وهج القناديل (رواية)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #16
    عاد حسام يحمل الحقيبة التي سقطت أرضا حين باغته المشهد وسأل:

    وصلت لحد هذا الجزء
    ولكن بودي أن أناقشك بشأن كلمة رأيتها تتكرر كثيرا وهي (( النصارى ))
    أليس في ذلك تعصبا دينيا زميلي
    أعرف بأنك تكتب عت الفرنسيين المحتلين ولكن إطلاق صفة النصارى فقط جعلت الكلمة معممة على جميع النصارى وأنت تعرف بأن لنا إخوة من النصارى هم عرب وتجمعنا معهم إلفة ومحبة وترابط مصيري
    لاأدري هل يجوز أن نعمم صفة الدين على جميع المحتلين
    أنا شخصيا وطني محتل من قبل أميركا لكني وكل النصارى أو المسيحيين اللذين أعرفهم ضد الإحتلال جملة وتفصيلا ونقف موقفا واحد موحدا ضد الإحتلال
    أرجو أن تنظر وتتأمل طويلا في هذه الكلمة زميلي وأرجو أن أجد ردك حول الأمر سريعا
    تحياتي ومودتي
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • محمد غالمي
      عضو الملتقى
      • 22-10-2008
      • 64

      #17
      والحق أن لفظ "النصارى" لا يحمل في طيه تعصبا ولا كراهية ولا هم يحزنون.. كل ما في الأمر أن ذلك اللفظ غالبا ما كان يجري على ألسنة بعض العامة من الناس زمن الحماية الفرنسية في المغرب، وطبعي أن يستشعروا مرارة الضيم والمهانة من سطوة المستعمر البغيض. ولا أعتقد أن دهماء الناس، ممن لا حظ لهم من المعرفة آنئذ،وظفوا الإسم على سبيل العنصرية، إذ في عرفهم وعقيدتهم أن النصارى هم الفرنسيون القائمون بالأمر فيهم قسرا وقهرا..
      وهل مهمة السارد غير الحفاظ على أمانة ما يجري على ألسنة الناس، وبدو ن خلفية تذكر؟
      لك كل التقدير على ما أبديت من رأي..
      محمد غالمي
      محمد غالمي ـ روائي

      تعليق

      • عائده محمد نادر
        عضو الملتقى
        • 18-10-2008
        • 12843

        #18
        أنا صاحب الفضل عليك ومخرجك من الظلام إلى النور..!
        واكتفى الفقيه بأن ردد في صوت مهموس: أعود بالله من الشيطان الرجيم وحسبي الله ونعم الوكيل..


        وصلت هنا
        ولنعد إلى نقاشنا السابق
        لم أقصد الكلمة نفسها أي (( نصراني )) ولكني رأيتها تلاصق بعض الوصف فخشيت على نصك أن يوصف بشكل لست تريده
        هو حرصي على عملك زميلي وغيرتي التي تدفعني أن أنبهك
        تحياتي ومودتي لك
        مازال سردك لحد اللحظة شيقا
        ولو لي ملاحظة حول من يتبنون الفكر الماركسي بأنهم أبعد قليلا وربما ممن عرفتهم عن ذكر الله
        هل أنا مخطئة أم أن النهج الماركسي عندكم يختلف عما أعرفه
        تحياتي ومودتي لك
        الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

        تعليق

        • محمد غالمي
          عضو الملتقى
          • 22-10-2008
          • 64

          #19
          الفاضلة عائدة.. ربما أثارك كتاب"نقد الاقتصاد السياسي" وصاحبه كارل ماركس، والغريب الذي كان يتصفح الكتاب، وترديد لفظة "رفيق"من حين لآخر، فاختلطت عليك الأمور وخلت أن بدرا وخلانه المجتمعين في الغرفة يعانون من داء الانفصام، إذ يخلطون بين العقيدة الماركسية وعقيدة التوحيد!!.. وهم من ذلك المسخ والنفاق براء يا عائدة..
          لذلك أرجو أن تتريثي في إصدار أحكام لا تعدو كونها رجما بالغيب، ما دامت الرؤية والرؤيا بعيدتي المنال، ولم يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض بعد..
          تحياتي لاهتمامك وسعة صدرك..
          محمد غالمي
          محمد غالمي ـ روائي

          تعليق

          • عائده محمد نادر
            عضو الملتقى
            • 18-10-2008
            • 12843

            #20
            (واستطرد والرفاق ينصتون مهتمين إلا عمر الذي انشغل بالحشيش المقصوص يزيل ما علق به

            قرأت كل الأجزاء
            ولك أن تنشر الباقي ولكن بشكل مقاطع كي أتابع
            الجزء الأخير كان متوهجا خاصة حين بدأت بوصف المعاناة
            أكره المحتلين كثيرا وأحس بمعاناة كل من أحتل وطنه
            يسعدني أني قرأت لك وسأتابع باقي الأجزاء حين تنشرها
            تحياتي ومودتي لك
            الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

            تعليق

            • آسيا رحاحليه
              أديب وكاتب
              • 08-09-2009
              • 7182

              #21
              أنا متابعة أخي غالمي .
              يظن الناس بي خيرا و إنّي
              لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

              تعليق

              • محمد غالمي
                عضو الملتقى
                • 22-10-2008
                • 64

                #22
                المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة
                أنا متابعة أخي غالمي .
                تشكراتي العميقة على المتابعة أختنا آسيا..
                تحياتي
                محمد غالمي ـ روائي

                تعليق

                • محمد غالمي
                  عضو الملتقى
                  • 22-10-2008
                  • 64

                  #23
                  من الشوائب برأس سكين).. تالله لمن المؤسف أن نستطيب الطعام ونحن معرضون كل الإعراض عن التفكير بالجياع الذين يعجزون عن سد الرمق بمثل عشر الأعشار مما نستطيع! أين القوم المنكل بهم من نخوتنا وغيرتنا على الجوع يا إخوة؟
                  انتفض حميدو الحلاق من مكانه وقال معرضا بعمر المنهمك في أخذ نفس من السبسي المملوء كيفا:
                  ـ مصائب قوم عند قوم فوائد يا أخي يا بدر!
                  فقه عمر على التو ما يرمي إليه الآخر فنطق:
                  ـ يا ما أزعجنا نقيق هذه الضفدعة يا رب! (واستطرد وقد نفخ في فوهة السبسي بعدما قذف بالرماد جانبا) خلنا أن عام الجوع ولى منذ خمس سنوات!
                  قال بدر محتجا:
                  ـ ولماذا حكم على المنبوذين والمهمشين في حي سيدي بوكيل والزرايب وبوذراع بأن يؤدوا ضريبة الجوع من سواعدهم وعلى حساب أعراضهم؟ كل ذلك والحاكم متماد في بطشه وسرحان في وعيده وتوعده، وكأن ما ألحقه بالقوم من مذلة لم يشف له الغليل.. يا ويلهم يفعلون ذلك وكأنهم يبتهجون بإحياء ذكرى "عام الحلبة"!
                  ***وعام الحلبة واحد من السنوات العجاف، وفي عز الحرب الثانية التي ظلت تسحق العالم بلا هوادة.. أجل تسرب لهيب الحرب الظلوم، وشحت السماء، وأمسى حي سيدي بوكيل وما جاوره فريسة لطاعون المرض والجوع.. نفذ ما تبقى من مخزون القمح والشعير من بيوت المعوزين، حتى متوسطو الحال من ساكنة الدرب داهم مطابخهم مارد الجوع، ولم يبق فيها مدا واحدا من دقيق.. انفردت في الحي عائلة السيد عبد الحميد الراضي والد بدر.. حقا سمح له وضعه ـ كموظف بإدارة الأملاك المخزنية ـ أن يقتني بعض الفدادين بثمن بخس، سومة فرضها
                  زمن المجاعة وشرارة الحرب، ولم يجد مالكوها من وسيلة لرأب صدع الجوع سوى عرضها للبيع بأفدح الأثمان، بعد أن أطلقوا سراح حميرهم وبغالهم الهلكى من جوع..
                  رفع عمر رأسه وبدت عيناه محمرتين، وهو لا يكف عن الضحك من فرط ما علف من مخدر"الكيف" فقال:
                  ـ أبعد الله عنا رياح الحلبة يا بدر.. (والتفت ناحية حميدو وركز فيه نظرات حادة، فقه الآخر أنها تلوح لماض أغبر أسود، وتضمر استفزازا وشماتة أفدح وأمض، فلهج).. كان الله في عونك يا حلاق، أنت أولى برفع أكف الضراعة لإبعاد شبح الحلبة..
                  قال الفقيه الغالي:
                  ـ كيف كانت أحوال ساكنة الدرب في عام الحلبة؟
                  رد عمر كالمتأسف:
                  ـ لم ننس يا غالي طاحونة الموت التي ابتلعت نصفهم.. بالغوا في أكل الحلبة حتى نبضت دماؤهم..
                  وأضاف بدر:
                  ـ ومن تداعيات الحرب والجدب استشرى مرض حمى لعين حصد أرواح الصبية والشيوخ..
                  آثر عمر صرف الحديث عن مساره الجاد كعادته حين يروم سبيل الدعابة، فقال:
                  ـ ما عرف الفرنسيون والله للحلبة طعما! أذكر يوم كنت الساعد الأيمن لأبي شفاه الله، طيلة أعوام الحرب، وكنا نعرض الأسماك على الزبائن في حي الكانتنات.. هل تتصورون كيف كانت خياشيمي تنتعش بأريج ما تعبق به الأجواء؟.. غير بعيد عن مخبزة المعمر كورسيل، وبار ريجينا، وماريوس ومسيو جورج، تعبق روائح الخبز والحلويات الزكية.. ناهيك عن أريج العطر والسجائر والخمور! والحق أقول بألا رائحة للحلبة تذكر.. ولا مرأى لمريض يتأوه من حمى حارة قاتلة..
                  ورام إثارة من في المجلس فتمادى في غيه واستهتاره، وإن كان لا يقصد إلا لبسط بعض الأنس والفرجة احتفاء بعودة قنديل الجماعة المظفر، وشرع يملأ السبسي ويضحك كما أوحى إليه عالم الكيف، فواصل).. والله لم تعرف الحلبة لبطوننا مسلكا.. كنا طيلة تلك السنة السوداء نعيش كالنصارى في بيتنا! لم تكن مائدتنا تخلو من خبز لامع كالذهب.. ناهيك عن الجبن والكوكا كولا ومصبرات الزيتون والمربى!
                  قاطعه عصام وخاطبه بلهجة الساخر المتكلم:
                  ـ ولكننا ما اعتدنا أن نشم فيك سوى رائحة الحوت التي آذت منا النفوس والأنوف!
                  نزلت هذه اللهجة بردا وسلاما على حميدو، وشفت منه الغليل؛ كيف لا، وهو الفتى الذي عانت أسرته ما عانت طيلة سنوات الحرب والحلبة؟ فقد أودت الحمى اللعينة بجده وأصغر إخوته.. وما يزال الاصفرار يلازم سحنته.. ألم يستفزه عمر ملوحا بضحكه الماكر؟ لذلك قال معرضا كأنما يخاطب عصام، بعد أن وجد ذريعة ليشفي غليله:
                  ـ رائحة الحوت النتن و(البكاك) اللعين؛ ذلك الطعم ذي السر المكين!!
                  تحرر الغالي من وجومه وتساءل:
                  ـ ما سر هذا البكاك يا أخانا؟
                  أجاب حميدو ضاحكا مشفقا:
                  ـ خير لك ألا تعرف طبيعة (البكاك) يا شيخنا! فلو عرفت السر ما بقي في بطنك مرق ولا لحم وعنب!
                  آثر الفقيه الصمت ليجنب سمعه ما لا يطيقه من سافل القول ورديء الكلام.. ولكن عمر طاب له أن يحول اتجاه سهم الاستخفاف والإثارة إلى الفقيه، فخاطبه:
                  ـ لم تسأل عن أحوال الدرب زمن الحلبة وتتستر عن أحوالك؟ (وصمت كمن ينتظر جوابا على سؤاله، لكن بدون جدوى، فأخذ نفسا من الكيف واستطرد).. ولكنك كنت في مأمن من الحلبة بلا ريب! ألم تقل لنا يوم عدت من زاوية سيدي الزوين إن الطلبة كان لهم هناك نصيبهم من الفطائر والثريد؟ (وصمت برهة ثم واصل) ولكن الفضل لشيخ القبيلة الذي انتشلكم من براثين الحلبة!
                  أجاب الفقيه إجابة ضج لها الرفاق ضحكا:
                  ـ زن كلامك يا لئيم.. فكلامنا لفظ مفيد كاستقم..
                  التعديل الأخير تم بواسطة محمد غالمي; الساعة 15-02-2010, 20:50.
                  محمد غالمي ـ روائي

                  تعليق

                  • عائده محمد نادر
                    عضو الملتقى
                    • 18-10-2008
                    • 12843

                    #24
                    الزميل القدير
                    محمد غالمي
                    مساء الخير
                    متابعة معك
                    مامعنى كلمة
                    1- السبسي
                    2- البكاك
                    3-كاستقم.. وهذه جاءت في آخر النص ودوختني كثيرا
                    تحياتي ومودتي لك
                    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                    تعليق

                    • محمد غالمي
                      عضو الملتقى
                      • 22-10-2008
                      • 64

                      #25
                      المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                      الزميل القدير
                      محمد غالمي
                      مساء الخير
                      متابعة معك
                      مامعنى كلمة
                      1- السبسي
                      2- البكاك
                      3-كاستقم.. وهذه جاءت في آخر النص ودوختني كثيرا
                      تحياتي ومودتي لك
                      الزميلة المحترمة عائدة.. لا دوخة ولا بأس عليك يا أخت هههه
                      السبسي: عبارة عن غليون تقليدي، يستعمل لتدخين مخدر (الكيف) بكسر الكاف، وهو ما يعرف بالقنب الهندي..
                      البكاك: هو خليط من فضلات بشرية كان بعض صيادي السمك يخلطونها بالرمل لاستعمالها طعما لصيد الحوت..
                      كاستقم: وردت في بيت من ألفية بني مالك، حيث يقول الناظم:
                      كلامنا لفظ مفيذ كاستقم ** واسم وفعل ثم حرف الكلم
                      وقد استعملها الفقيه على سبيل التعريض، لحض صديقة على الاتزان والانضباط وعدم إطلاق الكلام على عواهنه..
                      مع أجمل التحايا يا عائدة..
                      محمد غالمي ـ روائي

                      تعليق

                      • محمد غالمي
                        عضو الملتقى
                        • 22-10-2008
                        • 64

                        #26
                        تحرك بدر من مكانه وبش في وجه الفقيه، فخاطبه متحمسا:
                        ـ لقد هيجت أشجاني يا غالي! فما أكثر ما كنت أستعذب هذا المطلع من الألفية، لما كان الشيخ سيدي أحمد الفاسي يخوض في شرح ابن عقيل! ثم أهاب بعمي الغالي أن يردد وإياه هذا المقطع سويا، فجعلا ينشدان والأكف توقع في هدوء ونغمة تساير إيقاع المنظومة:
                        كلامنا لفظ مفيد كاستقم ** واسم وفعل ثم حرف الكلم
                        واحده: كلمة والقول عم ** وكلمة بها كلام قد يــــــؤم
                        اندمج عمر كغيره بسائر جوارحه، وأسعفه المخدر فراح يميد برأسه مغمضا عينيه كمن دخل في نوبة تخشع، حتى إذا كف الرفيقان عن الإنشاد اندفع مبديا إعجابه:
                        ـ تالله ما كنت أحسب أن شيوخ القرويين وسيدي الزوين يعلمونكم ويحفظونكم مثل هذه الأمداح النبوية!
                        لحسن حظه لم يسمعه إلا عصام وإلا غدا أضحوكة حميدو والغالي، فاقترب منه وهمس في أذنه: احذر أن يسمعوك.. هذا نحو وليس مدحا..
                        كان ذلك سيكون مسك ختام جلستهم، ولكن بدرا يحمل من الهموم ما لا تستطيع طرائف عمر، ولا نوادر حميدو أن تخفف من عبئها أو تحد من غلوائها.. هموم من وحي الجلسة جديرة بأن تشغل باله وتحظى بأولوية بارزة في جدول الأعمال المرتقب.. راحت الصور البغيضة محملة برموز الشر وأمراء الاستكبار تتلاحق أمام ناظريه كوميض برق يؤذي الأبصار.. أول ما عنَ في أفق الخيال الباطرون باطيش.. وتوجه إلى الجلوس مخاطبا، واضعا إياهم أمام واقع مر، وحقيقة دامية عاش أطوارها في الحافلة. حز في نفسه ـ كما حز في نفوس خلانه إذ عرفوا الحقيقة الدامية والنبأ المشين ـ أن يتجرأ الباطرون وينشر غسيل كراهيته على امرأة، ذنبها أن رضيعها لم يكف عن الصياح داخل الحافلة.. ورجع عمر إلى عين الصواب ينهل منها، فأشار منفعلا:
                        ـ كل عماله وخدمه في معمل الشموع، وماكينة الدوم في زمكيل يكتوون بنيران تسلطه واستغلاله.. شغل متواصل من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وبأجر لا يفي بحاجة البطن.. ناهيكم عن الإذلال والعسف وسلاطة اللسان..
                        أشار بدر إلى حسام بأن يفتتح القائمة بإدراج اسم الباطرون، وتحت لقب مشفر.. واستجاب حسام متحفزا، وانكب يدون، فتوالت على لسان بدر أسماء الرؤوس والأهداف المنتقاة؛ سرحان الشرطي والشيخ عزام.. والترجمان الفتاك والقائد صالح، أو "المعلم طالح" كما اقتضت لغة التشفير.. وأرجؤوا أمر النادل علاف وحادة القوادة إلى جدول أعمال لاحق. وقبل فض الجلسة أصر بدر على وضع برنامج استعجالي، والحرص على تفعيله من الغد.. فطرح بعض الحلول التي من شأنها أن تخفف من وهج الضائقة عن أسر من حكم عليهم سرحان بالأعمال الشاقة في ضيعات رموز الشر وسيئي الذكر، وزرع بصيص من بسمة في وجوه أطفالهم..
                        واستهل حسام قائمة البرنامج الاستعجالي بإدراج أسرة خالي سلمان السفناج، طريح الفراش من تداعيات ما ذاق من سلخ على يد سرحان وعزام... وانصرفوا تباعا حتى لفظهم آخر درج إلى الفناء. في هذه الأثناء قال عمر مستفزا الغالي:
                        ـ ألا تذكر؟ ها هنا وجدتك لابدا كمن حاصره عدو فلزم مكانه مستسلما..
                        واكتفى الغالي بأن ردد كما فعل لحظة الحادث: كثَر الله خيرك وزاد من أمثالك.. لا أجد إلا أن أدعو لك بالعفو والتوبة النصوح..
                        ـ أتوب مماذا يا عمي؟
                        ـ من مخدر الكيف.. من هذه البلية التي تحيلك أحيانا إلى ضبع من حيث لا تدري..
                        وانبرى يعظ ويتلو من كتاب الله.. ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة..صدق ربي العظيم..
                        دبت الحياة صباحا في درب سيدي بوكيل.. سرت الحركة في الأزقة وبدر ما يزال ممددا على فراشه داخل غرفته ومرسم أمانيه . لم يأبه لطرق على الباب إلا حين صاحبه صوت فاتر؛ صوت أخته جاءت لتوقظه وتدعوه إلى الفطور. حرك رأسه ونفض ما بقي عالقا في جفنيه من أثر النعاس، وخاطب أخته من وراء الباب الموصد.."سامية!.. سمعتك.. استيقظت". ونكصت الفتاة على عقبيها، وجعلت تنزل من الدرج في هدوء حتى لا يصدر عنها ما يزعج أخاها. هذا دأبها فيما تلقنته من أصول الأخلاق والأدب في بيت محصن بالخلال السامية؛ أصالة محتد وعراقة منبت، وآية ذلك كله إيمان وجود وورع وتقوى. انتصب أمام النافذة اليمنى للغرفة التي باتت مشرعة على مصراعيها.. ينظر إلى الحومة التي أفاقت، وتيار الراجلين من أبناء السبيل يسعون ناشدين حوائجهم الرتيبة في مثل هذا الوقت من الصباح.. ذاك عمي الحسين الدباغ ذو القامة القصيرة، ينشر جلود الغنم على سور الروضة.. وأولئك بعض النسوة يحملن فطائر العجين إلى فرن الحي.. حول بصره جهة اليسار،
                        محمد غالمي ـ روائي

                        تعليق

                        • محمد غالمي
                          عضو الملتقى
                          • 22-10-2008
                          • 64

                          #27
                          فرآها تفتح الباب المحاذي لبيت دويه وتقف شابكة الذراعين إلى صدرها، تنظر بعينين ساهمتين إلى ما وراء السور المشرف على الروضة المنسية.. لم تلبث أن ترجلت في غنجها المألوف نحو السور ثم استدارت وأسندت ظهرها إلى الحائط، عجل بدر بصد مصراعي النافذة ولم يبق إلا على فرجة صغيرة، سمحت له برؤية دينا تسرق النظر من حين لآخر جهة النافذة فوق.. أكيد أن أفكارا شتى تجول أمام خاطرها كما تشي نظراتها الساهمة.. أحبت بدرا حبا جما،حبا استقر في فؤادها نطفة منذ حادث الطفولة الذي شهدت عليه أسوار ضريح سيدي بوكيل، وكان فيه الطفل بدر عريس زمانه.. واستوى الحب كائنا قائم الذات، فرض سطوته عليها منذ تربع بدر على عرش فؤادها.. ولكن مغامرتها الحمقاء هزت أركان العرين ودنسته بأنفاس الخيانة.. وهل كان بدر سيعلم بحادث الانقلاب لولا يقظة حسام.. حقا كشفت رسالة حسام ما جدت في إخفائه وسعت في طمس معالمه.. استعاد اللحظة التي تسلم فيها البريد؛ لكم كانت شاقة عسيرة، ومحزنة محرقة! بعثرت أفكاره وكدرت صفو مزاجه، نغصت عليه ما هو فيه من عز الاستعداد لاجتياز الامتحانات النهائية.. انكشفت اللعبة التي جرت أطوارها في غيبته، وما خطر بباله أن يمسه الضر من أقرب أصدقائه.. ولكن هل يلوم عصام الذي خاطر بالرفقة والجوار والطعام، وباع الصداقة بأبخس الأثمان؟ أكيد، عطل عصام سائر حواسه، وفعل فعلة حمقاء مست أعز أصدقائه في مذبح النخوة وصميم الكبرياء.. وهل يلقي باللائمة على بنت رحمة اليهودية؟ وما بالها تخاطر بحولين من عمر الوصال لإطفاء نزوة عابرة، ظنت أنها ستدخل عالم النسيان؟ بهذه السهولة طوت صفحات الأنس وليالي الوصال! شيعها من فرجة النافذة بنظرة حقيرة، وفسح مصراعيها بما وسع فمه أن ينفث بصاقا في الهواء.. وفعل وهو يرمقها مندمجة في سهوها، وعيناها مصوبان إلى الفرجة فوق.. أحكم إغلاق النافذة ليحجب أشعة الشمس الحارقة، ثم انصرف إلى الحمام أسفل، ومن ثم برح إلى غرفة الطعام...
                          كانت السيدة أمه قد أعدت فطورا استثنائيا، وزينت به وجه المائدة احتفاء بوحيدها الذي قرت عينا بأوبته المظفرة.. وجلس إلى الطبق المحبوب؛ ثريد ساخن مسقي بالسمن والبيض والحليب.. حريرة بالبيض ولحم الحمام.. فطائر مدهونة بالسمن وعسل النحل.. وكل هذا الفيض من النعيم أحرمه أمدا طويلا... كان في قمة التلذذ بعبيره المحمل بنسائم العطف والإيمان، والطهر والحنان.. وأي عبير هذا الذي أشاع في نفسه الاطمئنان والسعادة، مثل عبير هذه الأم التي جلست بجانبه؟ حطت راحتها اليمنى على ركبته، وجعلت تستقصيه عن أحواله وأحوال بني عمومته هناك في (حومة القلقليين بفاس) .. وحين رامت الاطمئنان على عدم انزلاقه وراء الموبقات السياسية المزعجة، اكتفى بأن همس خجلا من حرارة عاطفتها: لقد عملت بوصيتك ما استطعت إلى ذلك سبيلا يا أماه.. والحمد لله أن وقاني رضاك من لسع الهوام الباغية.. في هذه اللحظة دخلت سامية وأبلغت أخاها بمجيء حسام وانتظاره هناك جنب السور.. أشارت الأم إلى ابنها بأن يدعو صديقه ليشاركه الفطور، وهمت بالنهوض لولا أن أمسك بدر بساعدها.. لا يا أمي.. أريدك في أمر غاية في الأهمية..!
                          حقا لم يبرح باله البرنامج الاستعجالي المزمع تفعيله.. تعهد أمام الرفاق في مجلس الأمس بأن يتكفل بجانب المساعدة الغذائية ويرصد منها القدر الوافي.. بينما تعهد حسام وعصام برصد قدر من المال، ولكل واحد منهما وسائله الخاصة في تدبير المال! وأما بدر فلا يملك من مورد للإيفاء بوعده غير مخزون (الطارمة) من فائض القمح والشعير. ومن بيده مفتاح الخزين سوى هذه الأم التي تفيض يدها بالسماحة والندى؟ يعرف بدر أن أباه حريص على ما تجود به فدادينه وماشيته.. يغدق على أسرته بما يضمن رفاهيتها، وفي المناسبات الدينية يعود المعوزين من ذوي قرابته فيجود عليهم في حدود ما يضمن لهم عفافا وسترا وكفاية. وآفته الكامنة في أغوار نفسه أن لا يلتفت إلى المحتاجين من جيرته أو غيرهم. حز في نفس بدر أن رآه يوما ينهر عجوزا جاءت تبغي حقها في فطرة العيد! تألم وكظم حزنه إلا على أمه. وما إن غادر الأب البيت حتى بادرت حليمة ـ كعادتها على الدوام ـ فزودت ابنها ببعض القمح والسكر، وحثته على اللحاق بالمرأة وتسليمها حقها من فطرة العيد. ظلت السيدة محرومة من مزاولة حقها في التصرف في مالية البيت، وثروته الزراعية من يوم حطت قدميها في بيت الزوجية إلى هذه اللحظة.. ولا حق لها في أن تخرج حبة قمح أو مثقال ذرة من سمن خارج إرادة السيد، أو من خلف ظهره. والحق إن السيدة حليمة ما كانت لتمن على جيرانها المسلمين واليهود، وكل من طرق بابها، لو لم تبعث إلى إمام المسجد تستفتيه في رغبتها في إخراج الصدقات والزكواة خلسة من مال زوجها؛ الرجل المجبول على منع حق الله عن الجيران والزوار الغرباء.. وأفتاها الفقيه الإمام في أمرها بما استجاب لعاطفتها الدينية، فهبت تمطر خلسة، لكن في حدود ما تقتضيه الظروف الدينية والاجتماعية الملحة.. واغتنم بدر فرصة غياب الأب المرتقب عودته مساء هذا اليوم، وبدا له الظرف مواتيا لاستخلاص حق من الحقوق الملحة، وهل من مصدر متاح سوى بيت الخزين؟ أجل بيت الخزين وما جمع عليه من احتياط الزرع والزيت، والعسل والسمن .. لم يساوره أدنى ريب في أن أمه لن تخذله أو تمانع في الاستجابة لمطلبه؛ فحليمة أحرص الناس على البذل،
                          محمد غالمي ـ روائي

                          تعليق

                          • إيمان الدرع
                            نائب ملتقى القصة
                            • 09-02-2010
                            • 3576

                            #28
                            أستاذ محمد ، أنا معك على الخط ، وتسعدني هذه المحاورةالجميلة ، مع واسطة عقد الملتقى الأخت الغالية على قلبي {عائدة}، وأفرحني معرفتي لبعض المفردات الجديدة ، استفدت من خبرتك الروائيّة على الصعيد الشخصي ،لك تحيّاتي...

                            تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

                            تعليق

                            • آسيا رحاحليه
                              أديب وكاتب
                              • 08-09-2009
                              • 7182

                              #29
                              المشاركة الأصلية بواسطة محمد غالمي مشاهدة المشاركة
                              والحق أن لفظ "النصارى" لا يحمل في طيه تعصبا ولا كراهية ولا هم يحزنون.. كل ما في الأمر أن ذلك اللفظ غالبا ما كان يجري على ألسنة بعض العامة من الناس زمن الحماية الفرنسية في المغرب، وطبعي أن يستشعروا مرارة الضيم والمهانة من سطوة المستعمر البغيض. ولا أعتقد أن دهماء الناس، ممن لا حظ لهم من المعرفة آنئذ،وظفوا الإسم على سبيل العنصرية، إذ في عرفهم وعقيدتهم أن النصارى هم الفرنسيون القائمون بالأمر فيهم قسرا وقهرا..
                              وهل مهمة السارد غير الحفاظ على أمانة ما يجري على ألسنة الناس، وبدو ن خلفية تذكر؟
                              لك كل التقدير على ما أبديت من رأي..
                              محمد غالمي
                              نعم أختي عائدة..و في الجزائر أيضا..كان الناس يطلقون لفظ النصارى على الفرنسيين المستعمرين و لم تكن في أذهانهم خلفية دينية أو تعصّبية..و أذكر أن مثلا كان يقولوه الناس أيام الإستعمار و هو " خدمتك على النصارى و لا قعدانك خسارة "..بمعنى أنه عليك أن تشتغل و لو عند الفرنسيين خير من أن تبقى بلا شغل..
                              و أشاطر أخي محمد غالمي الرأي عن ضرورة الصدق والأمانة في رصد الأحداث إذا كان السرد متعلّقا بحقبة تاريخية معيّنة..
                              تحيّتي.
                              يظن الناس بي خيرا و إنّي
                              لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                              تعليق

                              • محمد غالمي
                                عضو الملتقى
                                • 22-10-2008
                                • 64

                                #30
                                المشاركة الأصلية بواسطة إيمان الدرع مشاهدة المشاركة
                                أستاذ محمد ، أنا معك على الخط ، وتسعدني هذه المحاورةالجميلة ، مع واسطة عقد الملتقى الأخت الغالية على قلبي {عائدة}، وأفرحني معرفتي لبعض المفردات الجديدة ، استفدت من خبرتك الروائيّة على الصعيد الشخصي ،لك تحيّاتي...
                                الفاضلة إيمان.. وذلك حسن الظن فيك أن ينال رضاك ما جادت به القريحة وسطره اليراع..
                                أجدد لشخصك المحترم تشكراتي القلبية على هذا الاهتمام الجدير بكل تقدير..
                                كل التحايا لك..
                                محمد غالمي
                                محمد غالمي ـ روائي

                                تعليق

                                يعمل...
                                X