قراءة في قصيدة
افتراس جنون
للشاعرة فاطمة نعيمي
د. وسام البكري
افتراس جنون
فاطمة نعيمي
ويستفيق الألم من غفوته التي لم تطل
وتيه الحداد على حب يتسارع في خطاه إلينا
تباغتنا الأوجاع في عقر القلب
كطوفان لايُهزم..
ذات طيف يا حبيبي
تظللت بك
يتيمة الفت أبا يغلفها
أسير تم عتقه
أسير تم عتقه
وذات ظل يا حبيبي
قشعتني
طفلاً يزيح راحتي أمه وهي تحتضن محياه
ذات غربة يا حبيبي
استوطنتك
تائهة برحال أثقل الكاهل دهراً
لاجئة مغروسة في خاصرة التيه
لاجئة مغروسة في خاصرة التيه
وذات وطن يا حبيبي
حكمت علي بالترحيل فوراً
دون رحالي الذي استقر بقلبك
ذات عبق يا حبيبي
تنفستك
ياسمينة سحقتها أنامل قاسية
واستقرت بغفوتها على نبع دمك
واستقرت بغفوتها على نبع دمك
وذات نَفَسٍ يا حبيبي
ضِقْتَ باستفزاز العطر
وقرَّرتَ استبدال دمك
ذات حبٍ يا حبيبي
مارسنا طقوس فطم الجنون
لكننا لم نعِ أنه انزوى
ليتغذى على حممٍ سكنتْ أرواحنا
ليتغذى على حممٍ سكنتْ أرواحنا
ليعود ويفترسنا
ويجلس بعدها قربَ جثّتينا..
يبكي احتضارنا !
ويجلس بعدها قربَ جثّتينا..
يبكي احتضارنا !
سأحاول تقديم قراءة نقدية موجزة ومتواضعة، لكنها غير متسرّعة، مُحاولاً رسم صورة نقدية علمية تستشف المشاعر والأحاسيس والصور الشعرية التي جسّدتها أنامل الشاعرة فاطمة نعيمي بحروف متألّقة. وستعتني هذه القراءة بعد التوطئة بالمحاور الآتية:
1. عتبة العنوان.
2. الأنساق البنيوية ودلالاتها.
3. الصور الشعرية.
2. الأنساق البنيوية ودلالاتها.
3. الصور الشعرية.
توطئة:
دائماً ما تسيطر على الشاعر فكرة نقد النص من القارئ أو من الناقد المتخصص، ولشدّ ما تُرهبهُ فكرة النقد من غير المتخصص في النقد، أو من الذي لم يمتلك أدواته النقدية الحديثة، فيؤطر قراءته بما لا يتواكب مع التطور النقدي في عالَم النقد المعاصر؛ وأرى بتواضع أن للشاعر كل الحق في هذه الرهبة التي يتوجّسها من الآخرين.
لذلك أرى أن قراءتي النقدية هذه لا تعدو أن تكون قراءة، تُحاول استشفاف مواطن الجمال والإبداع في القصيدة، غيرَ مُسلِّطةٍ سيف النقد الصارم، الذي قد يُسيء إلى النقد نفسه أكثر من إساءته إلى النص؛ فقراءتي هذه تهدفُ إلى تعميق استجابتنا إلى الشعر أيضاً.
1. عتبة العنوان:
عدّ الناقد (جيرار جنت) العنوان (نصّاً موازياً) بوصفه ‘‘عنصراً جوهرياً في مكوّنات النص، وبؤرة دلالية، قد تكون المفتاح السحري الذي يُضيء لنا شيئاً مما أشكلَ من النص وغمض’’ (ينظر: العنوان نصاً موازياً ـ د. سمير الخليل؛ مجلة الشبكة العراقية ع 95، ص45) مقترحاً تقسيمَ وظائف العنوان بحسب الآتي (ينظر: خطاب الحكاية؛ جيرار جنت):
1. الوظيفة التعيينية.
2. الوظيفة الوصفية.
3. الوظيفة الإيحائية.
4. الوظيفة الإغرائية.
2. الوظيفة الوصفية.
3. الوظيفة الإيحائية.
4. الوظيفة الإغرائية.
كما قسّمَ جيرار جنت العنوان أيضاً بحسب الآتي:
1. العنوان الأساسي أو الرئيس.
2. العنوان الأجناسي.
2. العنوان الأجناسي.
وإذا ما عدنا إلى عنوان القصيدة (افتراس جنون)، فلا يسعنا إلا أن نطمئن إلى ازدواجية الوظائف فيه، ولاسيّما الوظيفة الوصفية، والوظيفة الإيحائية؛ إذ إنهما تتجليان بوضوح إذا ما ربطنا بين العنوان والمشاهد الصورية وتتابعاتها التي يُتوّجها المشهد الأخير الذي هتك ستار الحُجُب عن فحوى المضمون، بل عن فحوى العنوان؛ تقول في مشهدها الأخير:
ذات حبٍ يا حبيبي
مارسنا طقوس فطم الجنون
لكننا لم نعِ أنه انزوى
ليتغذى على حِمَمٍ سكنت أرواحنا
مارسنا طقوس فطم الجنون
لكننا لم نعِ أنه انزوى
ليتغذى على حِمَمٍ سكنت أرواحنا
ليعود ويفترسنا
ويجلس بعدها قربَ جثتينا..
يبكي احتضارنا !
أرادا أن ينقطعا عن الجنون (ربما جنون الحب) بكل ما تؤديه كلمة (فطم) من قطعٍ عمديّ ـ ولابدَّ منه ـ وما تُوحِيه من صورةٍ مأساوية، لكنّها جميلة تعبيرياً؛ وستتّضح هذه العلاقة جلياً عندما نتناول الصورة الشعرية في القصيدة.
وقد اعتمد العنوان المركب الإضافي (افتراس جنون)، فعرّفَ الافتراس بأنه افتراس جنون، ولكنْ: أيّ جنون ؟ ! ذلك الجنونُ الذي أبَى مغادرة الحبيبين، مهما حاولا، فأوهَمَهما بانقطاعه عنهما، لكنّه انزوى متخفّياً عنهما ليتغذّى على حِمَمٍ سكنتْأرواحهما، وأبَى إلا أن يشهد خاتمة افتراسه لهما، وما آلَ إليه حبّهما ! !.
فالعنوان مُوُحٍ، بل يُجسّد مضمون القصيدة بكل مشاهدها المتتابعة.
فالعنوان مُوُحٍ، بل يُجسّد مضمون القصيدة بكل مشاهدها المتتابعة.
1. الأنساق البنيوية ودلالاتها:
تضم القصيدة بعد عتبة العنوان ثمانية مقاطع نصية، يُوحي المقطع الأول بكونه توطئةً ممهِّدة، أو بكونه استرسالاً لحدَثٍ أو أحداث مضت، وتوالت، وما زالت مستمرة. وأما المقاطع السبعة، فتبدأ من المقطع الثاني وتستمر إلى المقطع الثامن بنسق بنيوي مُلفِت للنظر؛ وفي ما يأتي ترتيب النسق في القصيدة:

في هذا النسق البنيوي الجميل نرى التراتبية أو ترتيبية البنى والأنماط تبدأ من المقطع الثاني وحتى المقطع الثامن (المقطع الأخير)، فهي تبدأ بعبارة:
ذات ( كذا ) يا حبيبي ...
أو
وذات ( كذا ) يا حبيبي ...
ولكل بداية مقطع مضمونٌ ومغزى أو هدف يختلف عن الآخر، ولو أنعمنا النظر في كل منها سنجد الآتي:
المقطع رقم (1): يَبتدِئ بالفعل المضارع الدال على الحال أو على استمرارية الحدث، وكأنّ المتلقيَ له عِلمٌ مسبَّق بما جرى من أحداث ماضية، يعضدُهُ سبقه بالواو (ويستفيق)، ثم يَتلوه مضارعان آخران، هما (يتسارع) و(تُباغتنا)، لتصوّر ـ جميعها ـ يقظة الألم من غفوته التي لم تُمهل الحبيبين لينعما بأحلامهما، فباغتتهما الأوجاع كالطوفان الجارف الذي لا تقف أمامه العوائق:
ويستفيق الألم من غفوته التي لم تطل
وتيه الحداد على حب يتسارع في خطاه إلينا
تباغتنا الأوجاع في عقر القلب
كطوفان لايُهزم..
أما المقاطع السبعة من (2) إلى (8) فالأفعال فيها ماضية، تبدأ بعد جملة [ ذات ( كذا ) يا حبيبي ... ] أو [ وذات ( كذا ) يا حبيبي... ] هي: ( تظللتُ و قشعتني و استوطنتك و حكمت و تنفستك و ضِقْتَ و مارسنا ).

لكن المقطع الثامن احتوى على الأفعال المضارعة الدالة على الحال كما ابتدأت القصيدة بها، وكأنها استكملت دورة الزمن الشعري، فابتدأ من الحال ثم وصف المشاعر بصيغ ماضوية تقريرية لتثبيتها وتأصيلها، ثم الانتهاء بوصف الحال بصيغ المضارعة: (ليتغذى و ليعود و يفترسنا و يجلس و يبكي).

تعليق