي طويلا دون كلام ، ثم قام لأوراقي يوقعها و يضع عليها الأختام ، ويسلمها لي ويأمرني بالذهاب في سلام ، فأسرعت لسيارتي وأنا أقول بارك الله فيك يا بن الكرام ، لكن ما إن ركبت وانطلقت حتى وجدتني أصرخ ،: رحمك الله وغفر لك يا نواسي ، فيعلم الله لولاك كم كنت سأقاسي !
                الجزائر أوت 2009
                عبد الراشد في المقامة ،صاحب الشأن والشهامة
                ..يسربل الحروف ،كاللوز في ورق العنب ملفوف ،الكلمات منه تنساب ،تسيل لقرائتها اللعاب ، حين تقرأ من مقامته الصفحات ،تنتابك القشعريرة والرعشات ،تزلزل لك الوجدان ،فتتيه عن المكان ،لو تقرأ لعبد الرشيد ،يشبع نهمك بما تريد ...
                تحية لقلمك
                كل المنابر الثقافية ملك لي
                ولاشأن لي باختلاف أعضائها

                تعليق

                • محمد جابري
                  أديب وكاتب
                  • 30-10-2008
                  • 1915

                  #9
                  الأستاذ : عبد الرشيد حاجب، حفظك الله؛

                  جميل العبارات، وخفة رشاقتها، تركت في النفوس أثر رسالتها.
                  بوركت الجهود.
                  http://www.mhammed-jabri.net/

                  تعليق

                  • عبد الرشيد حاجب
                    أديب وكاتب
                    • 20-06-2009
                    • 803

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة غاده بنت تركي مشاهدة المشاركة






                    أبدعت يا رائع هنا لله دركَ شكر يتبعه شكر يتلوه شكر ,,
                    سرني مرورك أيتها المبدعة الواعدة ...أتمنى لك تميزا مستمرا

                    وألف شكر.

                    تحيتي وتقديري ، في انتظار أن أقرأ لك كل مبهر...
                    "ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب"​

                    تعليق

                    • رشا عبادة
                      عضـو الملتقى
                      • 08-03-2009
                      • 3346

                      #11
                      [align=center]بعد التحية و كتر السلام
                      "والرقص عشرة بلدي، وأنا آخر إنسجام، حيث جاء النص مسبوكا محبوكا وتمام التمام، بدون رغي أى "ثرثرة" سأبدأ فى الكلام"
                      قالها لي مرة أستاذ أحبه ، حد الإندماج الا أنني لم أرغب منه فى الزواج
                      وقد اكتفى بإهدائي "مأساة الحلاج" قال ..
                      "انه من الذكاء والدهاء ان تختلف دون ان تخالف ،وان تخالف دون ان تحالف"
                      وهنا أنت يا سيدي "ماشاء الله عليك" قد اختلفت فى طريقة التقديم والإعداد ، دون ان تخالف مقادير الوجبة الساخرة
                      وصراحة لا أعرف ما هى العلاقة الفطرية التي تربط ما بين "الشاى" والقهوة، والشربات والسجاير" وبين "التوقيع ، والتخليص الجمركي وختم النسر فى المصالح الحكومية"
                      وأظننا إحقاقا للحق لابد ان نعتبر مخترع تلك الإستعارة "القهوية" للدلالة على الرشوة"المستخبية" من أهم عشر مكتشفيين لعوامل "الخيبة القوية" فى الدول النامية ذات الطباع ، العقيمة الروتينية!
                      وبهذة المناسبة دعني أروي لك حقيقة بحثي الرشروشي فى دراستي الميدانية عن ارتباط "كوب الشاي بسرعة الحركة الوظيفية"
                      يقال والعلم لله
                      "انه بقديم الزمان حيث كان يطلق على المجنون لقب"باذنجان"
                      كان هناك هذا الفلاح الجميل "عم الحاج "سيلان" أول من زرع الشاى وعرف ما هو الفنجان
                      ولأن قديما لم تكن هناك نقود أو دنانير
                      برغم ان قصر الغني كان يجاور دار الفقير، كانوا يعتمدون على نظام المقايضة الزراعية بمعنى "ان آخذ منك عشر بيضات وأعطيك بدلاً منهم كيلو ونص ملوخية!
                      فكان عم" سيلان" مشهور بالدفع تقسيطاً او بالمجان، بنظام الشاى على مختلف الألوان"تقيل، خفيف، او حبر أسود" كما الصعايدة الجدعان
                      فكان يقضي مصالحه بتلك الطريقة التى أصبحث على ما يبدو بنفوس البشر ذات علاقة وثيقة، ولأن عم سيلان أصبح من الفلاحيين " المشهوريين ،الأعيان" فأمتلك مزارع الخوخ والموز والباذنجان
                      فقد صدق الناس فحوى الإعلان الذي يقول"إشرب شاي سيلان سنة وهتبقى من الأعيان"!
                      ولأن الشاى "كيف ومزاج" والرشوة أيضا "كيف ومزاج" فكان هذا نوع غير شرعي من الزواج لكنه مستحب لدى محبي الإعوجاج

                      والتنبؤات تنبأ يا سيدي بما سيحدث فى القادم من الزمان
                      حيث سيتم إستبدال تعبير الشاي الذي يردده الموظف المرتشي الغلبان
                      ل لفظ آخر أكثر وضوحاً للعيان ،وللمواطن المجبر على الدفع فى كل الأحيان
                      ليصبح طلب الرشوة عبارة عن كلمة واحدة هي "شوشو"

                      وبالنهاية يا أستاذنا الجميل أستطيع ان أقول هنا وبدون مجاملة او تجميل
                      "أتمني لك عمر سعيد ،مديد، طويل لا تقابلك فيه تلك"الشوشو" بأى سبيل"
                      "واللهم أغزيك يا شوشو"
                      نعم "رغاية" أعلم
                      كل أصدقائي وأهلى يدركون هذا جيدا ويعلمون ان السبيل الوحيد لتغيير تلك العادة هو عودتي لرحم أمي لإعادة تكويني وتهيئتي بحيث أخرج للحياة مرة أخري بلا أصابع أو لسان لكن لاأظنها مشكلة يمكنني الكتابة بالرموش أو الُركب
                      تحياتي ولا حرمنا الله نورك سيدي[/align]
                      " أعترف بأني لا أمتلك كل الجمال، ولكني أكره كل القبح"
                      كلــنــا مــيـــدان التــحــريـــر

                      تعليق

                      • عبد الرشيد حاجب
                        أديب وكاتب
                        • 20-06-2009
                        • 803

                        #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة هاله دياب مشاهدة المشاركة
                        الكاتب الكبير عبد الرشيد حاجب اسلوب رائع في طرح مشكلة يعاني منها الكثير في وقت باتت فيه الرشوة أو فنجان القهوة كما أسميتها عبئا ثقيلا على أكتاف المراجعين للدوائر الحكومية أو حجر عثرة يجب تخطيه لتلبية طلبك
                        لنا الله يا أستاذي فالحال من سيء إلى أسوأ
                        نعم سيدتي الحال من سيء إلى أدهى ، ودورنا أن نحاول الكشف عن ذلك والإمتاع في نفس الوقت ..أرجو أن أكون قد وفقت ولو إلى حد ما..

                        تحيتي وتقديري أيتها الكبيرة في قراءتك !
                        "ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب"​

                        تعليق

                        • عبد الرشيد حاجب
                          أديب وكاتب
                          • 20-06-2009
                          • 803

                          #13
                          المشاركة الأصلية بواسطة نجوى النابلسي مشاهدة المشاركة
                          الأستاذ عبد الرشيد حاجب

                          قد ابدعت والله في هذا الفن الذي كدنا ننساه بل واستطعت استخدامه وتوظيف بطريقة ذكية ليخدم مشاكلنا اليومية.

                          متألق دوماً
                          مرحبا بالأخت العزيزة ، والقاصة الرائعة نجوى ...إنني عشقت المقامة منذ بداية مشواري في المطالعة الأدبية لكنني نسيتها مع الأيام كسائر خلق الله . ولقد أعادني إليها موضوع طريف لأخينا ياسر طويش فكتبت مقامتين ، تبعتها تعليقات على شكل مقامات سريعة خاطفة ، فأدركت عشق القارئ للتراث ، وبقاء الأذن الموسيقية العربية مرتبطة بالقافية والسجع ... فقلت لماذا لا أجرب الأمر في ثوب عصري بعيدا عن الغريب والموحش من اللفظ الذي قد يفرضه السجع ...فكان ما كان ...

                          تحيتي وتقدري لك سيدتي
                          .
                          "ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب"​

                          تعليق

                          • عبد الرشيد حاجب
                            أديب وكاتب
                            • 20-06-2009
                            • 803

                            #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة الدكتور محسن الصفار مشاهدة المشاركة
                            استاذي عبد الرشيد حاجب
                            ما اجمل المقامة العصرية التي صغتها
                            تحياتي واحترامي
                            العزيز المبدع الكبير د. محسن

                            شرفني المرور ، واستحسانكم للنص ..

                            مودتي وتقديري.
                            "ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب"​

                            تعليق

                            يعمل...
                            X