1) سيمون عيلوطي الشاعر الملهم
من أين نبدأ مع سيمون عيلوطي ، وكل أشعاره العامية رشيقة معتقة كبنت الحان . لذلك لا غرابة أن تستحوذ علينا لذة تتداخل فيها عناصر الحس والذهن حين نقرأ :
" انْتي المَرا اللي بْشوفها / بكل الصّور / بْهبّ الهوا يقطر الندى / يْموج البحر / انْتي الصبح وشروقو / حبّات المطر / لمْنعْنفه هيك بْهداوي / عالشجر / انتي اللي جوا القلب / وَرْدات القمر / قنديل مَحبّي ضاوْيي / ليل السّهر " .
انه يمنح المرأة قيمة معنوية ، خصبا وبعدا ، عبر قالب جميل من الألفاظ المعبرة عن الفكرة ، إذ ليست الفكرة هي المقياس ، إنما التعبير عنها ؛ والتعبير الأفضل والأكثر ثراء هو ما يتقن عملية كيمياء الشعر المتمثلة باللفظة والموسيقى والعاطفة والحدث والخيال . وهذا جلّي عند سيمون ، كما في هذين المقطعين من قصيدته الموسومة تطاير الدّروب :
" بوّابة الأحلام فِ وجّو سَكّرَت / وتطايرت من دون دَعْساتو الدّروب / عم يركّضوا عَ الشمس / يمكن أشرقت ؟ !! / يا شقشقت في وَعد أنّات القلوب " .
المقطع الثاني :
" فِ فُنونو هآلأشعار ياما يْصدحو / وْينسو أسى وَيلات / ما إلها حدود / عاطريق الألم ياما تْجرّحو / حَفْر قَنا دمْعاتْهن فوق الخدود / رَغْم السّحق .. / قِِِِِِِِدْرو معانا يفرحو / بْوجه العواصف صارو وَردات الورود / حِصَارو تَزْيف العواصم / يْفضحو / تْحِلّ العداله عَ الأرض / كِذْب وْوعود / وتطايرت من دون دعساتو الدّروب " .
نلحظ ان العاطفة تمتزج بالعنصر الأخلاقي والفكري ، تتمخض عن موقف وطني وإنساني تجاه قضية أو أزمة ، وتحديدا أزمة القائد عرفات عندما حوصر . والعاطفة عند سيمون تختلف باختلاف الظرف والحدث ، فتارة تتولّد بفعل الواقع المؤلم كما في حصار عرفات ، وطورا هي نزوع فطري أكثر من ميل ورغبة ، كما سنرى في هذه الطفرة من قصيدة خمرة معتقة :
" يا رايحه بمنديل أويا مبشنقة / لا تبعدي روحي معاكي معلقه / بتتذكري لما التقينا عَ الندى / بكرم الهوى قديش طال الملتقى / مشينا سوا وما كان شايفنا حدا / غير الشجر والطير بَلش زقزقه / لما لقانا نموج مثلو عا هدى " .
يستمرئ الشاعر عبق الزمان والمكان ، يستعير من الطبيعة حركتها وصوتها . وهو مولع بالمفردات المميزة يضعها بدقة في أماكنها الصحيحة ، لم أجد في العربية مفردة أكثر جمالا وأفضل ملاءمة في موقعها من كلمة " نموج " المقطع الأخير من خمرة معتقة . لا أعرف إن كانت هذه المفردة وغيرها من المفردات المتألقة تأتيه طيعة مشرقة كعشيقة ابن زيدون ، أو يجد الطلب خلفها كالأمير " هان " في الأسطورة الصينية . بيد أن الموسيقى لها وقع أكثر جاذبية بانسجامها ونعومتها المغذية بمخيلة شاعرنا الملهم :
" شايف جَفْرا / رَغم البعد ، الغيم ، الصحرا / تِمْسك ناي وغِنْوَه وْزهره / تِحْمِلْ جَرّه / تِسْقي ناري الظهر الحمرا / شايف جَفْرا / عْيون السّودا / خْدود البيضا / وْقَمْطَا الخَضْرا / ترجَعْ مِنْ هالغّربه / الحَسْره / تصبْ القَهْوه الحلوه .. المُرَّه / تغَنّي جَفْرا " .
" جفرا " في الأساس هي أغنية فلسطينية كانت تصدح فرحا وبهجة يوم أن كانت فلسطين في عزها . والآن جفرا بزيها المتطور الجديد هي في وجدان الشاعر أمنية تنداح الى الشتات ، ومن ثمة ترتد مفعمة بأمل العودة وانتهاء الإغتراب .
إن ما يميّز اشعار سيمون عيلوطي بالمجمل ، أنها متحررة من حالات التكلف والمبالغة ، خاضعة لمعايير وشروط الشعر العامي ، والتي منها السلاسة وجمال الصورة ، عدم الإبتذال وعدم فصحنة اللغة . وهذا يحفزنا لقراءة هذه النماذج بغبطة ، رافعين تحية كبيرة الى هذا الشاعر المبدع والأصيل .
----------------------------------------------------------------
2) تركي عامر بين الآلة والإبداع
لا أحد من الأدباء إلا ويطمح أن يكون مقروؤه ملفتا ، وفي هذه المسألة استطاع الشاعر المبدع تركي عامر أن يحصد نجاحا جيدا ، فقد قدّم من فنه وعصارة فكره المئات من النماذج الشعرية ، وعلى مدار سنوات طوال . حقيقة قلّما حظيتُ بندوة أدبية شارك فيها تركي إلا وكان محط إهتمام الجمهور ، بحداثة أشعاره ، وطريقة إلقائه المميزة تحث على الإصغاء والإعجاب . وهذه إحدى المقومات اللازمة للقصيدة المسموعة والمقروءة ، أن تشد الإنتباه وتحرك الشعور ، وإلا ما معنى أن نصاب بالضجر ؛ فتسقط القصيدة تلقائيا بدون نقد وبدون تفاصيل .
ليست كل أشعار تركي تنسحب عليها صفة الإبداع ، وهذا حال الشعراء على مر الزمن ليسوا دائما بمنأى عن الأرض اليباب . ومع ذلك لا أزعم أنني التقيت بقصيدة لتركي قد سقطت ، إنما هو شيطان الشعر يترنح هنا أو هناك ، كما في قصيدة " فسد الصيام " كمثال ، يقصد صيام العرب عن التوحد والنضال . وقد امتلأت أوراقنا بمثل هذا الطرح ؛ إذا لا جديد ! .
بينما ـــ كمثال أيضا ـــ وثب شيطان الشعر وثبة رائعة في قصيدة " رأيت الروح " ألفاظ حرة طليقة نتفاعل معها ذهنا وحسا ،القاها في مناسبة ثقافية في الجليل .
أمّا النقطة التي تشغلني في هذا السياق ، إحساس يراودني في بعض أشعار تركي ، وكأنني أسمع رجلا آليا يتحدث إليّ ، وليس كيانا تحركه العاطفة والروح ، وقد أطل عليّ هذا " الرجل " آخر مرّة من كوّة " أبالسة السماء " ، وهي قصيدة طويلة لتركي ، أطول من معلقة زهير ، أربعة وسبعون بيتا من البحر الوافر ، وهي مكرسة للغة العربية ، وما في اللغة من ثراء وجوهر. وإن كان من صفات المعلقة طول الأبيات وتعدد الأغراض ، فقصيدة تركي تتمتع بالطول والوحدة العضوية ، لذلك يجوز أن نسمّيها نصف معلقة ، ويمكن أن نخرج عن القانون ــ راغبين ــ ونعتبرها معلقة .
هذه المعلقة من ناحية لغوية وعروض سليمة بامتياز ، وهذا هو الجزء الإبداعي فيها ، باعتبار أن من شروط الإبداع إجادة اللغة ، أمّا باقي الأجزاء باستثناء بعض الأبيات فهي شبه جافة خالية من الإحساس ؛ حتى لتخال وكأن آلة معدنية ترن في دماغك وتأمرك بالقبول ! . ولا تجد سبيلا للرفض لأننا بحاجة لمن يهتم باللغة ، في مناخ تفشي الأخطاء أدبا وإعلاما . بيد أنني تمنيت لو أجد في هذه القصيدة طفرة تغني عن جيوش الكلام ، كما فعل حافظ إبراهيم في رائعته عن اللغة .
" أنا البحر في أحشائه الدّر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاته "
فاروق شوشة كان يستخدم هذا البيت في مستهل برنامجه الإذاعي " لغتنا الجميلة " .
هذا البيت لوحده يختزل ربما كل ما قيل في اللغة ، وهو لجماله وعمقه وتأثيره في النفس ، يحفز على الحفظ ، ويتلذذ به سماعا حتى من لا يعرف اللغة . لي صديق في العقبه " عمر بدير " يملك قاربا بسيطا للصيد ، وقد كتب هذا البيت على قاربه بيد خطّاط ، علما أن ذلك الصديق ثقافته محدودة ولا يعرف ما يعنيه البيت .
هذا هو السر الذي يكمن في الشعر ؛ لذلك نرى شعرا يعيش ويفرّخ ، وشعرا يعتمد في بقائه على الحظ !
ومع ذلك ليست ملاحظاتي انتقاصا لقصيدة تركي عامر ، إنما هي الموضوعية في النقد تستدعي توضيح ما للشاعر وما عليه . وانني أقدر الجهد الذي بذله في هذه القصيدة التي تحقق ولا شك فائدة في إطار تعاملنا مع اللغة .
تعليق