أمنيـات كالقـزح
مـروة سـامي الحسـاني
الشمس .. قنديل النهار وقوته .. يبزغ مفترعاً زيت اليوم حتى يأتي في اخرهِ على اخرهِ.. وهم نيامُ عند حافات النسيان ، لم يبق منهم سوى أطلال شتتها الريح.. وأقدام لم ينهكها الوفاء لأرواح خُزن خلودها في ذاكرة متعبة.
انه الفجر .. تشقق عن وجوه شتى و وجهه المزدحم بالذكريات المصلوبة تحت الشمس لفراق الأحبة والصحب .. ووجهها الذي أجبرته القبيلة على وأده عنوة قبل أن يبصر نوره. كم تمنى أن تكلل هذا الأفق بشرف حضورها. كان يقف بوجل عاشق مل جسده فأخذت دودة صغيرة تنخر عظامه وتقتات على بقايا صبره أمام القبور التي استفاقت صباحا على نواح الأمهات والأرامل .. ودموع طفل أدرك بعد عبور ليلٍ قاسٍ وطويل أن والده وصل عالم اللاعودة .. وسكن أزقة المجهول فلم يعد لديه عنواناً ليكتب له او ليبعث له صوّره .. لم يعد يعرف شيئاً عنه سوى شاهدة بيضاء وكومة تراب تهيلُ عليه غربة وانيناً .
بين تلاحق أنفاسها التي أخذت تغيب لرؤيته من بعيد وهو يقف شامخا كسيف أسطوري يتوهج .. وتثاقل خطاها التي عفرت تراب المقبرة بالمسك وهي تلامس الثرى بقدميها العاريتين عالم من وهم. وكناقوس كنيسة عتيقة قُرع في أذنيه انتبه لدخولها بترفع وهدوء باحة المقبرة .. بدت وكأنها تطير فوق الأرض . انتشر في الأجواء عطرُ حبيب طغى على كل ذرات الهواء فلم يعد يستنشق غير عبيرها. أدار رأسه صوبها مختلسا نظرة سريعة، ثم استدار يلفه حضورها الزاخر بالعطايا . فجأة غابت كل لحظات الأسى .. اخضرت الأرض الجدباء وفاحت رائحة التفاح .. وانتشى الكون بأزهار المشمش وبريق سنابل القمح ، حتى الشمس تنحت جانبا تاركة للغيوم فرصة عناق صاخب ممزوج بهطول زخات مطر غسلت له كل أوجاعه . هاهي تقف أمامه .. على مرأى اشتهاء .. مغسولة بالحزن، شاحبة الوجه . لم يعد يدري لماذا لاذت قدماه بالأرض ..! ألانهما لم تعودا تقويان على حمله من شدة فرحه بوجودها في نفس المكان ؟ أم لأنه لم يعد يرغب بأرض غير التي وطئتها بقدميها ؟ حلق عاليا بين دهشة الشمس وحضور المطر واصطباغ المدى بألوان القزح الذي غدا كجسر يربط الروحين بمزيج ألوانه . بعد أن عبرت بمسافة احتضار .. نهض مسندا يده إلى شاهدة القبر .. مبعثرا أيامه ولياليه وعجزه تحت التراب وفي جوفه صراخ محموم – سحقاً لكل الأعراف والتقاليد البالية التي تبخسنا أجمل لحظات الحياة واقصرها وتتركنا من دون تكرار.
اختلست منه نظرة تمنت بعدها أن تُغّيب السماء كل شي حولها وتحيله إلى رماد تذروه الرياح .. وان تستحيل الأرض قاعا صفصفا فلا يبقى سواه ليأخذها أليه طفلة أرهقها اليتم وذوبت سنوات القحط ربيعها . ودت لو أنها تنزع كل أقنعة الصمت ألان وتكشف عن وجهها لتبوح له بعطشها .. وجوعها .. والصقيع الذي كسا دمها وصلّب أوردتها. وقفت أمام شاهدة قبر علقت عليها ثلاث عقود من الفل.. انحنت وقبلتها بشفاه مرتعشة .. سالت دموعها سخية فوق وجنتيها الشاحبتين. أحست بثقل السنوات يتمركز فوق كتفيها ويكسر كل أشرعة العمر لئلا تبحر نحو موانئ جديدة مغسولة بالشمس ومزدانة بالملح . ودت لو أنها استوقفته حين مر بجانبها كنسمة حب ألقت عليها وشاحا بنفسجيا مطرزا بألف نشيد ونشيد . ودت لو أنها أخبرته قبل انتصاف الشوق انه كل أمنياتها .. وان صوته يوازي حقولا من دوار شمس .. وسنابل مغزولة الرؤى .. وأطياف فجر قرمزي يذرع روحها برزخا بعد آخر .. يغسلها بالندى ويلون باقي النهار بالمطر. ودت لو ….
كانت قد لملمت أوجاعها وهمت بالرحيل حين عبر من أمامها. وبين التفاتة كل منهما للآخر ارتعاشة هزت الجسدين .. طافت بهما حول الريح حيث سقط وشاحها لتداعب نسمات الهواء شعرها المنسدل فوق كتفيها. همّ أن يعدو كل عمره وصولا إليها.. لكن أعين الصباح حاصرته وهما يسيران بشكل متوازٍ نحو بوابة الخروج.
marwa7sami@yahoo.com
تعليق