عزف منفرد على أصابع الوقت
الساعة تلوك الثواني ببطء ، وهي تزداد التصاقاً بالحائط لتعلن العاشرة مساءً. الجميع جالسون أمام شاشة التلفاز بانتظار المسلسل اليومي .. وقد أحال الصمت غرفة الجلوس إلى متحف للشمع . ماتت الأصوات وتلاشت مع ظهور المذيعة على الشاشة . تداخلت الوجوه وتلاحمت فيما بينها . لا شيء يتحرك فيهم سوى اللهفة في العيون المترقبة . وحدها تشعر بما يشبه دبيب النمل يسري في أطرافها.. ويخدرها . تنهض من بينهم وتنسل إلى حجرتها . تفتح ستارة شرفتها المطلة على نهر دجلة . تطفئ النور .. وتندس كالريشة في سريرها . يطل القمر خلف نافذتها وجهاً حزيناً- كنقطة بيضاء يتيمة في لوحة معتمة . تمد يدها – كعادتها كل ليلة – لتدير جهاز الراديو. يأتيها صوت (ميادة الحناوي) من بعيد :
-أنا ألي بحلم كل ليلة بيك .. و وحشني وحشني منك كل حاجة فيك .
تنسدل جفونها على اثر دمعة انسابت فوق وجنتيها . تتلاشى الصور من أمامها كومضة ضوء . تتوحد الألوان في لون غريب واحد . يغيب القمر ونوره الفضي.. ولا تبقى سوى العتمة .
رنين الهاتف يفزعها . تعتدل في فراشها وقلبها يخفق بشدة . ترمق ساعتها المنضدية بعين نصف مفتوحة . ما زالت تشير إلى العاشرة . ترفع السماعة وهي تمسح النعاس من عينيها .
- الو
- ندى ؟
- نعم .. من المتكلم ؟
- مشتاق
يتسارع نبض الخافق الصغير . يطير النعاس من عينيها . أتراها تحلم أم أن ما تسمعه حقيقي ؟
- مشتاق ؟ !
- اشتقت إليكِ .
- …
تردد في سرها : مشتاق ! مشتاق ! مشتاق !
- ندى .. ! الو .. الو..
- …
تتركه يناديها من دون أن ترد .
- مشتاق .
- يا عيون مشتاق .
- عدني بشيء .
- أعدكِ .
- ألا تعرف بأي شيء وعدت ؟
- لكل شيء تريدين .
- بل عدني أن لا تتخلى عني أبداً .
- أعدكِ .
تفيق من صدمتها .
- مشتاق ! هل أنت حقاً مشتاق ؟
- …
- الو .. الو .. ! مشتاق !
تعيد السماعة إلى مكانها . يداها ترتعشان . تمر الثواني ثقيلة مملة . تصلي في سرها .. تتوسل الهاتف الأخرس أن يرن من جديد .
في البقعة الفضية – التي تغمر ارض الحجرة وفضائها – تجلس القرفصاء. تفتح أدراج المكتب . تقلب في أوراقها القديمة ، من دون أن تعي سبباً لذلك . أكداس الورق تبعثرت وغطت ارض الحجرة . تتمتم بأسى :
- أي جرح بهي مزق كفنك في أعماقي ؟ أنا التي أقسمت على حرق رفاتك في معبد بوذي قديم ، تفوح من جدرانه رائحة البخور ودم القرابين .. !
يجيبها صوت ( ميادة الحناوي ) القادم عبر مديات نائية :
- أتمنى أنسى حبك .. ألقى النسيان أماني . يلي مكتوب لي احبك بعد عمري كمان . وأنت مكتوب لك يا بختك نعمة النسيان .. يا قلبك !
تمر لحظات يأس موجعة . تنهض من الأرض . ترمق الهاتف الأبكم . تمعن النظر في القرص المستدير . تغمض عينيها وترفع السماعة . وكضرير تتلمس فجوات القرص بأناملها ، ثم تدير الرقم . تظل مغمضة العينين وهي تنصت إلى وجيب الخافق الصغير . على الطرف الأخر يرن الهاتف من دون أن يستجيب لندائه أحد . تفتح عينيها . توهم نفسها بأنها أدارت أحد الأرقام خطأً، وأنها فقدت مهارتها في طلب الرقم من غير النظر إليه . تدير القرص مرة أخرى – بعينين مفتوحتين . يرن الهاتف على الطرف الأخر من دون أن يستجيب له أحد . تحس بشيء يتآكل في صدرها . تفتح باب الشرفة . يتدفق الهواء إلى داخل الحجرة . تستنشقه بشهقة محمومة . تستند بذراعيها على إفريز الشرفة . ترمق الفنادق المتوهجة كقطع الياقوت ، والشوارع الغارقة في الأضواء والصخب . تخرج من قمقمها .. تسير خطوات قليلة ، ثم تنعطف لتدخل أحد الأزقة المظلمة . تسير بحذر وسط عتمة الزقاق – الذي تحفظ مكان كل حجر فيه . أمام منزل عتيق ومظلم – وكمن يقف أمام قبر عزيز – تقف . تحني رأسها متكدرة . تظل صامتة لثوانٍ ، ثم تمضي في عتمة الزقاق .. مستبيحة حرمة النوافذ المشرعة .. وهي تتلصص من ورائها بحثاً عن ماضٍ يتكور العمر فيه . تسمع همسات وهمهمات تنضح من جدران المنازل العتيقة . تخرج من الزقاق – الذي يشبه نفقاً مظلماً – إلى عالمٍ أخر براق .
الشارع قطعة لحم بشري . المارة يسيرون ببطء وتثاقل . وهي تائهة وسط الكومة التي تتحرك بمشقة . خطواتها تنتحب بصمت وهي تذرعها في الشوارع الممتلئة الفارغة . تتمنى - للحظة - لو ينمو لها جناحان تحلق بهما فوق المدينة، لكنها تدرك أن زمن المعجزات انقضى .. وأنها لا تملك سوى قدميها . تسير وعيناها ترمقان الوجوه – كل الوجوه – لعلها تجده بين أحدها . تتوقف أمام محل للساعات . تلتفت إلى الوراء ، ثم تلقي نظرة على الساعات المعلقة على الجدران وهي تقضم الدقائق بنهم .. لتعلن الثانية عشرة .
- منتصف الليل .. !
آن لسندريلا أن تعود . يجب أن تسرع بالعودة قبل فوات الأوان . قبل أن يختفي كل شيء ويتلاشى كالحلم .. الزقاق . البيت .. وحتى القمر .
تعود لتتخبط في الزحام .
- أتراني أستطيع أن أميز وجهك يا مشتاق وسط هذه الحشود . وبعد كل تلك السنوات ؟
درب العودة صار طويلاً .. والبحث أضحى مضنياً . تدخل الزقاق ذاته . ترفع رأسها إلى السماء . القمر غادر مكانه ، وترك صفحة السماء لتتشح بالسواد . الزقاق اصبح اشد ظلمة . بدأ الخوف يتسلل إلى قلبها . تشعر بأنياب ذئب رمادي تطاردها . تعدو .. وتعدو .. وقلبها يخفق من دون توقف . البيت يلوح لها من بعيد . أنواره تنير ما تبقى لها من النفق المظلم . تعدو مسرعة إليه . تود لو يضمها إلى صدره بذراعين من لحم ودم . ترفع رأسها إلى السماء بوجه مغمور بالامتنان . تلمح صورة ضبابية لوجه يبتسم لها . تمد يدها إليه .
- مشتاق ..
يقترب الوجه منها . يقترب اكثر. تكاد أطراف أناملها تلمسه . تجحظ عيناها وهي ترى وجه الذئب الرمادي .. بأنيابه التي يتقاطر منها لعاب لزج .. يلتصق بها . تشيح بوجهها وتصرخ .
تفتح عينيها .. تتلفت حولها . ترى نور الشمس وقد تسلل إلى حجرتها على الرغم من سمك ستارتها . تسمع ساعتها المنضدية تعلن الثامنة صباحاً . تنظر إلى نفسها وهي تحتضن دميتها – دبها الصغير – حيث ما زال يغط في نوم عميق بين ذراعيها .
تعليق