
أفاق " عنكب " من نومه في الصباح، واستسلم لحياته الجديدة وراقته صحبة " البغل " و " نرجس " ومال كلاهما إليه، وأصبح ثلاثتهم أسرة، ومضت بهم الأيام، وأخذ الوباء يرتحل شيئاً فشيئاً عن المدينة، وأخذت الأمور تعود إلي سيرتها الأولي، واستنام " عنكب " إلى أحلام الحشيش، وأصبح واحداً من الحرافيش الذين عرفوا سر الحشيش، لأنهم ذاقوا به لذة الكسل، وهربوا من نصب العمل، وزعموا أنه يفعل في معدة الممعود فعل القرض ([1]) في الجلود، فاستغنوا به عن ملك العَقَار([2])، وعن معاقرة العقار[3]. فآكلوه في الأسواق والمشاهد وهاموا في طلب الرقص والشواهد.
وعرف " عنكب " أن تجارة الحشيش تجارة محمية من أصحاب المراكز السنية، وأن " ضمان الحشيش " مال يدفعه " الضامن " إلى جناب السلطان حتى يباشر تجارته باطمئنان، ويجني منها الذهب لا يعد ولكن يوزن بالميزان، وأن " الوالي " و " صاحب الشرطة " وأعوانهما من "المشاعلية([4])" المسئولين عن تطبيق الحدود وحفظ أنفس وأعراض وأموال الرعية هم أنفسهم في خدمة " الضامن " ومكلفون بحماية تجارته الشيطانية بأوامر سلطانية ونفحات من الضامن دوماً سخية، أخذ " البغل " " عنكب " إلى " الجنينة " في " أرض الطبالة "([5]) حيث يزرع الحشيش ويباع، وزكاه عند " وكيل الضامن " ونزل اسمه عند مقدم المشاعلية حتى لا يتعرض له أحد بأذية، وبدأ " عنكب " يبيع الحشيش نظير أجر معلوم يقبضه من " وكيل الضامن " وأحيانا ينفحه الشارون البقشيش، فحسن حاله واطمأن باله، واستراح ضميره و " استنام "، فقد ولع بالحشيش الخاص والعام، وتظاهروا به من غير احتشام، ليس بمصر فقط ولكن بالعراق وأرض الروم والشام وبلاد الأعجام الذين يسمونه " شاهدانه " ومعناها بالعربية البذرة الملكية.
مد " عنكب " ساقيه على الأريكة الخشبية تحت التكعيبة، وقد انتهي لتوه من مضغ أوراق الحشيش واحتساء كوز من القرفة الممزوجة بالزنجبيل والتهام زبدية من المشبك الممسك المعطر، وكانت هذه عادته اليومية في هذا الوقت من النهار، وكانت أصوات ما يجرى في الميدان تصل إلى أذنيه دون أن يأبه لها فقد اعتاد على ضجة وصخب الميدان، وأخذ يحس الخدر يسرى في كل جسده، وبدأ يحلق في عوالم الأحلام السطلة، وفجأة سمع ضجيجاًً وأصوات أقدام تجرى من ناحية القلعة وقعقعة سلاح، وسنابك خيل، وصرخات وشتائم وسباب، ففتح عينيه منزعجاً ليرى عدداً كبيراً من العوام يجرون، وبعضهم يصيح " ويل للقاضي الكاذب "... " سحقاً للكذاب الأشر "... " لن تفلت من أيدينا بابرذعة السلطان يا عديم الإيمان "... " الحرامى خي المحتسب([6]) "... " نحن في شدة رطل الخبز بنصفي فضة "... وكان بعضهم يتوقف ليلتقط حجراً يقذف به فرسان المماليك الذين يتبعونهم على صهوات الخيول ممسكين بالسياط والجريد، تعثر رجل فانهال عليه أقرب مملوك إليه بسوطه فعوى الرجل كذئب جريح وجرى بسرعة الريح، ولم يصمد العوام أمام فرسان المماليك فهربوا إلى الحارات المتفرعة من الشارع واختفوا، وهرب بعضهم إلى الميدان واندسوا في الزحام، وعاد المماليك يتبخترون وكأنهم عائدون من حومة الوغي بعد أن أحرزوا النصر على الأعداء، ومر موكبهم أمام حانوت المعلم " صلاة على النبي " الذي كان يقف إلى جانب " عنكب " أمام التكعيبة، وانحنى الرجلان تحية لإينال المؤذي مقدم المماليك فهو من رواد الحانوت ويأخذ حشيشاً من " عنكب " ولكن دون أن يدفع، تمتم " صلاة على النبي " : " أسد على وفي الحروب نعامة "، ولكنه أمسك حين رأي المشاعلى " ظالم " الشهير بسم الموت مقبل ناحيتهما، حيا المعلم و " عنكب " المشاعلى باحترام مبالغ فيه : " أهلا بمقدمنا . . نهارنا مبارك . . زارنا النبي " رد " المشاعلى " تحيتهما باقتضاب وغطرسة، وطلب من المعلم بلهجة آمرة إحضار شربات وقطائف... ذهب المعلم لإحضار ما طلبه.. جلس المشاعلى على الأريكة، وطلب من " عنكب " أن يجلس ثم دس يده في عبه وأخرج كيساً من القماش وسلمه لعنكب قائلاً : " بع هذا الحشيش وسلمني ثمنه عشرين ديناراً أشرفياً([7]) لا تنقص ولا مانع أن تزيد، هذا حصيلة ما جمعته من الحرافيش أمس، نتركهم يشترون ثم نقبض عليهم ونجردهم مما معهم ثم نتركهم ينصرفون بعد أن نذيقهم طعم اللكمات والركلات، وهى خير لهم من التجريس "([8])، وضع عنكب الكيس في عبه وهو يقول في سره : " يالك من خسيس أنكم أوغاد تبيعون للناس الحلم بالذهب ثم تسرقون منهم الحلم "، وسأله عنكب بتأدب عن ما حدث منذ قليل، فأخبره المشاعلي أن العوام تجمعوا في انتظار القاضي أبي الخير بن النحاس وكيل بيت المال، وقد بلغهم عنه أنه قال للسلطان : " إن العوام يأكلون بذهبهم حشيشاً ويأكلون فوقه بأربعة أنصاف حلوى فالذي يأكلون به حلوى يأكلون به خبزا ً" ورجموه بالحجارة وهو نازل من القلعة، وخطفوا عمامته من على رأسه وأخذوا خواتمه من أصابعه، ورجموا أيضا العلائي على بن القيسي محتسب القاهرة بسبب ارتفاع سعر الخبز وقلة وجوده فقد وصل سعر كل رطل خبز نصفى فضة، وقد هرعنا لتفريق الغوغاء، وتأديب العوام وإلزامهم بالإحتشام فقال له " عنكب " : " خيرا فعلتم ". جاء المعلم " صلاة على النبي " بما طلب المشاعلى ووضعه أمامه وانصرف. وطلب المشاعلى من " عنكب " أن يعطيه بعضاً من أوراق الحشيش المحمصة التي يعدها لنفسه وهو يثني على طريقة إعدادها. أخرج " عنكب " الكيس الجلدي وأعطى المشاعلى حفنة من أوراق الحشيش، وأخذ لنفسه حفنة أخذ يمضغها على مهل، انتهي المشاعلى من مضغ الأوراق وشرب كوز الشربات والتهام القطائف، ونهض منصرفاً وهو يذكر عنكب بالعشرين أشرفياً. عاد " عنكب " إلى التمدد على الأريكة وهو يسائل نفسه : " أين النيازك والصواعق التي تنزل من السماء ؟ وما حكمة خلقها أن لم تسقط على مثل هذا الوغد ؟! "، وقفزت إلى ذهنه صورة الرجل الذي الهبه المملوك بالسوط فعوى كذئب جريح فردد هذين البيتين :
[align=center]
[/align]
[align=center]
[/align]
وإن من حارب من لا يقــوى
لحربه جر إليه البلــوى
فحارب الأكفاء والأقرانـــا
فالمرء لا يحارب السلطانا
[/align]
[/align]
وعدل وضع الكيس الذي أعطاه له المشاعلى في عبه وهو يردد هذه الآبيات :
[align=center]
[/align]
[align=center]
[/align]
وقائلة أري الأيام تعطـــى
[/align]
لئام الناس من رزق خبيـث
وتمنع من له شرف وفضـل
فقلت لها خذي أصل الحديث
رأت جل المكاسب من حرام
فجادت بالخبيث على الخبيث
[/align]
وكان " عنكب " يحب ترديد الشعر وهو يخوض في بحر الصطل العميق وحمل إليه الهواء صوت مغنية في الميدان :
[align=center]
[/align]
[align=center]
[/align]
لو في يدي سحر وعندي هـذه
لجعلت قلبك كل يوم يعشق
لتذوق ما قد ذقت من ألم الهوى
فترق لي مما تراه وتشفـق
[/align]
[/align]
فصاح بصوت مصطول " الله . . الله زيدينا ياست . . الله يحنن قلبه عليك "، وغاص في بحر الصطل العميق، وتجمعت حوله الأسماك وهللت : " أوحشتنا يا عنكب " وغمزت له سمكة شقية بعينها وقالت له : " إن عروس البحر تبحث عنك وتبكي منذ فارقتها "، وجرته الأسماك إلى صدفة عروس البحر التي تلقته بالعناق، وأغلقت الصدفة عليهما .
[/align]
[align=justify]
([1]) القرض : نبات يستخدم في العلاج.
([2]) بفتح العين والقاف بمعنى الأرض والضياع.
([3]) الخمر.
([4]) حملة المشاعل وكان يتولون تنفيذ الحدود والأحكام.
([5]) أرض على الجانب الغربي للخليج الناصري بجوار المقس كانت من أحسن متنزهات القاهرة.
([6]) كان المحتسب يتولى أمور الأسواق ويفتش على الموازين والمقاييس والمكاييل والأسعار وكانت له سلطة عليا تمتد إلى جمع الضرائب من طوائف الباعة والتجار، وكان يراقب الأخلاق العامة.
([7]) دينار ضرب في دولة الملك الأشرف برسباى وكان عالي العيار، وافي الوزن، حسن الضرب.
([8]) التشهير وأصله أن يركب المذنب دابة ووجهه إلى ذنبها وفي عنقه جرس.
[/align]
تعليق