[align=justify]
1 ـ استمد تجمع شعر ـ الذي حمل لواء الحداثة العربية ـ تصوره ومفهومه للشعر من حقول معرفية متعددة منها ما هو شعري، ومنها ما هو فلسفي. وقد كان للاتجاه الوجودي الأثر الكبير على هذا التجمع إلى درجة تسمح بالقول: إن مجلة شعر أعادت إنتاج الفلسفة الوجودية شعرا[1]. وقد عبر منظروها أكثر من مرة عن العلاقة بين الفلسفة والأدب ، إذ أن الشاعر كالفيلسوف " يذهب في انطلاقاته إلى كشف النقاب عما يقلقه كإنسان"[2]. ونختزل نقط تقاطعهما في المحاور الآتية :
.1 : ارتباط الحقيقة بالتجربة الفردية المعيشة.
.2 : الإنسان محور هذه التجربة وموضوعها الوحيد.
.3 : رفض العقل بوصفه أساس الحقيقةومصدرها.
.4 : أسبقية الوجود على الماهية .
فكيف عبرت الوجودية عن هذه المقولات؟ وكيف تعاملت معها مجلة شعر ؟
منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر بدأ الفكر الأوربي يشكك في العلوم الطبيعية وطرق البحث العلمي، وبدأ الاهتمام يزداد بمجموعة من الظواهر القابلة للنقاش، وخاصة تلك المتعلقة بالفرد وطبيعته الشخصية، وكل ما هو خفي وغامض وغير عقلاني. وقد ظهر كتاب ماكس استراينر " الفرد وصفاته المميزة " ليزيد من هذا الاهتمام. فقد دعا إلى مبدأ الفوضوية المرتبط بالحرية الفردية، كما دعا إلى إطلاق العنان لقدرات الإنسان الذاتية التي يسيرها فهم الإنسان لذاته. وحتى حدود التسعينيات من القرن التاسع عشر كان الاعتماد في دراسة هذه الظواهر على الطرق العلمية التقليدية التي تسرب إليها الشك. فبدأت مواجهتها بتوجه آخر دشنه الفيلسوف الألماني نيتشه الذي يعد أحد المصادر الأساسية للفلسفة الوجودية.
لقد كان الجو العام مهيئا للترحيب بأفكار نيتشه الذي ظل مغمورا ومجهولا مدة طويلة. فقد لقيت قناعاته بضرورة إعادة النظر في جميع القيم الإنسانية تجاوبا مع طموحات الإنسان الأوربي في تلك المرحلة.
لقد رفض نيتشه إلى جانب مجموعة من المفكرين كل مسلمات القرن التاسع عشر، فدعا إلى تحطيم الأنظمة والأنماط والمطلقات العلمية والقوانين التي تحكم الحياة العامة. وقد تلت هذه المرحلة مرحلة أخرى تهدف إلى إعادة تنظيم شظايا المفاهيم المحطمة. وأخيرا صارت القضايا الفكرية في طريق الامتزاج والذوبان لتنتج شيئا جديدا لِما تم تحطيمه، ويكون قادرا على جعل إدراك الظواهر المعقدة والمحيرة للحياة المعاصرة ممكنا[3]. ونتيجة التغير الكبير في نظرة الناس إلى العالم، ازداد الاهتمام بالمقولات السابقة . وسنحاول مقاربتها من منظور الفلسفة الوجودية.
ـ تتميز هذه الفلسفة بطابعها الشخصاني، إذ تنطلق بكل اتجاهاتها من تجربة حية معيشة. فقد ميز فلاسفتها بين نوعين من الوجود: وجود مزيف ووجود أصيل. فالوجود الأول هو الوجود اليومي الذي تنطمس فيه الجوانب الشخصية الأصيلة لتهيمن عليه أفكار وآراء واختيارات وقرارات الجمهور أو القطيع أو عالم الناس أو الجمع[4]. وهذا النوع من الآراء يتميز بانعدام المسؤولية والوسطية والثرثرة والهشاشة ووحدة النوع المتجانس. لذلك يرى الوجوديون أن هذا النوع من الوجود لا يمكن أن يكون مصدرا للحقيقة ومنبعا لها. إذ الحقيقة تعاش وتكون مع الإنسان ولا وجود لها خارجه. أو كما قال كيركجارد " لابد لي وأنا أعاني الحياة أن أصير أنا نفسي قاعدة لسلوكي بفضل تلقائية عقل وقلب مؤاخيين للحق والخير. وبهذا تصبح الحقيقة حقيقتي أنا، إذ لا وجود لحقيقة بالنسبة للفرد إلا ما ينتجه هو نفسه أثناء الفعل"[5]. وهذه الحقيقة الذاتية الفردية هي التي يمكن الالتزام بها والمخاطرة بكل شيء في سبيلها دون أن يترك الإنسان لنفسه ملاذا أو مهربا منها.
ولتأكيد هذا التصور والدفع به إلى أقصاه، أعلن نيتشه انهيار المطلق، ليصبح العالم إنسانيا والتاريخ كذلك. ولن يبقى وجود لأي حقيقة إلا حقيقة الإنسان. ولأن هذا الإنسان لم يبق له مطلق يتكل عليه ويركن إليه، فلا خيار له إلا أن يختار ذاته ليتجاوزها بشكل دائم إلى ما وراءها، إلى "الإنسان الأعلى" الذي يشكل بالنسبة لنيتشه مستقبلا لا يمكن اللحاق به. وبذلك يكون الإنسان وثبة نحو ممكن ينفلت منه انفلاتا أبديا لأنه في حالة صيرورة لا تكتمل مطلقا، ففي ماهيته نقص دائم. والموت وحده ـ كما يرى هايدجرـ هو الذي يصل به إلى نهايته. إنه حسب تعبيره "الإمكان الشخصي إلى أقصى درجة، والذي ينهي كل علاقة إلى أقصى درجة، والذي لا يمكن تخطيه على الإطلاق"[6]. وهذا المصير هو الذي دفع بالإنسان إلى أن يوجد وجودا مزيفا، فيسقط في الوجود اليومي بكل خصائصه السابقة. وعلى الإنسان لكي يكون وجوده وجودا أصيلا أن يعي ذاته، وأن يختار الانسحاب من الوجود المزيف عن وعي، أي أن يكف عن الثرثرة، وأن يختار التوجه نحو القلق في صمت. وهذا الاختيار هو الاختيار الأصيل الذي يصطلح عليه هايدجر ب"التصميم" الذي يهب الإنسان وجودا أكثر حقيقة وأكثر أصالة. وبفضل هذا التصميم أيضا، يقبل الإنسان مصيره بشجاعة، ويقوم بدوره في الحياة بعزم.
إن انشغال الفلسفة الوجودية بالوجود الإنساني ـ أحواله وأفعاله ـ سيؤدي لا محالة إلى إثارة تساؤلات حول مجموعة من القضايا ذات الصبغة الميتافيزيقية؛ ذلك أن الوجوديين على الرغم من رفضهم للميتافيزيقا التقليدية وتساؤلاتها، فهم يعون حدود العلم، وما يمكن بلوغه بواسطة مناهجه، إذ " لا ينتج العلم معرفة للموجود ذاته، بل إنه لا يستطيع أن يقدم لنا سوى معرفة بالظواهر أو الموضوعات الجزئية داخل النظام المتناهي. وهو لا يستطيع أن يضفي على الحياة معناها أو أهدافها أو قيمها أو اتجاهاتها "[7] . ومن القضايا الميتافيزيقية التي أولاها الوجوديون اهتمامهم:
ـ الاهتمام بالوجود الإنساني في بعده الشامل، وكذا بمواقفه الحرجة وحدوده القصوى. إن هذه المواقف وهذه الحدود هي التي تصل بالإنسان إلى تحقيق رؤيته الوجودية للوجود ، إلا أن هذه الرؤية وما يكتسبه الإنسان من خلالها من معرفة ليس لها نفس الوضع المعرفي للأشياء والحقائق والمعارف الواقعية والمألوفة ؛ إذ لا يمكن البرهنة عليها حتى ولو تضمنت نوعا من الكشف أو الإيضاح. لذلك يدعو الوجوديون الآخرين إلى أن يعيشوا معهم تجربتهم ليصلوا إلى النتائج نفسها ." إن هذا التفكير الانطولوجي الذي يتشكل بعمق حسب المشاعر والحالة المزاجية، والذي يعبر عن نفسه في لغة تثير أكثر مما تصف ليس ضربا مألوفا من المعرفة. فهو يشبه تلك التجارب الدينية كالوحي والرؤية الصوفية أو التجارب الجمالية التي تدرك الأشياء في أعماق علاقاتها المتبادلة "[8] .
ـ البحث عن الحقيقة النهائية: إن دافع البحث عن هذه الحقيقة دافع وجودي أساسا. ولأن الحقيقة النهائية التي يمكن الالتزام بها والمخاطرة بكل شيء في سبيلها لا يمكن البرهنة عليها أيضا، فقد وجدها الوجوديون في الحقيقة الذاتية الفردية. يقول كيركجارد :" إن عدم اليقين الموضوعي الذي تتخذه النزعة إلى الباطن متشبثة به في أشد حالاتها حماسا (...) تلك هي الحقيقة (...) الحقيقة العليا التي يمكن أن تكون لذات موجودة "[9] . من هنا، فالحقيقة تزداد كلما نقص اليقين الموضوعي. ويراها كيركجارد في الإيمان في أسمى صوره ؛ ذلك أن الإيمان بوصفه حقيقة لا يفرض من الخارج، ولا يبرهن عليه بالعقل الخالص، ولا يتمتع بأبسط يقين. إنه يستمد من معاناة العمل والحياة، ويصدق به الموجود نفسه من حيث هو موجود.
ـ أسبقية الوجود على الماهية: يتفق الوجوديون على أن الإنسان في حركة دائمة قوامها الانفصال عن الماضي والحاضر والاتجاه نحو المستقبل. لذلك ليس له وجود موضوعي يحدد ماهيته من البداية إلى النهاية؛ وإنما تتوقف هذه الماهية على سلسلة أفعاله واختياراته. ولكي يختار ويفعل لابد أن يوجد، لذا، قالوا بأسبقية الوجود على الماهية. فالإنسان عند سارتر لا يشبه الأشياء المصنوعة. وفي هذا الاتجاه، يسير كيركجارد حين يؤكد أن الوجود لا يمكن أن يرد إلى مجموعة من الأفكار القابلة للمعالجة العقلية، وكذلك نيتشه في فكرته القائلة بأن الإنسان يتجه نحو الإنسان الأعلى. فالإنسان عند هؤلاء جميعا غير مكتمل وغير تام. ولا وجود لصفات محددة تحدد وجوده. إنه الموجود الوحيد الذي يتدبر ما يريد فعله، وما يريد أن يصبح عليه.
.2 : الحداثة : من العام إلى الخاص، من الفلسفة إلى الأدب : لم يكن الأدباء والشعراء منهم بشكل خاص بعيدين عن التغيير الشمولي الذي عرفه الفكر الأوربي الحديث في القرن التاسع عشر. فقد ساهموا فيه ودفعوا به خطوات كبرى في مجالات اهتمامهم ."فقد أصبح الشعر صراعا لا هوادة فيه مع الكلمات والمعاني، كما أصبح إجهادا وتعذيبا للقوى العقلية من أجل الوصول إلى مرحلة الإدراك. وضربت التعريفات القديمة والتقليدية لمعنى الشعر عرض الحائط . ولم يعد الشعر فيضا عفويا لمشاعر عفوية، أو أجود الكلمات في أجود نسق، بل أصبح يقول ما لا يقال، أي أعطيت له خاصية المرونة العقلية "[10] .
أما الشاعر، فأصبح ينظر إلى العالم بوصفه" مجموعة من العلاقات المتشابكة التي تهمه وحده"[11]، واعتبر نفسه منسق تلك العلاقات معتمدا في ذلك على الأسطورة التي عملت على تعطيل العقل وتحرير الخيال، والاستعارة التي تخلق العلاقات بين الأشياء المتناقضة حتى تلائم التفكير الجديد. يقول إليوت :" يقوم عقل الشاعر بعملية الخلط الدائم للتجارب المتباينة. تتسم تجارب الإنسان الاعتيادي بالفوضى واللاتنظيم والتفكك، فهو (أي الإنسان الاعتيادي) يحب ويقرأ (سبينوزا) ويسمع صوت الآلة الكاتبة، ويشم رائحة الطعام المطبوخ في آن واحد، إنها تجارب يربطها ببعض رابط. أما الشاعر فيستطيع التجاوب مع كل هذه التجارب في آن واحد ليخلق منها كلا جديدا " [12] .
ولم يسلم أي اتجاه أدبي من التأثر بهذا الجو العام. ويختزل هذا النص لمالكم برادبري وجيمس ماكفارلن هذا التأثر العام: " كانت تبريرات تلك الحركات متشابهة: فقدان الإيمان بالواقع الملموس في الكلمة وفي اللغة السائدة، والانبهار باللاوعي، والاهتمام بضغوط البيئة الصناعية، وتزايد وتائر التغيير، والرغبة في اكتشاف بناء فني مهم من فوضى الحياة ."[13] .
.2 :الحداثة: من الآداب الغربية إلى الآداب العربية: يتصور تجمع شعـر الحداثة مشروعا حضاريا شاملا نتج عن "عقلية حديثة تبدلت نظرتها إلى الأشياء تبدلا جذريا وحقيقيا انعكس في تعبير جديد"[14] . وتنبني على الأسس الآتية[15]:
ـ إخضاع الطبيعة للإنسان ما دام هو سيدها والقادر على فك مغاليقها.
ـ إن القوانين والمبادئ والنظم المعرفية هي من وضع الإنسان. ويجب أن تكون في خدمته لا أن يكون هو عبدا لها، وله كامل الحرية في تغييرها أو تعديلها.
ـ إن العالم في صيرورة مستمرة، وسنكون غير حديثين لو وقفنا في وجه هذه الصيرورة واعتقدنا أن ليس أبدع مما كان .
ـ إن العالم( لا يحكمه نظام إلهي أبدي، بل هو من صنع الإنسان.) فهو مقياس كل شيء وعليه أن يعيد بناءه على صورته.
ـ لن يتأتى للإنسان أن يصنع ويفعل ما يشاء، إلا إذا كان يمتلك حريته، وفي مقدمتها الحرية الشخصية وحرية الفكر والتعبير.
إن هذه الأسس تستند إلى مرجعية نظرية فلسفية غربية. فمنذ الوهلة الأولى يتضح ذلك التطابق شبه التام بين هذه الأسس ومبادئ الفلسفة الوجودية التي سبق الحديث عنها (جعل الإنسان موضوعا للمعرفة ـ انهيار المطلق ـ أسبقية الوجود على الماهية) . ويرى محمد جمال باروت أن هذه الأسس تجمع بين الفلسفة الطبيعية العقلانية والفلسفة الوجودية ذات الطابع الشخصاني[16]، وسبب هذا الجمع هو طبيعة المجتمع العربي، فلن يتأتى للحداثة بناء قيم جديدة إلا ببناء مجتمع عقلاني يؤمن بالتطور نحو الأفضل، مجتمع يحل فيه النسبي والإنساني محل المطلق والإلهي.
في ظل هذا التصور العقلاني، وفي هذا المجتمع المفترض الذي يريد تجمع شعـر بناءه على منوال المجتمعات الغربية يمكن أن يمتلك الإنسان حريته كما تتصورها شعر. ويجد الشاعر "الحر" ذو الطابع الوجودي الشخصاني المتمرد المعضلات الكيانية التي عبر عنها الشعر العالمي، ويجب أن يعبر عنها الشعر العربي لكي يكون حداثيا وعالميا ؛ كالفراغ واليأس والعبث والحرية والنفي الكياني والغربة والاغتراب والحرمان والاضطهاد اللامنطقي[17]. وإذاك فقط يعيش الشاعر العربي هذه المعضلات كما عاشها الشاعر الغربي، ويستمد الحقيقة من داخله، ويقطع علاقته بما أسماه هايدجر بالإنسان المعمم الذي حدده تجمع شعـر في مجمل التقاليد الاجتماعية والأخلاقية والأيديولوجية والسلوكية والسياسية السائدة للأغلبية الاجتماعية، والتي ليست في نهاية المطاف سوى تعبير عن كثلة دهماوية وغوغائية قطيعية وسوقية كما يرى يوسف الخال.
بهذه العزلة التي تعفي الشعر من أي وظيفة اجتماعية، وتعفي الشاعر من أي التزام تجاه المجتمع، يستطيع الشاعر أن يقرر وأن يتجاوز ويتخطى كل ما هو جاهز وسائد، ويتطلع إلى ما لم ينجز بعد. وسيلته في ذلك تجاوز "الرؤية" التي تحيل على العالم الخارجي إلى "الرؤيا"[18] التي تحيل على العالم الداخلي. وبذلك يصبح " الشعر تجربة شخصية يسبرها الشاعر ، ويفجرها في حدوث ورؤى وبروق"[19] ، وتصبح الخاصية الميتافيزيقية هي الخاصية الرئيسية في نتاجنا الشعري الحديث[20] .
إن الحداثة العربية التي تسعى إلى بناء نموذج حداثي عربي على شاكلة النموذج الغربي لم يتحقق لها نفس النجاح الذي تحقق لمثيلتها الغربية، ذلك أن هذه الأخيرة نشأت وتطورت في المدن الصناعية الكبرى كبرلين وفيينا وبراغ وشيكاغو ونيويورك وباريس[21] ، فتوفرت لها شروط تاريخية سياسية واقتصادية واجتماعية تدمر فيها الناس من العلم ونتائجه وعواقبه، وشككوا في قدرته على إسعادهم، وعلى قدرته في الوصول إلى الحقيقة؛ ففضلوا التجربة الفردية وما يترتب عنها من معارف تعددية غامضة على العقل المنظم. أما الحداثة العربية، فقد وجدت نفسها مقيدة بواقع مخالف للواقع الغربي، تحكمه شروط تاريخية فكرية واجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالمعضلات الكيانية التي أفرزتها الثقافة الغربية. فقد كانت المرحلة مرحلة تناقض وطني وقومي مع الآخر الذي هو مصدر هذه الحداثة، وهي مرحلة تستلزم توحيد الرأي، والقفز عن التناقضات الداخلية، والتضحية بالذات وبمصالحها الشخصية لصالح المصالح الوطنية والقومية. أما المجتمع، فأبعد ما يكون عن هيمنة الروح الفردية، إذ تحكمه الأسرة الممتدة ونمط الإنتاج الفلاحي بأشكاله التقليدية. وعلى الساحة السياسية يتصارع المشروع السلفي ذو الخصوصية الاتباعية، والمشروع الشيوعي الدغمائي، والمشروع القومي، وهي كلها مشاريع تتميز بنظرتها الأحادية، وأحكامها اليقينية المطلقة.
في ظل هذه الشروط، دعا تجمع شعر إلى الشخصانية المتمردة ضد كل القيم المترسخة في الذهن، وفصل الأدب عن السياسة، والسمو عن غوغائية المجتمع. "فالشاعر إنسان غريب في مجتمعه ـ يقول يوسف الخال ـ والعداوة بينهما أصيلة، وهي عداوة النقيضين اللذين يجب أن يتعايشا. فالإنسان كائن اجتماعي، والشاعر نفسه لا اجتماعي لأنه ضد المتعارف عليه والمعتاد والمألوف."[22].
هذه المواقف المتطرفة التي تظهر قطيعة مع الماضي والحاضر لا ارتباطا جديدا به، وتجريدا للإنسان من تربيته ، ستجعل من المشروع الحداثي مشروعا أدبيا شعريا لم تتوفر له شروط توسيعه ليشمل الحقول المعرفية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما سيجعل منه مشروعا وهميا منعزلا عن المجتمع برمته. ولن يستمر طويلا حتى يصطدم بجدار اللغة المحافظة على خصوصياتها الموروثة، وجدار الواقع المثقل بهموم المعيشة وضباب السياسة، لأنه لم ينجب إلا الانسحاق وفقدان التوازن والاستلاب للغرب في مرحلة كان الغرب يبدو عدوا لدودا[23].
[1] - نفســـه ص 121 : يقول باروت :" ففي حين قامت الآداب بتبني الوجودية ، ونشر مفاهيمها ، وترجمتها ، قامت حركة مجلة شعر بإنتاج الوجودية شعرا داخل النص الشعري نفسه " والواقع أن مجلة شعر اهتمت أيضا بنشر المفاهيم الوجودية والتنظير لها. والفرق بينها وبين الآداب هو تركيز هذه الأخيرة على وجودية سارتر بالدرجة الأولى في حين أن شعر اهتمت بالوجودية في أبعادها الميتافيزيقية .
[2] - جوزف أبو جودة " نداء البعيد لجورج غانم " مجلة شعر، المجلد الثاني، عدد 5، شتاء 1958 ـص 110.
[3] - ينظر : عقل الحداثة ـ ضمن كتاب " الحداثة " مالكم برادبري و جيمس ماكفارلن ـ ترجمة مؤيد حسن فوزي ـ دار المامون للترجمة والنشر ـ بغداد ـ 1987 ـ ص 80 .
[4] - مصطلحات متعددة للدلالة على الشيء نفسه " وهو ما يدل على الكيان الجمعي الذي يظهر في الفاعل غير المحدد ، والذي يعبر عنه تعبير "يقول الناس " " ـ ينظر : الفلسفة المعاصرة في أوربا . تأليف : إ م بوشينسكي : ترجمة عزت القرني ـ عالم المعرفة ـ العدد 165 ـ سبتمبر 1992 هامش 591 ـ ص 278.
[5] - ينظر ريجيس جوليفييه : المذاهب الوجودية من كيركجارد إلى جان بول سارتر ـ ترجمة فؤاد كامل ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ 1966 ـ ص 39 .
[6] - الفلسفة المعاصرة في أوربا ـ م س ـ ص 278 .
[7] - جان ماكوري : الوجودية ـ ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ـ مراجعة فؤاد زكريا ـ عالم المعرفة ـ رقم 58 ـ أكتوبر 1982 ـص 358 .
[8] - نفســـــه ص 351 .
[9] - ينظر : المذاهب الوجودية من كيركجارد إلى جان بول سارتر ـ م س ـ ص 41 .
[10] - عقل الحداثة : م س ـ ص 72/73 .
[11] - نفســـه ص 82 .
[12] - نفســه ص 83 .
[13] - نفســه ـ ص 207 .
[14] - يوسف الخال : الحداثة في الشعر ـ م س ـ ص 17 .
[15] - هذه الأسس وردت في مقالة يوسف الخال " نحو أدب عربي حديث " نشر في مجلة أدب ـ المجلد الثاني ـ العدد الأول ـ شتاء 1963 ـ ص 9 .ولخصها في كتابه : الحداثة في الشعر ـ م س ـ ص 16/17 .
[16] - " تجربة الحداثة ومفهومها في مجلة شعر " ـ قضايا وشهادات ـ كتاب ثقافي دوري ـ عدد 2 ـ مؤسسة عيبال للدراسات والنشر ـ صيف 1990 ـ ص 260 وما بعدها .
[17] - هذه المعضلات اصطلحت عليها خالدة سعيد ب"راية العصر" ـ تنظر مجلة شعر ـ عدد 43 ـ السنة 11 ـ صيف 1969 ـ ص 61 .
[18] - ترى مجلة شعر أن الرؤية تحيل على العالم الخارجي ، عالم الأنا الفولتيرية . أما الرؤيا ، فتحيل على العالم الداخلي ، عالم الأنا الحديثة الشخصانية الوجودية المتمردة المصلوبة في معضلاتها الكيانية .
[19] - أدونيس : زمن الشعر ـ دار العودة ـ بيروت 1972 ـ ص 40/41 .
[20] - أدونيس : مجلة شعر ـ عدد 16 ـ خريف 1960 ـ ص 250 .
[21] - ينظر كتاب الحداثة ـ م س ـ ص 93 وما بعدها .
[22] - الحداثة في الشعر ـ م س ـ ص 87 .
[23] - برهان غليون : مجتمع النخبة ـ معهد الإنماء العربي ـ بيروت ـ 1986 ـ ص 39 .
[/align]
1 ـ استمد تجمع شعر ـ الذي حمل لواء الحداثة العربية ـ تصوره ومفهومه للشعر من حقول معرفية متعددة منها ما هو شعري، ومنها ما هو فلسفي. وقد كان للاتجاه الوجودي الأثر الكبير على هذا التجمع إلى درجة تسمح بالقول: إن مجلة شعر أعادت إنتاج الفلسفة الوجودية شعرا[1]. وقد عبر منظروها أكثر من مرة عن العلاقة بين الفلسفة والأدب ، إذ أن الشاعر كالفيلسوف " يذهب في انطلاقاته إلى كشف النقاب عما يقلقه كإنسان"[2]. ونختزل نقط تقاطعهما في المحاور الآتية :
.1 : ارتباط الحقيقة بالتجربة الفردية المعيشة.
.2 : الإنسان محور هذه التجربة وموضوعها الوحيد.
.3 : رفض العقل بوصفه أساس الحقيقةومصدرها.
.4 : أسبقية الوجود على الماهية .
فكيف عبرت الوجودية عن هذه المقولات؟ وكيف تعاملت معها مجلة شعر ؟
منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر بدأ الفكر الأوربي يشكك في العلوم الطبيعية وطرق البحث العلمي، وبدأ الاهتمام يزداد بمجموعة من الظواهر القابلة للنقاش، وخاصة تلك المتعلقة بالفرد وطبيعته الشخصية، وكل ما هو خفي وغامض وغير عقلاني. وقد ظهر كتاب ماكس استراينر " الفرد وصفاته المميزة " ليزيد من هذا الاهتمام. فقد دعا إلى مبدأ الفوضوية المرتبط بالحرية الفردية، كما دعا إلى إطلاق العنان لقدرات الإنسان الذاتية التي يسيرها فهم الإنسان لذاته. وحتى حدود التسعينيات من القرن التاسع عشر كان الاعتماد في دراسة هذه الظواهر على الطرق العلمية التقليدية التي تسرب إليها الشك. فبدأت مواجهتها بتوجه آخر دشنه الفيلسوف الألماني نيتشه الذي يعد أحد المصادر الأساسية للفلسفة الوجودية.
لقد كان الجو العام مهيئا للترحيب بأفكار نيتشه الذي ظل مغمورا ومجهولا مدة طويلة. فقد لقيت قناعاته بضرورة إعادة النظر في جميع القيم الإنسانية تجاوبا مع طموحات الإنسان الأوربي في تلك المرحلة.
لقد رفض نيتشه إلى جانب مجموعة من المفكرين كل مسلمات القرن التاسع عشر، فدعا إلى تحطيم الأنظمة والأنماط والمطلقات العلمية والقوانين التي تحكم الحياة العامة. وقد تلت هذه المرحلة مرحلة أخرى تهدف إلى إعادة تنظيم شظايا المفاهيم المحطمة. وأخيرا صارت القضايا الفكرية في طريق الامتزاج والذوبان لتنتج شيئا جديدا لِما تم تحطيمه، ويكون قادرا على جعل إدراك الظواهر المعقدة والمحيرة للحياة المعاصرة ممكنا[3]. ونتيجة التغير الكبير في نظرة الناس إلى العالم، ازداد الاهتمام بالمقولات السابقة . وسنحاول مقاربتها من منظور الفلسفة الوجودية.
ـ تتميز هذه الفلسفة بطابعها الشخصاني، إذ تنطلق بكل اتجاهاتها من تجربة حية معيشة. فقد ميز فلاسفتها بين نوعين من الوجود: وجود مزيف ووجود أصيل. فالوجود الأول هو الوجود اليومي الذي تنطمس فيه الجوانب الشخصية الأصيلة لتهيمن عليه أفكار وآراء واختيارات وقرارات الجمهور أو القطيع أو عالم الناس أو الجمع[4]. وهذا النوع من الآراء يتميز بانعدام المسؤولية والوسطية والثرثرة والهشاشة ووحدة النوع المتجانس. لذلك يرى الوجوديون أن هذا النوع من الوجود لا يمكن أن يكون مصدرا للحقيقة ومنبعا لها. إذ الحقيقة تعاش وتكون مع الإنسان ولا وجود لها خارجه. أو كما قال كيركجارد " لابد لي وأنا أعاني الحياة أن أصير أنا نفسي قاعدة لسلوكي بفضل تلقائية عقل وقلب مؤاخيين للحق والخير. وبهذا تصبح الحقيقة حقيقتي أنا، إذ لا وجود لحقيقة بالنسبة للفرد إلا ما ينتجه هو نفسه أثناء الفعل"[5]. وهذه الحقيقة الذاتية الفردية هي التي يمكن الالتزام بها والمخاطرة بكل شيء في سبيلها دون أن يترك الإنسان لنفسه ملاذا أو مهربا منها.
ولتأكيد هذا التصور والدفع به إلى أقصاه، أعلن نيتشه انهيار المطلق، ليصبح العالم إنسانيا والتاريخ كذلك. ولن يبقى وجود لأي حقيقة إلا حقيقة الإنسان. ولأن هذا الإنسان لم يبق له مطلق يتكل عليه ويركن إليه، فلا خيار له إلا أن يختار ذاته ليتجاوزها بشكل دائم إلى ما وراءها، إلى "الإنسان الأعلى" الذي يشكل بالنسبة لنيتشه مستقبلا لا يمكن اللحاق به. وبذلك يكون الإنسان وثبة نحو ممكن ينفلت منه انفلاتا أبديا لأنه في حالة صيرورة لا تكتمل مطلقا، ففي ماهيته نقص دائم. والموت وحده ـ كما يرى هايدجرـ هو الذي يصل به إلى نهايته. إنه حسب تعبيره "الإمكان الشخصي إلى أقصى درجة، والذي ينهي كل علاقة إلى أقصى درجة، والذي لا يمكن تخطيه على الإطلاق"[6]. وهذا المصير هو الذي دفع بالإنسان إلى أن يوجد وجودا مزيفا، فيسقط في الوجود اليومي بكل خصائصه السابقة. وعلى الإنسان لكي يكون وجوده وجودا أصيلا أن يعي ذاته، وأن يختار الانسحاب من الوجود المزيف عن وعي، أي أن يكف عن الثرثرة، وأن يختار التوجه نحو القلق في صمت. وهذا الاختيار هو الاختيار الأصيل الذي يصطلح عليه هايدجر ب"التصميم" الذي يهب الإنسان وجودا أكثر حقيقة وأكثر أصالة. وبفضل هذا التصميم أيضا، يقبل الإنسان مصيره بشجاعة، ويقوم بدوره في الحياة بعزم.
إن انشغال الفلسفة الوجودية بالوجود الإنساني ـ أحواله وأفعاله ـ سيؤدي لا محالة إلى إثارة تساؤلات حول مجموعة من القضايا ذات الصبغة الميتافيزيقية؛ ذلك أن الوجوديين على الرغم من رفضهم للميتافيزيقا التقليدية وتساؤلاتها، فهم يعون حدود العلم، وما يمكن بلوغه بواسطة مناهجه، إذ " لا ينتج العلم معرفة للموجود ذاته، بل إنه لا يستطيع أن يقدم لنا سوى معرفة بالظواهر أو الموضوعات الجزئية داخل النظام المتناهي. وهو لا يستطيع أن يضفي على الحياة معناها أو أهدافها أو قيمها أو اتجاهاتها "[7] . ومن القضايا الميتافيزيقية التي أولاها الوجوديون اهتمامهم:
ـ الاهتمام بالوجود الإنساني في بعده الشامل، وكذا بمواقفه الحرجة وحدوده القصوى. إن هذه المواقف وهذه الحدود هي التي تصل بالإنسان إلى تحقيق رؤيته الوجودية للوجود ، إلا أن هذه الرؤية وما يكتسبه الإنسان من خلالها من معرفة ليس لها نفس الوضع المعرفي للأشياء والحقائق والمعارف الواقعية والمألوفة ؛ إذ لا يمكن البرهنة عليها حتى ولو تضمنت نوعا من الكشف أو الإيضاح. لذلك يدعو الوجوديون الآخرين إلى أن يعيشوا معهم تجربتهم ليصلوا إلى النتائج نفسها ." إن هذا التفكير الانطولوجي الذي يتشكل بعمق حسب المشاعر والحالة المزاجية، والذي يعبر عن نفسه في لغة تثير أكثر مما تصف ليس ضربا مألوفا من المعرفة. فهو يشبه تلك التجارب الدينية كالوحي والرؤية الصوفية أو التجارب الجمالية التي تدرك الأشياء في أعماق علاقاتها المتبادلة "[8] .
ـ البحث عن الحقيقة النهائية: إن دافع البحث عن هذه الحقيقة دافع وجودي أساسا. ولأن الحقيقة النهائية التي يمكن الالتزام بها والمخاطرة بكل شيء في سبيلها لا يمكن البرهنة عليها أيضا، فقد وجدها الوجوديون في الحقيقة الذاتية الفردية. يقول كيركجارد :" إن عدم اليقين الموضوعي الذي تتخذه النزعة إلى الباطن متشبثة به في أشد حالاتها حماسا (...) تلك هي الحقيقة (...) الحقيقة العليا التي يمكن أن تكون لذات موجودة "[9] . من هنا، فالحقيقة تزداد كلما نقص اليقين الموضوعي. ويراها كيركجارد في الإيمان في أسمى صوره ؛ ذلك أن الإيمان بوصفه حقيقة لا يفرض من الخارج، ولا يبرهن عليه بالعقل الخالص، ولا يتمتع بأبسط يقين. إنه يستمد من معاناة العمل والحياة، ويصدق به الموجود نفسه من حيث هو موجود.
ـ أسبقية الوجود على الماهية: يتفق الوجوديون على أن الإنسان في حركة دائمة قوامها الانفصال عن الماضي والحاضر والاتجاه نحو المستقبل. لذلك ليس له وجود موضوعي يحدد ماهيته من البداية إلى النهاية؛ وإنما تتوقف هذه الماهية على سلسلة أفعاله واختياراته. ولكي يختار ويفعل لابد أن يوجد، لذا، قالوا بأسبقية الوجود على الماهية. فالإنسان عند سارتر لا يشبه الأشياء المصنوعة. وفي هذا الاتجاه، يسير كيركجارد حين يؤكد أن الوجود لا يمكن أن يرد إلى مجموعة من الأفكار القابلة للمعالجة العقلية، وكذلك نيتشه في فكرته القائلة بأن الإنسان يتجه نحو الإنسان الأعلى. فالإنسان عند هؤلاء جميعا غير مكتمل وغير تام. ولا وجود لصفات محددة تحدد وجوده. إنه الموجود الوحيد الذي يتدبر ما يريد فعله، وما يريد أن يصبح عليه.
.2 : الحداثة : من العام إلى الخاص، من الفلسفة إلى الأدب : لم يكن الأدباء والشعراء منهم بشكل خاص بعيدين عن التغيير الشمولي الذي عرفه الفكر الأوربي الحديث في القرن التاسع عشر. فقد ساهموا فيه ودفعوا به خطوات كبرى في مجالات اهتمامهم ."فقد أصبح الشعر صراعا لا هوادة فيه مع الكلمات والمعاني، كما أصبح إجهادا وتعذيبا للقوى العقلية من أجل الوصول إلى مرحلة الإدراك. وضربت التعريفات القديمة والتقليدية لمعنى الشعر عرض الحائط . ولم يعد الشعر فيضا عفويا لمشاعر عفوية، أو أجود الكلمات في أجود نسق، بل أصبح يقول ما لا يقال، أي أعطيت له خاصية المرونة العقلية "[10] .
أما الشاعر، فأصبح ينظر إلى العالم بوصفه" مجموعة من العلاقات المتشابكة التي تهمه وحده"[11]، واعتبر نفسه منسق تلك العلاقات معتمدا في ذلك على الأسطورة التي عملت على تعطيل العقل وتحرير الخيال، والاستعارة التي تخلق العلاقات بين الأشياء المتناقضة حتى تلائم التفكير الجديد. يقول إليوت :" يقوم عقل الشاعر بعملية الخلط الدائم للتجارب المتباينة. تتسم تجارب الإنسان الاعتيادي بالفوضى واللاتنظيم والتفكك، فهو (أي الإنسان الاعتيادي) يحب ويقرأ (سبينوزا) ويسمع صوت الآلة الكاتبة، ويشم رائحة الطعام المطبوخ في آن واحد، إنها تجارب يربطها ببعض رابط. أما الشاعر فيستطيع التجاوب مع كل هذه التجارب في آن واحد ليخلق منها كلا جديدا " [12] .
ولم يسلم أي اتجاه أدبي من التأثر بهذا الجو العام. ويختزل هذا النص لمالكم برادبري وجيمس ماكفارلن هذا التأثر العام: " كانت تبريرات تلك الحركات متشابهة: فقدان الإيمان بالواقع الملموس في الكلمة وفي اللغة السائدة، والانبهار باللاوعي، والاهتمام بضغوط البيئة الصناعية، وتزايد وتائر التغيير، والرغبة في اكتشاف بناء فني مهم من فوضى الحياة ."[13] .
.2 :الحداثة: من الآداب الغربية إلى الآداب العربية: يتصور تجمع شعـر الحداثة مشروعا حضاريا شاملا نتج عن "عقلية حديثة تبدلت نظرتها إلى الأشياء تبدلا جذريا وحقيقيا انعكس في تعبير جديد"[14] . وتنبني على الأسس الآتية[15]:
ـ إخضاع الطبيعة للإنسان ما دام هو سيدها والقادر على فك مغاليقها.
ـ إن القوانين والمبادئ والنظم المعرفية هي من وضع الإنسان. ويجب أن تكون في خدمته لا أن يكون هو عبدا لها، وله كامل الحرية في تغييرها أو تعديلها.
ـ إن العالم في صيرورة مستمرة، وسنكون غير حديثين لو وقفنا في وجه هذه الصيرورة واعتقدنا أن ليس أبدع مما كان .
ـ إن العالم( لا يحكمه نظام إلهي أبدي، بل هو من صنع الإنسان.) فهو مقياس كل شيء وعليه أن يعيد بناءه على صورته.
ـ لن يتأتى للإنسان أن يصنع ويفعل ما يشاء، إلا إذا كان يمتلك حريته، وفي مقدمتها الحرية الشخصية وحرية الفكر والتعبير.
إن هذه الأسس تستند إلى مرجعية نظرية فلسفية غربية. فمنذ الوهلة الأولى يتضح ذلك التطابق شبه التام بين هذه الأسس ومبادئ الفلسفة الوجودية التي سبق الحديث عنها (جعل الإنسان موضوعا للمعرفة ـ انهيار المطلق ـ أسبقية الوجود على الماهية) . ويرى محمد جمال باروت أن هذه الأسس تجمع بين الفلسفة الطبيعية العقلانية والفلسفة الوجودية ذات الطابع الشخصاني[16]، وسبب هذا الجمع هو طبيعة المجتمع العربي، فلن يتأتى للحداثة بناء قيم جديدة إلا ببناء مجتمع عقلاني يؤمن بالتطور نحو الأفضل، مجتمع يحل فيه النسبي والإنساني محل المطلق والإلهي.
في ظل هذا التصور العقلاني، وفي هذا المجتمع المفترض الذي يريد تجمع شعـر بناءه على منوال المجتمعات الغربية يمكن أن يمتلك الإنسان حريته كما تتصورها شعر. ويجد الشاعر "الحر" ذو الطابع الوجودي الشخصاني المتمرد المعضلات الكيانية التي عبر عنها الشعر العالمي، ويجب أن يعبر عنها الشعر العربي لكي يكون حداثيا وعالميا ؛ كالفراغ واليأس والعبث والحرية والنفي الكياني والغربة والاغتراب والحرمان والاضطهاد اللامنطقي[17]. وإذاك فقط يعيش الشاعر العربي هذه المعضلات كما عاشها الشاعر الغربي، ويستمد الحقيقة من داخله، ويقطع علاقته بما أسماه هايدجر بالإنسان المعمم الذي حدده تجمع شعـر في مجمل التقاليد الاجتماعية والأخلاقية والأيديولوجية والسلوكية والسياسية السائدة للأغلبية الاجتماعية، والتي ليست في نهاية المطاف سوى تعبير عن كثلة دهماوية وغوغائية قطيعية وسوقية كما يرى يوسف الخال.
بهذه العزلة التي تعفي الشعر من أي وظيفة اجتماعية، وتعفي الشاعر من أي التزام تجاه المجتمع، يستطيع الشاعر أن يقرر وأن يتجاوز ويتخطى كل ما هو جاهز وسائد، ويتطلع إلى ما لم ينجز بعد. وسيلته في ذلك تجاوز "الرؤية" التي تحيل على العالم الخارجي إلى "الرؤيا"[18] التي تحيل على العالم الداخلي. وبذلك يصبح " الشعر تجربة شخصية يسبرها الشاعر ، ويفجرها في حدوث ورؤى وبروق"[19] ، وتصبح الخاصية الميتافيزيقية هي الخاصية الرئيسية في نتاجنا الشعري الحديث[20] .
إن الحداثة العربية التي تسعى إلى بناء نموذج حداثي عربي على شاكلة النموذج الغربي لم يتحقق لها نفس النجاح الذي تحقق لمثيلتها الغربية، ذلك أن هذه الأخيرة نشأت وتطورت في المدن الصناعية الكبرى كبرلين وفيينا وبراغ وشيكاغو ونيويورك وباريس[21] ، فتوفرت لها شروط تاريخية سياسية واقتصادية واجتماعية تدمر فيها الناس من العلم ونتائجه وعواقبه، وشككوا في قدرته على إسعادهم، وعلى قدرته في الوصول إلى الحقيقة؛ ففضلوا التجربة الفردية وما يترتب عنها من معارف تعددية غامضة على العقل المنظم. أما الحداثة العربية، فقد وجدت نفسها مقيدة بواقع مخالف للواقع الغربي، تحكمه شروط تاريخية فكرية واجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالمعضلات الكيانية التي أفرزتها الثقافة الغربية. فقد كانت المرحلة مرحلة تناقض وطني وقومي مع الآخر الذي هو مصدر هذه الحداثة، وهي مرحلة تستلزم توحيد الرأي، والقفز عن التناقضات الداخلية، والتضحية بالذات وبمصالحها الشخصية لصالح المصالح الوطنية والقومية. أما المجتمع، فأبعد ما يكون عن هيمنة الروح الفردية، إذ تحكمه الأسرة الممتدة ونمط الإنتاج الفلاحي بأشكاله التقليدية. وعلى الساحة السياسية يتصارع المشروع السلفي ذو الخصوصية الاتباعية، والمشروع الشيوعي الدغمائي، والمشروع القومي، وهي كلها مشاريع تتميز بنظرتها الأحادية، وأحكامها اليقينية المطلقة.
في ظل هذه الشروط، دعا تجمع شعر إلى الشخصانية المتمردة ضد كل القيم المترسخة في الذهن، وفصل الأدب عن السياسة، والسمو عن غوغائية المجتمع. "فالشاعر إنسان غريب في مجتمعه ـ يقول يوسف الخال ـ والعداوة بينهما أصيلة، وهي عداوة النقيضين اللذين يجب أن يتعايشا. فالإنسان كائن اجتماعي، والشاعر نفسه لا اجتماعي لأنه ضد المتعارف عليه والمعتاد والمألوف."[22].
هذه المواقف المتطرفة التي تظهر قطيعة مع الماضي والحاضر لا ارتباطا جديدا به، وتجريدا للإنسان من تربيته ، ستجعل من المشروع الحداثي مشروعا أدبيا شعريا لم تتوفر له شروط توسيعه ليشمل الحقول المعرفية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما سيجعل منه مشروعا وهميا منعزلا عن المجتمع برمته. ولن يستمر طويلا حتى يصطدم بجدار اللغة المحافظة على خصوصياتها الموروثة، وجدار الواقع المثقل بهموم المعيشة وضباب السياسة، لأنه لم ينجب إلا الانسحاق وفقدان التوازن والاستلاب للغرب في مرحلة كان الغرب يبدو عدوا لدودا[23].
[1] - نفســـه ص 121 : يقول باروت :" ففي حين قامت الآداب بتبني الوجودية ، ونشر مفاهيمها ، وترجمتها ، قامت حركة مجلة شعر بإنتاج الوجودية شعرا داخل النص الشعري نفسه " والواقع أن مجلة شعر اهتمت أيضا بنشر المفاهيم الوجودية والتنظير لها. والفرق بينها وبين الآداب هو تركيز هذه الأخيرة على وجودية سارتر بالدرجة الأولى في حين أن شعر اهتمت بالوجودية في أبعادها الميتافيزيقية .
[2] - جوزف أبو جودة " نداء البعيد لجورج غانم " مجلة شعر، المجلد الثاني، عدد 5، شتاء 1958 ـص 110.
[3] - ينظر : عقل الحداثة ـ ضمن كتاب " الحداثة " مالكم برادبري و جيمس ماكفارلن ـ ترجمة مؤيد حسن فوزي ـ دار المامون للترجمة والنشر ـ بغداد ـ 1987 ـ ص 80 .
[4] - مصطلحات متعددة للدلالة على الشيء نفسه " وهو ما يدل على الكيان الجمعي الذي يظهر في الفاعل غير المحدد ، والذي يعبر عنه تعبير "يقول الناس " " ـ ينظر : الفلسفة المعاصرة في أوربا . تأليف : إ م بوشينسكي : ترجمة عزت القرني ـ عالم المعرفة ـ العدد 165 ـ سبتمبر 1992 هامش 591 ـ ص 278.
[5] - ينظر ريجيس جوليفييه : المذاهب الوجودية من كيركجارد إلى جان بول سارتر ـ ترجمة فؤاد كامل ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ 1966 ـ ص 39 .
[6] - الفلسفة المعاصرة في أوربا ـ م س ـ ص 278 .
[7] - جان ماكوري : الوجودية ـ ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ـ مراجعة فؤاد زكريا ـ عالم المعرفة ـ رقم 58 ـ أكتوبر 1982 ـص 358 .
[8] - نفســـــه ص 351 .
[9] - ينظر : المذاهب الوجودية من كيركجارد إلى جان بول سارتر ـ م س ـ ص 41 .
[10] - عقل الحداثة : م س ـ ص 72/73 .
[11] - نفســـه ص 82 .
[12] - نفســه ص 83 .
[13] - نفســه ـ ص 207 .
[14] - يوسف الخال : الحداثة في الشعر ـ م س ـ ص 17 .
[15] - هذه الأسس وردت في مقالة يوسف الخال " نحو أدب عربي حديث " نشر في مجلة أدب ـ المجلد الثاني ـ العدد الأول ـ شتاء 1963 ـ ص 9 .ولخصها في كتابه : الحداثة في الشعر ـ م س ـ ص 16/17 .
[16] - " تجربة الحداثة ومفهومها في مجلة شعر " ـ قضايا وشهادات ـ كتاب ثقافي دوري ـ عدد 2 ـ مؤسسة عيبال للدراسات والنشر ـ صيف 1990 ـ ص 260 وما بعدها .
[17] - هذه المعضلات اصطلحت عليها خالدة سعيد ب"راية العصر" ـ تنظر مجلة شعر ـ عدد 43 ـ السنة 11 ـ صيف 1969 ـ ص 61 .
[18] - ترى مجلة شعر أن الرؤية تحيل على العالم الخارجي ، عالم الأنا الفولتيرية . أما الرؤيا ، فتحيل على العالم الداخلي ، عالم الأنا الحديثة الشخصانية الوجودية المتمردة المصلوبة في معضلاتها الكيانية .
[19] - أدونيس : زمن الشعر ـ دار العودة ـ بيروت 1972 ـ ص 40/41 .
[20] - أدونيس : مجلة شعر ـ عدد 16 ـ خريف 1960 ـ ص 250 .
[21] - ينظر كتاب الحداثة ـ م س ـ ص 93 وما بعدها .
[22] - الحداثة في الشعر ـ م س ـ ص 87 .
[23] - برهان غليون : مجتمع النخبة ـ معهد الإنماء العربي ـ بيروت ـ 1986 ـ ص 39 .
[/align]
تعليق