مساء أمس، و حول طاولة المطبخ المُطِل على حديقة بيتنا الخلفية كانت المناقشة دائرة عن مرض النسيان بين اثنتين من صديقاتي..."سيلفيا" التي ما يزال بينها و بين سن الرابعة و الخمسين أسبوعين، كانت تخبرنا عما تعانيه من ضعف ذاكرتها مؤخرا،ً موجهة اللوم إلى المأكولات المليئة بالمواد الكيمائية التي (على حد تعبيرها) تفتك (ببطىء) بالخلايا الدماغية مما يجعلها لا تذكر ما فعلته ليلة أمس أو ماذا ستفعله غداً.... و بإنفعال و جدية، أقسمت مئة "يمين عظيم" بأنها لن تتناول بعد الآن سوى الخضار المزروعة بمساعدة المواد "العُضْوية" الطبيعية.... و بنفس الإنفعال و الجدية، مدت يدها إلى صحن الحلويات أمامها و إنتقت أكبر قطعة لتأكلها في لقمتين سريعتين... متذمرة من كثرة حلاوتها، صَبَّتْ لنفسها فنجان من الشاي المحلى بملعقتين (لا أقل) من السكر، و شربته دفعة واحدة.
"منى" التي تصغرها بخمسة أعوام...نظرت إليها و الغمزة الشقية تتراقص في عينيها...و أجابتها : لا تقلقي عزيزتي، بإستطاعتك الإعتماد علي، سأطرق باب بيتك بعد أسبوعين مع قالب الكاتو و أربعين شمعة و أذكرك ...
بعد فتور الضحكات المرحة تنهدت "سيلفيا" و بصوت يسكنه الحنين، و شوق العودة إلى زمن كانت تأفف فيه من أيام كانت تمر كدهر بين العيد و العيد لميلادها، بدأت تستعيد ذكريات كانت مجرد أحداث صغيرة و متفرقة هنا و هناك آنذاك.
عبر نافذة المطبخ تسلل إلى أسماعنا نغمات تغريد جماعي لجوقة من العصافير - قبل الإستقرار في أعشاشها الدافئة - مودعة الشمس المنحسرة أمام جحافل الليل، إستعداداً لإستقبال صباحاً جديداً يُعيد الشمس إلى عرشها.....
ما أن رقدت الطيور حتى عاد صوت سيلفيا المليء بالمشاعر المتضاربة ما بين الشوق و التمني يملأ آذاننا الفضولية . كانت تتكلم عنه... بضحكة طرية و دافئة أعلمتنا بأن ألقابه كانت كثيرة و متنوعة و لكن اللقب المفضل لدى نساء الحارة التي كانت تسكن بها ، كان أدونيس و رشدي أباظة...معـاً.
""""كان يأتي لزيارتنا معظم أيام الأسبوع...
على شرفة منزلنا حيث كانت والدتي تجلس كل صباح في أيام الصيف مع ركوة قهوة صغيرة (كفاية لثلاثة فناجين) و سيجارتين قبل البدء بالأعمال المنزلية و الطبيخ ، كنت أجلس معها و بيدي فنجان من الشاي أو من السحلب، لأن القهوة و السجائر هي "للكبار فقط". كانت (رحمها الله) تدخن سيكارة واحدة مع فنجان واحد من القهوة بمتعة واضحة و هي تراقب أهالي الحارة ماضون في أعمالهم . أحيانا،ً كانت تتبادل الكلام مع جارتنا المتربعة على كنبتها في شرفة البناية المقابلة و الحديث كان دائماً عن الطعام: ماذا ستطبخين اليوم؟؟ لحمة الكبة التي أشتريتها من "يونس" اللحام منذ يومين لم تكن طازجة و "سيسمع مني بكل تأكيد".. و متى سنبدأ بسلق القمح و تقطير ماء الزهر و إلى آخره من أولويات كانت تُشْغل رؤوس ربات البيوت الفخورات بمهارتهن في البيت و في السوق.
كل ذلك و أنا في حالة طرش متعمدة، أراقب الطريق منتظرة زيارته.
كنت به فخورة و معجبة . طويل القامة ، رياضي الساعدين ، أسمر الوجه كسنبلة القمح في أواخر أيلول ، وبركتين من العسل الحادق تركتهما نحلة أضلت طريقها إلى قرص العسل تحت جبهة ملكية ...... كم أحببـت عينيـه.
لم يكن يتمتع بأنف مستقيم و أعتقد أن ذلك كان مقصوداً من خالقه، فصفة الجمال لم تكن صفة يرغبها و بأنفه المعقوف قليلاً كنت أرى شموخ نسر على قمة جبل حاضن فراخه برقة الحب.
كانت زيارته تتواكب دائماً مع زيارات متعددة من معظم نساء حارتنا. واحدة منهن كانت تأتي دائماً و بيدها طبق من الحلويات أو المعجنات الشهية، فهي مشهورة بجودة الطهي و تنويعه في شارعنا...أذكر بسمتها و بهجتها عندما يتقبل منها (في حالات نادرة) قطعة من الفطائر، و لم أكن أفهم تأفف والدتي مما كانت تسميه: "قلة الحياء في نساء هذا الجيل"، و كانت تُظهر إمتعاضها بوضوح يقابله تجاهل متعمد من "نساء هذا الجيل". أما هو فقد كان دائماً جاداً و دائماً مستفسراً و متسائلاً عن إحتياجاتنا و دائماً كريماً تماماً كالنسر الشامخ مع فراخه.
كان دائماً عميقاً في أحاديثه معنا (نحن الأولاد) مع الحفاظ على روح الدعابة التي كان يتحلى بها. لم نكن نخشاه وإنما خشينا خيبته بنا.
والدتي... جالسة في شرفة منزلنا مع ركوة قهوة تكفي لثلاثة فناجين و سيجارتين... كانت دائماً بإنتظاره.. عندما ترى قامته تملأ رأس الحارة يضمحل في بصرها كل من فيها . كنت أرى الفخر و الإعتزاز يتربعان في عينيها..... و تسارع إلى "سكب" فنجان القهوة قبل جلوسه على الكرسي و الذي ما أن ينتهي من شربه حتى تسارع بإملائه ثانية و تقدمه إليه مع السيجارة "المنتظرة"... و يتقبلها منها شاكراً لأنه كان يعلم أن ذلك يفرحها... لقد جاء شقيقها لزيارتها... و نساء الحارة؟؟؟ إلى جهنم، كانت تقول، لا يستأهلن حتى قلامة ظفره..."""
و[SIZE="5"] توقفت سيلفيا عن الكلام . في عينيها، رأينا عمق ما كان يجيش في صدرها.
زمن بريء و رابط من الماضي يتفاعل مع الحاضر و يؤثر على مستقبل لا تزال أيامه في رحلة التكوين.
رحلت والدة "سيلفيا" إلى جوار خالقها و هي تُعَرف عن نفسها: إسمي .... .....، شقيقة ...... !
"منى" التي تصغرها بخمسة أعوام...نظرت إليها و الغمزة الشقية تتراقص في عينيها...و أجابتها : لا تقلقي عزيزتي، بإستطاعتك الإعتماد علي، سأطرق باب بيتك بعد أسبوعين مع قالب الكاتو و أربعين شمعة و أذكرك ...
بعد فتور الضحكات المرحة تنهدت "سيلفيا" و بصوت يسكنه الحنين، و شوق العودة إلى زمن كانت تأفف فيه من أيام كانت تمر كدهر بين العيد و العيد لميلادها، بدأت تستعيد ذكريات كانت مجرد أحداث صغيرة و متفرقة هنا و هناك آنذاك.
عبر نافذة المطبخ تسلل إلى أسماعنا نغمات تغريد جماعي لجوقة من العصافير - قبل الإستقرار في أعشاشها الدافئة - مودعة الشمس المنحسرة أمام جحافل الليل، إستعداداً لإستقبال صباحاً جديداً يُعيد الشمس إلى عرشها.....
ما أن رقدت الطيور حتى عاد صوت سيلفيا المليء بالمشاعر المتضاربة ما بين الشوق و التمني يملأ آذاننا الفضولية . كانت تتكلم عنه... بضحكة طرية و دافئة أعلمتنا بأن ألقابه كانت كثيرة و متنوعة و لكن اللقب المفضل لدى نساء الحارة التي كانت تسكن بها ، كان أدونيس و رشدي أباظة...معـاً.
""""كان يأتي لزيارتنا معظم أيام الأسبوع...
على شرفة منزلنا حيث كانت والدتي تجلس كل صباح في أيام الصيف مع ركوة قهوة صغيرة (كفاية لثلاثة فناجين) و سيجارتين قبل البدء بالأعمال المنزلية و الطبيخ ، كنت أجلس معها و بيدي فنجان من الشاي أو من السحلب، لأن القهوة و السجائر هي "للكبار فقط". كانت (رحمها الله) تدخن سيكارة واحدة مع فنجان واحد من القهوة بمتعة واضحة و هي تراقب أهالي الحارة ماضون في أعمالهم . أحيانا،ً كانت تتبادل الكلام مع جارتنا المتربعة على كنبتها في شرفة البناية المقابلة و الحديث كان دائماً عن الطعام: ماذا ستطبخين اليوم؟؟ لحمة الكبة التي أشتريتها من "يونس" اللحام منذ يومين لم تكن طازجة و "سيسمع مني بكل تأكيد".. و متى سنبدأ بسلق القمح و تقطير ماء الزهر و إلى آخره من أولويات كانت تُشْغل رؤوس ربات البيوت الفخورات بمهارتهن في البيت و في السوق.
كل ذلك و أنا في حالة طرش متعمدة، أراقب الطريق منتظرة زيارته.
كنت به فخورة و معجبة . طويل القامة ، رياضي الساعدين ، أسمر الوجه كسنبلة القمح في أواخر أيلول ، وبركتين من العسل الحادق تركتهما نحلة أضلت طريقها إلى قرص العسل تحت جبهة ملكية ...... كم أحببـت عينيـه.
لم يكن يتمتع بأنف مستقيم و أعتقد أن ذلك كان مقصوداً من خالقه، فصفة الجمال لم تكن صفة يرغبها و بأنفه المعقوف قليلاً كنت أرى شموخ نسر على قمة جبل حاضن فراخه برقة الحب.
كانت زيارته تتواكب دائماً مع زيارات متعددة من معظم نساء حارتنا. واحدة منهن كانت تأتي دائماً و بيدها طبق من الحلويات أو المعجنات الشهية، فهي مشهورة بجودة الطهي و تنويعه في شارعنا...أذكر بسمتها و بهجتها عندما يتقبل منها (في حالات نادرة) قطعة من الفطائر، و لم أكن أفهم تأفف والدتي مما كانت تسميه: "قلة الحياء في نساء هذا الجيل"، و كانت تُظهر إمتعاضها بوضوح يقابله تجاهل متعمد من "نساء هذا الجيل". أما هو فقد كان دائماً جاداً و دائماً مستفسراً و متسائلاً عن إحتياجاتنا و دائماً كريماً تماماً كالنسر الشامخ مع فراخه.
كان دائماً عميقاً في أحاديثه معنا (نحن الأولاد) مع الحفاظ على روح الدعابة التي كان يتحلى بها. لم نكن نخشاه وإنما خشينا خيبته بنا.
والدتي... جالسة في شرفة منزلنا مع ركوة قهوة تكفي لثلاثة فناجين و سيجارتين... كانت دائماً بإنتظاره.. عندما ترى قامته تملأ رأس الحارة يضمحل في بصرها كل من فيها . كنت أرى الفخر و الإعتزاز يتربعان في عينيها..... و تسارع إلى "سكب" فنجان القهوة قبل جلوسه على الكرسي و الذي ما أن ينتهي من شربه حتى تسارع بإملائه ثانية و تقدمه إليه مع السيجارة "المنتظرة"... و يتقبلها منها شاكراً لأنه كان يعلم أن ذلك يفرحها... لقد جاء شقيقها لزيارتها... و نساء الحارة؟؟؟ إلى جهنم، كانت تقول، لا يستأهلن حتى قلامة ظفره..."""
و[SIZE="5"] توقفت سيلفيا عن الكلام . في عينيها، رأينا عمق ما كان يجيش في صدرها.
زمن بريء و رابط من الماضي يتفاعل مع الحاضر و يؤثر على مستقبل لا تزال أيامه في رحلة التكوين.
رحلت والدة "سيلفيا" إلى جوار خالقها و هي تُعَرف عن نفسها: إسمي .... .....، شقيقة ...... !
لقد كانت فخورة بـه .... و ما تزال........................[/
SIZE]
تعليق