اغتيالُ فراشة .
لم تكد 'فاطمة ' تبتعد خطوتين حتى شقّ الصوت الملائكي سمعها ... " ماما..ماما.."
تسمّرت في مكانها ..أحسّت بالدماء تتجمّد في عروقها ..خفقات قلبها تتسارع و يداها ترتعشان..إستدارت بصعوبة شديدة و إحساسٌ تائه بين الخوف و الدهشة قد تمكّن منها.. نظرت إلى الخلف بحثا عن مصدر الصوت فرأتها كالفراشة..تجري نحوها بفستانها الحريري الوردي الجميل و حذائها الأبيض.. و جديلة شعرها الأشقر تتمايل يمينا و شمالا على إيقاع خطواتها الصغيرة المهرولة..إبتسامة عريضة تنير قسمات وجهها و شفتاها تتحرّكان دون توقف " ماما..ماما.." ..مدّت ذراعيها كأنما سوف تحتضنها ..ثم انتبهت.. تراجعت قليلا إلى الوراء و هي تتعوّذ بالله من الشيطان..ندّت عنها تنهيدة حملت لظى النار التي تضطرم في صدرها..مسحت على وجهها بطرف خمارها الأسود القديم..لا. لم تكن تبكي..و لم يكن أحد ليستطيع أن يقرأ في ملامحها تعبيرا ما..وجهها كليمونة قديمة جافة و عيناها تختزلان رصيد الإنسانية كلها من الألم و الغضب و الحزن...
" الجرح الغائر يأخذ وقتا أطول كي يلتئم".. نظرت إلى السماء الموشّحة بغيوم بيضاء .." ربّاه ...و كم وقت يأخذه الجرح الذي فتّتّ القلب وشرّد الروح ؟ "
عام مضى و خمسة أشهر و ثلاثة أيام بالتحديد ..و المشهد نفسه يلاحقها ليل نهار ..في الحلم-حين يتسنى لها أن تنام- و في اليقظة..كان المشهد الأخير في حياة " ياسمينة ".." ماما..ماما..سألعب خارجا قليلا.."...و بعدها تصمت و إلى الأبد.. اليوم تكون قد أكملت سنتها السادسة..و تكون هذا الصباح في طريقها إلى المدرسة تراودها أحلام بريئة.. لو لم تجتثها يد الشر ..لو لم يختطفها- ذلك المساء - من أمام المنزل وحش بشري..إقتلعها كنبتة يافعة تتهيأ لاستقبال الفجر..و اقتلع معها جذور الفرحة من قلب الأسرة الصغيرة..
سقط الخبر عليهم كالصاعقة..'ياسمينة' اختفت..! تفرّق الأهل في كل أنحاء الحي و الأحياء المجاورة..لعلّها عند الجيران ...عند عمّتها..لعلّها تشتري الحلوى من حانوت 'عمي بشير' في الجهة المقابلة من البيت ..الرجل الطيّب الذي يترك حانوته و يأخذ بيدها حتى تجتاز الشارع خوفا عليها من هواة حصد الأرواح على الطرق..
بسط الليل ظلامه و لا أثر لياسمينة .. استبدّ الجنون بفاطمة..و انطلق الأب إلى مخفر الشرطة..تمّ التبليغ و بدأ مسلسل الحيرة و العذاب..إلى أن جاء الخبر الذي مزّق كل خيط أمل تشبّثت به الأسرة..: جثة ياسمينة..مغتصبة..مشوّهة.. تطفو على سطح بئر مهجورة.. بضع كلومترات خارج المدينة ..
ألقت 'فاطمة' نظرة على المكان.. قبور من كل الأحجام منتشرة على مدّ البصر..تفصلها عن بعضها مساحات ضيّقة ملتوية تغطّيها طبقة من الحشائش الخضراء... المرأة التي هناك لا تزال جاثمة فوق قبر إبنها.. تنتحب, و قد أحاطت بها النسوة..غير بعيد رجال يهوون بالفؤوس على الأرض..يهيّئون المأوى الأخير لأحدهم ....تساءلتْ..ترى من يكون ؟ و كيف مات ؟
" آهٍ ..يا بلد .. كل شيء فيك يقتل ..للموت فيك عشرات الوجوه و الأسماء..أخطبوط بألف ذراع يتربّص بأبناءنا " ..
تلك المرأة لم تتوقف عن الهذيان منذ دخلت المقبرة هذا الصباح..إبنها البكر..عاد إليها بعد ستة أشهر في ..صندوق..الشاحنة العسكرية التي كانت تقلّه مع رفاقه تعرّضت لكمين..قتل الإرهابيون الجميع و استولوا على الذخيرة و السلاح..النسوة تحاولن التخفيف عنها.." إحتسبيه عند الله ..".."وحّدي الله يا امرأة..لا يجوز هذا النواح في المقبرة ".."كفّي عن البكاء.."..
صوت يرعد في قلب فاطمة "..لا..لا تستمعي لهن..لا تتوقّفي عن البكاء..أنت الآن لا تتألّمين لأنك تبكين..غدا تجفّ في عينيك منابع الدمع..تستنجدين- مثلي الآن- بدمعة فلا تنجدك..حينذاك يصبح قلبك مثل أرض ضربها القحط..فتيبّست تربتها و تشقّقت..حينذاك سوف تعرفين المعنى الحقيقي للألم.."
"الجرح الغائر يأخذ وقتا أطول كي يلتئم...و لكني لا أريده أن يلتئم مهما مرّ من الوقت..أريده أن يظل هكذا مفتوحا..نازفا..موجعا...هل يمكن أن أنسى ؟ لو نسيت سأكون متواطئة مع المجرم..لن تغفر لي صغيرتي ذلك ."
قرأت 'فاطمة' الفاتحة مرّة أخرى أمام قبر ياسمينة ..ثم شقّت طريقها بين القبور بخطى حذرة.. نحو باب الخروج..
لم تكد 'فاطمة ' تبتعد خطوتين حتى شقّ الصوت الملائكي سمعها ... " ماما..ماما.."
تسمّرت في مكانها ..أحسّت بالدماء تتجمّد في عروقها ..خفقات قلبها تتسارع و يداها ترتعشان..إستدارت بصعوبة شديدة و إحساسٌ تائه بين الخوف و الدهشة قد تمكّن منها.. نظرت إلى الخلف بحثا عن مصدر الصوت فرأتها كالفراشة..تجري نحوها بفستانها الحريري الوردي الجميل و حذائها الأبيض.. و جديلة شعرها الأشقر تتمايل يمينا و شمالا على إيقاع خطواتها الصغيرة المهرولة..إبتسامة عريضة تنير قسمات وجهها و شفتاها تتحرّكان دون توقف " ماما..ماما.." ..مدّت ذراعيها كأنما سوف تحتضنها ..ثم انتبهت.. تراجعت قليلا إلى الوراء و هي تتعوّذ بالله من الشيطان..ندّت عنها تنهيدة حملت لظى النار التي تضطرم في صدرها..مسحت على وجهها بطرف خمارها الأسود القديم..لا. لم تكن تبكي..و لم يكن أحد ليستطيع أن يقرأ في ملامحها تعبيرا ما..وجهها كليمونة قديمة جافة و عيناها تختزلان رصيد الإنسانية كلها من الألم و الغضب و الحزن...
" الجرح الغائر يأخذ وقتا أطول كي يلتئم".. نظرت إلى السماء الموشّحة بغيوم بيضاء .." ربّاه ...و كم وقت يأخذه الجرح الذي فتّتّ القلب وشرّد الروح ؟ "
عام مضى و خمسة أشهر و ثلاثة أيام بالتحديد ..و المشهد نفسه يلاحقها ليل نهار ..في الحلم-حين يتسنى لها أن تنام- و في اليقظة..كان المشهد الأخير في حياة " ياسمينة ".." ماما..ماما..سألعب خارجا قليلا.."...و بعدها تصمت و إلى الأبد.. اليوم تكون قد أكملت سنتها السادسة..و تكون هذا الصباح في طريقها إلى المدرسة تراودها أحلام بريئة.. لو لم تجتثها يد الشر ..لو لم يختطفها- ذلك المساء - من أمام المنزل وحش بشري..إقتلعها كنبتة يافعة تتهيأ لاستقبال الفجر..و اقتلع معها جذور الفرحة من قلب الأسرة الصغيرة..
سقط الخبر عليهم كالصاعقة..'ياسمينة' اختفت..! تفرّق الأهل في كل أنحاء الحي و الأحياء المجاورة..لعلّها عند الجيران ...عند عمّتها..لعلّها تشتري الحلوى من حانوت 'عمي بشير' في الجهة المقابلة من البيت ..الرجل الطيّب الذي يترك حانوته و يأخذ بيدها حتى تجتاز الشارع خوفا عليها من هواة حصد الأرواح على الطرق..
بسط الليل ظلامه و لا أثر لياسمينة .. استبدّ الجنون بفاطمة..و انطلق الأب إلى مخفر الشرطة..تمّ التبليغ و بدأ مسلسل الحيرة و العذاب..إلى أن جاء الخبر الذي مزّق كل خيط أمل تشبّثت به الأسرة..: جثة ياسمينة..مغتصبة..مشوّهة.. تطفو على سطح بئر مهجورة.. بضع كلومترات خارج المدينة ..
ألقت 'فاطمة' نظرة على المكان.. قبور من كل الأحجام منتشرة على مدّ البصر..تفصلها عن بعضها مساحات ضيّقة ملتوية تغطّيها طبقة من الحشائش الخضراء... المرأة التي هناك لا تزال جاثمة فوق قبر إبنها.. تنتحب, و قد أحاطت بها النسوة..غير بعيد رجال يهوون بالفؤوس على الأرض..يهيّئون المأوى الأخير لأحدهم ....تساءلتْ..ترى من يكون ؟ و كيف مات ؟
" آهٍ ..يا بلد .. كل شيء فيك يقتل ..للموت فيك عشرات الوجوه و الأسماء..أخطبوط بألف ذراع يتربّص بأبناءنا " ..
تلك المرأة لم تتوقف عن الهذيان منذ دخلت المقبرة هذا الصباح..إبنها البكر..عاد إليها بعد ستة أشهر في ..صندوق..الشاحنة العسكرية التي كانت تقلّه مع رفاقه تعرّضت لكمين..قتل الإرهابيون الجميع و استولوا على الذخيرة و السلاح..النسوة تحاولن التخفيف عنها.." إحتسبيه عند الله ..".."وحّدي الله يا امرأة..لا يجوز هذا النواح في المقبرة ".."كفّي عن البكاء.."..
صوت يرعد في قلب فاطمة "..لا..لا تستمعي لهن..لا تتوقّفي عن البكاء..أنت الآن لا تتألّمين لأنك تبكين..غدا تجفّ في عينيك منابع الدمع..تستنجدين- مثلي الآن- بدمعة فلا تنجدك..حينذاك يصبح قلبك مثل أرض ضربها القحط..فتيبّست تربتها و تشقّقت..حينذاك سوف تعرفين المعنى الحقيقي للألم.."
"الجرح الغائر يأخذ وقتا أطول كي يلتئم...و لكني لا أريده أن يلتئم مهما مرّ من الوقت..أريده أن يظل هكذا مفتوحا..نازفا..موجعا...هل يمكن أن أنسى ؟ لو نسيت سأكون متواطئة مع المجرم..لن تغفر لي صغيرتي ذلك ."
قرأت 'فاطمة' الفاتحة مرّة أخرى أمام قبر ياسمينة ..ثم شقّت طريقها بين القبور بخطى حذرة.. نحو باب الخروج..
تعليق