لقائي معها
كان لابد له أن يذهب إلى هناك ، فتلك عادته كلما نزف الجرح القديم ، وصَهَلت آلامه ، وراحت تركض في أنحائه ، تدمي بحوافرها هفهاف روحه.
وما أن أدرك جَنَّتَهُ حتى جلس على مقعده المعتاد الذي يواجه المقعد الخالي ، لكنه لم يكن يرى ذلك المقعد خالياً أبداً ، بل كان يراها دائماً تجلس عليه أمامه ، تتبوأ عرشه ، وينظر إليها بعين من حَلَّ في الجنَّه ، فهي مليكة الحور بلا شك ، غير أنها لم تكن تتزين بتاج الملكات في الدنيا ، فهن لا يتخذن تلك التيجان إلا لتميزهن وتضفي عليهن الهيبة والوقار والبهاء ، ولم تكن هي في حاجة لشيء من هذا أو ذاك ، فلا حاجة للشمس بعود ثقاب يقدح النور فيها ، ولا حاجة للسماء بمن يدل عليها ، ولا حاجة للروض البهيج بمن يسميه.
وكان على يقين بأن الملكات على مدى الدهر ، كن يلجأن للتيجان المتألقة بالألماس ، وأقراط الإبريز ، وعقود الفيروز ، وشذى العطر الفواح ، في محاولة يائسة للتشبه بمليكته المتفردة ، ولم تطاول إحداهن ذلك الكمال المطلق. كما أن التاج يحتاج إلى من يقوم بالتتويج ، فمن ذا يفعل من الناس وهم جميعاً رعاياها في وجدان نظره.
وشرع في الحديث غير أن حديثه لم يعد كما كان في الأيام الخوالي ، همساً يتسلل من الروح ، تحمله فراشات الهوى فوق أجنحتها ، وتدور راقصة مبتهجة تزف لها النجوى ، ثم لا تلبث أن توشوشها بها ، فيضطرب كيانها كله وتجفل لؤلؤتاها. ولم يكن حياؤها يسمح لها بشىء سوى نظرة خجلى تنطقها ، تحملها إليه عبر أثير الهيام ، وتُسْكِرُ برقتها وفود النسيم الذي تتهافت عليهما، والتي ترهف السمع لحديث السحر الذي يسري بينهما ، فتتنسمه عليلاً وتموج في الدنيا بذياك العليل. وحين تصل النظرة إليه ، تلامس كله ، فيرتجف ويقشعر بدنه ، ويذوب فؤاده ، ويُخلب لبُّه ، ولا تزال به حتى تدمع عيناه وجداً ولهفة ، نعم لم يعد حديثه اليوم كذلك.
أصبح يتجرأ الآن ، جرأة لم يكن يقدم عليها ، فتراه يمد يده صوب يدها الحالمة الوادعة فوق المنضدة ، القابضة على ساق الوردة الندية ، فتخبر يده أناملها كيف هي حرارة دمائه التي مازالت مشتعلة بالحب ، تؤججها جذوة الشوق وجمرة الغرام ، تلك الدماء التي لا تشفق على جسده النحيل ، فتتدفق بلهيبها ، إلى شعوب خلاياه كلها ، تفد إليها مع كل نبضة ، تصهرها في بوتقة كينونته. وقد تَصُبُّ الأيام في سَفَرِها الدائم ماء النسيان على شعلة الأحداث ، فتضعفها وتذرها واهنة حيناً ، ثم لا تفتأ تطفؤها وتبدلها رماداً ، غير أن اتقاد الروح بالطهر في أسمى معانيه ، يظل مستعصياً على الخمول ، ممتنعاً على النسيان ، لأنه هو نفسه الوقود الدائم لتلك الروح ، يمدها بزاد البقاء ، ويلازم صاحبها أينما رحلت به مركبة الزمن.
ويتمادى في جرأته ويقرب مقعده من مقعدها ، هنا وهناك ، كأنه يطوف بها ، حتى يستقر بجوارها ، يكاد يلمسها لمساً ، لا يفصله عنها سوى مدي أريج الوردة ، فيشاركها في الهواء الذي تتنفسه ، ويستنشق ذلك الهواء الكريم الذي تطهّر داخلها ، قبل أن ينهل عبقه فور انفلاته من صدرها العطر ، فيكنزه في صدره قدر ما يستطيع ، ويهنأ بالتوحد فيها ، فتنفد بذلك أمنياته في الدنيا.
يظل كذلك حتى يخرجه النادل مما هو فيه ينبهه بموعد الإغلاق ، فيلتفت إليه حانقاً متبرماً، كما يفعل في كل مرة ، وفي نفس الوقت ينظر إليها معاتباً ، فهي لم تبادر ذلك النادل العزول ، فتسأله أن يمهلهما بعض الوقت ، كما كانت تفعل في كل مرة ، حتى يطول اللقاء ، ويعجب منها أيما عجب ، فكيف لم تفعل ؟! ولماذا توقفت عن ذلك منذ زمن بعيد ؟ .. بعيد .. بعيد .....
تعليق