[align=right]
إهداء إلى أختي ، و ابنتي، و حبيبيتي الجميلة
الأديبة الرقيقة : بيان محمد خير الدرع
[/align]
[align=center]
((الأرجوحة))
[/align]
[align=right]
ها هي أقدامه تطأ أعتاب منزلي الكبير، فاجأني نحوله ولونه الشاحب ،وهو يصعد الدرجات المؤديّة إلى الصالة ترافقه زوجه اليافعة، كانت تتأبّط ذراعه على استحياءٍ..
فقيرة هي، بسيطة، لكنها تتكلّف الخطو، لتوحي بأنها أهلاً لدخول ذاك القصر الذي شيّدته بعد عودتي من الغربة..
تمسك بطفلها ذي السنوات الأربع، تداعبه ببعض الكلمات، محاولةً من خلالها الاختباء من ذاك الارتباك... الذي بدا واضحاً عليهما.
تعمّدتُ أن أبقى مكاني، أيديهما تعلنان عن رعشةٍ غريبةٍ سرتْ في دمي، آه كم كنت أحلم بهذا اللقاء، وها هو يحدث كما تصوّرته تماماً... الحوار نفسه الذي رسمته عبر السنين، وبالسياق ذاته.
إنه شقيقي لأبي، وجوده أفقدني طعم الحياة، كان الطفل المدلّل الأثير لدى أبويه، وأنا الكبير التعس المحروم من عطف مَن رحلتْ وأخذتْ معها كلّ طعمٍ للحنان.
يا إلهي ما أصعب المكان الذي تُخليه الأم لتحلّ مكانه زوجة أب! انتزعت من قلبها الرحمة والشفقة.
ماذا أذكر؟ وماذا أنسى؟ أذاقتني كلّ ألوان الظلم والهوان. شرّدتني، أضاعتني، أنامتني على أعتاب منازل الأقارب. دمّرتْ أحلام طفولتي.
أسكنتْ جراح الألم في قلبٍ مازال ينزف .
لم يمنعني الشقاء من أن أعوّض حرماني بالتفوّق الدراسي؛ أجمع الوريقات الصفر الفارغة لأحيك منها دفاتر ي.
أبيع المناديل على أرصفة الطّرقات،وأعود آخر الليل،تعتصرني ملابسي دمعاً، وعرقاً، ومطراً،أدفع بدراهمي المعدودات عني جرعة عذابٍ كنت أخافها،وأرتجف لها..
علّني أضمن سكوتها وأبي، الذي اعتاد أن يكون مكسور الكلمة، والموقف.
كم تحمّلتُ من أجلك أيها الخاسر، الذي كنت تعود دائماً بالخيبة في نهاية كلّ عام، لتُلتمس لك الأعذار، ولتزداد لسعة الآلام لي في المقابل.
وها أنت تعود بعد رحيل السنينٍ بأشخاصها، خالي الوفاض واليدين، تعيش في بيتك المتآكل، الذي أُرغمتُ على النزوح عنه، بعد أن كتبه الوالد الرّاحل لأمّك كاملاً،وآل إليك.
لو تدري أيها الشّقيق كيف تقلّبت بي السنون، وأنا في الغربة، أنام وأصحو على جراحي الناحبة التي سكنتني .
أبكي أهلاً رحلوا، وبيتاً أُجبرْتُ على تركه، ووطناً أقصيْتُ عنه ،إلى منفى اخترته بحثاً عن الذات ،واستعادة حياةٍ افتقدتها وأنا في ريعان الشباب.
آه أيها الأخ الذي زال عن قلبي!... بعد أن أحاله إلى رمادٍ بقدومه إلى الدّنيا، لو تدري كم أبكيتني، وأنت تحرمني بجهلٍ، أو بعلمٍ، من أي متعةٍ مُباحةٍ لأي طفلٍ كان في مثل عمري.
كنت تحتكر ألعابي، ودفاتري، وملابسي، وأرجوحتي... لا تستغرب... أجل أرجوحتي ،التي خصّتني بها أمي قبل أن ترحل.
كانت هي الوحيدة من ذكراها، استهوتْك، احتكرتَها هي الأخرى ، كنت تبكي بصوتٍ مسموعٍ عندما أعتليها، فيُسارع أبواك بإنزالي عنها، والّلعنات تلاحقني، لتحتلّها أنت شامتاً بعيونٍ غبيّة حاقدةٍ.
تعمّدتُ الآن أن ترى أشباح الماضي تتراقص أمامك، في ذاك القصر الذي تراه كبيراً، وأنت تجول مشدوهاً بين أرجائه، وأنا لا أشعر به إلا كسجنٍ مليءٍ بعتمة لا متناهية. لقد كنت مصرّاً على قتلي صغيراً وكبيراً.
سعالك التشنّجي أثار اهتمامي، قلت لي: إنه لم يبرحك منذ فترةٍ،وأنت تمسك بمنديلك،تداري عني وجهك المكدود، الذي يتصبّب عرقاً ووهناً .
استشعرتُ حينها عجزك عن المعالجة لضيق ذات اليد، بعد أن أصرّ طبيبك على إجراء عدة صور شعاعيّة لصدرك المتحشرج.
أشفقت على امرأتك، وهي تجلس على مائدة الطعام أمام الأطباق المتزاحمة، بعد أن ارتبكتْ عند تناول وجبتها، مقارنةً نفسها بزوجتي المرفّهة، المترفة، المتعجرفة.
كانت تخفي معصميها المزيّنين ببعضٍ من المعادن الرخيصة، وهي ترنو بطرف عينها إلى البريق اللّامع الذي يعلو نحر زوجتي وزنديها، مما جعلها تكتفي بالقليل لتخرج بطفلها إلى الحديقة الخارجيّة متعلّلةً بصداعٍ داهمها فجأة.
تظاهرتُ بالاهتمام ،عندما انتابتْ ابنك موجةٌ من البكاء الموجع، وهو يشكو لك بكلمات متقطّعةٍ لاهثةٍ: ولدي البكر الذي ضربه بغلظة ، وأنزله عن الأرجوحة عنوةً لأنها له وحده.
لعلّه برفاهيّته الفارغة نظر إليه باستعلاءٍ ، وكأنه لا يستحقّ شرف الركوب على أرجوحته الخاصة.
يا ااااااالله!.. عقدة الأرجوحة عادتْ إليّ من جديدٍ. الأرجوحة مرة أخرى!....
قفزتْ إلى ذاكرتي دموعي، اختلطتْ ملامحي بملامح ابنك المنكسر، تذكّرْتُ تلك الغصّة المُحرقة، وذاك الحرمان، تذكّرتُ استغاثتي التي كانت تُرَدُّ إليّ بلا مجيبٍ. فلا أحد يدافع عني...
هالني ضعفك وأنت لا تقوى أن تَرُدَّ كما كنت في السابق.
أحسسْتُ بقلبي يتمزّق بين آلام الماضي، والشفقة التي اعتلته فجأة ، وكأنه ما بكى ،وما رحل، وما تقلّب بين جمرات العذاب.
ومن دون أن أدري، أن أملك نفسي ، سارعت الخطو نحو ولدي، أشبعته ضرباً...
وهو ينظر إليّ مذعوراً ،لا يصدّق ما يرى، مهرولاً نحو أمّه السطحيّة المستاءة أبداً.
وكأنّي أُسقط عليه كلّ المعاناة التي عشتها.
احتضنْتُ ابنك يا أخي أبثّه الكثير من الأمان الذي افتقدته.. احتويته بين ذراعيّ ، توجّهت به إلى الأرجوحة، وضعته بها مطمئنّاً.
وأنا أقول له بصوتي المتهدّج: لا تخفْ يا صغيري.. لن أسمحَ لأحدٍ أن يُنزلك عنها... لا تخفْ يا حبيبي.
وأنا أكفكف دموعه بيديّ الرّاعشتين منذ طفولتي..
*** *** ***
[/align]
تعليق