الإنسان حيوان أنترنتي .
مثلي مثلك تماما ، أيها المتصفح (0) المنافق .. يا شبيهي ... يا أخي ! (1) مثلك أصبحت كائنا رقميا ( نتيا internaut) بالمفهوم العربي الاستهلاكي طبعا . ولأن التعاريف كثيرة من الناطق إلى العاقل إلى الاجتماعي ...إلخ ، فلا بأس أن نضيف اليوم ( الإنسان حيوان نتي ).وأترك الحرية لمن شاء أن يدعي براءة اختراع هذا المصطلح ، ففي عالم النت أصبح كل شيء مباحا حتى الزواج من أربع نساء بضغطة زر ، فلا مهر ولا صداق ولا هم يحزنون . تجدهن أمامك ( على شاشتك ) في أربع غرف متقابلة ، مختلفة أشكالها وألوانها ، ناعمة أسرتها وشراشفها وألحانها المسنجرية . وإن أعيتك حيل الغزل ، وخانتك العبارة ، قم فقط بنسخ ما تنثره الأولى من وله وبوح وضعه عبر النافذة في غرفة الثانية ، فتنتعش الأرواح ويعم السلام .لا.لا تخف إن أخطأت وألقيت من نافذة إحداهن ، ما يخص الأخرى ، فالحيوان الأنثوي النتي متفهم جدا ومتسامح لأقصى الحدود . وكيف لا ، وهي بدورها تملك - مثلك تماما - أربع أزواج في أربع غرف ...ها قد حقق النت ما عجزت عنه عشرات الجمعيات النسوية المطالبة بالمساواة ، فيا لسعادة نوال السعداوي!!
ولأنني كائن فضولي مثلك أيضا ، وكنت قبلها كاتبا حالما ، فقد اندمجت في اللعبة النتية بكل جوارحي ، فكتبت وكُتب عني ، وعلقت حينا وعلقوني في أغلب الأحيان ، وشتمت مرة لتطاردني الشتائم حتى باب داري ، وتصل لكل أفراد عائلتي في أقطار الأرض . ما أغباني حين حفرت اسمي الصريح على شجرة في هذه الغابة المتوحشة ، لأجد أغلب الحيوانات تتشممه بلذة وترفع سيقانها عليه ( أكرمكم الله )!ولن أنسى ما حييت يوم رن جرس هاتفي في أواخر الليل لأجد أخي يسأل من باريس : ( ما قصة مصحة المجانين هذه يا رجل ؟ ) أي والله ! لقد نشر أحد أصحاب المواقع المشهورين بالجنون خبرا - عبر مجموعته البريدية الشهيرة

ولسبب ما ، ربما لحساسيتي الفكرية الزائدة ، وجدتني أعاني من عقدة ( الباند ) هذه .ففكرت وقدرت ثم فكرت وقدرت ، حتى تعبت وتكدرت ، لأجدها يوما ملقاة أمامي تماما كالتفاحة .أي والله ، لقد وجدتها كما وجدوها ...وفورا مللأت الخانات في متصفح شركة الاستضافة ، ووضعت أرقام بطاقة الفيزا لأجدني بعد أقل من ساعة مثلهم ، أي إمبراطورا بكل معنى الكلمة !اخترت لإمبراطوريتي ستايلا ذهبيا ملكيا فاخرا وجلست أتأمل كل هذه الدنيا التي أملكها .فكرت أن أسجل باسم مستعار هذه المرة حتى لا يتلوث اسمي ، لكني سرعان ما سمعت الأدمن (admin ) يقهقه في وجهي : ( أولا ممنوع التسجيل بالأسماء المستعارة ، وثانيا أنا أعرفك يا مولاي الإمبراطور ) وأصارحكم أني خجلت من نفسي ، فسارعت للتسجيل باسمي الحقيقي وأضفت في الوسط إسم والدي أطال الله عمره ، وإسم جدي أيضا رحمه الله ، ولم يبق سوى البحث عن لقب عائلة عريقة شريفة ليكون لإمبراطوريتي جذور في التاريخ العربي العظيم!
سجلت ثم بدأت أتجول في الموقع بعد إنشاء عشرات المنتديات بعناوين فخمة مخيفة مثل : منتدى لغات العصور الحجرية والجليدية وما قبل قبل قبل التاريخ ، ومنتدى ما بعد بعد بعد الحداثة ، ومنتدى الكتابة ما تحت تحت تحت درجة الصفر ، ومنتدى ما وراء وراء وراء الطبيعة ...وهكذا دواليك . ولأني كاتب قصة في الأصل ، فقد دخلت المنتدى المخصص بكل أبهة ، وتحديت نفسي وجميع منتديات الشبكة ، ونشرت القصة الخطيرة التي بسببها ( باندوني = طردوني) من مواقعهم ، وجلست أتلذذ بقراءة ما اعتقده الجهال تعرضا للذات الإلهية ، وأتشفى فيهم بلذة غامرة ، لأجدني فجأة أكتب تعليقا عليها باسم وهمي سجلت به وأقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ..ماهذا التجاوز يا مولانا وهل هكذا تبنى الإمبراطوريات ، وتشيد الجمهوريات ؟ عد للتاريخ يا مولانا وقل لي هل رأيت إمبراطورية بلا قساوسة ولا رهبان ولا شيوخ ولا فقهاء ؟ وفعلا امتطيت القطار السريع لعمنا غوغل ، لأجدني في كل محطة أكره قصتي أكثرلما سببته وما تزال تسببه لي من صداع .. فعدت و كتبت رسالة خاصة لذلك الشخص الوهمي أعتذر منه ، وأشرح له بلطف أن القصة ربما لا تقصد ما فهمه هو منها ، وأطالبه بدراستها دراسة نقدية موضوعية بعيدا عن الخلفيات الدينية والإيديولوجية ...إلخ . ثم ذهبت لأنام . في الغد ، اندهشت وأنا أرى الأدمن قد قام بنزع صلاحياتي الإشرافية على منتدى القصة ، بل وحذف قصتي أيضا . ووجدت في بريد رسائلي الخاصة تحذيرا بالطرد إن أنا أسأت لقوانين المنتدى ، وواصلت شتم الناس على البريد الخاص كما فعلت مع الشخص الوهمي حين اتهمته بالجهل وعدم الفهم ، وأن لا مكان للعلمانيين والملحدين في هذا الموقع . يا الله ! ماذا يجري هنا يا رب ؟! الموقع موقعي ، والأدمن اللعين أنا وحدي من يملك كلمة مروره ، وحتى ذلك الشخص الوهمي أنا اخترعته وسجلت باسمه . نعم ماذا يجري ؟
في غمرة حزني وحيرتي ، تذكرت تلك الخاطرة التي قفيتها حتى كادت تشبه القصيدة ، وقلت لأنشرها ما دامت بعيدة عن الدين والسياسة وكل ما يتعلق بشؤون البلاد والعباد ، فهي تخصني وحدي ، ومن أناجيها من البشر إن وجدت :
يا قلبا تستمد منه الشمس ضياءهـا
وتسـرق منـه وهجهـا الظهيـره
ياوجها يتوشـى الحسـن بحسنـه
ويتنفـس فيـه الــورد عبـيـره
أنت..أنـت روح الوجـود عـنـدي
أنت همساتـي والكلمـات الجهيـره
وتسـرق منـه وهجهـا الظهيـره
ياوجها يتوشـى الحسـن بحسنـه
ويتنفـس فيـه الــورد عبـيـره
أنت..أنـت روح الوجـود عـنـدي
أنت همساتـي والكلمـات الجهيـره
لكن ما كدت أنتهي من نشرها ، وأعود لمراجعتها حتى وجدت نفسي أبادر لكتابة رد على نفسي وأقول : ( أنت روح الوجود عندي ؟! هل أنت متأكد مما تقول يا رجل والله سبحانه وتعالى يقول : ويسالونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم الا قليلا الاسراء (آية:85) فكيف تتجسد الروح في حبيبتك هذه يا رجل ؟! )
طأطأت رأسي خجلا أول الأمر ثم سرعان ما بدأ الغضب يستبد بي على هذا الموقع اللعين ، فكتبت لنفسي رسالة خاصة أشتم نفسي وأتهمها بالكفر والزندقة .ثم كتبت ردا أفند فيه هذه الإتهامات وأتهم المرسل بالجهل والسطحية والاعتباطية ...لأجد الأدمن في اليوم التالي ينشر رسائلنا أمام جميع أعضاء الموقع ، أي جميع نفسي ويهدد بتسليط عقوبات قاسية .فما كان مني سوى أن دخلت معه في نقاشات طويلة ، لم نترك خلالها أي إيديولوجية ولا فلسفة ولا ديانة إلا أقحمناها ، لأتفاجأ بعد أن كتبت ردا طويلا مفصلا منظما ، أي أكاديميا بامتياز ومنسقا ومصححا على وورد ، أقول لأتفاجأ بعد عودتي أني أصبحت مطرودا أي باند بالعربي النتي الفصيح ، ويبدو أن الأدمن الكامن في أعماق موقعي الخاص تملكه الغضب بدوره فأجهز على قاعدة البيانات تخريبا ونهشا ... فسرت وحيدا في شوارع الأنترنت أردد بيني وبيني وبيني : ( بين كل خليتين في دماغ العربي المسلم، تنمو خلية على شكل حبة مسبحة يبللها لعاب تمتمات غامضة ! )
عبد الرشيد حاجب .الجزائر . أواخر رمضان عام 2009
(0) المتصفح كانت تعني القارئ في العصر الورقي.
(1)- من قصيدة لبودلير ( ديوان أزهار الشر ).
(1)- من قصيدة لبودلير ( ديوان أزهار الشر ).
تعليق