من روائع الزميلة مروة الحساني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مهند التكريتي
    أديب وكاتب
    • 06-03-2010
    • 115

    من روائع الزميلة مروة الحساني


    عزف منفرد على أصابع الوقت


    الساعة تلوك الثواني ببطء ، وهي تزداد التصاقاً بالحائط لتعلن العاشرة مساءً. الجميع جالسون أمام شاشة التلفاز بانتظار المسلسل اليومي .. وقد أحال الصمت غرفة الجلوس إلى متحف للشمع . ماتت الأصوات وتلاشت مع ظهور المذيعة على الشاشة . تداخلت الوجوه وتلاحمت فيما بينها . لا شيء يتحرك فيهم سوى اللهفة في العيون المترقبة . وحدها تشعر بما يشبه دبيب النمل يسري في أطرافها.. ويخدرها . تنهض من بينهم وتنسل إلى حجرتها . تفتح ستارة شرفتها المطلة على نهر دجلة . تطفئ النور .. وتندس كالريشة في سريرها . يطل القمر خلف نافذتها وجهاً حزيناً- كنقطة بيضاء يتيمة في لوحة معتمة . تمد يدها – كعادتها كل ليلة – لتدير جهاز الراديو. يأتيها صوت (ميادة الحناوي) من بعيد :
    -أنا ألي بحلم كل ليلة بيك .. و وحشني وحشني منك كل حاجة فيك .

    تنسدل جفونها على اثر دمعة انسابت فوق وجنتيها . تتلاشى الصور من أمامها كومضة ضوء . تتوحد الألوان في لون غريب واحد . يغيب القمر ونوره الفضي.. ولا تبقى سوى العتمة .

    رنين الهاتف يفزعها . تعتدل في فراشها وقلبها يخفق بشدة . ترمق ساعتها المنضدية بعين نصف مفتوحة . ما زالت تشير إلى العاشرة . ترفع السماعة وهي تمسح النعاس من عينيها .
    - الو
    - ندى ؟
    - نعم .. من المتكلم ؟
    - مشتاق
    يتسارع نبض الخافق الصغير . يطير النعاس من عينيها . أتراها تحلم أم أن ما تسمعه حقيقي ؟
    - مشتاق ؟ !
    - اشتقت إليكِ .
    - …
    تردد في سرها : مشتاق ! مشتاق ! مشتاق !
    - ندى .. ! الو .. الو..
    - …
    تتركه يناديها من دون أن ترد .

    - مشتاق .
    - يا عيون مشتاق .
    - عدني بشيء .
    - أعدكِ .
    - ألا تعرف بأي شيء وعدت ؟
    - لكل شيء تريدين .
    - بل عدني أن لا تتخلى عني أبداً .
    - أعدكِ .

    تفيق من صدمتها .
    - مشتاق ! هل أنت حقاً مشتاق ؟
    - …
    - الو .. الو .. ! مشتاق !

    تعيد السماعة إلى مكانها . يداها ترتعشان . تمر الثواني ثقيلة مملة . تصلي في سرها .. تتوسل الهاتف الأخرس أن يرن من جديد .

    في البقعة الفضية – التي تغمر ارض الحجرة وفضائها – تجلس القرفصاء. تفتح أدراج المكتب . تقلب في أوراقها القديمة ، من دون أن تعي سبباً لذلك . أكداس الورق تبعثرت وغطت ارض الحجرة . تتمتم بأسى :
    - أي جرح بهي مزق كفنك في أعماقي ؟ أنا التي أقسمت على حرق رفاتك في معبد بوذي قديم ، تفوح من جدرانه رائحة البخور ودم القرابين .. !
    يجيبها صوت ( ميادة الحناوي ) القادم عبر مديات نائية :
    - أتمنى أنسى حبك .. ألقى النسيان أماني . يلي مكتوب لي احبك بعد عمري كمان . وأنت مكتوب لك يا بختك نعمة النسيان .. يا قلبك !

    تمر لحظات يأس موجعة . تنهض من الأرض . ترمق الهاتف الأبكم . تمعن النظر في القرص المستدير . تغمض عينيها وترفع السماعة . وكضرير تتلمس فجوات القرص بأناملها ، ثم تدير الرقم . تظل مغمضة العينين وهي تنصت إلى وجيب الخافق الصغير . على الطرف الأخر يرن الهاتف من دون أن يستجيب لندائه أحد . تفتح عينيها . توهم نفسها بأنها أدارت أحد الأرقام خطأً، وأنها فقدت مهارتها في طلب الرقم من غير النظر إليه . تدير القرص مرة أخرى – بعينين مفتوحتين . يرن الهاتف على الطرف الأخر من دون أن يستجيب له أحد . تحس بشيء يتآكل في صدرها . تفتح باب الشرفة . يتدفق الهواء إلى داخل الحجرة . تستنشقه بشهقة محمومة . تستند بذراعيها على إفريز الشرفة . ترمق الفنادق المتوهجة كقطع الياقوت ، والشوارع الغارقة في الأضواء والصخب . تخرج من قمقمها .. تسير خطوات قليلة ، ثم تنعطف لتدخل أحد الأزقة المظلمة . تسير بحذر وسط عتمة الزقاق – الذي تحفظ مكان كل حجر فيه . أمام منزل عتيق ومظلم – وكمن يقف أمام قبر عزيز – تقف . تحني رأسها متكدرة . تظل صامتة لثوانٍ ، ثم تمضي في عتمة الزقاق .. مستبيحة حرمة النوافذ المشرعة .. وهي تتلصص من ورائها بحثاً عن ماضٍ يتكور العمر فيه . تسمع همسات وهمهمات تنضح من جدران المنازل العتيقة . تخرج من الزقاق – الذي يشبه نفقاً مظلماً – إلى عالمٍ أخر براق .

    الشارع قطعة لحم بشري . المارة يسيرون ببطء وتثاقل . وهي تائهة وسط الكومة التي تتحرك بمشقة . خطواتها تنتحب بصمت وهي تذرعها في الشوارع الممتلئة الفارغة . تتمنى - للحظة - لو ينمو لها جناحان تحلق بهما فوق المدينة، لكنها تدرك أن زمن المعجزات انقضى .. وأنها لا تملك سوى قدميها . تسير وعيناها ترمقان الوجوه – كل الوجوه – لعلها تجده بين أحدها . تتوقف أمام محل للساعات . تلتفت إلى الوراء ، ثم تلقي نظرة على الساعات المعلقة على الجدران وهي تقضم الدقائق بنهم .. لتعلن الثانية عشرة .
    - منتصف الليل .. !
    آن لسندريلا أن تعود . يجب أن تسرع بالعودة قبل فوات الأوان . قبل أن يختفي كل شيء ويتلاشى كالحلم .. الزقاق . البيت .. وحتى القمر .

    تعود لتتخبط في الزحام .
    - أتراني أستطيع أن أميز وجهك يا مشتاق وسط هذه الحشود . وبعد كل تلك السنوات ؟
    درب العودة صار طويلاً .. والبحث أضحى مضنياً . تدخل الزقاق ذاته . ترفع رأسها إلى السماء . القمر غادر مكانه ، وترك صفحة السماء لتتشح بالسواد . الزقاق اصبح اشد ظلمة . بدأ الخوف يتسلل إلى قلبها . تشعر بأنياب ذئب رمادي تطاردها . تعدو .. وتعدو .. وقلبها يخفق من دون توقف . البيت يلوح لها من بعيد . أنواره تنير ما تبقى لها من النفق المظلم . تعدو مسرعة إليه . تود لو يضمها إلى صدره بذراعين من لحم ودم . ترفع رأسها إلى السماء بوجه مغمور بالامتنان . تلمح صورة ضبابية لوجه يبتسم لها . تمد يدها إليه .
    - مشتاق ..
    يقترب الوجه منها . يقترب اكثر. تكاد أطراف أناملها تلمسه . تجحظ عيناها وهي ترى وجه الذئب الرمادي .. بأنيابه التي يتقاطر منها لعاب لزج .. يلتصق بها . تشيح بوجهها وتصرخ .

    تفتح عينيها .. تتلفت حولها . ترى نور الشمس وقد تسلل إلى حجرتها على الرغم من سمك ستارتها . تسمع ساعتها المنضدية تعلن الثامنة صباحاً . تنظر إلى نفسها وهي تحتضن دميتها – دبها الصغير – حيث ما زال يغط في نوم عميق بين ذراعيها .










  • إيمان الدرع
    نائب ملتقى القصة
    • 09-02-2010
    • 3576

    #2
    الزميل مهند التكريتي :
    نصّ ٌ جميل للأخت مروة الحسّاني
    سُعدنا بمفرداته ، بشفافيّته، بتراكيبه الانسيابية..
    لغة رائعة ، معبّرة عن رومانسية تقبع خلف السطور
    أتمنى لأديبتنا المبدعة كلّ التوفيق في مسيرتها الإبداعيّة...
    على وعدٍ بأن تتحفنا دائماً بهذه الروائع
    دُمتما بسعادةٍ .... تحيّاتي .....

    تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

    تعليق

    • عائده محمد نادر
      عضو الملتقى
      • 18-10-2008
      • 12843

      #3
      الزميل القدير
      مهند التكريتي
      نشرت النص مرتين فاضطررت لحذف النص المكرر والدخول للنص دون إذن فمعذرة منك
      نص جميل فعلا وفيه شجن لفراق الأحبة
      تتعب أرواحنا تلك الوجوه الحبيبة التي نفارقها مرغمين
      تحياتي ومودتي لك
      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

      تعليق

      • محمد سلطان
        أديب وكاتب
        • 18-01-2009
        • 4442

        #4
        الفقد والاشتياق .. و نعمة النسيان .. وأصداء ميادة الحناوي تغلغل في الحجرة

        كنت معك ومعها بكامل المشاعر .. أوااااه منها تلك المشاعر المضنية و لوعة البحث و الانتظار ..

        قصة رهيفة رقراقة .. تحيتي لك و لصاحبتها ..

        ودمت مشرقا
        صفحتي على فيس بوك
        https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

        تعليق

        • مهند التكريتي
          أديب وكاتب
          • 06-03-2010
          • 115

          #5
          رد

          مازالت أصابعي تتلون بدهشة ازمنتها المتعرية وما زلت أتذوق جرح مسافتها الهاربة وأنا أغوص بين خبايا نصوصها و اغتراباتها وهي تنتظر حضور الغائب الحاضر في زمن تختلط فيه المشاعر وتتشظى فيه جماليات القيم ونبلها ... فتتجمع في سلال خواطرنا إرهاصات متهالكة كتهالك تلك القيم وتلك الأحلام المشطورة بوجع التخلي وثقل التمسك بتلابيب وفاء ضاعت معالمه بين عالم غير متزن إتصف بلا معقولية شخوصه المتمردة

          محمد ابراهيم سلطان
          ايمان الدرع
          أشكركم على روعة المرور ، وجمال التصفح ، والى مزيد من دوام التواصل

          تعليق

          • مهند التكريتي
            أديب وكاتب
            • 06-03-2010
            • 115

            #6
            كلما طالعتني هذه القصة بعوالمها السحرية ولغتها التي تكاد أن تكون قصيدة نسجت بأصابع الحوريات تبادر الى ذهني هذا المقطع:-

            أو هكذا تمضي السنون
            والقلب تسكنه الظنون
            ونحن من (( ... )) الى (( ... )) ، ومن باب لباب
            عشاق يا قمري نموت !
            وقطارنا أبدا يفوت
            ......................

            صديقتي الرائعة عائده محمد نادر .. أشكرك على روعة مرورك العطر وأتمنى أن تتواصلي مع هذه القاصة الرقيقة على ايميلها:- marwa7sami@yahoo.com
            مع وافر مودتي وتقديري الكريمين
            أخوك ِالشاعر
            مهند التكريتي

            تعليق

            يعمل...
            X