كان يشاهد في التلفاز فيلما عن الصحراء بطبيعتها القاسية، تنفس عميقا تمنى لو كان واحدا من أولئك البدو الرحل تحت خيمة واسعة من الوبر مفتوحة الجوانب، قانعا بما يملك لا يفسد حياته أحد ولا يفسد حياة أحد، حرا طليقا في ذاك الفضاء الفسيح. كان يحلم بخياله المجنّح بالرجوع لأمكنة صنعته كرجل، واحات خضراء وكثبان رمال ووديان ومراعي يعرفها كما يعرف شوارع مدينته الجديدة البلهاء، كانت زوجته الأوربية تجلس بجانبه في وضعية شبيهة بوضعيته رجلها الأيمن على الأيسر تمد ذراعها الأيمن على الأريكة وراء ظهره مباشرة، شعرها الحريري الذهبي مسدول للوراء في منظر رائع وراء الكتفين، تفوح منه رائحة عطر تدعو للرغبة، كانت تلتهم كيس البطاطا المجفف ــ الشيبس ــ بنهم كبير، عيناها ملتصقتان بالتلفاز قال لها:"ليتنـي هناك رفقة أولئك البدو الرحل البسطاء، رأس مالي جَمَلٌ ومتاع وبعض الماعز ما أروع حياة الترحال" استدارت نحوه بوجه باعث على الاستفهام: "الحضارة شيء نقيض البداوة كما تعرف، هل يتنازل الإنسان عن كل ما حققه من تكنولوجيا وحرية ليحيا في الماضي البعيد من جديد، إنه الموت البطيء، إنه الانتحار الذي هربت منه...لا شك الإنسان مرتبط بجذوره وأنت كعربي تحن لجذورك حيث الجمل والناقة والشعر والخيمة، أنا يا عزيزي عن نفسي أرى الحياة المادية قاسية جدا نزعت ولا تزال تنزع من الإنسان روحه وضميره يوما بعد يوم، لكن هذا لا يدفعنا للهروب بالرجوع للوراء. إن شجرة الحضارة أنبتت غابة كثيفة من حقب التطور... "ثـبّـتت بصرها من جديد على شاشة التلفاز الكبير 75 ملم وصمتت. كان الجمل ذو السنام الواحد على الشاشة يفتح فاه المخيف بأسنانه الحادة القاطعة، كان البصاق يخرج من فمه مختلطا بلعابه علـّقت: "شيء مقرف رغم أن الله خلقه بطبيعته القاسية كطبيعة الصحراء، أنظر يا عزيزي إلى هذا اللّعاب الآن الجمل يقوم بعملية ضخ للماء المخزّن بداخله كلما بدأ في عملية الاجترار... " فتح تعليقها هذا مساحة واسعة للشرح خاصة وهو الخبير بهذه البيئة قال لها وهو يعتدل في جلسته متأهبا للسرد" - عزيزتي كلنا يمارس عملية الاجترار بصورة أو بأخرى، لكن دعنا من فلسفة فعل الاجترار البشري، الجمل يا عزيزتي قوي الاحتمال كأنه مصفح بالنحاس، يهضم الشوك و السدر الذي يقترب في رقته وليونته من السلك الشائك، خلقه الله حيث يموت البغل والبقر الوحشي جوعا، يخزن الشحم ليعيش مدى أسابيع كثيرة على قليل من الطعام، خلقه الله للصحراء كما خلق لها إنسانها، لقد علمنا الجمل كيف نصبر على التجويع الذي عانيناه، على الظلم الذي ذقناه، إنه يشبهنا لدرجة كبيرة، بل إنه نحن في صورته تلك...."أرادت أن تبعد هذا النقاش الذي ربطه بحنين قديم لأول مكان ترعرع فيه مع أهله وقالت: أتذكر يوم التقينا أول مرة في براغ؟
- أذكر
- كنت حينها لا تتقن الانجليزية ولا الألمانية، كانت لكنتك ملفتة كملامحك العربية كنت تعاني حينها الاضطهاد النفسي، تعارفنا في المتحف كبرت صداقتنا بعدها، امتزجت روحينا، توطدت علاقتنا أكثر لم يكن الائتلاف صعب علينا خاصة وقد رأيت فيك صفات افتقدتها في غيرك.
- نعم كنت المطارد اللاجئ السياسي المكره على الرحيل و الهجرة.
غيـّر موضوع حديثه لأنه يشعر بأسى كلما كرر عملية اجترار المآسي من قتل وترويع للأهالي ومجازر بين القبائل بمعية النظام و بعض الشيوخ وبمشيئة الأجانب الذين لا يتوانون لحظة على تبريك ذلك بحمل قوافل السلاح.. لقد كان شخصه شاهد إثبات. حرك رأسه ليفيق أحس أنه يعايش المشهد من جديد. قال: "عزيزتي ترين ذاك الجمل على الشاشة مهما كنت تنظرين إليه على أنه حيوان كريه الرائحة سيء الخلق العنيد، لكن مع هذا الحضارة مدانة له بالكثير، الإنسان هناك جعله مثال النبل والوفاء إنه الحيوان الأليف... ألا تعتقدين أن الاستبداد يرى في الأحرار ما ترينه أنت الآن في الجمل؟ لكن التاريخ وحده ينصفهم لأن البشرية مدانة بحريتها وكرامتها و رخائها لهؤلاء." سكت برهة ثم استرسل في كلام طويل يعيد من خلاله سرد أحداث مؤلمة مفجعة في حياته... زوجته تعرف الظلم والقهر الذي عان منه طويلا، تعرف التهديد الذي يلاحقه في رزقه وحياته حتى هنا في الأرض الغريبة، لقد أختار الهجرة السرية بعدما فر بجلده من الموت المحتّم، أفكاره كادت تقتله ولا زالت، أحيانا كثيرة يتحتـّم على الإنسان أن يرهن أفكاره لكي لا يحصل داعي الخطر، لكن المهادنة يعتبرها خيانة عظمى، إنه يتحدث عن نفسه كالجمل الذي خلق للشقاء... قبل أن يصل لهذه الأرض الغريبة التي منحته أرضا كاملة من الكلام كان يضيـٌق عليه الخناق هناك وتفاؤله في التغيير صار خيبة تضاف لخيباته الكثيرة لقد تبخر الحلم كما يتبخر عمود الدخان، نجا من الموت كم من مرة على يد أفراد قبيلته ومن قبائل أخرى مدسوسة مأجورة من جهات النظام قال لها و الأنة على شفتيه: "الحضارة الأوربية رضت بنا كرضانا على الجمل نتن الرائحة وسيء الطبع، قبلتنا يوم رفضتنا أوطاننا بتهمة أو بأخرى ونحن من طينتها."
لم تكن صديقته الأوربية لتفتح باب الجرح القديم، اتكأت على كتفه: "أعتذر عزيزي نكأت جرحك القديم أعرف استيائك لما يحدث للعالم خاصة هناك حيث ترعرعت لكن لا تملك غير الكتابة وسيلة للاحتجاج و الصراخ على هذا العالم، قد يوافقك الرأي شخص ما في هذا العالم كما وافقتك أنا." كان يعلم بأن أنظمة العالم على مجملها تستعرض قوتها أكثر مما تستعرض عدلها... أخذ رأس زوجته بين كفيه وذاب في حلم صنعه من سنين، كانت يدها اليمنى قد امتدت للريمو كنترول تطفئ التلفاز تنهي مشهد الصحراء والجمل، كانت على الأريكة حينها حضارتين تنصهر الواحدة مع الأخرى معلنة عن بداية حقبة جديدة لحياة مغترب.
- أذكر
- كنت حينها لا تتقن الانجليزية ولا الألمانية، كانت لكنتك ملفتة كملامحك العربية كنت تعاني حينها الاضطهاد النفسي، تعارفنا في المتحف كبرت صداقتنا بعدها، امتزجت روحينا، توطدت علاقتنا أكثر لم يكن الائتلاف صعب علينا خاصة وقد رأيت فيك صفات افتقدتها في غيرك.
- نعم كنت المطارد اللاجئ السياسي المكره على الرحيل و الهجرة.
غيـّر موضوع حديثه لأنه يشعر بأسى كلما كرر عملية اجترار المآسي من قتل وترويع للأهالي ومجازر بين القبائل بمعية النظام و بعض الشيوخ وبمشيئة الأجانب الذين لا يتوانون لحظة على تبريك ذلك بحمل قوافل السلاح.. لقد كان شخصه شاهد إثبات. حرك رأسه ليفيق أحس أنه يعايش المشهد من جديد. قال: "عزيزتي ترين ذاك الجمل على الشاشة مهما كنت تنظرين إليه على أنه حيوان كريه الرائحة سيء الخلق العنيد، لكن مع هذا الحضارة مدانة له بالكثير، الإنسان هناك جعله مثال النبل والوفاء إنه الحيوان الأليف... ألا تعتقدين أن الاستبداد يرى في الأحرار ما ترينه أنت الآن في الجمل؟ لكن التاريخ وحده ينصفهم لأن البشرية مدانة بحريتها وكرامتها و رخائها لهؤلاء." سكت برهة ثم استرسل في كلام طويل يعيد من خلاله سرد أحداث مؤلمة مفجعة في حياته... زوجته تعرف الظلم والقهر الذي عان منه طويلا، تعرف التهديد الذي يلاحقه في رزقه وحياته حتى هنا في الأرض الغريبة، لقد أختار الهجرة السرية بعدما فر بجلده من الموت المحتّم، أفكاره كادت تقتله ولا زالت، أحيانا كثيرة يتحتـّم على الإنسان أن يرهن أفكاره لكي لا يحصل داعي الخطر، لكن المهادنة يعتبرها خيانة عظمى، إنه يتحدث عن نفسه كالجمل الذي خلق للشقاء... قبل أن يصل لهذه الأرض الغريبة التي منحته أرضا كاملة من الكلام كان يضيـٌق عليه الخناق هناك وتفاؤله في التغيير صار خيبة تضاف لخيباته الكثيرة لقد تبخر الحلم كما يتبخر عمود الدخان، نجا من الموت كم من مرة على يد أفراد قبيلته ومن قبائل أخرى مدسوسة مأجورة من جهات النظام قال لها و الأنة على شفتيه: "الحضارة الأوربية رضت بنا كرضانا على الجمل نتن الرائحة وسيء الطبع، قبلتنا يوم رفضتنا أوطاننا بتهمة أو بأخرى ونحن من طينتها."
لم تكن صديقته الأوربية لتفتح باب الجرح القديم، اتكأت على كتفه: "أعتذر عزيزي نكأت جرحك القديم أعرف استيائك لما يحدث للعالم خاصة هناك حيث ترعرعت لكن لا تملك غير الكتابة وسيلة للاحتجاج و الصراخ على هذا العالم، قد يوافقك الرأي شخص ما في هذا العالم كما وافقتك أنا." كان يعلم بأن أنظمة العالم على مجملها تستعرض قوتها أكثر مما تستعرض عدلها... أخذ رأس زوجته بين كفيه وذاب في حلم صنعه من سنين، كانت يدها اليمنى قد امتدت للريمو كنترول تطفئ التلفاز تنهي مشهد الصحراء والجمل، كانت على الأريكة حينها حضارتين تنصهر الواحدة مع الأخرى معلنة عن بداية حقبة جديدة لحياة مغترب.
تعليق