أزاحَ عنه اللحاف الرثَّ وبرحَ فراشَه، باتَ ليلته ساهرًا يُحصي النجوم، يَترقَّبُ بُزوغَ فجرٍ جديد يشيع في أركان البيت نورًا.
يَبسط ضياءً مُزهرًا مَحمَّلاً بالمنِّ والسَّلوى، مُزيلاً بعضًا من غشاوة الضيم والبَلْوى.
تَقدَّمَ خُطوات نحو الباب ووقف بُرهةً مُثقَل الرأس بالهموم، مُفعَم الذات بالأماني تروّعها رياحُ السَّموم.
أمست حياته مَفازة جَرداء غَبراء، غزاها التَّصحُّر وأنهكتها الأنواءُ، ورغم قَسوة الجفاف نَشطَ محراث العزم.
طوَّعَ التربةَ وبثَّ الروحَ في أوصالها المنهكة، وزَرعَ فيها بذورَ الفكر والأخْيلَة، وطال انتظار المطر، عزَّ المطر.
توسَّلَ من بيدهم مَفاتيح المُزن، واجههم مُدجَّجًا بصكوك تَوَّج بها مَسِيرة عقود، وأدَّى في سبيلها ضرائبَ السعي والسهر ونكبة العوز.
سأل - نظير صكوكه - جَرعةً من ماء يَعفر وجهَ صحرائه اخضرارًا يانعًا مُزهرًا، وتلقَّى وعدًا: أن سيُسْقَى ماءً سلسبيلاً يُعيد للشجرة العَطشى سالفَ رونقها، ويَمسح عنها بعضَ شحوبها.
فتح الباب مُترقِّبًا طلائعَ الحياةتَتراقصُ أمام ناظريه في بريقٍٍ أخَّاذ، ارتعدتْ فرائصُه ورَقصَ فؤادُه نَشوةً من رؤيةِ السُّحب الرواحل تَزحف من الآفاق النائية، تَقترب رُويدًا رويدًا.
لَبِثَ مصدومًا يعاينها تَعبرُ من فوقهمُستعلية، هازئة شامتة! ما يزال يلاحقُها بطرفه الجاحظ شَزْرًا، وازدادتْ حِدَّةُ الصدمةِ إذ عاينَ المُزْنَ يَحطُّ الرحال في حدائقَ غَنَّاء وضَيْعات شاسعة مِعطاء، عاد إلى دوية الهاجعين يَندبُ حظًّا عاثرًا ويُسبل دمعًا حارًّا، لم يُلْفِ غير صكوك الخُذلان والهَوان يَمسح بها مُخاطه ودُموعه.
م.القصصية (رياح السموم)
محمد غالمي
م.القصصية (رياح السموم)
محمد غالمي
تعليق