[align=right]
قررت أن أحسم الأمر وأهبط من أرجوحة الفكر ، أتلمس أرضاً ثابتة ، تعيد للعقل اتزانه بعد أن عانى كثيراً من الدوار. ورحت أتحسس الخطى ، كحال طفل يتدرب على السير لأول مرة ، يخطو فيكبو ، يصر فيستند فيقف ، يعيد الكرة مستعيناً هذه المرة بذراعين يضرب بهما الهواء من حوله فيتزن ، يتعثر كثيراً إلى أن يتمكن أخيراً من الثبات على قدميه ، ويستقيم له الخطو ، فينطلق فرحاً مبتهجاً ، يتعجل العدو ، إلا أن الإصابات تعلمه أن يتمهل ، ويتوخى الحذر.
وليس من عَدُوِّ للرجل أكثر من التردد ، الذي يجعله رهينة لذهن يقلبه ذات اليمين وذات اليسار ، ويحجب ضبابه عنه مرمى البصيرة ، فيستوى مع الضرير المستعين بغيره ، يسأله صحيح الاتجاه ، ويضل لو لم يجد ذلك المُعين بعدما تعطلت عنده بعض الحواس. فماله لا يشحذ حواسه جميعاً ، ويضيف إليها حاسة اتخاذ القرار ، يصيب فيه حيناً ويخطئ أحياناً ، حتى يكتسب الخبرة التي تجعله يصيب أحياناً ولا يخطئ إلا حيناً.
وقد يكون هناك داع من دواعي الحكمة ، يحث على التروي والتريث ، غير أن ذلك لا يكون تردداً بقدر ما يكون صبراً جميلاً واتقاء لتداعيات قرار يعرف أنه الصحيح ، فليس من شجاعة الرجل أن يضرب الحائط برأسه ليهدمه ، أو أن يقوم وحده بإقامة البناء ، فذلك ليس حسماً وإنما اندفاع يتساوي فيه مع الطفل الذي تعجّل العدو. فلا يكون حسم الرجل للأمر إذن ، إلا بدفع التردد أولاً ثم العزم على القرار الذي يعرضه على منصة الحكمة ، ويلتزم نصيحتها ، فيكون التزامه ذلك هو الحسم ذاته ، الذي يزدان بالعقل ولا يكتسي بالتهور.
ويكون نصيب القرار من الصواب ، بقدر ما ينصت لقضاة الحكمة في عقله ، وبقدر علمهم وخبرتهم في معترك الحياة ، بما يمثل عيناً لصواب الرؤية الذي يتدفق فيضها على قدر صفائها وطهرها. فإذا كانت العين ناضبة ، فلا سقيا ولا ارتواء بقدر ذلك النضوب , وإن كانت عكرة أو آسنة ، فلا طهر ولا نقاء بقدر ذلك أيضاً ، وهي لا تنضح إلا بما فيها.
وقد عرضت الأمر على قضاة الحكمة عندي فاختلفوا ! ولم يتفقوا على حكم واحد ، أمام دفاع قوي راح ينقض حجج الإدعاء التي ساقها وظن أنها دامغة.
فعدت من جديد إلى التردد بعدما أصاب التردد تلك المحكمة أيضاً ، فلم يكن من مخرج إلا اتباع ما يرجحه القلب طالما لم يحسم العقل أمره ، ولم يردني عن ذلك إلا خلق النفس التي لا تعرف اتباع الهوى ، والثابتة على مبدأ الصحيح المطلق ولو اصطدم مع الدنيا كلها.
وأمام ذلك وذاك ، بما أعادني للأرجوحة مرة أخرى ، لم أجد ملجأ غير ناموس الفطرة ، الذي حسم الأمر كله في لحظة ، وقطع الشك باليقين ، فأن تكون مظلوماً خير من شبه أن تكون ظالماً ، فكان القرار وكان وضع واحد من الأحمال الثقيلة عن كاهل الفكر.
[/align]
قررت أن أحسم الأمر وأهبط من أرجوحة الفكر ، أتلمس أرضاً ثابتة ، تعيد للعقل اتزانه بعد أن عانى كثيراً من الدوار. ورحت أتحسس الخطى ، كحال طفل يتدرب على السير لأول مرة ، يخطو فيكبو ، يصر فيستند فيقف ، يعيد الكرة مستعيناً هذه المرة بذراعين يضرب بهما الهواء من حوله فيتزن ، يتعثر كثيراً إلى أن يتمكن أخيراً من الثبات على قدميه ، ويستقيم له الخطو ، فينطلق فرحاً مبتهجاً ، يتعجل العدو ، إلا أن الإصابات تعلمه أن يتمهل ، ويتوخى الحذر.
وليس من عَدُوِّ للرجل أكثر من التردد ، الذي يجعله رهينة لذهن يقلبه ذات اليمين وذات اليسار ، ويحجب ضبابه عنه مرمى البصيرة ، فيستوى مع الضرير المستعين بغيره ، يسأله صحيح الاتجاه ، ويضل لو لم يجد ذلك المُعين بعدما تعطلت عنده بعض الحواس. فماله لا يشحذ حواسه جميعاً ، ويضيف إليها حاسة اتخاذ القرار ، يصيب فيه حيناً ويخطئ أحياناً ، حتى يكتسب الخبرة التي تجعله يصيب أحياناً ولا يخطئ إلا حيناً.
وقد يكون هناك داع من دواعي الحكمة ، يحث على التروي والتريث ، غير أن ذلك لا يكون تردداً بقدر ما يكون صبراً جميلاً واتقاء لتداعيات قرار يعرف أنه الصحيح ، فليس من شجاعة الرجل أن يضرب الحائط برأسه ليهدمه ، أو أن يقوم وحده بإقامة البناء ، فذلك ليس حسماً وإنما اندفاع يتساوي فيه مع الطفل الذي تعجّل العدو. فلا يكون حسم الرجل للأمر إذن ، إلا بدفع التردد أولاً ثم العزم على القرار الذي يعرضه على منصة الحكمة ، ويلتزم نصيحتها ، فيكون التزامه ذلك هو الحسم ذاته ، الذي يزدان بالعقل ولا يكتسي بالتهور.
ويكون نصيب القرار من الصواب ، بقدر ما ينصت لقضاة الحكمة في عقله ، وبقدر علمهم وخبرتهم في معترك الحياة ، بما يمثل عيناً لصواب الرؤية الذي يتدفق فيضها على قدر صفائها وطهرها. فإذا كانت العين ناضبة ، فلا سقيا ولا ارتواء بقدر ذلك النضوب , وإن كانت عكرة أو آسنة ، فلا طهر ولا نقاء بقدر ذلك أيضاً ، وهي لا تنضح إلا بما فيها.
وقد عرضت الأمر على قضاة الحكمة عندي فاختلفوا ! ولم يتفقوا على حكم واحد ، أمام دفاع قوي راح ينقض حجج الإدعاء التي ساقها وظن أنها دامغة.
فعدت من جديد إلى التردد بعدما أصاب التردد تلك المحكمة أيضاً ، فلم يكن من مخرج إلا اتباع ما يرجحه القلب طالما لم يحسم العقل أمره ، ولم يردني عن ذلك إلا خلق النفس التي لا تعرف اتباع الهوى ، والثابتة على مبدأ الصحيح المطلق ولو اصطدم مع الدنيا كلها.
وأمام ذلك وذاك ، بما أعادني للأرجوحة مرة أخرى ، لم أجد ملجأ غير ناموس الفطرة ، الذي حسم الأمر كله في لحظة ، وقطع الشك باليقين ، فأن تكون مظلوماً خير من شبه أن تكون ظالماً ، فكان القرار وكان وضع واحد من الأحمال الثقيلة عن كاهل الفكر.
[/align]
تعليق