المقامة النواسية
عبد الرشيد حاجب
حدثنا الأستاذ عبد الله بن عربان ، صاحب الفم (الخربان) ، الذي ترك أسنانه تسقط ، وشعره مشعثا دون مشط ، وهندامه يهترئ كالمتسولين ، حتى صار كأنه خارج من كهف للغابرين ،ليوفر كما قال ثمن السيارة ، فيصير حديث أهل العمارة ، عشرون عاما وهو يجمع الدينار فوق الدينار ، حتى أحرج أهل الدار ، أمام الغريب والجار، بإدمانه ثمار الصبار ، وصار اللحم في البيت هو العدس ، من شاء رضي ومن شاء عبس ، المهم أن المال يتكدس ، فلس يتبعه فلس !
حدثنا بفصاحته المعهودة ، ونحن مشمئزون من عاداته المنبوذة ، فقد كان اللعاب من فمه يتناثر ، ودمعه إذا ضحك من إحدى عينيه يتقاطر ، فلا هو استعمل كعباد الله منديلا ، ولا نحن وجدنا لتفادي نثار لعابه سبيلا ، لكننا صراحة كنا نحب دعاباته ، وتسحرنا طريقته في سرد حكاياته ، بل وعشقنا منه حتى الإستطراد ، وخروجه من موضوع لآخر حتى يبلغ المراد ، وكيف لا وهو أستاذ الأدب القدير ، الذي لا يضاهيه منا كبير أو صغير ، يحفظ المعلقات عن ظهر قلب ، ينشدها كأنه يلهو ويلعب ، لا تستعصي عليه شاردة ، ولا تفلت منه واردة ، قال : " وأخيرا وصلت السيارة للميناء ، فزغردت الزوجة ورقص الأبناء ، طبل أولادي بالأواني ، ورقصت بناتي كالغواني ، والحمد لله أننا لا نملك غير تلفاز قديم مبحوح ، وإلا كانوا حولوا الشقة لديسكو مفضوح !
صدقوني حين رأيتها خفق لها قلبي ، وطار في عشقها ما بقي من لبي ، حمراء فاقع لونها الشفاف ، بها مسحة من الطهر والعفاف ، بل كدت أرى فيها غنج هيفاء الوهبية ، ودلال نانسي العجرمية ، فعذرا يا سيدتي فيروز ويا ديميس روسوس ، أنا مستعد أن أعتنق من أجل "الحمراء " مذهب الهندوس ! "
ثم إني تقدمت لإدارة الجمارك ، وأنا أهنئ نفسي وأبارك ، أحمل تحت ابطي رزمة من الأوراق ، وأتنقل من رواق لرواق ، يرشدونني من مكتب لمكتب، وأنا راضي مبتسم لم أغضب ، وما لي أنا والغضب ، والدنيا ألحان وطرب !حتى أني كنت يومها أرتدي سروالا جديدا ، كأني طفل يستقبل العيد سعيدا ، بل كدت لولا الحياء أصفر ، وأتهادى في الأروقة وأتبختر ، لكنكم تعرفونني أمقت الصفير ، وأنهر تلاميذي عنه كما أنهرهم عن الشخير ، وكم رددت أن المدرسة للذكاء والمهارة ، لا للشيطنة والشطارة ، عفوا عفوا يا إخواني ، لقد ألهاني الاستطراد وأغواني ، المهم أني وجدت نفسي في مكتب التقني المهندس ، وما علمت أني دخلت مغارة الدس ، وقد فهمت أن لا أحد يخرج من هنا بالورقة ، حتى تتم الصفقة ، فاحترت في أمري ، وبدأ الضيق يعتصر صدري ، فمن أين آتيه أنا بالمليون ، هل يحسبني من أصحاب السيكار والغليون ، ألا لعنة الله علي يوم اخترت قسم الآداب ، فلم أجن منه في حياتي غير العذاب ، قلت له : (يا سيدي أنا مجرد مدرس أدب ، فكيف بالله أحقق لك الطلب ، وحاشا الله أن أقول إنها رشوة ، هي والحق يقال مجرد قهوة ، بل هي هدية يهديها المواطن للمسؤول ، يشكره بها عن الجهد المبذول ، تماما كهدية الخليفة للشاعر ، عما أغرقه به من فيض المشاعر ، بل حتى النواسي السكير ، ما خلت يوما جيبه من الدنانير ، ولو عاش في عصر أرباب الاستيراد والتصدير ، لتبعته أفخر الخمور حيث يسير ، وفتحت أمامه أبواب الليموزين أينما يستدير ، أمام الديسكوهات والمواخير ، غفرالله لأبي نواس حين قال نهارا جهارا : اسقيني خمرا حتى أرى الديك حمارا ، وها إني أرى نفسي الآن حمارا بن حمارة ، وأنا الذي لم أدخل في حياتي خمارة ، إذ كان علي التفكير في قهوتك قبل السيارة ! )
وهل تصدقون يا إخوتي ، أن ذكر النواسي كان سبب نجاتي ، فقد كنت أنوي أن أترك المقعد ، وأقف أمامه أتباكى وأرتعد ، لعله يشفق على حالي ، وجوع الأيام والليالي . تلومونني عن التذلل ؟! وكيف يا إخواني لا أتذلل ، وقد ترك الشك لنفسي يتسلل ، أن السيارة قد تصادر ، في انتظار تأكيد بعض المصادر ، وما يأتي من فوق من أوامر ، بحجة أن أرقام الهيكل مزورة ، أو أن بعض المعلومات في الوثائق محورة ، مما يعني أن السيارة قد تكون مسروقة ، وسحقا لسنوات عمري المحروقة !
المهم أن الرجل ما إن سمع اسم أبي نواس ، حتى تفجر حنينه إلى الكأس ، فقام يفتح خزانة ، بصف من الزجاجات مزدانة ، فصب لنفسه صبا ، وعب منها عبا ، ثم جاء يجلس قربي ، كأنه أحد أصدقاء دربي ، ووضع يده على كتفي ، وفي عينيه شيء من الأسف ، ثم قال: انا أحفظ هذا البيت منذ كنت صغيرا ، ولم أعرف له لحد الآن تفسيرا ، والندماء يروونه للسخرية ، لكني لا أحسب النواسي بهذه السطحية، وقد أشاد بعلمه علماء عظام ، وأنت لا شك تعرف بيته الشهير في المعتزلي النظام :
وقل لمن يدعي في العلم فلسفة **حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
فإن فسرت لي بيت الديك والحمار ، ستعود بسيارتك اليوم للدار ، وأريده تفسيرا بالدليل والبرهان ، فهل تراك تقبل الرهان ؟
قلت : وهل ينفق المرء ماله ، ويسرق قوت عياله ، ليشرب حتى يرى الجمال قبحا ، ألا سحقا لمن لم يتأمل البيت وترحا ، إنما يقصد النواسي بالديك طلوع الفجر ، وهو الذي تبدأ مجالسه غالبا بعد العصر ، لكنه لا ينتظر هذا الطلوع ، الذي تتفرق بعده الجموع ، ويذكر الناس بتعاقب الليل والنهار ، وبديع ما خلق الواحد القهار ، فانظر كيف ربط بين صياح الديك ونهيق الحمير ، والله في كتابه الكريم يقول : ( وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) ، فإلام عساه يرمي هذا الزنديق السكير ، أتراه يشير لصوت المؤذن الجهير ، فهو وحده يقوم مع الديك يدعو الناس للمساجد ، ألا لعنة الله على الشاعر الجاحد ، الذي ذكرني بالروائي الجزائري كاتب ياسين ، يشبه الصوامع بصواريخ تنتظر الانطلاق منذ سنين ، أظنك أدركت سيدي ما خفي من المعاني ، وأنا لا أود الاسترسال فضميري يعاني ، ويجرح مشاعري ويخدش إيماني .
ثم إن المهندس حدق بي طويلا دون كلام ، ثم قام لأوراقي يوقعها و يضع عليها الأختام ، ويسلمها لي ويأمرني بالذهاب في سلام ، فأسرعت لسيارتي وأنا أقول بارك الله فيك يا بن الكرام ، لكن ما إن ركبت وانطلقت حتى وجدتني أصرخ ،: رحمك الله وغفر لك يا نواسي ، فيعلم الله لولاك كم كنت سأقاسي !
الجزائر أوت 2009
تعليق