أسالت الشمعة في غبش تلك الليلة دموعا كثيرة، تحجرت حول شعلتها لبرودة الجو ولموضعها في مهب الريح في أعلى الجدار الترابي المقابل لباب الغرفة مما ذكى لهيبها وهي تحاول الصمود في وجه أمواج ظلام مطبق.
العرق يلمع على وجه عبد الدايم الذي نخرته الشيخوخة، وامتصت نضارة تقاسيمه ،وبدت عظامه بارزة إلا من جلد باهت يمنعها السقوط ويثبتها في مكانها ،كانت نظرات عينيه المختفيتين وراء شعيرات بيضاء منتفشة تعلو حاجبيه..تحكي ألف سر وسر،ربما أنه كان يدرك أن روحه كانت تجمع أغراضها لترحل عن هذا الجسد المنخور ...
كان يريد أن يقول أشياء كثيرة عن حقوله التي أصر أن يكون واحدة من أشجارها العتيقة التي ماتت وهي واقفة في وجه قحط مدمر استمرت سنواته طويلا....
كان يريد أن يشتم أبناؤه الأربعة ،أولئك الذين نزحوا نحو المدن البعيدة تاركين وراءهم ملح الأرض وعطر ها ،
وبين خدر الموت ونبض الحياة، كانت ومضات من سحر الماضي تعبث بخياله ربما لآخر مرة، يدرك ذلك تماما ،حضر اللحظات الأخيرة لأغلب الذين رحلوا، منذ أن كان يافعا فاكتسب خبرة في التعامل مع الموت عن قرب .
قال ذلك المساء لزوجته أم صابر، أنه قد يترجل في أية لحظة ،فساعة الرحيل قد دقت،وأوصاها بالصبر الجميل..
والحقيقة أن حالته أخذت تسوء منذ أن ودّع ابنه الأصغر صابر،كان الوداع باردا وحزينا حرص فيه عبد الدايم أن يبدو متماسكا ومتفهّما لدواعي هجرة ابنه وراء اللقمة المستعصية، وسار جنبه خطوات مترنحة توقفت به على حافة الساقية التي لم يترك منها القحط إلا معالمها...
أم صابر الجالسة قربه على الحصير، تغفو أحيانا ثم لا تلبث أن أن تفتح عينيها الغائرتين ،كلما سمعته يهذي، يردّد كلمات عن الأرض والحرث والحصاد....تهتز يداه المرتجفتان في حركات تذكّر بأيام الحصاد ،يد تقبض على السنابل وأخرى تسحب المنجل من تحتها ويهذي:
اجمعوا ما تساقط من السنابل على الطريق أما تلك التي تناثرت في الحقل فاتركوها للحشرات وللأطيار أتسمعون؟؟؟
يحاول جاهدا أن يقوم من فراشه ،عرق الحمى يخضل محياه،لكنه لا يقوى على الحراك ،يخلد للسكون الرهيب الذي لا يكسره إلا أناته وحشرجة صدره وهو يعلو ويهبط...
- أم صابر أين أنت لا تخافي ...إنه الرعد ،المطر آت ألم أقل لكي؟ أين هاشم وصابر؟
ثم يصمت،تضع يدها على يده،تحسها باردة كقطعة ثلج ،تتمتم بالحوقلة ،يتحرك ،يرفع يده يطلب الماء،ما كانت أم صابر تتمنى أن يفعل ذلك ..في هذا الليل البهيم ،من أين لها القدرة على جلب الماء لا ماء لديهاهذه الليلة كما الليالي السابقة،ندرته أضحت حديث نسوة القرية ورجالها ،فقد جفت كل العيون والمنابع القريبة، ولم يبق منها إلا خيط رفيع ينساب من أعلى صخرة حادة على سفح جبل يصله السقاة في ثلاث ساعات بدواب قادرة على أن تضرب في الأرض، أما دواب هذه الأيام فإنها لاتقوى حتى على حمل نفسها، وقد حدث أن ماتت في الطريق إلى المورد.
لابد لأم صابر أن تخرج في دجى هذه الليلة لتطلب الماء عند جارتها حليمة،تفتح الباب، تلفحها نسمة برد قارص ،تنطفيء الشمعة ،بارتجاف أشعلتها ،حولت موضعها ،تخرج من البيت ،تسلك زقاقا طويلا ..مهجورا ،
ظلام الليل يحاصرها لكنه لم يثنيها.. فمعرفتها بالمكان أقوى ...
- من حق عبد الدايم أن يهذي، فالقحط كفيل بأن يجعل كل شيء يهذي حتى تخوم الموت..
قالت في نفسها وارتطام عكازها بالثرى أخذ يخف وهي تدنو من بيت حليمة،
أحست ببرودة غريبة تلفح وجهها وهي تطرق الباب، هبّت ريح رطبة من التلال الشمالية....شيء ما تحرك بداخلها
- أنت ؟ ياأم صابر
ردت أم صابر في شرود:
- اشتد هذيانه الليلة لا أعرف كيف يشرق علينا الغد ،هذيان رعود.. أمطار.. حصاد ….
- أمطار؟؟؟؟
سألت الجارة ،
رفعت رأسها نحو السماء، كانت السحب الداكنة قد وارت لمعان النجوم ،وقبل أن تتأكد أومض البرق في الأعالي..ودوى الرعد وهبت نسمات غابت عن خياشيم أم صابر سنوات طويلة،…نسيت ماجاءت من أجله تماما،أدارت ظهرها لحليمة ومضت تهرول قافلة إلى البيت..حفنات ماء باردة كانت هي القطرات الأولى للمطر الموعود،اجتاحها فرح عارم:
- سيفرح عبد الدايم حين يرى المطر ويغسل وجهه بمائه..كان يسأل عنه السماء والأرض والناس أجمعين، سينهض معافى ويرفع الغطاء عن مطمورة البذور التي كان يستبقي بقاياها ليومنا هذا وستعود الأيام الخوالي….
كانت تحدث نفسها بذلك حين دفعت الباب بعصاها كان ضوء الشمعة التي أوشكت على النضوب شاحبا…ميالا إلى الزرقة ،تملكها شعور غريب ، اقتربت من مرقد عبد الدايم، خفق قلبها بعنف ،وضعت يدها على جبينه،فصفعها صقيع الموت...
كان يريد أن يقول أشياء كثيرة عن حقوله التي أصر أن يكون واحدة من أشجارها العتيقة التي ماتت وهي واقفة في وجه قحط مدمر استمرت سنواته طويلا....
كان يريد أن يشتم أبناؤه الأربعة ،أولئك الذين نزحوا نحو المدن البعيدة تاركين وراءهم ملح الأرض وعطر ها ،
وبين خدر الموت ونبض الحياة، كانت ومضات من سحر الماضي تعبث بخياله ربما لآخر مرة، يدرك ذلك تماما ،حضر اللحظات الأخيرة لأغلب الذين رحلوا، منذ أن كان يافعا فاكتسب خبرة في التعامل مع الموت عن قرب .
قال ذلك المساء لزوجته أم صابر، أنه قد يترجل في أية لحظة ،فساعة الرحيل قد دقت،وأوصاها بالصبر الجميل..
والحقيقة أن حالته أخذت تسوء منذ أن ودّع ابنه الأصغر صابر،كان الوداع باردا وحزينا حرص فيه عبد الدايم أن يبدو متماسكا ومتفهّما لدواعي هجرة ابنه وراء اللقمة المستعصية، وسار جنبه خطوات مترنحة توقفت به على حافة الساقية التي لم يترك منها القحط إلا معالمها...
أم صابر الجالسة قربه على الحصير، تغفو أحيانا ثم لا تلبث أن أن تفتح عينيها الغائرتين ،كلما سمعته يهذي، يردّد كلمات عن الأرض والحرث والحصاد....تهتز يداه المرتجفتان في حركات تذكّر بأيام الحصاد ،يد تقبض على السنابل وأخرى تسحب المنجل من تحتها ويهذي:
اجمعوا ما تساقط من السنابل على الطريق أما تلك التي تناثرت في الحقل فاتركوها للحشرات وللأطيار أتسمعون؟؟؟
يحاول جاهدا أن يقوم من فراشه ،عرق الحمى يخضل محياه،لكنه لا يقوى على الحراك ،يخلد للسكون الرهيب الذي لا يكسره إلا أناته وحشرجة صدره وهو يعلو ويهبط...
- أم صابر أين أنت لا تخافي ...إنه الرعد ،المطر آت ألم أقل لكي؟ أين هاشم وصابر؟
ثم يصمت،تضع يدها على يده،تحسها باردة كقطعة ثلج ،تتمتم بالحوقلة ،يتحرك ،يرفع يده يطلب الماء،ما كانت أم صابر تتمنى أن يفعل ذلك ..في هذا الليل البهيم ،من أين لها القدرة على جلب الماء لا ماء لديهاهذه الليلة كما الليالي السابقة،ندرته أضحت حديث نسوة القرية ورجالها ،فقد جفت كل العيون والمنابع القريبة، ولم يبق منها إلا خيط رفيع ينساب من أعلى صخرة حادة على سفح جبل يصله السقاة في ثلاث ساعات بدواب قادرة على أن تضرب في الأرض، أما دواب هذه الأيام فإنها لاتقوى حتى على حمل نفسها، وقد حدث أن ماتت في الطريق إلى المورد.
لابد لأم صابر أن تخرج في دجى هذه الليلة لتطلب الماء عند جارتها حليمة،تفتح الباب، تلفحها نسمة برد قارص ،تنطفيء الشمعة ،بارتجاف أشعلتها ،حولت موضعها ،تخرج من البيت ،تسلك زقاقا طويلا ..مهجورا ،
ظلام الليل يحاصرها لكنه لم يثنيها.. فمعرفتها بالمكان أقوى ...
- من حق عبد الدايم أن يهذي، فالقحط كفيل بأن يجعل كل شيء يهذي حتى تخوم الموت..
قالت في نفسها وارتطام عكازها بالثرى أخذ يخف وهي تدنو من بيت حليمة،
أحست ببرودة غريبة تلفح وجهها وهي تطرق الباب، هبّت ريح رطبة من التلال الشمالية....شيء ما تحرك بداخلها
- أنت ؟ ياأم صابر
ردت أم صابر في شرود:
- اشتد هذيانه الليلة لا أعرف كيف يشرق علينا الغد ،هذيان رعود.. أمطار.. حصاد ….
- أمطار؟؟؟؟
سألت الجارة ،
رفعت رأسها نحو السماء، كانت السحب الداكنة قد وارت لمعان النجوم ،وقبل أن تتأكد أومض البرق في الأعالي..ودوى الرعد وهبت نسمات غابت عن خياشيم أم صابر سنوات طويلة،…نسيت ماجاءت من أجله تماما،أدارت ظهرها لحليمة ومضت تهرول قافلة إلى البيت..حفنات ماء باردة كانت هي القطرات الأولى للمطر الموعود،اجتاحها فرح عارم:
- سيفرح عبد الدايم حين يرى المطر ويغسل وجهه بمائه..كان يسأل عنه السماء والأرض والناس أجمعين، سينهض معافى ويرفع الغطاء عن مطمورة البذور التي كان يستبقي بقاياها ليومنا هذا وستعود الأيام الخوالي….
كانت تحدث نفسها بذلك حين دفعت الباب بعصاها كان ضوء الشمعة التي أوشكت على النضوب شاحبا…ميالا إلى الزرقة ،تملكها شعور غريب ، اقتربت من مرقد عبد الدايم، خفق قلبها بعنف ،وضعت يدها على جبينه،فصفعها صقيع الموت...
تعليق