أنا لم أشكك في قدرة أي ناقد .. و من المعروف يا صديقي أن النقد ليس ملزماً في غالبية الأحوال لأنه رؤية الناقد و الناقد لا يشق صدر شاعر ليعرف ما يريد قوله و لكنه يبحث عن جماليات القصيدة و هذا لم يحدث
ما يحدث والمفروض حدوثه هو "تراكمات زمكنية" قد تبدأ من ساعة وتستمر لسنة حسب قوة ونوعية التأثير وهذا يحيلنا مباشرة لتراوح زمنية النتاج واختلافها بين الشعراء، فهنالك شعراء يسمونهم غزيري الإنتاج وهنالك قليليه كالمتنبي مثلا كان يكتب نصاً كل عام تقريباً في حضرة سيف الدولة.
ومن هنا يصبح النص ملكاً للناقد المتمرس القادر على استكشاف البنى التحتية التي أسس عليها الكلام من صور ورؤى واستحضارات، كذلك المحسنات التي رافقت جسم الكلام من لغة ومحسنات بديعية. وكمثال:
لو جئنا بنص للشاعر السياب وقصيدته "أنشودة المطر" عام 1954 كتبت بثلاث ساعات كما ذكر ذلك أحد أصدقائه المقربين ولكن الزمن الفاصل هو سنة كاملة بينها وبين آخر نص كتبه قبلها وهو "غريب في الخليج"
في عام 1953. في هذه السنة وفي ستة أشهرٍ تقريباً قضاها في بغداد خاصة وجد فيها ما وجد من تغيرات سياسية واقتصادية وتخريب ودمار وعبث. كل هذه التراكمات شكلت وعجنت في ذاكرته وتخمرت على مهل إلا أن حانت ولادتها فكانت من أجمل ما أنجبته اللغة والشعر العربي الحديث. وها هي ذاك تدرس ويستخرج لليوم من بطنها درراً شعرية وانزياحاتٍ زادت عن المئتين. فهل كل هذا حضر في ثلاث ساعات!! وهي مدة كتابة قصيدة من أربع صفحات تقريباً؟؟ طبعا من المستحيل. لذلك حتى السياب نفسه لم يكن يعلم ما في نصه من معالم جمالية وصور خيالية فاقت حدود السحر وتخطت بأميال أقطابه.
تعليق