الأستاذ القدير بلقاسم علواش
تحية طيبة وبعد
أتفق تماما مع ما ذهبت إليه من رأي في موقف بارت من المؤلف، وأقف رافعا القبعة عند ما سقته من أمثلة أصابت كبد الحقيقة. ولي بعض الأضافات القليلة. نعم: النص بنية مغلقة وتشكل نظاما دلاليا يتكفل هو وليس المؤلف بوضوح ونقل الدلالة (ولهذا فالمعنى ليس لدى المؤلف وإنما هو وليد النظام نفسه: النحو هو المسؤول عن المعنى وليس المتكلم/المؤلف وقصده أو مقاصده، بل المؤلف شأنه شأن القارئ مستخدم آخر لهذا النظام الدلالي ولا يستطيع أن يحر حرفا دونه). ورست هذه الحقيقة على الأقل منذ سوسير ومثاله حول نظام المواصلات وقطار جنيف/باريس عند الساعة 9,25.. فلا فرق في نظام المواصلات إذا كان قطار الـ 9,25 قاطرة واحد اليوم وتغيرت غدا لتصبح 1000 قاطرة أو حتى تغير القطار هيكلا ومادة وأصبح من الذهب الخالص، أو حتى غادر متأخرا أو متقدما طالما بقي مختلفا عن غيره ضمن هذا النظام، فهو ضمن نظام المواصلات يظل قطار الساعة 9,25 ويعرفه المسافرون على أنه الذي ينقلك من جنيف إلى باريس.
والحال أن بارت والقائلين بموت المؤلف هم أنفسهم جاءوا ضمن منظومة فكرية تكاد تكون كونية. ففي عشرينيات القرن العشرين كان الجدل على أشده في أمريكا وبريطانيا حول من يملك المعنى وكيف يستطيع المؤلف أن يمتلك "قصده/مقاصده"، وكتب بيردزلي ومنرو المغالطتين الشهيرتين: المغالطة القصدية والمغالطة التأثيرية، نفيا فيهما امتلاك الكاتب/المؤلف وحده حق القصد (القصدية) أو امتلاك القارئ لها بسبب ما يثيره النص من استجابه فيه، وأحالا القصد إلى اللغة التي يمتلكها الجميع حتى قبل أن يولد المؤلف/الشاعر (وهذا ما جاءت البنيوية لتقننه وتقعده). بارت بطبيعة الحال قال أيضا إن موت المؤلف أنجب القارئ، كما قال أن المؤلف ليس أكثر من كاتب (سكرتير).
((فهل ننسب المؤَلَّف (الليالي) إلى شخص ما زورا ليدافع عن قصديته طالما هو بلا مؤلِّف، وكيف يتأتى لنا هذا والنص قديم وبيننا وبينه قرون؟ هل نزوّر لهفي كتب أخرى؟ وكيف يمكننا ذلك والإبداع فعل إنساني يتوافر لدى جميع الأمم والشعوب؟ وأي كتاب هذا الذي لم يطلع عليه غيرنا لنّدُسَ فيه نحن قصدية المؤلف المزعوم -غير الموجود أصلاً-؟!، أم نحرّق المؤلَّف (الليالي) لأنه بلا مؤلِّف (كاتب)، أم نقرأ بقراءتنا في مقابل قراءة غيرنا، ونرد عليهم من قراءتنا إن أردنا الرد.))
كتب ميشال فوكو مقالا جعل عنوانه بغرابة (ما هو المؤلف؟) وتبرز فيه أيضا أهمية ألف ليلة وليلة، بوصف الكتابة ملازما ودافعا للموت، كما يربط بين حقوق الملكية (التي ظهرت حديثا جدا) وبين حصول المؤلف على أهميته التي لم تكن له عبر العصور (كما هي حال ألف ليلة وليلة). لا تعينني الذاكرة على التفاصيل لكنني سأعود لقراءة المقال. ولعل فيه بعض الاجابات على مثل ما أثرته من الأسئلة.
غير أن أهمية المؤلف تعاظمت مع الحقبة الرومانطيقية، وأصبح الشاعر وحده القادر على الوصول للحقائق العظيمة وأصبح هو وحده مالك الحقائق وصادق العاطفة ومنقذ البشرية من الهلاك والضلال (أصبح الآلهة مكان الإله بعد موته، وأصبحت الطبيعة جنة الله الموعودة واللحظة الراهنة هي لحظة الخلود—هكذا قال وردزورث وشيلي وكيتس ضمن آخرين). وأصبحت حياة الشاعر وتفاصيلها الدقيقة محور التتبع والدراسة لدرجة أن شعره أصبح انعاكاسا لتفاصيل حياته التي بدورها أصبحت مادة الدراسات الضخمة، حتى أن شعره لم يعد مجال اهتمام. وهذا ما جعل الأمريكي/البريطاني إليوت (صاحب الأرض الخراب) أن يكتب مقاله الشهير (الموروث والموهبة والفردية) ليعيد الاهتمام بالقصيدة/الشعر وليس الشاعر (وهذا أساس ما سمى بالنقد الجديد خاصة في أمريكا).
((إن بارت لا يقصد بـ"موت المؤلف"عدم نسبة النص إلى صاحبه أوحرمانه من حقوقه في الملكية الفكرية، فحتى رولان بارت كان يضع اسمه على مؤلفاته، وكان يتفاوض مع دور النشر على حقوقه، لكن بارت في المقابل لم يمارس سلطته على أي نص من نصوصه، ولم يبق بقرب أحدٍ منها، يوجّه هذا ويصوّب ذاك مما يفهمه القراء على اختلاف ثقافاتهم ومفاهيمهم ومداركهم، ولم يقل بأنه يحتكرالقصدية وحده، بل تركـها مـشاعـة للقـراء.))
نعم: كل القائلين بموت المؤلف فعلوا ذلك، وبهذه الأمور تحديدا بدأ فوكو مقاله (ما هو المؤلف؟)؛ لكن المؤلف حسب ما تكلس فيه من قيم ومفاهيم، ليس فقط هو الشخص الفرد الذي له تفاصيله الحياتية اليومية مثلي ومثلك ومثل غيرنا من الآخرين. فالمتنبي مثلا أصبح قيمة مؤسساتية اجتماعية وسياسية وثقافية وتاريخية، ولا يهتم أحد بما كان يفعل في يومه أو ليلته أو من أين يشتري مأكله وملبسه. كذلك الأمر مع شكسبير. وفي النقد لا يجرؤ أحد على القول بأن قصيدة تنسب إلى المتنبي أو إلى شكسبير إنها رديئة أو سيئة. فإن كانت كذلك، فلا بد أن نبحث عن سبب الرداءة كأن نقول إنها ليست له وإنما منحولة. أما ترك النص مشاع للقراء، فليس منة من بارت، وإنما حتمية تفرضها منظومة الفكر السائد عن اللغة النظام وما يسمونة الكفاءة (competence) والتصنيف الجنوسي (genre) . فقد قال ملارمية ولاكان وفوكو وبارت بإن اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف، وهي التي "تقصد" والإنسان مجرد مستخدم لما هو موجود أصلا بقوانين وقواعد محددة ولا يستطيع كسرها أو الخروج عليها، بل اللغة هي الوحيدة التي تستطيع التعبير حتى عندما يكون المرؤ هازلا أو ساخرا أو يسعى لقلب المعنى المباشر (هكذا قال أيضا تشومسكي).
ولا شك لدي بأنك على وعي بمثل هذه الأمور، فأنت تكاد تعرّب تشومسكي وأقوال غيره في فقراتك التالية، وأغبطك على قدراتك البيانية:
((إن ربطنا النّص بالمؤلف، وربنا النّص بنّاصه عند القراءة والنقد، سنبقى خارج النص، لأن ماهو داخل النص من جماليات وكنوز معرفية وفكرية تسبح بين الطفو على البنية السطحية تارة وبين الغوص إلى البنية العميقة تارات أخرى لا يكون إلا عبر مجادف اللغة، التي شكّل المؤلف من خاماتها تركيبها وتراكيبها، ليودعها ما يريد، ولكن للغة سلطتها وممانعتها وتفلتها، ولن يقوى الكاتب مهما أوتي من قوة على ترويض وتطويع اللغة وغلق دلالاتها وحصرها على ما يريد، بل هي الفرس الجموح، التي تفرض منطقها على الناص وتتحكم فيما بعدعلى النص وتولد دلالاته- حتى وإن طاوعته فيما يريد فإنها لاتستسلم له كالميت- وبالتالي تظهر في النص نابضة بالمعاني، وتبقى لها دلالاتها الحية التي لم يقصدها الناص في النص بداية، خصوصا مع طول الزمن والتطور اللغوي وموت المؤلِّف البيولوجي، فما دخل المؤلف في دلالات النص بهذه الحال، قدتكون له قصديته الخاصة، لكن النص ليس صخرة صماء ولا يعرف الموت الطبيعي ولا البيولوجي، إنه كائن حي يبقى يمارس حياته، ينمو ويتطور، ويتلّون في دلالاته ويغير منها ما يشاء ويضيف لها مايشاء حتى وإن كان من دون مؤلف ومن دون سلطة قصدية تمارس الإقصاء الدلالي والاستبداد القصدي، كمثل نص " ألف ليلة وليلة" الذي لا يَعْرِفُ له القراءُ كاتبا محدداً.
إن اللغة في النص بغوايتها وتفلتها وممانعتها تبقيه حيًّا يقول الكثير، حتى أنها تقول ما لم يكن يقصده المؤلِّف في حياته، بل هي تقول حتى ما لم يكن يخطر بباله، ولو كانت حياة المؤلِّف داخل النص ضرورية لأحرق البشر النتاج الأدبي الذي مات منتجوه، لأنهم والحال هذه، إما أنهم بموتهم ماتت نصوصُهم بموت قصدياتها التي هي قصدياتهم وبالتالي تموت معهم، ومن هنا لا قدرة لنا إلى إحياء المؤلِّفين من قبورهم ودبّ الحياة في رماد عظامهم، ومساءلتهم عما كانوا يريدون من تلك النصوص، أو أن الثقافة الجديدة تمل من تلك القصدية التي أكل عليه الدهر وشبع إن دونوها وأثبتوها وألزموا الناس بها، وربما يمكننا القول أنها صارت محفوظة وقديمة مما جعلها مستنفذة ومستهلكة كما نقول مع الصور الشعرية مثلا.))
وأراك تدرك قضية التناص وتعدد أصوات النص كما جاءت عند مخائيل باختين وجوليا كريستيفا وأسسها عند بارت:
((النص مولود في أصله من أباء متعددين، فالنص هونتاج ثقافة ونتاج أفكار ونتاج نصوص قرأناها وخزنّاها في ذاكرتنا ومنها نبت نسيج النص، فالملكية الفكرية، أو أبوة الكاتب للنص هي نسبية أقرب إلى المجازية وليست خاصة محددة، لأن النص وليد أمشاج متعددة، منها نطفة الأب ورؤيته، وليس للأب زيادة على هذا، سوى تجميع تلك الأمشاج والمكونات وإخراجها للوجود بعد دمجها والتأليف بينها ووضعها في حمولة اللغة، في عملية ذهنية فكرية عقلية دماغية.))
ولك بالغ التحية والتقدير
تحية طيبة وبعد
أتفق تماما مع ما ذهبت إليه من رأي في موقف بارت من المؤلف، وأقف رافعا القبعة عند ما سقته من أمثلة أصابت كبد الحقيقة. ولي بعض الأضافات القليلة. نعم: النص بنية مغلقة وتشكل نظاما دلاليا يتكفل هو وليس المؤلف بوضوح ونقل الدلالة (ولهذا فالمعنى ليس لدى المؤلف وإنما هو وليد النظام نفسه: النحو هو المسؤول عن المعنى وليس المتكلم/المؤلف وقصده أو مقاصده، بل المؤلف شأنه شأن القارئ مستخدم آخر لهذا النظام الدلالي ولا يستطيع أن يحر حرفا دونه). ورست هذه الحقيقة على الأقل منذ سوسير ومثاله حول نظام المواصلات وقطار جنيف/باريس عند الساعة 9,25.. فلا فرق في نظام المواصلات إذا كان قطار الـ 9,25 قاطرة واحد اليوم وتغيرت غدا لتصبح 1000 قاطرة أو حتى تغير القطار هيكلا ومادة وأصبح من الذهب الخالص، أو حتى غادر متأخرا أو متقدما طالما بقي مختلفا عن غيره ضمن هذا النظام، فهو ضمن نظام المواصلات يظل قطار الساعة 9,25 ويعرفه المسافرون على أنه الذي ينقلك من جنيف إلى باريس.
والحال أن بارت والقائلين بموت المؤلف هم أنفسهم جاءوا ضمن منظومة فكرية تكاد تكون كونية. ففي عشرينيات القرن العشرين كان الجدل على أشده في أمريكا وبريطانيا حول من يملك المعنى وكيف يستطيع المؤلف أن يمتلك "قصده/مقاصده"، وكتب بيردزلي ومنرو المغالطتين الشهيرتين: المغالطة القصدية والمغالطة التأثيرية، نفيا فيهما امتلاك الكاتب/المؤلف وحده حق القصد (القصدية) أو امتلاك القارئ لها بسبب ما يثيره النص من استجابه فيه، وأحالا القصد إلى اللغة التي يمتلكها الجميع حتى قبل أن يولد المؤلف/الشاعر (وهذا ما جاءت البنيوية لتقننه وتقعده). بارت بطبيعة الحال قال أيضا إن موت المؤلف أنجب القارئ، كما قال أن المؤلف ليس أكثر من كاتب (سكرتير).
((فهل ننسب المؤَلَّف (الليالي) إلى شخص ما زورا ليدافع عن قصديته طالما هو بلا مؤلِّف، وكيف يتأتى لنا هذا والنص قديم وبيننا وبينه قرون؟ هل نزوّر لهفي كتب أخرى؟ وكيف يمكننا ذلك والإبداع فعل إنساني يتوافر لدى جميع الأمم والشعوب؟ وأي كتاب هذا الذي لم يطلع عليه غيرنا لنّدُسَ فيه نحن قصدية المؤلف المزعوم -غير الموجود أصلاً-؟!، أم نحرّق المؤلَّف (الليالي) لأنه بلا مؤلِّف (كاتب)، أم نقرأ بقراءتنا في مقابل قراءة غيرنا، ونرد عليهم من قراءتنا إن أردنا الرد.))
كتب ميشال فوكو مقالا جعل عنوانه بغرابة (ما هو المؤلف؟) وتبرز فيه أيضا أهمية ألف ليلة وليلة، بوصف الكتابة ملازما ودافعا للموت، كما يربط بين حقوق الملكية (التي ظهرت حديثا جدا) وبين حصول المؤلف على أهميته التي لم تكن له عبر العصور (كما هي حال ألف ليلة وليلة). لا تعينني الذاكرة على التفاصيل لكنني سأعود لقراءة المقال. ولعل فيه بعض الاجابات على مثل ما أثرته من الأسئلة.
غير أن أهمية المؤلف تعاظمت مع الحقبة الرومانطيقية، وأصبح الشاعر وحده القادر على الوصول للحقائق العظيمة وأصبح هو وحده مالك الحقائق وصادق العاطفة ومنقذ البشرية من الهلاك والضلال (أصبح الآلهة مكان الإله بعد موته، وأصبحت الطبيعة جنة الله الموعودة واللحظة الراهنة هي لحظة الخلود—هكذا قال وردزورث وشيلي وكيتس ضمن آخرين). وأصبحت حياة الشاعر وتفاصيلها الدقيقة محور التتبع والدراسة لدرجة أن شعره أصبح انعاكاسا لتفاصيل حياته التي بدورها أصبحت مادة الدراسات الضخمة، حتى أن شعره لم يعد مجال اهتمام. وهذا ما جعل الأمريكي/البريطاني إليوت (صاحب الأرض الخراب) أن يكتب مقاله الشهير (الموروث والموهبة والفردية) ليعيد الاهتمام بالقصيدة/الشعر وليس الشاعر (وهذا أساس ما سمى بالنقد الجديد خاصة في أمريكا).
((إن بارت لا يقصد بـ"موت المؤلف"عدم نسبة النص إلى صاحبه أوحرمانه من حقوقه في الملكية الفكرية، فحتى رولان بارت كان يضع اسمه على مؤلفاته، وكان يتفاوض مع دور النشر على حقوقه، لكن بارت في المقابل لم يمارس سلطته على أي نص من نصوصه، ولم يبق بقرب أحدٍ منها، يوجّه هذا ويصوّب ذاك مما يفهمه القراء على اختلاف ثقافاتهم ومفاهيمهم ومداركهم، ولم يقل بأنه يحتكرالقصدية وحده، بل تركـها مـشاعـة للقـراء.))
نعم: كل القائلين بموت المؤلف فعلوا ذلك، وبهذه الأمور تحديدا بدأ فوكو مقاله (ما هو المؤلف؟)؛ لكن المؤلف حسب ما تكلس فيه من قيم ومفاهيم، ليس فقط هو الشخص الفرد الذي له تفاصيله الحياتية اليومية مثلي ومثلك ومثل غيرنا من الآخرين. فالمتنبي مثلا أصبح قيمة مؤسساتية اجتماعية وسياسية وثقافية وتاريخية، ولا يهتم أحد بما كان يفعل في يومه أو ليلته أو من أين يشتري مأكله وملبسه. كذلك الأمر مع شكسبير. وفي النقد لا يجرؤ أحد على القول بأن قصيدة تنسب إلى المتنبي أو إلى شكسبير إنها رديئة أو سيئة. فإن كانت كذلك، فلا بد أن نبحث عن سبب الرداءة كأن نقول إنها ليست له وإنما منحولة. أما ترك النص مشاع للقراء، فليس منة من بارت، وإنما حتمية تفرضها منظومة الفكر السائد عن اللغة النظام وما يسمونة الكفاءة (competence) والتصنيف الجنوسي (genre) . فقد قال ملارمية ولاكان وفوكو وبارت بإن اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف، وهي التي "تقصد" والإنسان مجرد مستخدم لما هو موجود أصلا بقوانين وقواعد محددة ولا يستطيع كسرها أو الخروج عليها، بل اللغة هي الوحيدة التي تستطيع التعبير حتى عندما يكون المرؤ هازلا أو ساخرا أو يسعى لقلب المعنى المباشر (هكذا قال أيضا تشومسكي).
ولا شك لدي بأنك على وعي بمثل هذه الأمور، فأنت تكاد تعرّب تشومسكي وأقوال غيره في فقراتك التالية، وأغبطك على قدراتك البيانية:
((إن ربطنا النّص بالمؤلف، وربنا النّص بنّاصه عند القراءة والنقد، سنبقى خارج النص، لأن ماهو داخل النص من جماليات وكنوز معرفية وفكرية تسبح بين الطفو على البنية السطحية تارة وبين الغوص إلى البنية العميقة تارات أخرى لا يكون إلا عبر مجادف اللغة، التي شكّل المؤلف من خاماتها تركيبها وتراكيبها، ليودعها ما يريد، ولكن للغة سلطتها وممانعتها وتفلتها، ولن يقوى الكاتب مهما أوتي من قوة على ترويض وتطويع اللغة وغلق دلالاتها وحصرها على ما يريد، بل هي الفرس الجموح، التي تفرض منطقها على الناص وتتحكم فيما بعدعلى النص وتولد دلالاته- حتى وإن طاوعته فيما يريد فإنها لاتستسلم له كالميت- وبالتالي تظهر في النص نابضة بالمعاني، وتبقى لها دلالاتها الحية التي لم يقصدها الناص في النص بداية، خصوصا مع طول الزمن والتطور اللغوي وموت المؤلِّف البيولوجي، فما دخل المؤلف في دلالات النص بهذه الحال، قدتكون له قصديته الخاصة، لكن النص ليس صخرة صماء ولا يعرف الموت الطبيعي ولا البيولوجي، إنه كائن حي يبقى يمارس حياته، ينمو ويتطور، ويتلّون في دلالاته ويغير منها ما يشاء ويضيف لها مايشاء حتى وإن كان من دون مؤلف ومن دون سلطة قصدية تمارس الإقصاء الدلالي والاستبداد القصدي، كمثل نص " ألف ليلة وليلة" الذي لا يَعْرِفُ له القراءُ كاتبا محدداً.
إن اللغة في النص بغوايتها وتفلتها وممانعتها تبقيه حيًّا يقول الكثير، حتى أنها تقول ما لم يكن يقصده المؤلِّف في حياته، بل هي تقول حتى ما لم يكن يخطر بباله، ولو كانت حياة المؤلِّف داخل النص ضرورية لأحرق البشر النتاج الأدبي الذي مات منتجوه، لأنهم والحال هذه، إما أنهم بموتهم ماتت نصوصُهم بموت قصدياتها التي هي قصدياتهم وبالتالي تموت معهم، ومن هنا لا قدرة لنا إلى إحياء المؤلِّفين من قبورهم ودبّ الحياة في رماد عظامهم، ومساءلتهم عما كانوا يريدون من تلك النصوص، أو أن الثقافة الجديدة تمل من تلك القصدية التي أكل عليه الدهر وشبع إن دونوها وأثبتوها وألزموا الناس بها، وربما يمكننا القول أنها صارت محفوظة وقديمة مما جعلها مستنفذة ومستهلكة كما نقول مع الصور الشعرية مثلا.))
وأراك تدرك قضية التناص وتعدد أصوات النص كما جاءت عند مخائيل باختين وجوليا كريستيفا وأسسها عند بارت:
((النص مولود في أصله من أباء متعددين، فالنص هونتاج ثقافة ونتاج أفكار ونتاج نصوص قرأناها وخزنّاها في ذاكرتنا ومنها نبت نسيج النص، فالملكية الفكرية، أو أبوة الكاتب للنص هي نسبية أقرب إلى المجازية وليست خاصة محددة، لأن النص وليد أمشاج متعددة، منها نطفة الأب ورؤيته، وليس للأب زيادة على هذا، سوى تجميع تلك الأمشاج والمكونات وإخراجها للوجود بعد دمجها والتأليف بينها ووضعها في حمولة اللغة، في عملية ذهنية فكرية عقلية دماغية.))
ولك بالغ التحية والتقدير
تعليق