لقائي معي
كان اليوم لقائي معي ، بعدما نفدت الحُجَج في مآقي الاعتذار ، فأبصرت محيّا اللقاء ، يتورد الشوق في وجنتيه ، ويُطل العتاب من عينيه ، أين أنت ؟!
أجَفَلت لسؤال نَظْرَتِهِ وكأنني لم أكن أتوقعه ، بل كنت ؛ لكن أُمْنِيَةَ بشاشة الرِّفْق قد سبقت خَشية عُبوس العتبى. ومن يَتُوق إلى جلسةٍ في وارف ظلال الحبيب ؛ لا يشغله احتمال تسلل لفحة الشمس من بين غضيض الأوراق والثمر.
حِرْتُ أُجيبه ، فما كان من نظرة الحيرة إلا أن عانقتها نظرة العتاب ، لتنقشع في لحظة واحدة سُحُب النظرات ، ويُرْفَعُ السّتار عن سماءٍ تهللت بالبسمات التي زخرفت البساط العريض ، الممتد على مرمى البصر ، وراحت تلثم الأرض في محيط الأفق.
جَرَت طقوس اللقاء مثلما تجري كل مرة ، فلا يحتمل حديث النجوى ضجيج الدنيا وصخب الضياء وثرثرة الصحبه ، إنما يكون في صومعة النُّها ، يلفها الهدوء ، حيث ينفرد المعتكف بأسفاره ، لا يقتحم خلوته أحد أو يخدش اعتزاله صوت ، فتصفو نفسه كما تصفو اللؤلؤة في صدفتها.
ويهمس هامِسُهُ في النفس ، فكأنما يُلقي على ضفافها رقراق الأمن والطمأنينة ، فتغمر شقوق التَّوَجُّس والترقب ، وتشفيها من الظمأ ، وترتوي بذور السكينة والرِّضا فتشب منها سيقانٌ ناعمة وأزهارٌ زاهية ، تغري نسيم الفكر بأريجها ، فيمر ولهاناً يمسح بأنامله على جبينها ، فيتعطر وينتشي ، وينتشر في الجنبات يضوع بالأقحوان والياسمين ، يُلامس ندى فَجْر اللقاء ، فيهدهده ويضمّخه بالعطر ، حتى إذا ما تساقط يُرطِّب الحديث ويُسْكِر النديم.
وتدور كؤوس الفكر بيني وبينه ، ننهل منها الرؤى ونداول الفهم ، نتفق ونختلف ، أمهد السبيل فيخطو عليه ، يسابقني فأسابقه ، أسوق الحجة فيدفع بالبرهان ، أتعجب من بارقة خطرت فيُفَسِّر بضوء الحكمة ، نراجع الماضي فندرسه ثم نرجع للحاضر نتأمله ثم نعرج للمستقبل نأمله ، وقد يحتدم النقاش فأحتدّ عليه ويحتدّ عليَّ ، ثم نهدأ سوياً وتردنا الغاية الواحدة إلى التصافي والوئام ، ولانزال على تلك الحال ، روح تسامر بعضها ، ونفس تلوم نفسها ، كأننا صديقان بالاختيار وليس بداعي توحد النسيج ، فكم نسيج يَنْفُر من نفس تحلُّ فيه ، وكم من نفس تتوق لفراق نسيجها ، غير أننا تراضينا على حياة نحيا فيها كشمعة أكون فيها جسدها الممشوق برقته وقوته ، وهو فيها شعلتها المتقدة بألسنة النور ، ولابأس من دموع نذرفها معاً ، كلما انفعل الجسد بحرارة الفتيل ، بما يثبِّت القاعدة تثبيتاً ، وينقش على جذعها التجاعيد ، فتقصر الشمعة باشتعال اللهب وتوهجه ، كما يذوي العمر بنضوج العقل وبلوغ الحكمة.
ونلمح شفق اللقاء ، ننظر إليه وندنو منه ، وتتبدل النظرات ، ففي نظرته هذه المرة حيرة ، وفي نظرتي عتاب ، فلا ينتبه الشفق لتلك النظرات وهو منشغل بمد أيديه لليل الفراق ، يدعوه كي يدق أوتاد خيمته في الآفاق. حان الذهاب إذن ، ولا نملك سوى الاستسلام ، ونتواعد كما نفعل كل مرة ، ويمضي كل إلى سبيله ، أدلف أنا إلى الحياة ، ويمكث هو في صومعته ينتظر بمعيّة السؤال المقيم ، متى سيأتي ؟ هل هناك من لقاء ؟
أجَفَلت لسؤال نَظْرَتِهِ وكأنني لم أكن أتوقعه ، بل كنت ؛ لكن أُمْنِيَةَ بشاشة الرِّفْق قد سبقت خَشية عُبوس العتبى. ومن يَتُوق إلى جلسةٍ في وارف ظلال الحبيب ؛ لا يشغله احتمال تسلل لفحة الشمس من بين غضيض الأوراق والثمر.
حِرْتُ أُجيبه ، فما كان من نظرة الحيرة إلا أن عانقتها نظرة العتاب ، لتنقشع في لحظة واحدة سُحُب النظرات ، ويُرْفَعُ السّتار عن سماءٍ تهللت بالبسمات التي زخرفت البساط العريض ، الممتد على مرمى البصر ، وراحت تلثم الأرض في محيط الأفق.
جَرَت طقوس اللقاء مثلما تجري كل مرة ، فلا يحتمل حديث النجوى ضجيج الدنيا وصخب الضياء وثرثرة الصحبه ، إنما يكون في صومعة النُّها ، يلفها الهدوء ، حيث ينفرد المعتكف بأسفاره ، لا يقتحم خلوته أحد أو يخدش اعتزاله صوت ، فتصفو نفسه كما تصفو اللؤلؤة في صدفتها.
ويهمس هامِسُهُ في النفس ، فكأنما يُلقي على ضفافها رقراق الأمن والطمأنينة ، فتغمر شقوق التَّوَجُّس والترقب ، وتشفيها من الظمأ ، وترتوي بذور السكينة والرِّضا فتشب منها سيقانٌ ناعمة وأزهارٌ زاهية ، تغري نسيم الفكر بأريجها ، فيمر ولهاناً يمسح بأنامله على جبينها ، فيتعطر وينتشي ، وينتشر في الجنبات يضوع بالأقحوان والياسمين ، يُلامس ندى فَجْر اللقاء ، فيهدهده ويضمّخه بالعطر ، حتى إذا ما تساقط يُرطِّب الحديث ويُسْكِر النديم.
وتدور كؤوس الفكر بيني وبينه ، ننهل منها الرؤى ونداول الفهم ، نتفق ونختلف ، أمهد السبيل فيخطو عليه ، يسابقني فأسابقه ، أسوق الحجة فيدفع بالبرهان ، أتعجب من بارقة خطرت فيُفَسِّر بضوء الحكمة ، نراجع الماضي فندرسه ثم نرجع للحاضر نتأمله ثم نعرج للمستقبل نأمله ، وقد يحتدم النقاش فأحتدّ عليه ويحتدّ عليَّ ، ثم نهدأ سوياً وتردنا الغاية الواحدة إلى التصافي والوئام ، ولانزال على تلك الحال ، روح تسامر بعضها ، ونفس تلوم نفسها ، كأننا صديقان بالاختيار وليس بداعي توحد النسيج ، فكم نسيج يَنْفُر من نفس تحلُّ فيه ، وكم من نفس تتوق لفراق نسيجها ، غير أننا تراضينا على حياة نحيا فيها كشمعة أكون فيها جسدها الممشوق برقته وقوته ، وهو فيها شعلتها المتقدة بألسنة النور ، ولابأس من دموع نذرفها معاً ، كلما انفعل الجسد بحرارة الفتيل ، بما يثبِّت القاعدة تثبيتاً ، وينقش على جذعها التجاعيد ، فتقصر الشمعة باشتعال اللهب وتوهجه ، كما يذوي العمر بنضوج العقل وبلوغ الحكمة.
ونلمح شفق اللقاء ، ننظر إليه وندنو منه ، وتتبدل النظرات ، ففي نظرته هذه المرة حيرة ، وفي نظرتي عتاب ، فلا ينتبه الشفق لتلك النظرات وهو منشغل بمد أيديه لليل الفراق ، يدعوه كي يدق أوتاد خيمته في الآفاق. حان الذهاب إذن ، ولا نملك سوى الاستسلام ، ونتواعد كما نفعل كل مرة ، ويمضي كل إلى سبيله ، أدلف أنا إلى الحياة ، ويمكث هو في صومعته ينتظر بمعيّة السؤال المقيم ، متى سيأتي ؟ هل هناك من لقاء ؟
تعليق