(معايير قصيدة النثر عتند الماغوط ) كما رآها الشاعر العربي: محمود درويش

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • الشاعر محمود مرعي
    عضو الملتقى
    • 18-05-2010
    • 162

    #16
    اخي الكريم
    لا اجدك اتيت بجديد لا اعرفه
    سوى اصرارك على تسمية نثر محمود درويش بـ (قصيدة نثر)
    الا ترى تجنيك عليه وهو نفسه سماها نصا، ولم يسم اي نص نثري له بهذا الاسم ، وهو يعرف المعايير .
    أرى ان ندع الخوض في امور لن تزيدك الا اصرارا على رأي خاطئ،
    والسبب كله تمسككم بعنصر الهدم للتراث تحديدا.
    والشعر والنثر ، او المنظوم والمنثور كما تحب ، لهما مقاييس وضعها أسلافنا منذ قرون طويلة ولم تزد معلوماتي بشيء.
    ولم يقل احد ان الفية ابن مالك وما شابهها من المنظوم شعر.

    تعليق

    • مهتدي مصطفى غالب
      شاعروناقد أدبي و مسرحي
      • 30-08-2008
      • 863

      #17
      المشاركة الأصلية بواسطة الشاعر محمود مرعي مشاهدة المشاركة
      اخي الكريم
      لا اجدك اتيت بجديد لا اعرفه
      سوى اصرارك على تسمية نثر محمود درويش بـ (قصيدة نثر)
      الا ترى تجنيك عليه وهو نفسه سماها نصا، ولم يسم اي نص نثري له بهذا الاسم ، وهو يعرف المعايير .
      أرى ان ندع الخوض في امور لن تزيدك الا اصرارا على رأي خاطئ،
      والسبب كله تمسككم بعنصر الهدم للتراث تحديدا.
      والشعر والنثر ، او المنظوم والمنثور كما تحب ، لهما مقاييس وضعها أسلافنا منذ قرون طويلة ولم تزد معلوماتي بشيء.
      ولم يقل احد ان الفية ابن مالك وما شابهها من المنظوم شعر.
      الأستاذ الشاعر محمود مرعي
      شكراً لك ..
      أولا - ردك جعلني أبحث عن معلومات عنك كي أتعرف عليك .. و أكتشف من أتحاور معه ..فاكتشفت شاعراً من شعراء قصيدة الوزن و قارئاً عروضياً لقصيدة الوزن بنمطيها (البحرية و التفعيلة) و أعتبر بعد قراءتي لبعض ما كتبته و ما حصلت عليه من بعض المواقع أنك أحد العروضيين المهمين في عصرنا الحديث ... و لست أبالغ في ذلك ...
      إضافة لقراءات نقدية راقية لنصوص و أعمال شعرية و غيرها ..
      ثانياً - لم أجد في ردك هذا ما يشير لتساؤلاتي حول ردك السابق ..!!
      ثالثاً - لم أختلف معك حول التراث و أهميته ..فأنا باحث تراثي و لي أكثر من عشرين كتاباً محققاً و دارساً للتراث العربي ..
      رابعاً - هل تعتقد أن تراثنا العربي بهذا الضعف بحيث نخاف عليه من إضافة حضارية فكرية و أدبية إليه ؟؟ و هي إضافة في الشكل ... فقصيدة النثر هي وسيلة للوصول لغاية هي الشعر ... كما قصيدة الوزن بأنماطها العديدة وسيلة للوصول إلى غاية هي الشعر ...
      فلا قصيدة النثر بكل أنماطها المتعددة قادرة على إلغاء قصيدة الوزن و العكس صحيح لأنهما إضافتان حضاريتان لوسائل التعبير الفني ..عند العرب و حتى في العالم كله ...
      و كلٌّ منهما اكتسب شرعيته من تاريخه الجمالي و الشعري و قدرة مبدعيه الشعراء على تقديم شعراً جمالياً حاملاً لرؤى فكرية تعبر عن إنسانية الإنسان و الواقع الذي يعيشه ..
      فهل نرفض مثلاً ( الانترنيت) لأنها ليست موجودة في التراث و هي من أهم الأدوات الحضارية لتدوين و حماية و قراءة التراث ..
      لنكن عقلانيين و نعترف بالأخر الذي رأى أن الطريق الذي نسير عليه نحن لا يتسعه فاختار طريقاً آخر .. يراه مناسباً كي يضيف لثقافتنا رؤيته الفكرية و الجمالية ... و لا خوف على تراثنا إلا من وضعه في ( الأزوت السائل) و انتظار من يعيده إلى الحياة ... عودة التراث إلى الحياة هي في حركيته و ليس سكونيته
      (كما قال : جابر بن حيان : الحركة هي الحياة و السكون هو الموت )
      و الحركية تكون بالإضافات الحضارية و الفكرية و الثقافية التي تجعله حياً في عيون الأجيال ...
      أما وقف و تكفير أية محاولة لإضافة أية رؤية معرفية معاصرة للتراث فهذا هو تحنيط للتراث و جعله مومياء ...
      و بالتالي فصله عن المعاصرة التي تعني أنه كما كان من حق من سبقنا أن يضيف للتراث الذي وجده في زمانه و مكانه من حقنا نحن أن نضيف لهذا التراث من داخله و خارجه ما يجعله قيمة حضارية و ثقافية تراكمية لا انفصامية ...
      خامساً... حول تسمية محمود درويش ... ارأيت دائما نروح نحو اللفظ و نترك المعنى ... هناك الكثير ممن لم يسموا ما كتبوه قصيدة نثر ... و لكن بعد أن أخذ هذا الإسم المصطلح معناه النهائي ... فكل ما كُتب وفق معايير قصيدة النثر فهو قصيدة نثر .. كما أن كل ما كُتب وفق معايير قصيدة الوزن فهو قصيدة وزن ....
      و أخيراً ... للأسف .. إن كنت أنا على خطأ فلماذا هربت من أسئلتي إلى اتهامي ..
      ثم موقفك و موقف العروضيين المعاصرين و القديمين المتعنت .. هو الذي أساء إلى الشاعرية في الشعر العربي ..حيث أنكم دائما تعتبرون اللفظ (الشكل) و الوسيلة ..أكثر أهمية في الابداع الجمالي و الثقافي من المعنى ( المضمون ) و الغاية ..فأنتم لا ترون من التراث إلا شكله و لفظه و تجردونه من معناه و مضمونه و غايته ..
      و اللفظ و الشكل و الوسيلة أمور ترتبط بالزمان و المكان و تتغير بتغيرهما .. أما المعنى و المضمون و الغاية فتبقى حية في كل زمان و مكان ...
      فبالتأكيد أنا مخطئ بنظرك ... لأنني استخدم ( النت - الهاتف - الخليوي - التلفزيون - ....إلخ من أدوات و منجزات الحضارة الإنسانية) كي أقدم بها المضامين الحضارية لتراثي و ثقافتي و فكري للأخر ...
      و أستغرب جداً كيف تتعامل مع النت .. و هو ليس بوسيلة تراثية ؟؟
      على كل شكراً لك .. و كوني لم آت بجديد .. أتمنى عليك أن تقدم للأخرين جديدك ..فأنا كما أرى ... لا أتوقع منك جديداً ..
      و هذا البحث في نظرية الشعري الذي قدمه النقاد العرب على مدار عصورهم .. جمع أهم الآراء فيه الأديب : محمد كامل الخطيب في كتاب صدر عن وزارة الثقافة السورية في خمسة أجزاء ... خلال النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي ... ليتك تطلع عليه ففيه .. كل ما يشفي غليل الباحث عن حقيقة الشعر بأنماطه الكتابية المتعددة
      هي آراء .. كان لابد لي من قولها .. كي يطلع عليها القارئ ..
      و أكرر أنا أحترم رأيك بكل مندرجاته ...
      لكنني لا أوافقه مطلقاً .. فهو رأي أحادي الرؤية الثقافية و الفكرية و نمطي شكلي... و لا يرى إلا الزاوية التي يريد أن يراها من الأشياء أو بالأحرى التي توافق قناعاته ..
      شكراً لك .. و دمت بخير و عافية
      لك محبتي و مودتي و تقديري
      التعديل الأخير تم بواسطة مهتدي مصطفى غالب; الساعة 07-08-2010, 05:40.
      ليست القصيدة...قبلة أو سكين
      ليست القصيدة...زهرة أو دماء
      ليست القصيدة...رائحة عطر أو نهر عنبر
      ليست القصيدة...سمكة .... أو بحر
      القصيدة...قلب...
      كالوردة على جثة الكون

      تعليق

      • الشاعر محمود مرعي
        عضو الملتقى
        • 18-05-2010
        • 162

        #18
        اخي الكريم
        حبذا لو تدع التنظيرات والكلام الذي أكل الدهر عليه وشرب
        جميل منك انك تحترم رأي الاخر
        لكن حبذا لو دققتم النظر في طريقكم وتلك المسالك
        التي رسمها لكم من يريدونكم مجرد اسطوانات تبث ما يسجل عليها
        مع اعتذاري منك لقسوة العبارة
        جدد في نطاق ما ترك لنا اسلافنا وليس في ما يراد فرضه علينا
        التعديل الأخير تم بواسطة الشاعر محمود مرعي; الساعة 07-08-2010, 05:55.

        تعليق

        • محمد ثلجي
          أديب وكاتب
          • 01-04-2008
          • 1607

          #19
          المشاركة الأصلية بواسطة مهتدي مصطفى غالب مشاهدة المشاركة
          شكراً لك ..


          الشاعر محمود مرعي
          من المهم جداً أن يكون معيارك للعيب واقعي و صحيح ..
          هل تكذيب الآخر دون أي دليل عيباً أم لا ؟؟
          هل عدم القبول بالرأي الأخر ؟؟عيباً أم لا ... و بالتحديد لم أقصدك أنا بذلك لكنك أنت أكدت عدم قبولك بالرأي الأخر !!
          هل كلمة ( النظامة خطأ أو عيب ) .. و كل من يكتب قصيدة الوزن ينظمها نظماً ؟؟
          أما عن الشاعر الكبير محمود درويش ...
          هو ليس بشاعر قصيدة نثر .... لكنه كتبها .. و يبدو أنك لم تقرأ درويش إلا كما تريده أن يكون ... بينما الشاعر محمود درويش نموذج راقٍ للإبداع المتمثل بالقبول بالأخر كما هو .. و نموذجاً للشاعر الحر الذي يناضل من أجل حرية الإنسان الفكرية و الإجتماعية و الإقتصادية .... إلخ ... حتى لو كان هذا الإنسان عدوه ...!!
          و أشرنا إلى المراجع التي باستطاعتك قراءة قصيدة النثر عنده في الرد السابق
          قلت فيما سبق و أؤكد لك قصيدة النثر لا تأخذ مشروعيتها بصك موقع منك أو من غيرك مهما كان ...
          فهي تأخذ مشروعيتها من شاعريتها و جمالياتها و تاريخها الجمالي ... كما هي قصيدة الوزن ...
          و من يتصور من النظامة غير الشعراء أن نقيض الشعر هو النثر .. فهو واهم و جاهل باللغة العربية ...
          نقيض النثر هو النظم على اعتبار أن النثر و النظم هي من وسائل الكتابة و الشعر و القصة و المسرح و الخاطرة و الخطبة .. هي غاية الكتابة فالخلط بين الغاية و الوسيلة تعمده العروضيون كي يأخذوا مفهوم الشعر من المفهوم الجمالي إلى المفهوم الشكلي المحدود بالوزن و القافية ...
          و ليس كل ماينظم شعراً ، فقد يكون مقالة تعليمية ( ألفية بن مالك - الإجرومية و غيرهما ) ...
          و ليس كل ما ينثر شعراً ... فالنثر وسيلة للزراعة تعتمد الفطرية و الطبيعية و العفوية ... و النظم وسيلة للزراعة تعتمد البذارة الشكل الجاهز في نظم البذور و إعطائها انتظاماً معيناً ... فكما الزراعة نثراً لها جمالياتها و محصولها كذلك الزراعة نظماً لها جمالياتها و انتاجها ... إنما حين يقوم بإحداهما فلاح مبدع و معطاء ..

          شكراً لك ...
          الأستاذ والناقد القدير مهتدي مصطفى غالب

          جميل هذا الحوار والنقاش حول قصيدة النثر مع الشاعر والناقد محمود مرعي رغم وعورة الدرب المفضي للنتيجة .. ولكني أأكد أن محمود درويش لم يكتب قصيدة النثر وأتمنى تحري الدقة عندما ننسب لوناً أدبياً لأديب أو شاعر أو مفكر ..

          من خلال حرصي على متابعة لقاءات الشاعر محمود درويش القليلة جداً سواء المرئية أو الورقية .. لم أجد ثمة اعتراف صريح بأنه كتب قصيدة النثر وإن بينه وبين نفسه وهذا تأكد فوراً بما أنتجه لنا عبر عمره الشعري الطويل .. وأتمنى أن تأتنا بقصيدة نثرية كان كتبها محمود درويش ليفض النزاع حول هذا الموضوع ونتخطاه للفائدة.

          أما حول قناعته بها أو لا فهذا أمر آخر وهو سيانِ . فقصيدة النثر ماضية رغم عدم رضا وقناعة كثير من الشعراء والنقاد والمتابعين للأسلوب والحجة والقاعدة.

          تحياتي لكما ومحبتي تسبقها
          التعديل الأخير تم بواسطة محمد ثلجي; الساعة 07-08-2010, 07:39.
          ***
          إنه الغيبُ يا ضيّق الصدرِِ
          يا أيها الراسخ اليومَ في الوهمِ والجهلِ
          كم يلزمُ الأمرَ حتى يعلّمك الطينُ أنك منهُ
          أتيت وحيدًا , هبطت غريبًا
          وأنت كذلك أثقلت كاهلك الغضّ بالأمنياتِ
          قتلت أخاك وأسلمته للغرابِ
          يساوى قتيلاً بقابرهِ

          تعليق

          • جومرد حاجي
            أديب وكاتب
            • 17-07-2010
            • 698

            #20
            بارك الله فيك أخي الشاعر مهتدي مصطفى
            سررت بمروري من هنا ، لك مني جزيل الشكر
            و التقدير

            تعليق

            • مهتدي مصطفى غالب
              شاعروناقد أدبي و مسرحي
              • 30-08-2008
              • 863

              #21
              المشاركة الأصلية بواسطة محمد ثلجي مشاهدة المشاركة
              الأستاذ والناقد القدير مهتدي مصطفى غالب


              جميل هذا الحوار والنقاش حول قصيدة النثر مع الشاعر والناقد محمود مرعي رغم وعورة الدرب المفضي للنتيجة .. ولكني أأكد أن محمود درويش لم يكتب قصيدة النثر وأتمنى تحري الدقة عندما ننسب لوناً أدبياً لأديب أو شاعر أو مفكر ..

              من خلال حرصي على متابعة لقاءات الشاعر محمود درويش القليلة جداً سواء المرئية أو الورقية .. لم أجد ثمة اعتراف صريح بأنه كتب قصيدة النثر وإن بينه وبين نفسه وهذا تأكد فوراً بما أنتجه لنا عبر عمره الشعري الطويل .. وأتمنى أن تأتنا بقصيدة نثرية كان كتبها محمود درويش ليفض النزاع حول هذا الموضوع ونتخطاه للفائدة.

              أما حول قناعته بها أو لا فهذا أمر آخر وهو سيانِ . فقصيدة النثر ماضية رغم عدم رضا وقناعة كثير من الشعراء والنقاد والمتابعين للأسلوب والحجة والقاعدة.


              تحياتي لكما ومحبتي تسبقها
              [align=center]
              الأستاذ الصديق محمد ثلجي
              شكراً لك ..
              سأتوقف عن الحوار مع من لا يريد الحوار و لا يريد من محاوره إلا أن يرمي عصا الطاعة بين يديه و أنا لست من هؤلاء ..
              أما بما يتعلق بطلبك الجميل و المحق .. أود أن أشير إلى أنني أشرت إلى مرجعية البحث عنه ... و لكن لأجل القارئ .. أقدم هذه الدراسات المنقولة :
              [/align]
              الموضوع الأول:
              محمود درويش وقصيدة النثر

              صبحي حديدي
              09 أكتوبر 2006
              لم يكن تفصيلاً هامشياً أن تشدّد معظم المراجعات التي تناولت كتاب محمود درويش الأخير “في حضرة الغياب”، رياض الريس للكتب والنشر، على شعرية النثر ونثر الشعر، فضلاً عن صيغة “النصّ الشعري المفتوح” التي اقترحها الشاعر اللبناني بول شاول. وليس مردّ هذا أنّ درويش يمزج ـ على نحو بيّن صريح هذه المرّة، عن سابق قصد وتصميم، وأكاد أقول: ضمن تصميم عالي القصدية، شديد الموازنة ـ بين قول شعري تفعيلي وقول شعري نثري، فحسب؛ بل أيضاً، في ظنّي الشخصي، لأنّ هذه الكتابة قد تكون ذروة جديدة في ما ينهمك به درويش منذ سنوات طويلة: جَسْر الهوّة بين وزن الشعر ونثر الشعر، وبالتالي بين تسميتين شاعتا واستقرّتا رغم ما تعانيانه من تعسف إصطلاحي ومفهومي، أي “قصيدة التفعيلة” و”قصيدة النثر”.
              ومن جانبي أرجّح أنّ ما في جعبة درويش من جديد في سياقات هذا الاشتغال، وربما في صيغة “النصّ الشعري المفتوح” تحديداً، كثير وافر عامر ثرّ وغنيّ، على نحو قد يتيح للمرء أن يغامر باجتراح نبوءة من نوع ما، مفادها أن هذا الانهماك سوف يثمر المزيد من الأعمال ضمن الأسلوبية ذاتها. ولعلّ الذين قرأوا “يوميات” درويش في العدد الأخير من فصلية “الكرمل” سوف تشدّهم النبوءة ذاتها، عن خيارات لا تبدو البتة بعيدة عمّا أسماه إدوارد سعيد “الأسلوبية المتأخرة”، حين يستجمع الفنّان معظم أساليبه السابقة في مزيج فريد جديد غير منقطع، في الآن ذاته، عن خصائص الماضي.
              ورغم أنّ خيار درويش هذا ينبغي أن يبهج أهل الشعر بلا اسثناء، تماماً كما يبهجنا أن يشتغل شاعر قصيدة النثر على العمارات الإيقاعية في القصيدة بما يكفل تقريب المسافة بين وزن ونثر في الكتابة الشعرية، أو حين يقرّرالشاعر ذاته كتابة قصيدة التفعيلة أو تجريب النصّ المَزّجي، فإنّ البهجة ليست دون منغصات عديدة، أقلّها أذىً تلك التي تأخذ هيئة سوء الفهم، بدل إساءة الفهم. ثمة ثلاثة، بين أخرى أقلّ أهمية، في طليعتها خرافة تتردد على نطاق واسع، حتى باتت أمراً مسلّماً به: أنّ محمود درويش يرفض أن يطلق على ما يكتبه من نثر شعري تسمية قصيدة نثر، لأنه ببساطة لم يكتب قصيدة نثر أبداً.
              والحال أنّ التسمية ليست مهمّة درويش، أو أيّ شاعر يقارب نصّاً لا تبدو حدوده الأجناسية قاطعة جليّة مسلّماً بها، فهذه مهمّة القارىء والدارس من جانب أوّل، كما أنّ من واجب المبدع أن يخفي أغراضه ذات الطابع التجريبي في الشكل والمضمون، تفادياً لتوريط المتلقي في ما يسمّيه النقد “مغالطة القصد”، من جانب ثانٍ. وأمّا الخرافة فإنّ مصدرها الكسل والإهمال وقلّة المتابعة، لكي لا نقول الجهل ببساطة، لأنّ درويش لم يكتب قصيدة نثر واحدة فقط، بل ستّ قصائد! ولست أقصد المزج بين تفعيلة ونثر في المقطع الواحد ذاته، بل أقصد هذا بالضبط: قصيدة نثر متكاملة، مستقلة، خالصة، قائمة على النثر وحده.
              ففي مجموعته “أحبك أو لا أحبك”، 1972، تتألف قصيدة “مزامير” الطويلة (أكثر من 350 سطراً) من 12 قصيدة، نصفها قصائد نثر، بل إنّ هذه القصائد أطول من شقيقاتها الموزونة، وثمة الكثير من العناصر الفنية التي تغري الدارس المعنيّ بالرصد والمقارنة بين مادّتَيْ كتابة شعرية، من الشاعر ذاته وفي القصيدة الطويلة ذاتها. وكان من واجب الكسالى أن يثبّتوا حقيقة وجود هذه القصائد (التي، للإيضاح الضروري، لم يتخلّ عنها درويش ونجدها في جميع أعماله الكاملة، بما فيها طبعة رياض الريس 2005)، ولهم بعدها أن يروا فيها ما شاؤوا من رأي، رغم أنّ المنطق يفضي تلقائياً إلى القول إنهم ينبغي أن يسعدوا بها!
              النسق الثاني يصدر عادة عن صغار كتبة قصيدة النثر، ممّن يعتبرون أنّ من المحرّم على شاعر مثل درويش أن يكتب ما يوحي بقصيدة النثر من قريب أو بعيد، لأنّ هذه مملكة مغلقة لا ينبغي أن يدخلها إلا الأطهار الذين لم يقترفوا ـ في أيّ يوم، في المطلق ـ إثم كتابة قصيدة التفعيلة! ما يثير الضحك أنّ هؤلاء يرون في أعمال درويش الأخيرة أجندات تخريبية خفية، ضدّ ملكوت قصيدة النثر إجمالاً، وضدّ فراديس كتّابها الشباب بصفة خاصة. وأمّا ذاك الذي يلفت الانتباه في هذا الرهاب الطريف، فهو أنّ العباقرة إياهم يدركون جيداً طبيعة ما تنطوي عليه هذه الأعمال من سطوة جمالية عالية تدفعهم، عن وعي تامّ وليس بالمصادفة، إلى… تقليد درويش!
              وبالطبع، النسق الثالث مكمّل للنسق الثاني ولكن في صفّ كتبة قصيدة التفعيلة، أو بعض دارسيها، ممّن يرون في أعمال درويش الأخيرة تنازلاً عن التفعيلة، ثمّ عن أصول الشعر، بل أصالة التراث بأسره استطراداً، وأخيراً: التخلّي عن… القضية الفلسطينية، ليس أقلّ! بعضهم، وهم الأكثر جدية ربما، خاضوا السجال ليس بغضاً بقصيدة النثر بل تقديساً لجوهرانية الوزن، حيث التقسيم عندهم قاطع حاسم منزل: إمّا وزن، وإما نثر.
              وغنيّ عن القول إنّ تأثيرات هذه المنغصّات ليست ضئيلة محدودة منعزلة فحسب، بل المفارقة أنها تجعل تجارب درويش (الجديدة، الحداثية، الصعبة بهذا القدر أو ذاك، على قارئه المعياري) أوضح إشكالية في الجانب الفنّي، وبالتالي أرقى استقبالاً. آلَف من حَمام مكّة، كما تقول العرب…

              ليست القصيدة...قبلة أو سكين
              ليست القصيدة...زهرة أو دماء
              ليست القصيدة...رائحة عطر أو نهر عنبر
              ليست القصيدة...سمكة .... أو بحر
              القصيدة...قلب...
              كالوردة على جثة الكون

              تعليق

              • الشاعر محمود مرعي
                عضو الملتقى
                • 18-05-2010
                • 162

                #22
                فقط ملاحظة
                لاني كنت على يقين انك ستاتي على هذه
                وأنا متأكد انك لم تقرا درويش
                المزامير يا اخي ليس فيها ما يسمى (قصيدة نثر)
                وهي ضمن بحثي في تحولات الايقاع عند درويش
                فلا تطرق امورا حتى تتاكد منها
                لكن يظهر انك تردد خلف من البس درويش التهمة ويبدو انك صدقتها
                اعيد:
                ليس في المزامير اي نص نثري
                التعديل الأخير تم بواسطة الشاعر محمود مرعي; الساعة 09-08-2010, 15:40.

                تعليق

                • مهتدي مصطفى غالب
                  شاعروناقد أدبي و مسرحي
                  • 30-08-2008
                  • 863

                  #23
                  [align=center]
                  [align=center]
                  تحية أحبائي
                  في المقالة الأولى هناك إشارات إلى قصيدة النثر عند الشاعر العربي الكبير
                  و سنتابع مع دراسة لشاعر عربي آخر
                  الموضوع الثاني:
                  [/align]
                  [/align]


                  07.09.2010[align=center]

                  محمود درويش وقصيدة النثر : أمجد ناصر
                  يكن محمود درويش شاعر قصيدة نثر. هذا معروف. بل لعله من أكثر شعراء الوزن
                  )التفعيلة( الذين ساجلوا، سلباً وإيجابا، شعراء قصيدة النثر. يمكن، أيضاً، أن يبدو للمنحازين
                  إلى “الوزن” سداً منيعاً، إن لم يكن أخيراً، في وجه “طوفان النثر”.
                  رحل درويش وهو على علاقة جيدة مع من يراهم “أفضل شعراء قصيدة النثر”. أزعم،
                  كذلك، أن أقرب الشعراء العرب إلى ذائقته، في مرحلته الأخيرة، هم أولئك. نظرياً لم يكتب
                  درويش قصيدة نثر. أقصد أنه لم يقل إنه فعل. عملياً، في ظني، قام بذلك من دون إعلان.
                  أول إشارة إلى اقتراب مقصود من قصيدة النثر بدأت، كما أزعم، في الاقتباس الذي يمهد لعمله
                  الشعري “كزهر اللوز أو أبعد”.
                  هناك من يعتبر البداية أقدم بكثير: في “المزامير” التي تضمنها ديوانه “أحبك أو لا أحبك”
                  بحسب صبحي حديدي. لا أميل إلى رأي صديقي الناقد الفذ لسبب بسيط: “قصائد” المزامير
                  النثرية هي أقرب شيء إلى ما نسميه “النثر الشعري” وليست قصائد نثر بالمعنى الاصطلاحي
                  للكلمة. تحديداً، كما هي عليه في المدونة الشعرية الغربية )الأوروبية والأمريكية(.
                  القصيدة في أصلها، مصدراً لغويا وممارسة أيضاً، قصد. توجه واع. ممارسة داخل حقل
                  وبنية. هذا ما يعنيه اسمها في العربية. وبذلك قد لا يتشابه اسمها عربيا مع أي اسم آخر لها
                  في الشعريات التي نعرفها. المصدر اللغوي ل “قصيدة” في العربية يرجع، كما نعرف، إلى
                  “قصد”. أي “توجه”.
                  Ii
                  لم يكن درويش يقصد، في ظني، ذلك عندما كتب بعض المزامير نثراً. لا المادة نفسها تجعل
                  المزامير المنثورة في خانة “قصيدة النثر”، ولا الشاعر كرر التجربة لوقت طويل لاحق. يمكن اجتزاء
                  قطع من “ذاكرة للنسيان” واعتبارها “قصائد نثر”. ولكن ذلك لم يكن قصد الشاعر أيضا. هذا
                  فعل لاحق تقوم به “الرغبة” في وضع درويش قريباً من قصيدة النثر، إن لم يكن في داخلها.
                  Iii
                  في السنين الأخيرة ثار جدل حول “شكل” قصيدة النثر العربية كما تتبدى عند الماغوط
                  ويعكسها أسلوبه الشائع عربياً. أي الشكل الذي يتخذ تقطيع “التفعيلة” على الصفحة ولكنه
                  غير موزون.
                  شارك كاتب هذه السطور في ذلك الجدل الذي حاول مساءلة “شكل” قصيدة النثر العربية.
                  لم يصل الجدل الذي، انقطع فجأة، إلى حد حسم “الالتباس” الذي رافق ولادة قصيدة النثر
                  العربية وجعلها، في الممارسة العامة، أقرب إلى “الشعر الحر”، بمعناه الغربي، منها إلى “قصيدة
                  النثر” كما هي عليه عند من أطلقوها وكتبوها قبلنا.
                  هذا موضوع له مناسبة أخرى وحيز مختلف. لكن المهم فيه أن كاتب هذه السطور وجد أن
                  درويش كتب فعلا قصائد نثر ولكن ليس في أي من مجموعاته الشعرية المصنفة كذلك، بل في
                  “يومياته”. أعود الآن اقتباس درويش في ديوانه “كزهر اللوز أو أبعد”.
                  iv
                  لم يكن درويش يعلن، في زعمي، هدنة مفتوحة مع قصيدة النثر وشعرائها من خلال تلك التوطئة
                  بل، لعله كان يمهد لنقلة محتملة لا يريدها أن تفاجئ متلقيه ونقاده الذين اعتبروه “حارس الوزن”.
                  يبدأ الديوان المذكور بهذا الاقتباس من التوحيدي “أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم
                  كأنه نثر، ونثر كأنه نظم”. كان يمكن لدرويش أن يقتبس آخرين، لكنه اقتبس علما من التراث
                  العربي: التوحيدي.
                  لم يكن هناك من مبرر موضوعي في الديوان المذكور لهذا الاستدعاء. فلم يكن في كتابه، إياه،
                  “شبهة” نثر واحدة. لا تكتفي إشارات درويش إلى اقترابه من قصيدة النثر، أو ما يحيل إليها،
                  بذلك الاقتباس، بل جعل لنا شاهداً في واحدة من قصائد الديوان “الموزون” هو التالي:
                  “وسمّي الزمان الجديد بأسمائه الأجنبية يا لغتي،
                  واستضيفي الغريب البعيد ونثر الحياة البسيط
                  لينضج شعري”.
                  هذا ما يقوله درويش في قصيدة “نهار الثلاثاء والجو صاف”، التي تدشن القسم الثاني من
                  ديوانه المذكور.
                  فماذا يعني ذلك عند درويش الذي تتفجر طبقات الموسيقى الداخلية والخارجية من مجرد
                  ملامسته الكلمات؟ إنه يعني شيئاً محدداً. فليس تلفّظ مثل هذا مجانياً. لا أريد أن أرقى بهذين
                  الاقتباسين إلى مرتبة “البيان الشعري”، ولكنهما، مع ذلك ينطويان على شيء من ذلك.
                  التنصيص صريح. والقول واضح. فاقتباسه من أبي حيان التوحيدي قد يعني العودة بقضية
                  “النثر” و”الشعر” إلى جذر أبعد من سجالات اللحظة الراهنة، هو الذي خاض فيها قولاً
                  وكتابة من موقعه الكبير في المدونة الشعرية العربية الحديثة وسهمه الوافر في “التلقي” الذي لا
                  شك أنه كان محسودا عليه.
                  ولكن اختيار درويش لهذه القولة دون سواها من أبي حيان، أو غيره من أعلام التراث العربي،
                  قد لا يعني، في رأيي، عودة إلى الماضي، والقول إن هذا الفهم الذي يلحظ الشعر في النثر والنثر
                  في الشعر كان موجوداً، دائما، في فهمنا ومنجزنا الشعريين وأننا، أبناء اللحظة الراهنة، لم نأت
                  جديداً عندما مالت كفتنا نحو النثر.
                  مثل هذا الفهم الاستثنائي للعلاقة المعقدة بين النثري والشعري الذي تراءى للتوحيدي،
                  لم يشكل سياقاً، أو منجزاً يمكن الركون إليه، بل ظل مجرد التماع ثاقب لم ينر طريق الشعرية
                  العربية القديمة. قلة قليلة من الشعراء القدامى الذين يمكن أن يرى المرء في شعرهم النثر أو حتى
                  مخايله.
                  فقد التزم السياق، كله، بما بدا لهم “شعراً” صريحا لا شبهة فيه للنثر، بينما يمكننا أن نرى
                  مخايل الشعر في الكثير من النثر العربي، خصوصاً، الصوفي منه. ليس من الإنصاف أن نسقط
                  انشغالات اللحظة الأدبية العربية الراهنة على ماضي الكتابة العربية، فنحن، على الأغلب،
                  اكتشفنا النثر في الشعر عن طريق المثاقفة مع “الآخر”. فمن العبث رد شعرية النثر العربية الراهنة
                  إلى جذر عربي قديم. مثل هذا “التأصيل” الذي حاوله البعض جاء في إطار ردّ تهمة العجمة أو
                  النبرة الأجنبية عن المدونة الوحيدة التي يفخر بها العربي: الشعر.
                  V
                  مؤكد، في ظني، أن قصيدة النثر العربية هي وليدة تلاقح مع شعريات أجنبية، ولا ضير في
                  ذلك ما دامت أنتجت، في نهاية الأمر، شعراً عربيا يستمد مادته وبلاغته من النثر. فإذا كانت
                  قولة ابو حيان التوحيدي التي استهل بها درويش ديوانه المذكور تتحدث عن الكلام )الكتابة( التي
                  تقوم صورتها “قوامها” بين نظم )وزن، إيقاع( يتراءى نثراً وبين نثر يتراءى نظماً )موسيقى( فان
                  اقتباسنا الثاني من قصيدة درويش نفسها يشير إلى نوع آخر من النثر هو”نثر الحياة”.
                  بصراحة، ومن دون لبس، يطلب درويش من لغته )قصيدته( أن تستضيف الغريب )العجمة،
                  الأجنبي( مثلما تستضيف نثر الحياة البسيط. لماذا؟ يجيبنا درويش نفسه في نهاية المقطع بكل
                  وضوح “لينضج شعري”.
                  إذن الشعر حسب ما يقوله درويش، في هذه القصيدة، لا ينضج إلاّ إذا استضاف “الغريب”
                  و”نثر الحياة البسيط”. ولكن هل كان “الغريب” و”نثر الحياة البسيط” جديدين، تماماً، عند
                  درويش؟\
                  الجواب، من خلال معرفتي بشعر محمود درويش: كلا. فهما موجودان بشكل واضح في
                  غير عمل. الغريب أساسي في شعر درويش، وهو يشير إليه، في غير موضع، باسمه وجنسه

                  وأعلامه، أما “نثر الحياة” فتمكن رؤيته، بوضوح، في أكثر من عمل له، خصوصا، في المرحلة
                  التي دشنها ديوانه “لماذا تركت الحصان وحيداً” وصولا إلى “أثر الفراشة” الذي أزعم انه يمثل
                  حلول درويش في أرض قصيدة النثر من دون إعلان مسبق. يمكن لنا أن نتعقب هذا الأثر )النثر(
                  في أعمال أخرى مبكرة. ولكن ما هو “نثر الحياة”؟
                  أظن أن درويش قصد المشهد اليومي وتفاصيله بما ينطوي عليه من شخصي وعام، بما هو
                  موضوعي )خارج الذات( وما هو ذاتي صرف، ولدينا في القسم الأول من “كزهر اللوز أو
                  أبعد” ما يؤكد ذلك: الشارع، المقهى، البيت، الجريدة الخ. نثر الحياة هو، بهذا المعنى، ما يبدو
                  هامشياً، وربما مجانياً، ولا يعتبر من عدة “المدونات الكبرى” وعتادها، بل ربما ما يسقط من هذه
                  المدونات باعتباره لا يشكل، في نظر مدوني القضايا والجوهري، مادة للقول الشعري. ربما كان
                  “نثر الحياة” موجودا، منذ بواكير درويش ولكن الغنائية التي اعتبر أحد أسيادها النادرين، هي
                  التي أثنى عليها التلقي العام وألحف في طلبها. حتى في قصائده الطويلة ذات النفس الملحمي
                  كان نثر الحياة موجودا.
                  تذكروا، على سبيل المثال، قصيدته عن راشد حسين ونيويورك، بل تذكروا ديوانه “المحاولة
                  رقم سبعة”. من لم يقتنع بتلك التمهيدات لنثر الحياة عليه أن يرى نثر الحياة، إن لم يكن نثر
                  القصيدة في “أثر الفراشة” الذي يعتبره كاتب هذه السطور أكثر اقتراب ممكن لدرويش من قصيدة
                  النثر ذات الكتلة الطباعية العريضة على الصفحة.
                  Vi
                  “اليوميات”،هنا، ليست يوميات بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. سبق لدرويش أن كتب
                  يوميات ونشرها في “الكرمل” ولكنها لا تشبه هذه “اليوميات” التي تتشح بكل مواصفات
                  قصيدة النثر كما هي عليه عند الموجة الجديدة من شعراء قصيدة النثر الأمريكية: البنية اللغوية
                  المحكمة، السطر الطويل، بل الكتلة الطباعية العريضة على الصفحة، الحادثة العادية، أو التأملية
                  التي لا تقصد إِخباراً بحد ذاته وإن انطوت على إخبار ما، التخفف، ما أمكن، من عبء البلاغي
                  والغنائي، التوتر الداخلي الذي يصنع عصبا يشد الكلام بعضه ببعض، الإيقاع العريض ولكن
                  المضطرد.
                  اليوميات هي مادة “إخبارية”. توثيق يلجأ إليه الناس لتسجيل لحظة حياتية، ذات طابع
                  يومي، سواء في سفر أو إقامة. إنها أيضا ما يكتبه الموظفون العموميون من ملاحظات تتعلق
                  بعملهم والشخوص الذين يحتكون بهم. هناك شكل ثابت ومعروف ل “اليوميات” في الغرب
                  )ليس ثمة الكثير منها عربيا( يصعب أن توضع “يوميات” درويش في إطارها.
                  إنها، في زعمي، قصائد نثر تقتفي السجال الذي خضناه في السنين الأخيرة حول شكل
                  قصيدة النثر ومضمونها. كان درويش يتابع هذا السجال. أنا أعرف ذلك من خلال أكثر من
                  حديث معه. ربما أخذ على هذا السجال “تشدده” ولكنه كان يتابعه. ليس لدي “برهان” مادي
                  ملموس على تأثر درويش بهذا السجال الذي قدم “نماذج” و”تطبيقات” لقصيدة النثر الحقيقية
                  على صفحات الصحف.
                  ذلك مجرد حدس. هذا ليس مهما بالطبع. ما يهم، بالنسبة لي، أن درويش لم يكن ممكنا
                  أن يكتب هذه “اليوميات” لولا رغبته في تجريب كتابة قصيدة النثر من دون أن يقول إنه يكتب
                  قصيدة نثر، خصوصا، في ظل ما هو شائع عنه: العداء لقصيدة النثر.
                  Vii
                  نحن، إذن، أمام “قصائد” حاولت مواصلة مشروع شعري انعطافي عند شاعر لم يقلقه
                  “الجمهور” لأنه، ببساطه، يمتلكه، ولكن تقلقه القصيدة. قلقه حيال قصيدته وصلتها بما يكتب
                  عربيا وأجنبيا، هما اللذان جعلا هذه القصيدة تذهب في اتجاه معاكس لقارئها “التقليدي”
                  وتنصت، فقط، إلى صوت نفسها وما يتطلبه الفن من حاجة، دائمة، إلى توسيع حدوده والتفلت
                  من الأطر التي يحاول التلقي، القرائي والنقدي، حبسه فيها.
                  Viii
                  يمكن لمن يريد أن يرى الشعر في نثر درويش أن يجد شواهد عديدة، ويمكن لمن يريد العكس أن
                  يحصل على مبتغاه. آمل أنني لم أحمل نص درويش المعاين هنا أكثر مما يحتمل. الأمر لا يتعلق
                  بانطباع، بل بقراءة. قدمت قراءة سريعة لهذا العمل عندما صدر ولم تزعج درويش. قلت له
                  أكثر من ذلك: تلك ليست “يوميات”. فلِمَ أسميتها كذلك؟ فقال لأن مادتها “يومية”. قلت
                  له: لو لم تضع تلك الشذرات الشعرية الموزونة في الكتاب لحصلنا على عمل ذي وحدة عضوية.
                  فقال إنها كانت ضرورية. أنا أعرف “ضرورتها”. لم يرغب درويش في قطع “حبل السرّة” مع
                  قارئه. مع أفق التوقّع




                  [/align]
                  ليست القصيدة...قبلة أو سكين
                  ليست القصيدة...زهرة أو دماء
                  ليست القصيدة...رائحة عطر أو نهر عنبر
                  ليست القصيدة...سمكة .... أو بحر
                  القصيدة...قلب...
                  كالوردة على جثة الكون

                  تعليق

                  • الشاعر محمود مرعي
                    عضو الملتقى
                    • 18-05-2010
                    • 162

                    #24
                    أخي الكريم أنا أبحث في كتابات درويش
                    أنت تنقل رأي فلان وعلان من المنحازين الى النثر
                    ويبحثون عن أي جملة يسندون عرج منهجهم.
                    أنا اخبرك أن درويش لم يكتب (قصيدة النثر)
                    حتى لو نقلت ألف رأي ، فالصواب انه لم يكتبها
                    لاني مطلع على كتابة درويش من الفها الى يائها

                    تعليق

                    • مهتدي مصطفى غالب
                      شاعروناقد أدبي و مسرحي
                      • 30-08-2008
                      • 863

                      #25
                      المشاركة الأصلية بواسطة جومرد حاجي مشاهدة المشاركة
                      بارك الله فيك أخي الشاعر مهتدي مصطفى
                      سررت بمروري من هنا ، لك مني جزيل الشكر
                      و التقدير
                      الأديب جومرد حاجي
                      شكراً لك ..
                      لك محبتي و مودتي و تقديري
                      ليست القصيدة...قبلة أو سكين
                      ليست القصيدة...زهرة أو دماء
                      ليست القصيدة...رائحة عطر أو نهر عنبر
                      ليست القصيدة...سمكة .... أو بحر
                      القصيدة...قلب...
                      كالوردة على جثة الكون

                      تعليق

                      • مهتدي مصطفى غالب
                        شاعروناقد أدبي و مسرحي
                        • 30-08-2008
                        • 863

                        #26
                        المشاركة الأصلية بواسطة الشاعر محمود مرعي مشاهدة المشاركة
                        أخي الكريم أنا أبحث في كتابات درويش
                        أنت تنقل رأي فلان وعلان من المنحازين الى النثر
                        ويبحثون عن أي جملة يسندون عرج منهجهم.
                        أنا اخبرك أن درويش لم يكتب (قصيدة النثر)
                        حتى لو نقلت ألف رأي ، فالصواب انه لم يكتبها
                        لاني مطلع على كتابة درويش من الفها الى يائها
                        شكراً لك
                        أنا لم أضع هاتين المقالتين لك ..إنما بناءً على طلب الأديب الصديق : محمد ثلجي
                        و للقارئ الذي لا يعمي حقده على قصيدة النثر بصيرته والفكرية و بصره الثقافي ..
                        و لا أبحث عن إقناعك فهذا شيء يخصك وحدك ..فأنت لا تريد أن ترى الحقيقة ..
                        و تتهمني أني أنقل عن فلان و علان ... و من أنقل عنهم من أهم أدباء العربية .. فهل قرأت للشاعر : أمجد ناصر أي نص شعري ؟؟
                        و هل قرأت للأديب صبحي حديدي أي نص ؟؟
                        على كل أحيلك لما قاله الشاعر الكبير محمود درويش في لقائه المطول مع الأديب و الناقد المعروف : عبده وازن .. حول قصيدة النثر .. و حول عدم رغبته بتسمية أعماله المكتوبة كقصيدة نثر ...
                        الموضوع الثالث : الجزء الأول من لقاء الأديب : عبده وازن مع الشاعر العربي الكبير : محمود درويش
                        محمود درويش: قصيدة النثر حازت شرعيتها وعلى شعرائها أن يعترفوا بالآخرين
                        14/03/2007
                        حاوره : عبده وازن


                        تحار من أين تبدأ الحوار مع محمود درويش. أتبدأ من شعره الذي يشغل المعترك الشعري العربي الراهن، بأسئلته وقضاياه، أم من السياسة التي مارسها وكأنها فعل إبداعي؟ أم من تقاطع الذاكرة الخاصة مع الذاكرة العامة أو الوجدان الذاتي مع الوجدان الشعبي؟

                        لا يحتاج الحوار مع محمود درويش الى ذريعة. تاريخ هذا الشاعر هو أكثر من تاريخ وحاضره أكثر من حاضر. هو الآن أكثر الشعراء العرب رواجاً وانتشاراً، لكنه في الوقت نفسه من أشد الشعراء انطواء على أنفسهم وإصغاء الى صمتهم الداخلي. هذا الشاعر «الجماهيري» هو شاعر حديث جداً وطليعي وذو نزعة اختبارية. أمسياته التي تجذب دوماً جمهوراً غير متوقع، في عاصمة عربية وأخرى، تدل على قدرة قصائده على اختراق الذاكرة والمخيلة معاً. لكن الشاعر، عوض أن يستسلم لجمهوره الكبير يرتقي به الى مصاف التلقي الحقيقي. فالتصفيق المدوي تظل تردده الصالة الكبيرة، لكن
                        الشعر وحده هو الذي يفعل فعله. وربما لم يُؤتَ لشاعر أن يكون جماهيرياً ونخبوياً في آنٍ واحد، وأن يكون قريباً من قرائه وبعيداً منهم، مثلما أوتي
                        لمحمود درويش. هذا الشاعر التراجيدي المنبت استطاع أن يكون شاغل الناس وشاغل الشعراء والنقاد والقراء على اختلاف أمزجتهم. لا يحب محمود درويش كلمة «جمهور» أو «جماهير»، يفضل كلمة قارئ أو قراء. هذا ما بات واضحاً الآن تمام الوضوح. يحس الشاعر انه يكتب لنفسه مثلما يكتب لقارئه. انها المعادلة الصعبة التي حققها محمود درويش، صانعاً من الشعر ذاكرته وذاكرة قرائه، ذاكرته وذاكرة الأرض المجروحة. ولئن كان ولا يزال شاعر القضية فهو نجح في تحمل عبء هذه الصفة أو الكناية من غير أن يتخلى عنها لحظة. بل هو عمّق هذه الصفة حتى أضحت مغروسة في تراب الماضي - الحاضر. انه الشاعر أولاً وأخيراً وربما الشاعر فقط، سارق النار ومضرمها، الشاعر السري المتجذر في أرض الحلم والمنفتح على شمس الرؤيا. الشاعر الذي جعل من مأساته التي هي مأساة أرضه، ملحمة تراجيدية، تمتزج فيها النبرة الغنائية العالية والصوت الانساني الخافت.

                        حياة صاخبة، شعراً وسياسة وأمسيات وأضواء، تقابلها حياة هادئة جداً مفعمة بالصمت والتأمل.

                        عندما دخلت بيت محمود درويش في عمان، فوجئت بالهدوء الذي يرين عليه، وبالصمت الذي يحياه هذا الشاعر – الرمز. وحين سألته عن المصعد المعطل في البناء، استغرب، واستغربت أكثر عندما قال لي انه لم يخرج من البيت منذ ثلاثة أيام. يعيش محمود درويش وحيداً بين بيته في عمان وبيته في رام الله. هذه الوحدة لا تكسرها سوى الخادمة الفيليبينية التي تقصده ظهر كل يوم لتنهي الواجبات المنزلية وتغادر. إلا ان بيت الشاعر ليس بارداً ولا خاوياً مثل بيوت العازبين عادة. ثمة ضوء في هذا المنزل ولو كانت الشبابيك مغلقة، وثمة دفء روحي وطمأنينة. مع ان الشاعر الكامن في أعماق محمود درويش لا يعرف الاطمئنان ولا السكينة. شاعر قلق، لا يضع المفتاح في قفل الباب عندما يستسلم للنوم ليلاً. وكي يبدأ نهاره يحتاج الى المزيد من الوقت. الصباح المتأخر قليلاً هو إما للكتابة أو للقراءة. أما النهار فيبدأ بعد الظهيرة.

                        لا ذريعة لمحاورة محمود درويش وإن صدرت قبل أيام أعماله الكاملة في أربعة مجلدات، وفي طبعة هي الثامنة عشرة. وقبلها صدر ديوانه البديع «كزهر اللوز أو أبعد» وفيه تتجلى تجربته الفريدة التي وضعته في مقدم الشعراء المحدثين والجدد والباحثين عن معادلة شعرية جديدة، وعن لغة مجهولة وجماليات ملؤها الدهشة. وقبل هذا الديوان كانت صدرت أيضاً أعماله «الجديدة» في مجلد خاص (دار رياض الريس).

                        يظل محمود درويش متجدداً باستمرار، والحوار معه أشبه بالرحلة الى عالم ملتبس بين الواقع والتاريخ والحلم والجمال... وها هو يفتح «دفاتره» لـ «الحياة».



                        > الآن مع صدور مجموعتك الكاملة للمرة الثامنة عشرة كيف ترى إليها؟ ما الذي تحبه فيها وما الذي تكرهه؟ كيف تنظر الى البدايات التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الفلسطينية؟
                        - حين اضطر الى قراءة أعمالي الأولى من أجل تصحيح الأخطاء الطباعية استعداداً لطبعة جديدة، وليس من قبيل مراقبة تطوّري أو مراقبة ماضيّ الشعري، أشعر بكثير من الحرج. أي انني لا أنظر الى ماضيّ برضا، وأتمنى عندما أقرأ هذه الأعمال، ألا أكون قد نشرتها كلها، أو ألا أكون نشرت جزءاً كبيراً منها. لكنّ هذه مسألة لم تعد منوطة بي، انها جزء من تراثي. لكن تطوري الشعري تم من خلال هذا التراكم وليس من خلال القفز في الفراغ. لذلك عليّ أن أقبل بطاقة الهوية هذه كما هي، وليس من حقي اجراء تعديلات إلا بقدر المستطاع، أي تعديلات على بعض الجمل وعلى بعض الفقرات أو حذف بعض الأسطر، من منظور الاعتبار الجمالي وليس من أي منظور آخر. ولو أتيح لي لكنت دائم التنقيح في أعمالي. ولكن لو أتيح لي أيضاً أن أحذف لكنت ربما حذفت أكثر من نصف أعمالي. لكن هذا الأمر ليس في يدي وليس من حقي على ما يبدو. هذا أنا في مراهقتي الشعرية وفي صباي وفي شيخوختي، أنا كما أنا. وأعتقد أن كل شاعر لديه حاسة نقد ذاتية، ينظر النظرة نفسها الى أعماله. وأريد أن أقول هنا إن الشعراء يولدون في طريقتين: بعضهم يولد دفعة واحدة، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك. ففي التراث العربي مثلاً عندنا طرفة بن العبد وفي التراث العالمي هناك رامبو. ثم هناك شعراء يولدون «بالتقسيط» وأنا من هؤلاء الشعراء. ولادتي لم تتم مرة واحدة. وأرى أن مشكلة الولادة في دفعة واحدة عمرها قصير.



                        > هناك ظاهرة عجائبية في مثل هذه الولادات!
                        - هناك عبقرية خاصة وربما مأسوية. فالشاعر الذي يولد دفعة واحدة لا يستطيع أن يواصل عمره الشعري. أما الشعراء الذين يولدون على مهل فتتاح لهم فرصة من التجربة والكتابة لا تتاح لمن يصبّون تجربتهم في دفعة واحدة، ويصمتون مثلما فعل رامبو. هذا السؤال صعب أصلاً على كل شاعر يستطيع أن يكتب شعراً في العشرينات، ولكن هل يستطيع كل شاعر أن يكتب بعد الستين؟ هذا هو السؤال الصعب.



                        > ولكن هناك أمثلة متضاربة في هذه القضية!
                        - كل شاعر يملك جواباً خاصاً أو ربما هو يملك حظاً خاصاً. وأعتقد ان الحظ في آخر الأمر هو الذي يلعب دوراً في نشأة الشاعر، وفي قدرته على التطور. ولكن قبل الحظ هناك انتباه الشاعر الى عيوبه الشعرية، انتباه الشاعر الى مأزقه الشعري. وكل شاعر يحل مأزقه في طريقته الخاصة، ولكن ليس التكرار هو أفضل الطرق، أي تكرار ما قاله الشاعر أو كتابة تنويعات على ما كان كتب من شعر.

                        > ما رأيك بالمبادرة التي يقوم بها شعراء بحذف شعرهم الأول وانكاره؟ وهذا ما قام به مثلاً الفرنسي رينه شار أو الشاعر أدونيس؟ هل أخفيت أنت قصائد أولى، لك وخصوصاً عندما كنت في فلسطين؟
                        - أنا لم أنشر في كتب كل ما كتبت من شعر. بعضه نشر في الصحافة، وبعضه لم ينشر. مجموعتي الشعرية الأولى حذفتها كلياً ولا أعترف بها البتة وكانت صدرت في فلسطين أيام الفتوّة. وهي عبارة عن قصائد مراهقة شخصية وشعرية. وأنا أتمنى أن أواصل الحذف. هذه هي المسألة الشائكة. حتى في مرحلتي الراهنة، كتبت قصائد عدة لم أدرجها في مجموعاتي الشعرية. نشرتها في الصحف ولكنني لم أضمّنها كتبي. من حق الشاعر أن يحذف ما يشاء من شعره. لكن السؤال هو: هل رأيه هو الصواب أم لا؟ هناك رأي القارئ أيضاً.



                        > بودلير يتحدّث دوماً عن الناقد الكامن في الشاعر والذي يوجهه!
                        - صحيح. ولكن قد يؤثر الشاعر نصاً له على آخر، وقد لا يشاركه القارئ هذا الإيثار بل قد يخالفه فيه.



                        > ما كان عنوان مجموعتك الأولى التي أسقطتها من أعمالك؟
                        - كان عنوانها «عصافير بلا أجنحة».



                        «سجّل أنا عربي»
                        > ماذا تعني لك اليوم قصائد راسخة في ذاكرة الجمهور مثل «سجّل أنا عربي» و «جواز السفر» بعدما اجتزت ما اجتزت من مراحل شعرية؟
                        - هذا النوع من الشعر كتبته تلبية للنداءات الداخلية والخارجية. كان سؤال الهوية هو السؤال الملح في شبابي الشعري أو صباي. وهو ما زال مطروحاً حتى الآن، ولكن في طرق مختلفة، وفي أشكال تعبير مختلفة. كانت ظروف الحياة هناك تقتضي ربما مثل هذه المخاطبة المباشرة. هذا أولاً. ثانياً أصبحت هذه القصائد جزءاً من ذاكرة جماعية لا أستطيع أن أتحكم بها أو أتصرف في شأنها. إنها لم تعد ملكي أبداً. وهي ساهمت أيضاً في انتشاري شعرياً. ويجب ألا أكون مجحفاً أو ناكراً للجميل في حق هذا النوع من الشعر. هذا إذاً ساهم في شق الطريق أمامي، وفي تمهيدها لكي أضيف تجارب شعرية جديدة ومختلفة عما سبقها، من حيث التناول الشعري واللغة الشعرية والاسلوبية. لكن التأسيس الذي تم في العلاقة بين القارئ وبيني أذن لي في أن أتتطور، وأتاح للقارئ أن يقبل هذا التطور. فنحن نكبر معاً، أنا وقارئي.



                        > ماذا باتت تعني لك القصيدة السياسية؟
                        - القصيدة السياسية اليوم لا تعني لي أكثر من خطبة، قد تكون جميلة أو غير جميلة. إنها تخلو من الشعرية أكثر من القصيدة التي تحرص على أن تنتبه لدورها الإبداعي ودورها الاجتماعي. أي على الشاعر أن ينتبه الى مهنته وليس فقط الى دوره. القصيدة السياسية استنفدت أغراضها في رأيي، إلا في حالات الطوارئ الكبرى. ربما أصرخ غداً غضباً، تعبيراً عن أمر ما، ولكن لم تعد القصيدة السياسية جزءاً من فهمي المختلف للشعر. أعتقد إنني الآن في مرحلة، أحاول فيها أن أنظف القصيدة مما ليس شعراً إذا أمكن التعبير. ولكن وما هو الشعري وما هو غير الشعري؟ هذه مسألة أيضاً. السياسة لا يمكنها أن تغيب تماماً من هوامش القصيدة أو خلاياها. لكن السؤال هو كيف نعبر عن هذه السياسة. كل انسان فينا مسكون بهاجس سياسي، ولا يستطيع أي كاتب في أي منطقة من العالم أن يقول: أنا نظيف من السياسة. فالسياسة هي شكل من أشكال الصراع، صراع البقاء وصراع الحياة. ومن طبيعة الأمور أن يكون هناك سياسة. والسؤال هو: هل تكون القصيدة سياسية أم ان عليها أن تحمل في كينونتها بعداً سياسياً؟ أو هل هناك إمكان لتأويل سياسي للنص الشعري أم لا؟ اما أن تكون القصيدة عبارة عن خطاب مباشر بتعابير مستهلكة ومستنفدة وعادية فهذا لم يعد يعني لي شيئاً.

                        > ما رأيك بظاهرة الشعر السياسي الجديد الذي يكتبه شعراء جدد عرب أو في العالم أو الذي كتبه شعراء مثل ريتسوس وغينسبرغ وجيل «البيت» جنريشين وقد أعادوا النظر في القصيدة السياسية وفي الواقعية؟
                        - ريتسوس يجب أن نميزه عن الآخرين.



                        > لكنه كتب قصائد سياسية عبر لغة مختلفة.
                        - حاول ريتسوس أن يكتب اليومي، لكنّ هذا اليومي الذي يبدو لنا عادياً يخبّئ بعداً اسطورياً ما. ولعل القصيدة التي تسمى يومية لدى ريتسوس ليست قصيدة يومية، ففي هذا «اليومي» بُعد أسطوري وميتافيزيقي. أما في شأن ألن غينسبرغ وبعض الشعراء الأميركيين فهم يكتبون شعراً سياسياً في المعنى المباشر للكلمة. لكن الشعر الغربي والأميركي مشبع بالجماليات، وقد انتهى البحث في هذا الموضوع، الموضوع الجمالي. وحاول الشعراء أن يعودوا الى ما هو مختلف، محاولين أن يجعلوا الشعر يمارس دوراً سياسياً واجتماعياً، على خلافنا نحن. فنحن خارجون من تراث شعري سياسي مباشر في محاولة لتطوير هذا الشعر ورفعه الى مستوى جمالي أفضل. والطريقان متعاكسان ومختلفان. ربما عندما تبلغ الجمالية العربية مستوى أرقى بكثير، قد نحنّ الى أن نهجو الواقع، في المعنى السياسي، في معنى الاحتجاج والرفض. وشعر الاحتجاج أصلاً لم ينته في العالم، ولكن هل يحتج الشعر بكونه شعراً أم بكونه كلاماً أو موقفاً؟



                        > ماذا بات يعني لك وصفك بشاعر القضية أو شاعر المقاومة وفلسطين؟
                        - المسألة لا تتعلّق بي ولا أستطيع أن احتج إلا على محاولة محاصرتي في نمطية معينة. هذه التسميات بعضها بريء، وينطلق من حب القضية الفلسطينية وحب الشعب الفلسطيني، وبعضها نوع من اضفاء الاحترام والتشريف على القول الشعري المتعلق بالقضية. لكن الرأي النقدي هو أخبث من ذلك. الرأي النقدي يحاول أن يجرّد الشاعر الفلسطيني من شعريته ليبقيه معبّراً عما يسمى مدونات القضية الفلسطينية. هناك طبعاً اختلاف جوهري كبير بين النظرتين: نظرة بريئة ونظرة خبيثة. طبعاً أنا فلسطيني وشاعر فلسطيني، ولكن لا أستطيع أن أقبل بأن أعرّف بأنني شاعر القضية الفلسطينية فقط، وبأن يدرج شعري في سياق الكلام عن القضية فقط وكأنني مؤرّخ بالشعر لهذه القضية.



                        الشاعر - الرمز
                        > ولكن شئت أم أبيت أنت الشاعر - الرمز!
                        - كل شاعر يتمنى أن يكون صوته الخاص معبّراً عن صوت عام أو جماعي. قلائل هم الشعراء الذين يلتقي داخلهم بخارجهم في طريقة تخلق التباساً بين رمزية الشاعر وشعريته. لكنني لم أسع شخصياً الى ذلك. ربما هو الحظ الذي وفّر لي هذه المكانة. اما ان أسعى الى أن أكون رمزاً وأحرص على أن أكون رمزاً، فأنا لا أريد ذلك، أريد أن ينظر إليّ من دون أن أُحمّل أعباء رمزية مبالغاً فيها، ولكن يشرّفني أن ينظر الى صوتي الشخصي وكأنه أكثر من صوت، أو أن «أناي» الشعري لا تمثل ذاتي فقط وإنما الذات الجماعية أيضاً. كل شاعر يتمنى أن يصل شعره الى مدى أوسع. وأنا لا أصدّق الشعراء الذين يحددون القيمة الشعرية من خلال عزلتهم عن القراء. أنا لا أقيس أهمية الشعر بمدى انتشاره ولا بمدى انعزاله.

                        ولكن أن تتحقق المسألتان أي الانتشار مع الجودة الشعرية، فهذا ما يتمناه أي شاعر، وإلا لماذا يقرأ الشعراء شعرهم في الأمسيات؟ لماذا يطبعون دواوينهم إذا كان القارئ لا يهمهم؟



                        > تجاوزت الستين لكنك تزداد نضارة شعرية.
                        - سرّي بسيط جداً.



                        > لا أشعر بأنه بسيط.
                        - بسيط في كلامي العام عنه وليس في المعنى الشعري. أولاً أنا لا أصدق شعري. وأشعر بأنني في حاجة الى لغة شعرية تعبيرية تحقق الشعرية في القصيدة في شكل يجعلها أكثر شعرية إذا أمكن. أي انني أحاول أن أخفف من ضغط اللحظة التاريخية على جمالية الشعر، من دون أن أتخلّى عن الشرط التاريخي. السر الثاني انني لا أصدق التصفيق. فأنا أعرف انه عابر أو آني، وقابل للتغيير والتعديل وللاعتذار أيضاً وللتمرّد على الشعر. انني مسكون بهاجس هو عدو كتابتي حتى الآن ما أريد أن أكتبه. تسألني: ما الذي تودّ أن تكتبه؟ فأقول لك: لا أعرف. إن رحلتي هي الى المجهول الشعري بحثاً عن قصيدة ذات قدرة على أن تخترق زمنها التاريخي وتحقق شرط حياتها في زمن آخر. هذا ما أسعى إليه، ولكن كيف أعرّف بهذه المسألة؟ هنا أيضاً لا جواب نظرياً ولا فكرياً. الجواب هو جواب ابداعي. كل الاسئلة حول الشعر لا تقنعنا إلا اذا تحققت شعرياً أو في الكتابة الشعرية. فأنا دائم القلق وهذا سرّي، ومتمرّد على نفسي. وأقول لك إنني لا أقرأ شعري بيني وبين نفسي، لا أقرأه البتة، فلا أعرف ما كتبت. لكن كل ديوان لي أعيد قراءته قبل طباعته عشرات المرات وأنقحه عشرات المرات، الى أن أشعر بأنه أصبح قابلاً للنشر. وعندما يصدر الديوان أتحرر منه كلياً ويصبح ملك غيري، ملك النقد وملك القارئ. وهنا يكون السؤال الصعب: ماذا بعد؟ الآن أشعر بأنني خالي الوفاض كما يقال، ومسكون بقلق ربما يكون وجودياً. هل أستطيع أن أكتب من جديد، أم لا؟ دائماً عندما أصدر كتاباً أشعر بأنه الكتاب الأخير.



                        > لكنني أشعر أن كل كتاب لديك يحمل معه بداية ما...
                        - إذا كان رأيك هذا مصيباً فهو يفرحني.



                        > أنت شاعر مراحل، وإذا عدنا الى أعمالك الكاملة نشعر بأن هناك محطات وأن كل محطة بداية...
                        - أجل هناك مراحل ومحطات.



                        > وأعتقد ان ثمة خيطاً داخلياً يربط بينها.
                        - أجل، انها مراحل متصلة، ومن خلال مراقبتي لعملي الشعري ألاحظ أن في كل كتاب جديد تستطيع أن تجد بذرة كانت في كتاب سابق أو كتب سابقة. لكن البذرة هذه تجد إمكان تفتح، ورعايتها في طريقة جديدة تحوّلها نصاً جديداً. الشاعر يتوالد من تلقاء نفسه، من تلقاء تجربته ومن علاقته بالعالم وعلاقته بالوجود وبثقافته ومن وعيه الشعري، وكذلك لا وعيه الإبداعي. أما كيف يولد الشعر؟ أو ما هو الشعر؟ مثل هذه الأسئلة أشبه بالأسرار. فالشعر سر، والسر هو ما يجعل الشعر مستمراً. ليس هناك من اكتشاف شعري نهائي وكل كتابة هي محاولة إجراء تعديل على مفهوم عام للشعر. ولكن كل كتابة جديدة تملك اضافات ما، هي عبارة عن إعادة التعريف بالشعر.



                        أنا شاعر غير مكرّس
                        > صفتك شاعراً مكرّساً وصاحب سلطة شعرية، هل أثرت عليك؟ ماذا تعني لك هذه الصفة؟
                        - إذا كنت شاعراً مكرّساً، فأنا مكرّس في الحياة الثقافية أو لدى القارئ. ولكن في العلاقة بيني وبين نفسي لست مكرّساً. أنا لم أكرّس نفسي حتى الآن. وقد يبدو هذا الكلام ادعاء للتواضع، ولكن هذه حقيقة ما أشعر به. أنا لم أكرّس نفسي في معنى إنني لم أطمئن الى تجربتي الشعرية، لم أطمئن اليها أبداً، وما زلت أعتقد بأنها في حاجة الى تجربة وتجريب جديدين، والى تطوير دائم والى التمرد على ما نسميه الانجاز الراهن. أنا لست راضياً عن نفسي أو لست أشارك الآخرين في المكانة التي احتلها في الذائقة العامة أو الوعي العام.

                        > هل تخشى أن تتوقف ذات يوم عن الكتابة؟
                        - نعم.



                        > هل أحسست هذه الخشية فعلاً؟
                        - هذه خشية دائمة خصوصاً عندما أنهي عملاً جديداً. إنني دائم الخوف من هذه القضية. إنها بمثابة هاجس. وأعزّي نفسي بأنني عندما أشعر، أو عندما اعترف بجفاف الماء في تجربتي الشعرية أو في لغتي، أجد المناسبة حسنة لأكتب النثر. فأنا أحب النثر كثيراً.



                        ظلمت نثري
                        > لكنك لم تكتب قصيدة نثر مع انك كتبت الكثير من النثر؟
                        - كتبت الكثير من النثر لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع. أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسميه نثراً. ولكن لم أُولِ النثر الأهمية التي يستحقها،. علماً انني من الشديدي الانحياز الى الكتابة النثرية. والنثر لا يقل أهمية عن الشعر. بل على العكس، قد يكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من النثر. فإذا جفّ نصّي الشعري فقد ألجأ الى النثر وأمنحه وقتاً أكثر وأولية جدية أكثر. عندما كنت أكتب نثراً كنت أشعر أن النثر يسرق مني الشعر. فالنثر جذاب وسريع الانتشار، ويتحمّل أجناساً أدبية أكثر من الشعر. ويستطيع أن يهضم الشعر ويعطيه مساحة وحركة أكبر. وكنت عندما أكتب النثر انتبه الى انني نسيت القصيدة وأن عليّ أن أعود اليها. هكذا أكون بين النثر والشعر، لكنني معروف بأنني شاعر ولا أسمّى ناثراً.



                        > لكنك لم تكتب قصيدة النثر، لماذا؟
                        - ما دمت أكتب نثراً فأنا أكتب النثر، من دون أن أسميه قصيدة. لماذا ننظر الى النثر نظرة دونية ونقول انه أقل من الشعر؟ صحيح أن النثر يطمح الى الشعر والشعر يطمح الى النثر... يعجبني قول للشاعر باسترناك: "أجمل ما في القصيدة ذلك السطر الذي يبدو نثرياً". انني لا أريد أن أفرّق كثيراً بين الشعر والنثر، ولكن انطلاقاً من التجنيس الأدبي ما زلت أعطي للنثر اسمه وللشعر اسمه. لكن السؤال هو: كيف تتحقق الشعرية في قوام قصيدة؟ وأعتقد أن علينا أن نوقف النقاش حول الفارق أو الاختلاف أو الائتلاف أو الابتعاد أو الاقتراب بين قصيدة النثر والقصيدة. هذا السجال تجاوزه العالم. أما إذا سألتني عن رغبتي في كتابة قصيدة نثر فأرجو أن أكتب نصاً نثرياً من دون أن أسميه قصيدة نثر.
                        > ولكن من الملاحظ في شعرك ولا سيما في المرحلة الأخيرة أن ثمة حواراً بين النثر والشعر، وقد عرفت تماماً كيف تستفيد من قصيدة النثر، لا سيما أنك شاعر تفعيلة، وقد استشهدت بجملة بديعة لأبي حيان التوحيدي في ديوانك الأخير "كزهر اللوز أو أبعد"! وما يميز القصيدة لديك هو هذا الفضاء الرحب، الفضاء النثري والموسيقى الداخلية القائمة على تناغم الحروف!
                        - أولاً، أود أن أقول ان ليس لدي أي تحفظ على قصيدة النثر. والتهمة التي لاحقتني في انني ضد قصيدة النثر زمناً هي باطلة.

                        قلت وأقول دائماً ان من الانجازات الشعرية المهمة في العالم العربي بروز قصيدة النثر، أي تأسيس طريقة كتابة مغايرة للشعر التقليدي والحداثة التقليدية. قصيدة النثر تريد أن تميز نفسها وتريد أن تطور أو أن تضيف نصاً مختلفاً عن القصيدة الكلاسيكية وعن القصيدة الحديثة التي صنعها جيل الرواد. هذا أولاً. ثانياً، أنا من المعجبين جداً بشعراء كثيرين يكتبون قصيدة النثر. وأقول دائماً إن هناك أزمة في ما يسمى قصيدة التفعيلة، وأنا أكره هذه التسمية، ولكن لا بديل لها. والأزمة أصلاً تكمن في الكتابتين.



                        ليست القصيدة...قبلة أو سكين
                        ليست القصيدة...زهرة أو دماء
                        ليست القصيدة...رائحة عطر أو نهر عنبر
                        ليست القصيدة...سمكة .... أو بحر
                        القصيدة...قلب...
                        كالوردة على جثة الكون

                        تعليق

                        • مهتدي مصطفى غالب
                          شاعروناقد أدبي و مسرحي
                          • 30-08-2008
                          • 863

                          #27
                          [align=center]
                          الجزء الثاني من الموضوع الثالث:
                          [/align]
                          > الشعر العمودي أيضاً شهد أزمة.
                          - لا بل انها الأزمة التي تشهدها الثقافة العربية في كل أبعادها. ولكن إذا أجرينا احصاء، اذا أردنا ان نختار عشر مجموعات شعرية صدرت في هذا العام أو عشرين، سنرى ان الكمية الكبرى أفضل هي لقصيدة النثر التي تحمل النوعية الفضلى. ولكن هذا يعني أن دور قصيدة التفعيلة انتهى أو انتهت قدرتها على استيعاب ايقاع الزمن الحديث! أو انها لم تعد قادرة على تطوير اللغة في طريقتها الخاصة! أنا من آخر المدافعين عن قدرة قصيدة التفعيلة على أن تستفيد من اقتراحات أو من تصورات قصيدة النثر ومشروعها، وأن تكتب الرؤيا الجديدة لقصيدة النثر كتابة موزونة. أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. انني أحب الموسيقى في الشعر. انني مشبع بجماليات الايقاع في الشعر العربي. ولا أستطيع أن أعبّر عن نفسي شعرياً إلا في الكتابة الشعرية الموزونة، ولكنها ليست موزونة في المعنى التقليدي. لا. ففي داخل الوزن نستطيع ان نشتق ايقاعات جديدة وطريقة تنفس شعرية جديدة تخرج الشعر من الرتابة ومن القرقعة الخارجية. لذلك فإن أحد أسباب خلافي مع بعض الأصدقاء من شعراء قصيدة النثر هو مصدر الايقاع الشعري، الموسيقى الداخلية. فهم يرون أن الموسيقى الداخلية لا تتأتى إلا من النثر، أما انا فأرى ان الموسيقى الداخلية تأتي من النثر ومن الايقاع أيضاً. وعلى العكس، فإن وضوح الايقاع الآتي من الوزن يطغى على الايقاع المنبثق من النثر. وأصلاً كل كتابة فيها ايقاع. في النثر إيقاع وفي الشعر إيقاع وفي الكلام اليومي والعادي ايقاع. إذاً الايقاع موجود. لكن الأمر هو: كيف نضبط هذا الايقاع وكيف نجعله مسموعاً أو حتى بصرياً. أعتقد أن ما زال في قدرة الوزن الشعري، إذا نظر اليه الشاعر في طريقة مختلفة وإذا عرف كيف يمزج بين السردية والغنائية والملحمية وكيف يستفيد حتى من النثرية العادية، ما زال في قدرته أن يحل بعض الصعوبات في البحث عن ايقاع شعري جديد. هذا هو عملي الشعري، أي ان أكتب الوزن كأنه يسرد وأكتب النثر كأنه يغني. هذه هي المعادلة، بل هذا هو الحوار بين الشعر والنثر.



                          قصيدة التفعيلة وأزمتها
                          > الموسيقى داخل القصيدة أقوى من الوزن الخارجي... ألا توافقني أن قصيدة التفعيلة تعاني أزمة؟
                          - هناك مشكلة فعلاً. لكن المشكلة هذه تتعلق بالشعر نفسه وبالموهبة الشعرية والخبرة الشعرية. قصيدة التفعيلة تستمد شرعيتها الايقاعية من كونها كسراً للنظام التقليدي، ولكن عندما تقع في نظام تقليدي آخر تفقد شرعيتها. لذلك تستطيع هذه القصيدة أن تطور ايقاعاتها وبنيتها. مثلاً: أنا ليس لديّ سطر شعري، القصيدة لديّ تتحرك كلها مثل كتلة دائرية، إنها تتدوّر. القافية عندي أخفيها في أول الجملة أو في وسطها. إذاً هناك طريقة إصغاء الى اللغة، يجب أن تحرر الشاعر من الرتابة، وعلى الشاعر أن يعرف كيف يتمرّد على الرتابة الموسيقية. وأحياناً يكون هناك ايقاع عالٍ لا يُجمّل إلا برتابة ما. هناك تبادل إذاً، بين البعد الايقاعي والنثر.



                          > لماذا قلت انك اذا واجهت أزمة شعرية ستخرج الى النثر. لماذا لم تقل انك ستخرج الى قصيدة النثر؟ لماذا ترفض مصطلح قصيدة النثر؟
                          - لأنني عندها سأكتب شعراً. وقصيدة النثر هي شعر. صحيح أن هناك تزاوجاً أو لقاحاً بين النثر والشعر، وأن هناك جنساً أدبياً اسمه نثر وجنساً آخر اسمه شعر. وفي هذا الجنس هناك القصيدة الموزونة وهناك أيضاً قصيدة النثر. والنثر كجنس أمر آخر. إذا خرجت من الشعر سأخرج من الشعر كله. ربما جوابي هذا خطأ. لا أستطيع أن أعرف ما هو مستقبلي الشعري. لماذا أتجادل معك حول هذه النقطة؟ وأعترف ان ما أعمل عليه الآن هو نص نثري. بين يديّ الآن – فعلاً – نص نثري. وهذا ما اعترف به للمرة الأولى. اما أن أضع على مستقبلي قيداً يمنعني من كتابة قصيدة النثر فهذا جواب خاطئ أرجو أن تصححه. لكن النقاش الدائر حول أن مستقبل الشعر والحداثة الشعرية العربية لا يعرّفان إلا في قصيدة النثر فهذا كما أعتقد إجحاف حقاً. هذا استبداد فكري، وكذلك أن الموسيقى الداخلية لا تأتي إلا من النثر... أعتقد أن علينا أن نرفع الحدود بين كل هذه الخيارات الشعرية، لأن المشهد الشعري العربي الحقيقي لا يمكن النظر اليه إلا من زاوية المصالحة بين كل الخيارات الشعرية. ليس من حل نهائي لمسألة الشعر. الشعر غامض ولا محدود، وتبلغ لا محدوديته حداً اننا لا نعرف إزاءه أي كتابة هي الأصح. الكتابة الصحيحة في رأيي هي أن نجرّب وأن نسعى الى أن نخطئ. لأننا من دون أن نرتكب أخطاء لا نستطيع أن نتطور. لذلك أفضل دائماً التجريب غير المضمون النتائج على تقليد مضمون النتائج. وفي رأيي أيضاً أن لا شعر من دون مغامرة.


                          > لماذا يصرّ الكثيرون على الكلام على ثنائية القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر، علماً أن هذا السجال انتهى في الغرب منذ القرن التاسع عشر؟

                          تحدث الشاعر محمود درويش أمس من هذا الحوار عن أعماله الكاملة وبداياته الشعرية وعن الرمز الذي يمثله كشاعر لا يمكن حصره ضمن قضيته فقط. وتناول مراحله الشعرية المختلفة ومفهومه للإيقاع في القصيدة التي يكتبها. هنا الحلقة الثانية:





                          > لماذا يصرّ الكثيرون على الكلام على ثنائية القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر، علماً أن هذا السجال انتهى في الغرب منذ القرن التاسع عشر؟
                          - صحيح، هذا السجال انتهى في الغرب. الطرف التقليدي هو الذي حارب مشروع الشعر الحر أو الشعر التفعيلي. كان شعر التفعيلة يحتاج الى شرعية والى دفاع فكري وإبداعي عن خياره. جيل قصيدة النثر خاض معركة أظن انها من أشرس المعارك لتثبيت شرعيته. وكانت ثمة عدوانية ما لدى بعض المنظرين لقصيدة النثر. ولكن علينا أن نفهم الدوافع وفي مقدمها البحث عن شرعية هذه القصيدة. اليوم أصبحت شرعيتها قائم

                          وعلى شعراء هذه القصيدة أو منظريها ان يعترفوا بالشرعيات الأخرى. علينا أن ننهي لغة الخصومة بين الخيارات الشعرية والاقتراحات الشعرية. حتى الشاعر الواحد يمكنه ان يكتب قصيدة تفعيلة وقصيدة نثر. الشاعر الاسباني لوركا كتب قصيدة نثر وكذلك بودلير ورامبو. لم تعد قصيدة النثر موضوعاً مطروحاً على جدول الشعر أو الأدب. أصبحت قضية مسلّماً بها، ولم يعد القارئ ينظر الآن الى الاختلاف بين الشعريات. وأود أن أقول ان كثيرين من الشعراء والقراء يقرأون كتبي الأخيرة باعتبارها تضم قصائد نثر.



                          > هذا أمر جميل!
                          - ويفرحني أيضاً، فهم يحسّون ان أطروحات قصيدة النثر تمّ استيعابها في شعري.

                          > تصر على ما تسميه المعنى في الشعر وهو يختلف عن الجدلية؟ هل اللحظة الشعرية لديك هي لحظة فكرية أم حدسية؟
                          - أولاً أود أن أقول ان مفهوم المعنى لا متناه. الكلمات بحد ذاتها لا تحمل معنى. علاقة الكلمات بعضها ببعض هي التي تمنح المعنى الشعري. وبما أن هذه العلاقات غير متناهية، فإن المعنى بالتالي غير متناهٍ. أما في شأن المعرفة الشعرية، فإنني أعتقد ان هناك ثلاثة أنواع من هذه المعرفة. هناك المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية والمعرفة التحليلية. الشعر ميال الى المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية، وقد يستفيد من المعرفة التحليلية، لكن أساس العملية الشعرية أو المنطقة التي يعمل الشعر فيها هي المعرفة الحدسية والرؤيوية. لكن هاتين المعرفتين لا تتحرران كلياً من المعرفة التحليلية. القصيدة تبدأ وفق طرق مختلفة ترتبط بالشعراء أنفسهم. تبدأ القصيدة عندي من الحدس، الحدس يأخذ شكل الصورة أي يصير الغامض والحلمي مجموعة صور. لكن هذا حتى الآن لا يفتتح مجرى القصيدة، يجب ان تتحول الصور الى ايقاعات. وعندما تحمل الصور ايقاعاتها أحس ان القصيدة بدأت تحفر مجرى لها داخل أجناس أدبية غير محددة. هنا تكمن صعوبة الكتابة الشعرية. القصيدة تحفر مجراها في كتابات لا تنتهي. وصعوبة تحقق القصيدة هي كيف تكشف عن نفسها وتنجز هويتها الشعرية داخل كل هذه الأجناس والنصوص. إذاً، الايقاع هو الذي يقودني الى الكتابة. وإذا لم يكن هناك من ايقاع، ومهما كانت عندي أفكار أو حدوس وصور، فهي ما لم تتحول ذبذبات موسيقية لا أستطيع أن أكتب. إنني أبدأ من اللحظة الموسيقية إذاً. ولكن في كل كتابة هناك فكر ما. فالشاعر ليس آتياً من اللغة فقط، بل من التاريخ والمعرفة والواقع. والذات الكاتبة لدى الشاعر ليست ذاتاً واحدة، انها مجموعة ذوات. إذاً هناك فكر ما يقود عمل القصيدة. أحياناً تتمرد الكتابة على الفكرة التي تقودها وتصبح الكتابة هي التي تقود الفكرة. وهنا يجوز لنا أن نقول ان الغد يأتي الى الماضي، وليس العكس. كل تخطيط لقصيدة هو عمل فكري واعٍ، وإذا ظهرت ملامحه تتحول القصيدة مجموعة مقولات وتتحول أيضاً فلسفة وتصبح العلاقة بين الفلسفة والشعر علاقة إطراد متبادل. على الفكر والفلسفة والمعارف كلها أن تعبّر عن نفسها في الشعر عبر الحواس، عليها ان تنصهر في الحواس وإلا تحولت مقولات كما أشرت.
                          > ولكن من الملاحظ ان معظم قصائدك، ولا سيما القصائد ذات النفس الملحمي، تحمل بنية قائمة على الايقاع وعلى اللوازم الايقاعية والغنائية. كيف تتم مرحلة بناء القصيدة لديك؟
                          - تكلّمنا قبل قليل عن اللحظة التي تدفع الشاعر الى كتابة القصيدة. إن مفتاحي كما قلت هو الايقاع. هذا بالنسبة الى الحافز الشعري. ولكن لدي إصرار على أن أبني القصيدة بناء هندسياً، وهذا ينطبق على القصائد الطويلة والقصيرة في آن واحد. وأعتقد ان قصيدة بلا بنية قد تهددها النزعة الهلامية. أحب أن يكون للقصيدة قوام. وهذا ليس قانوناً أحذوه بل هو خياري الشعري. لماذا أتحدث عن القوام؟ لأعرف العلاقة بين السطوح والأعماق، العلاقة بين الايقاع والصورة والمجاز والاستعارة. يجب أن تكون هناك علاقات دقيقة جداً بين كمية الملح وكمية الورد والدم والطين... يجب أن يكون هناك تصور لهندسة معمارية تقوم القصيدة على أساسها. قد تقود القصيدة الى مبنى آخر، حينذاك على المهندس أن يغيّر خرائطه. ولكن في المحصّلة لا أنشر قصيدة إلا إذا كان لها شكل أو بنية أو ما سمّيته قواماً.
                          > يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري ان الالهام يأتي الشاعر بأول بيت ثم عليه أن يواصل كتابة القصيدة. أنت تكتب القصيدة في مراحل عدة ثم تصوغها مرة تلو مرة، كيف تولد القصيدة لديك وكيف تنتهي؟
                          - تولد عبر الايقاع. أكتب سطراً أولاً ثم تتدفق القصيدة. هكذا أكتبها ولكن عندما أجري عليها تعديلات أو تجري هي تعديلات على نفسها، تصبح قصيدة أخرى. كثيرون من أصدقائي النقاد يحاولون الحصول على مسوّداتي الشعرية. وأقول لهم انني أتلفها فوراً لأن هناك فضائح وأسراراً، فما من علاقة بتاتاً بين النص الأول والنص الأخير في أحيان. ولعل تغيير سطر شعري قد يغير كل بناء القصيدة فيخضع بناؤها لمحاولة ترميم وبناء جديدين. إنني معجب جداً ببول فاليري ناقداً وقارئاً وكاتباً ذا إرهاف عالٍ وذكاء ولا أستطيع أن أقول انني معجب به كشاعر. تماماً كما انني معجب بأوكتافيو باث كناقد ومنظر للشعر أكثر مما أنا معجب به كشاعر.

                          الإلهام الشعري
                          > وماذا عن الإلهام إذاً؟
                          - أعتقد ان هناك إلهاماً ما! ولكن ما هو هذا الإلهام؟ مرة حاولت أن أعرّف به فقلت انه عثور اللاوعي على كلامه. ولكن هذا تعريف غير دقيق وغير ملموس. الإلهام هو أحياناً توافق عناصر خارجية مع عناصر داخلية، انفتاح الذهن على الصفاء وعلى طريقة يحوّل بها المرئي الى لا مرئي واللامرئي الى مرئي من خلال عملية كيميائية لا يمكن تحديد عناصرها. أعتقد ان هناك سراً ما للحافز الشعري. لماذا ينهض الشاعر ويكتب؟ لماذا يأتي بالورق الأبيض ويعذب نفسه ولا يعرف الى أين هو ذاهب؟ خطورة العمل الشعري تكمن في أن لا ضمانات أكيدة للنجاح. الكتابة مغامرة دائمة وخطرة ولا تأمين لها، بل ليس هناك «شركة» تأمين توافق على المغامرة الشعرية بتاتاً و«حوادث المرور» في الشعر كثيرة جداً (يضحك). أحياناً تشعر بأن لديك رغبة طافحة في الكتابة. تجلس الى الطاولة فلا تكتب شيئاً. أحياناً تذهب متكاسلاً الى الطاولة فتفاجأ بأن الإلهام موجود فيك فتنكب على الكتابة. بعض الكتاب كانوا يترددون حيال الإلهام، إن كان موجوداً أم لا. ولكن إذا كان هناك إلهام فعلينا أن نعرف كيف ننتظره فهو لا يأتي وحده. علينا أن نتعاون معه مثلما نتعاون مع الغامض والمجهول ليتضح شيء ما.

                          > وماذا عن البيت الأول الذي يتحدث عنه فاليري!
                          - البيت الأول، من خلال تجربتي يكون أقل أهمية من السطور الأخرى. الشعر يبدأ من اللاشعر. والطريق الى القصيدة تكون متعثرة في البداية. وشخصياً ليس لدي بيت أول مهم لأن لا أبيات شعرية لدي أصلاً. القصيدة تتوالد وتتصاعد تدريجاً. وأحياناً قد يكون الإلهام الشعري سيئاً لكنه يعطيك نتيجة حسنة. ليس من مشكلة. وأسأل من جديد ما معنى الإلهام: الإلهام يقول لك: اجلس واعمل، اشتغل ويذهب. انه يحضّرك شعرياً، يغسلك داخلياً أو يوترك داخلياً أو يقيم توازناً بين الحرارة والبرودة، والبقية عليك، كشاعر، فأنت تعتمد على نفسك وعلى خبرتك وعلى طريقة العثور على نصك الخاص بك الذي يحمل ذاكرة كتاباتك كلها. فالورقة البيضاء أمامك هي مملوءة بالكتابات السابقة، كتاباتك. وأتذكر قولاً لإليوت مفاده أن النضج الأدبي هو أن نتذكر أسلافنا وأن نشعر بأن وراء هذا النص الشعري أسلافاً.
                          > حتى في القصائد التي تنطلق من موضوع معين أو واقعة معينة؟ مثلاً قصيدتك في ذكرى السياب أو قصيدتك عن محمد الدرّة أو عن ادوارد سعيد! كان هناك موضوع هو حافزك على الكتابة؟ هل هي الطريقة نفسها في الكتابة؟ أي ان الموضوع سابق للقصيدة؟
                          - هناك شعر يخلق موضوعه. ولكن عندما تكتب تذهب وفي ذهنك شيء غير محدد تماماً ولكنه مسمّى. هناك اسم لما تريد ان تكتبه، فأنت ستكتب شعراً في النهاية. وما تكتبه من مواقف وأفكار لا يعرّف بموضوعك بل بطريقة تعبيرك عن هذا الموضوع. هناك قصائد لا موضوع لها، أو ان موضوعها قائم في ذاتها وهي حافلة بالتوتر اللغوي، باللعب اللغوي أو بتمرّد اللغة عليك، أو محاولة سيطرتك على اللغة. المشكلة أن الشاعر يظن انه يقود اللغة. ليس هذا صحيحاً. اللغة أشدّ سيطرة على الشاعر لأن لها ذاكرتها ومنظومتها ونسقها وتاريخها وتراثها. ما يقدر أن يفعله الشاعر هو أن يعيد الحياة الى لغة أصبحت مألوفة وعادية. وكما يقول هيدغر الشاعر هو وسيلة اللغة وليست اللغة هي وسيلة الشاعر.

                          > هل تعاني من مأزق الورقة البيضاء، هذا المأزق الذي يتحدث عنه كثيرون من الشعراء؟
                          - عندما تكتب تذهب الى مصيرك وحدك، من دون معاونة أحد. وإذا وجدت من يعاونك فهو يلغيك من شدة حضوره. في كل شاعر آلاف من الشعراء. ليس هناك من شاعر يبدأ من الفراغ أو البياض، قد ينتهي الشاعر في البياض. فالبياض لون غير موجود في الكتابة. في كل شاعر تاريخ الشعر منذ الرعويات الشفهية الى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسيكي الى الشعر الحديث. ثم ان الشاعر يخاف من قراءاته، أن يقفز منها شيء الى نصه في طريقة لا واعية، شيء ملتبس يكون في ذهنه. وأعتقد ان ليس من نص خاص لشاعر معين. الشاعر يحمل خصائص أو ملامح جميع الشعراء الذين قرأهم ولكن من دون أن يخفي ملامحه، أي مثل الحفيد الذي يحمل ملامح جدّه من دون أن تختفي ملامحه الخاصة. السؤال الصعب المطروح على كل شاعر هو: في أي جهة من الورقة البيضاء تستطيع أن تضيف جديداً؟ هذه هي الصعوبة. ولذلك الشعر الحقيقي قليل ونادر.
                          > عندما أقرأ قصائدك لا أشعر بأن لديك أزمة في الكتابة أو في التعبير! فمعجمك الشعري واسع جداً مما يدل على انك تتخطى أزمة «الورقة البيضاء». شعرك سيّال ومتدفق! من أين يأتي هذا الاتساع الشعري أو الرحابة وهذا السطوع؟ هل من المراس الشعري أم من التجربة الداخلية؟
                          - أولاً أشكرك على هذا الرأي وهو رأي نقدي أعتز به كثيراً. لماذا؟ لأن أزمتي لا تظهر في قصيدتي، بل في ما قبل القصيدة. أزمتي هي مع ماضي القصيدة. في القصيدة يجب ألا تظهر معاناتك كشاعر، ولا عذابك الذي يسبقها. القارئ يرى المولود ولا يعرف ما هو المخاض. يرى الشيء في هيئته الناضجة. أما ما وراء ذلك فلا. ولو كان الشعر في هذه السهولة لما كان الورق الأبيض يتسع للقصائد. لا. على الشاعر أن يخفي معاناته وأن يبدو وكأن قصيدته كتبت نفسها. يجب ألا يظهر الجهد. أتذكّر ما يقول الشاعر الألماني ريلكه في هذا الصدد: إذا أردت أن تكتب سطراً شعرياً واحداً يجب أن تكون قد زرت مدناً كثيرة ورأيت أشياء كثيرة وقطفت زهوراً كثيرة. فالقصيدة هي خلاصة كل هذه المعاناة والتجربة.

                          المعجم الشعري
                          > ولكن من أن تأتي رحابة معجمك الشعري؟ ثمة شعراء كبار في العالم معجمهم ضيق؟
                          - كان خوفي أن يكون معجمي الشعري أخطر من ذلك. كنت أخاف فعلاً. فأنا ألاحظ مثلاً أن بعض الشعراء العرب المهمين لديهم معجم شعري فقير. ولا أريد أن أسمي أحداً هنا.

                          > أنا أسمي سعيد عقل مثلاً، هو الشاعر الكبير معجمه محدود.
                          - لن أسمي أحداً. ربما عوالمي المتناقضة التي أشعر بها من حولي، لكل منها معجم مختلف عن الآخر. يعني انني أضع السماوي الى جانب الأرضي، الميتافيزيقي الى جانب المادي...

                          > والأروسي مع الصوفي...!
                          - أحب هذه العلاقات القائمة بين المتناقضات وهي تحتاج الى لغة تحمل هذا التوتر. ولا أخفيك انني أقرأ كثيراً. وربما للمرة الأولى أفصح عن أمر في حياتي: لديّ رياضة يومية، أفتح «لسان العرب» كل صباح في طريقة عشوائية وأقرأ عن كلمة ما وعن تاريخها وأصلها وعن الاشتقاقات التي خرجت منها. واكتشف دائماً انني لا أكتب العربية جيداً.

                          > وربما هنا قوتك.
                          - الاعتراف بالجهل يعلّم. أحسن معلّم أو أحسن حافز على التعلّم هو أن تعرف انك جاهل.



                          > شعرك لا يعبّر عن كونك شاعر فصاحة وبلاغة وشاعر معاجم...!
                          - أحاول أن أبسّط لغتي وأطرد منها المفردات الميتة، ولكن لديّ تمارين دائمة على فهم اللغة في طريقة أفضل.
                          ليست القصيدة...قبلة أو سكين
                          ليست القصيدة...زهرة أو دماء
                          ليست القصيدة...رائحة عطر أو نهر عنبر
                          ليست القصيدة...سمكة .... أو بحر
                          القصيدة...قلب...
                          كالوردة على جثة الكون

                          تعليق

                          • مهتدي مصطفى غالب
                            شاعروناقد أدبي و مسرحي
                            • 30-08-2008
                            • 863

                            #28
                            > هل تقرأ الروايات مثلاً؟
                            - طبعاً.



                            > هل تقرأ الشعر، أنت الذي تدعو الشاعر الى عدم الإكثار من قراءة الشعر؟
                            - أعتقد أنها نصيحة جيدة في عمر معيّن. لأن الشعر مثل أي شيء جميل يصيب بما يشبه الاشباع أو التخمة. لا أحد يقدر على أن يأكل كيلو عسل. يقع في الاشمئزاز. الشعر مكثف كثيراً حتى إن الذائقة المتلقية لا تستطيع أن تستوعبه. وبالتالي فإن القليل منه هو الذي يجعله يأخذ مكانه أو وظيفته الحقيقية. ولكن في البداية، على الشاعر أن يقرأ الكثير من الشعر كي يسلس له الإيقاع وتسلس له اللغة ويربّي السليقة لديه فالسليقة إذا صقلت تساعد الشاعر على التخلص من النكد الشعري. فالشعر، مهما كان يحمل من أفكار وأبعاد فلسفية، يجب أن يبدو كأنه عفوي، وهذا يعود الى فعل السليقة المهذبة. إنني أقرأ كتب التاريخ كثيراً، أقرأ الكتب الفكرية والفلسفية وبعض الكتب التي لا علاقة لها بالشعر مثل «تاريخ القراصنة» أو «تاريخ الملح». أحب أن أنوّع قراءاتي خصوصاً في حقل الجغرافيا والبحار والبلدان.



                            > هل تشاهد السينما والمسرح؟
                            - نعم، طبعاً.



                            > هل هما من مصادرك الشعرية؟
                            - السينما من مصادري البصرية نعم. لكنها مصدر غير واضح كثيراً. لكنني أعترف إنني عاشق كبير للرواية.



                            > هل فكرت يوماً في أن تكتب رواية مثل الكثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية على هامش شعرهم؟
                            - مع حبي غير المحدود للرواية لم أفكر يوماً في كتابتها. لكنني أغبط الروائيين لأن عالمهم أوسع. والرواية تستطيع أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية. وتستطيع أن تمتصّ الشعر وسائر الأجناس الأدبية وتستفيد منها الى أقصى الحدود. والجميل في الرواية انها غير عرضة للأزمات، ذلك ان في كل كائن بشري رواية. وهذا ما يكفي لملايين السنين، وليس على الروائي إلا أن يستوحي التجارب. لم أفكر في كتابة الرواية لأنني لا أستطيع أن أضمن النتائج. والرواية تحتاج الى جهد وصبر هما غير متوافرين فيّ. هناك شعراء كثيرون أتقنوا الشعر والرواية. وبعضهم سطت روايتهم على شعرهم وبعضهم سطا شعرهم على روايتهم فغدت رواية متشعرنة، فيما يجب أن تتوافر في الرواية لغة السرد ومنطق الشخصيات وسواهما. إنني أحب الرواية – الحكاية. رواية اللارواية لا أحبها كثيراً وأعدّها عبارة عن ثرثرة لغوية. قد تكون جميلة لكنها ليست من النوع الروائي الذي أحبه. قرأت أخيراً رواية أدهشتني هي «عمارة يعقوبيان» للكاتب المصري علاء الاسواني، وما أدهشني في هذه الرواية انها لا تحتاج الى كتابة ولا الى لغة أدبية، وقوة التجربة الانسانية فيها أغنتها عن اللغة.



                            > ما رأيك بمقولة ان المستقبل هو للرواية وليس للشعر؟ وأن الزمن الآن هو زمن الرواية؟
                            - أود أن أذكرك انه كان ذات مرة زمن للقصة القصيرة. والقصة هذه لها مواسم. أحياناً تزدهر وأحياناً تنطفئ وتغيب. الرواية هي كتابة جديدة في معنى ما، فالشعر سبقها بآلاف السنين. وقد تغري بالقول ان الزمن الآن هو زمنها وانها أصبحت «ديوان العرب» كما يقال. شخصياً لا أحب هذا الاشتباك بين الكتابتين. الرواية لها عالمها والشعر عالمه. وفي بعض المجتمعات الرواية متطورة أكثر من الشعر وفي مجتمعات أخرى الشعر متطور أكثر من الرواية. لا أحد يستطيع أن يرسم صورة المستقبل أو أن يحتكرها. وأعتقد ان المستقبل هو للشعر كما هو للرواية.



                            > ولكن هل تعتقد ان الشعر قادر على ان يعبّر عن كل ما يجيش في نفسك وما يدور في رأسك من أفكار؟
                            - هناك شعراء يقولون ان اللغة لا تتسع لهم وانهم أكبر من اللغة. وجموح الشعراء الى إصدار مقولات كبيرة قد يكون مقبولاً. هل سمح لي الشعر أن أقول كل ما أريد أن أقول؟ ليس هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي. بل هو: هل أستطيع أن أقول أكثر مما قلت؟ هذا ما يؤرقني. ولكن لا أحد يستطيع أن يكتب كل ما في داخله. هناك أدباء كتبوا أكثر مما في قدرتهم، أي انّ كلماتهم أكبر من عالمهم الداخلي ومن تجربتهم الحياتية والانسانية. شخصياً لا أشكو من هذا الأمر. وأعتقد انني قادر على قول ما أشعر به وما أحلم به وما هو غامض في أشكاله المختلفة. ولكن في نهاية الأمر قد يكون من الصحيح ان الشاعر يقول شيئاً واحداً وأن الروائي يقول شيئاً واحداً. ولكن ما هو هذا الشيء؟ يكتب الشاعر ليصل الى هذا الشيء، ليكتشف ما يريد أن يقوله.



                            النثر الصوفي أهم من الشعر الصوفي
                            > مادمنا تحدثنا عن الصوفية، أعترف انني أحس ان لديك نزعة صوفية محفوفة ببعد ميتافيزيقي وخصوصاً في قصيدتك الطويلة «جدارية» التي اختبرت فيها تجربة الموت؟ ماذا يعني لك الشعر الصوفي؟ هل تقرأه؟
                            - قرأت الأدب الصوفي وأقرأه. وملاحظتي أن ليس الشعر هو أفضل ما فيه، بل النص النثري. مثلاً ابن عربي، نصه النثري أغنى كثيراً من نصه الشعري، ومملوء بالدلالات بل هو حافل بالألغاز والأسرار أكثر من شعره. أنظر الى الصوفية نظرة فكرية أو فلسفية، أنظر اليها نظرة شعرية من حيث هي مغامرة الذهاب الى الأقصى ومحاولة اتصال مختلفة بالكون ومحاولة بحث عمّا وراء هذا الكون، وما وراء الطبيعة، وعن الأسئلة الوجودية. ولا يعنيني في التجربة الصوفية معناها مقدار ما يعنيني سعيها اللغوي والعرفاني في بلوغ ما لا تبلغه المغامرات الأخرى. فهي مغامرة أدبية جعلت النثر أرقى من الشعر في الكتابة. وإذا أردنا أن نبحث عن المصادر الحقيقية التي أثْرت قصيدة النثر نجد الكتابة الصوفية النثرية مثل النفري والبسطامي والسهروردي وابن عربي. وهؤلاء كانوا شعراء من نوع آخر، أي بما يحملون من شحنات للسفر الى أبعد ما يمكن. ونحن لا نستطيع أن نذهب الى ما ذهب هؤلاء اليه. هذا هو الجانب الابداعي في الصوفية، ولكن هناك صوفية تشبه الشعوذة والسحر.



                            > ما رأيك بالشعراء الذين يستعينون بالمصطلحات الصوفية القديمة ليكتبوا شعراً صوفياً حديثاً؟
                            - أنا شخصياً غير مهتم بهذه المسألة. ولا أعتقد أن في عصرنا الحديث والصاخب هذا هناك مكان للشعر الصوفي.


                            > والصوفية الجديدة التي لا علاقة لها بالمصطلحات القديمة؟
                            - الصوفية الحديثة هذه هي شكل من أشكال التمرّد على طبيعة الحياة المعاصرة وعلى تشيّؤ الانسان وابتعاده عن السؤال الروحي والديني. وما نقرأه في الشعر هو ترصيع لبعض المصطلحات الصوفية الخارجة عن سياقها.


                            > وماذا عن البعد الميتافيزيقي الكامن في شعرك؟
                            لعل سؤال الموت في شعري شديد الصلة بالبعد الميتافيزيقي. هناك نظرتان الى الموت: نظرة دينية تقول ان الموت هو انتقال من الزائل الى الخالد، ومن الفاني الى الباقي، ومن الدنيا الى الآخرة. وهناك نظرة أخرى أو فلسفية تعتبره نوعاً من الصيرورة، وترى ان الحياة والموت مترافقان في جدلية أرضية. أحياناً أكتب عن الموت ولكن من دون أن أتعمق كثيراً في السؤال الى أقصى حدوده. فالذهاب في السؤال الى أقصاه هو أمر مملوء بالألغام التي لا أستطيع أن أنزعها ولا أن أفجرها. في «جدارية» كتبت عن تجربة شخصية، كانت مناسبة لي للذهاب في سؤال الموت، منذ أقدم النصوص التي تحدثت عن الموت، ومنها ملحمة جلجامش التي تحدثت أيضاً عن الخلود والحياة. هذه التجربة كانت لي اطاراً صالحاً للسرد أو لما يشبه السيرة الذاتية. ففي لحظة الموت تمر حياتك أمامك وكأنها في شريط سريع. انني عشت هذا ورأيته. كل الرؤى التي كتبتها في القصيدة كانت حقيقية: المعرّي ولقاء هيدغر ورينيه شار... رأيت الكثير ولم أكتب كل شيء. لكنني لاحظت ان القصيدة كانت مشدودة الى سؤال الحياة أكثر من سؤال الموت. والقصيدة في الختام كانت نشيداً للحياة. أهم عبرة استخلصتها من هذه المسألة ان الحياة معطى جميل، هدية جميلة، كرم إلهي غير محدود، وعلينا أن نحياها في كل دقيقة. أما سؤال الخلود فلا جواب عليه منذ ملحمة غلغامش حتى اليوم. هناك جواب ديني ولكن كشاعر لا أحب أن أدخل في الجدال الديني. الانسان يؤمن بما يعرف وبما لا يعرف. بل هو مشدود الى الإيمان بما لا يعرف، وأهم أمر في الصراع بين الحياة والموت أن ننحاز الى الحياة.


                            > ما دمنا نتكلم عن الدين نلاحظ أن في شعرك أثراً توراتياً ولا سيما من «نشيد الأناشيد»، يتمثل في غنائيتك العالية في ديوان «سرير الغريبة» وسواه! ما الذي يجذبك كشاعر في النص التوراتي وكيف أثر فيك؟
                            - في البداية، درست في الأرض المحتلة، وكانت بعض أسفار التوراة مقررة في البرنامج باللغة العبرية، ودرستها حينذاك. لكنني لا أنظر الى التوراة نظرة دينية، أقرأها كعمل أدبي وليس دينياً ولا تاريخياً. حتى المؤرخون اليهود الجادون لا يقبلون أن تكون التوراة مرجعاً تاريخياً. أو لأقل انني انظر الى الجانب الأدبي في التوراة. وهناك ثلاثة أسفار مملوءة بالشعر، وتعبر عن خبرة انسانية عالية وهي: سفر أيوب، سفر الجامعة الذي يطرح سؤال الموت، ونشيد الأناشيد.


                            > والمزامير؟
                            - بعض المزامير، فهي أقل أدبية من الأسفار التي ذكرتها. إذاً التوراة هي كتاب أدبي بالنسبة إليّ، وفيها فصول أدبية راقية وشعرية عالية.


                            > هل التوراة مصدر من مصادرك؟
                            - لا شك في أنها أحد مصادري الأدبية.


                            > هل أعدت قراءة التوراة بالعربية؟
                            - أجل، قرأت ترجمات عربية عدة ومنها الحديثة. وأحب فيها بعض الركاكة. فمثل هذه الكتب يجب أن يترجم في طريقة خاصة. و«نشيد الأناشيد» يعتبره كبار الشعراء في العالم من أهم الأناشيد الرعوية في تاريخ الشعر، مع غض النظر عن مصادر هذا النشيد الفرعونية أو الآشورية.

                            > هل يمكن الكلام برأيك عن حداثة محمود درويش، هذه الحداثة الممكن وصفها بـ «الحداثة الاستخلاصية» التي تتآلف فيها مدارس عدة ولكنها تبدو كأنها بلا مدرسة أو كأنها مدرسة بنفسها؟ حداثة خاصة خارج حداثة مجلة «شعر» وسائر الحداثات الأخرى؟
                            - يبدو لي انك تفهم حداثتي أكثر مني. سؤال الحداثة سؤال محيّر. وأن تُحصر الحداثة في الحداثة الشعرية، فهذا يعني ان لا حداثة أخرى في المجتمع العربي. ومن مآزق الحداثة العربية انها متحققة في الشعر وربما في مراكز الشرطة أو الأمن. حاولت الحداثة الشعرية ان تقوم مقام الحداثة الفكرية والفلسفية والعلمية والاجتماعية، أي انها حمّلت نفسها مهمات لا تستطيع فعلاً أن تتحملها. اطلعت طبعاً على مفاهيم الحداثة بعدما جئت الى العالم العربي هاجراً فلسطين. قبل ذلك لم أكن قد اطلعت على تلك المفاهيم. ففي فلسطين المحتلة كنت أعيش في ظروف صعبة وكنت أطلع على الشعر العربي والعالمي من دون أن يكون سؤال الحداثة ملحاً عليّ مثلما كان ملحاً على الشعراء العرب. كان لدينا حينذاك سؤال المقاومة الثقافية، سؤال الهوية، وكان علينا أن نصونها من الذوبان. كيف ندافع عن حقنا في الوجود؟ كيف نزيل الاشكالية بين الجنسية والهوية؟ كيف يقوم الشعر في تغيير ما، أو هل يستطيع الشعر أن يغيّر؟ كانت الأسئلة بعيدة الى حد ما عن انشغال الساحة بأسئلة الحداثة. وأنا نشأت في هذا الجو وكتبت فيه. وعندما خرجت الى العالم العربي كنت الى حد ما معروفاً، وكنت أسمّى شاعر المقاومة وشاعر الأرض المحتلة... لكن اصطدامي بسؤال الحداثة والتجارب الشعرية الحديثة جاء متأخراً. ولا أعرف ان كنت وضعت داخل الحداثة العربية أم ما زلت خارجها. لا أعرف.


                            > وما رأيك بما يقوله بعضهم عن «حداثة» محمود درويش؟
                            - أنا لست جزءاً من مدرسة، ولست طالباً لمعلم معين وهذا عيــب. كنت أتمنى أن يكون لي معلم شعـــري، فهو كـان ليوفر عليّ ربما أعباء تعليمية كثيرة. كنت شديد الاصغاء والتأمل والتأثـر حيال سؤال الحداثـة الشعـريـــة العربية. لكنني لم أتخلّ عن ربط الحداثة بمشروع تحرري، أي ان نتمكن من تحرير المجتمع بالقصيدة الحديثة. أو ان على الحداثة الحقيقية أن تكون منظومة أفكار تشمل كل مستويات المجتمع وليس الشعر وحده. ولكن بما أن الشعر هو حقل عملنا ولا إمكان آخر لنا، فليكن ذلك. ولنعش هذا الوهم الجميل. وما زلت أرى أن لا حداثة شعرية عربية حقيقية خارج جماليات الشعر العربي. فهذه الجماليات يجب على الحداثة العربية أن ترتكز اليها لتتميز عالمياً. لم أدخل في أفق التنظير ولم أسع الى أن أكون حديثاً أم غير حديث، ولكن أعتقد ان قصيدتي حديثة. و في أي معنى هي حديثة؟ أي أنها تصغي الى ايقاع الزمن الجديد وتجري تحولات في العلاقة بين الكلمات والأشياء وتحاول أن تبقي اللغة حية وتعيد الى هذه اللغة حياتها باستمرار، وأن تطوّر أدواتها من خلال علاقة هذه الأدوات بما كنا نسميه الدور الذي تلعبه القصيدة الحديثة في الذائقة الشعرية وفي مشروع التحرر.


                            > نشرت في مجلة «شعر» بضع قصائد...
                            - أنا لم أنشر، المجلة أخذت القصائد من صحافة الداخل الفلسطيني. ولعلها المرة الوحيدة التي نشرت لي قصائد في «شعر»





                            > كيف تنظر الى مجلة «شعر»؟
                            - لا شك في أن مجلة «شعر» كان لها دورها وكانت لها أوهامها أيضاً. ومن أوهامها انها احتكرت مفهوم الحداثة الشعرية وحاولت ان تقصي التجارب الأخرى خارج «جنة» الحداثة، إذا جاز التعبير. وأعتقد بأن مجلة «شعر» مثلت تياراً من تيارات الشعر العربي الحديث وليس كل الشعر العربي الحديث. ومن عيوب التعامل مع هذه الظاهرة ان هناك دراسات جامعية تدرس الشعر الحديث من خلال مجلة «شعر» فقط. ويجب ألا ننسى أنّ كان هناك مجلة «الآداب» وكان هناك الشعر العراقي والشعر المصري... وهذه تيارات أساسية في الشعر العربي الجديد. ليس كل شعراء مجلة «شعر» استطاعوا أن يُكرِّسوا أو أن يحققوا مكانة شعرية كبيرة. هناك بضعة شعراء فقط.



                            > كانت مجلة شعراء أكثر مما كانت مجلة منفردة بذاتها أو مجلة تيار واحد!
                            - حاولت أن تكون مجلة تيار وانشغل بعض شعرائها بالتنظير الزائد عن اللزوم أحياناً. إنها مثل أي حركة شعرية، خرج منها في نهاية الأمر بضعة شعراء مهمّين.



                            > والمعركة الفكرية الحداثية التي خاضتها هذه المجلة هل عنت لك شيئاً؟
                            - إنني اطلعت على المجلة متأخراً أي بعدما خرجت من فلسطين وكانت قد توقفت عن الصدور. وكانت المعركة التي أعلنتها قد انتهت، خصوصاً بينها وبين مجلة «الآداب». إلا أن المعركة الشعرية الحداثية مستمرة حتى الآن ولكن عبر أدوات أخرى: هل الشعر يعرّف بما يقوله أي بموضوعه أم في كيفية ما يقول؟ هل للشعر دور ما؟ هل يجب أن يكون على علاقة بالقارئ أم لا؟ وما هي العلاقة بين المتلقي والشاعر؟ هل الذات الكاتبة هي وحدها في العملية الشعرية أم ان ثمة ما يشاركها، كاللغة مثلاً؟ مثل هذه الأسئلة ما زال مستمراً حتى الآن. هل عزلة الشعر هي مقياس من مقاييس جودة الشعر؟ ذيول المعركة ما زالت قائمة حتى يومنا. وأعتقد ان من الجميل أن يكون هناك تيارات، عوض أن يكون هناك تيار واحد متسلّط على الساحة الشعرية.



                            > لكن «شعر» لعبت الدور الرئيس في ترسيخ القصيدة الحديثة!
                            - لمَ لا؟ لكن «الآداب» لعبت مثل هذا الدور أيضاً.



                            > لكن «شعر» حصرت مشروعها في الشعر بينما «الآداب» كان مشروعها أدبياً ورفضت قصيدة النثر؟
                            - أنا لم أطلع على المشهد عندما كان قائماً. جئت متأخراً، ذلك انني خرجت في العام 1971. وكانت وقعت هزيمة 1967 التي غيّرت مفاهيم مجلة «شعر» نفسها.

                            «مواقف»
                            > «مواقف» مجلة الشاعر أدونيس هل تابعتها حينذاك؟
                            - صدرت «مواقف» عندما كنت في بيروت وكنت في مرحلة من أسرة تحريرها.

                            > كيف ترى الى «مواقف» لا سيما في تلك الفترة؟
                            - مجلة «مواقف» أضافت بدورها. وحاولت أن تقيم علاقة بين الابداع والفكر والثورة والتغيير، بين الابداع والحرية. كانت «مواقف» تمثل حالاً من القطيعة مع مجلة «شعر»، لكنها قطيعة تطويرية. واتجهت نحو السؤال الفكري ولم تكن مجلة ابداعية فقط.



                            > لماذا انسحبت من أسرة تحريرها؟
                            - لم أنسحب لخلاف أو سواه، ولكن كان عندي مجلة «شؤون فلسطينية» ثم أصدرت «الكرمل» في العام 1981.



                            > الإشكال الذي أثاره تصريحك قبل فترة حول شعر الحداثة كيف توضحه، خصوصاً بعدما ترك التباساً أو سوء فهم؟
                            - أولاً لم أتعرّض للشعر الجديد وشعر الحداثة. سئلت في تونس في لقاء صحافي كبير جداً، عن أزمة العلاقة بين المتلقي والشعر الجديد. وقلت إن هناك أزمة فعلاً لأن بعض الشعراء يستمرئون عزلتهم ويضعونها هدفاً، من غير أن تكون نتيجة طبيعية لتطور ما في نص شعري جديد على الذائقة. هناك شعراء يقيسون جمالية شعرهم بمدى عزلتهم عن القارئ. وهناك سبب آخر وهو أن القارئ لا يريد أن يقترب من شعر يرفضه كمتلقٍ. وأنت تعرف أن الشاعر ليس وحيداً في الكتابة، إنه طرف في المعادلة الشعرية، هناك الشاعر، هناك اللغة التي تفرض نفسها على الشاعر، وهناك طرف ثالث لا يتم الفعل الابداعي من دونه وهو القارئ. هذا الثلاثي هو الذي يساهم في تطوير الفعل الشعري وفي تحقق القصيدة. وهذا التحقق لا يتم إلا من خلال تفاعل ما، بين القارئ والشاعر. لم أتعرّض لأحد ولا أحب أصلاً التعرض لأحد. كل شاعر حر. وأردد دوماً أن على السجال الشعري اللامجدي أن ينتهي. قصيدة النثر هي خيار شعري مكرّس وفيها أعمال ابداعية جميلة جداً. ويجب أن ننظر الى الشعر في كل خياراته، العمودي والتفعيلي والنثري، والى مدى تحقق الشعرية في القصيدة. هذه نظرتي العامة ولا يمكنني أن أكون تقليدياً أو رجعياً، الى حد أن أرفض أي اضافة أو أي اقتراح شعري جديد.
                            ليست القصيدة...قبلة أو سكين
                            ليست القصيدة...زهرة أو دماء
                            ليست القصيدة...رائحة عطر أو نهر عنبر
                            ليست القصيدة...سمكة .... أو بحر
                            القصيدة...قلب...
                            كالوردة على جثة الكون

                            تعليق

                            • مهتدي مصطفى غالب
                              شاعروناقد أدبي و مسرحي
                              • 30-08-2008
                              • 863

                              #29
                              [align=right]> هل تقرأ الشعراء الجدد والشباب؟
                              - أقرأهم دوماً وأتعلّم منهم وأراقب دوماً التوجهات الجديدة في علاقة الشعراء باللغة والنص والبناء والايقاع، لكي أستوعب ايقاع العصر الجديد. قد أكون هرمت من دون أن أدري. قد أكون تحولت الى تقليدي من دون أن أعلم. تجارب الشعراء الجدد ولو لم تكن ناضجة، تلفت نظري الى مسارات جديدة عليّ أن أنتبه لها وأن استفيد منها إذا كانت قادرة على امداد النص الشعري بدم جديد وحياة جديدة. ولكن لنعترف، هناك فوضى، سواء في الشعر العمودي أم التفعيلي أو النثري، هناك فوضى. وهذا طبيعي، لأن لا رقابة على النشر، وأقصد بالرقابة الرقابة الأدبية والابداعية التي تضع معايير وتحدد للقارئ، مفاتيح ما هو شعري وما ليس شعرياً. سهولة النشر كبيرة جداً وكل الصحف العربية فيها صفحات ثقافية يجب أن تمتلئ بما توافر، والمحررون يكونون أحياناً في مستوى لا يؤهلهم لتقويم الشعر. لذلك تعمّ الفوضى، وهي ليست من سمات عصرنا، ففي كل العصور كان هنا فوضى. لكنّ صعوبة النظم كانت تحول الى حد ما دون استتباب الفوضى. فالنظم يتطلب أدوات عروضية ولغوية قوية وقد يكون مجرد نظم خالٍ من الشعر.



                              > مَن يتحمل مسؤولية هذا الفلتان الشعري؟
                              - الفوضى النظرية التي عرّفت الحداثة بها، كل شيء غير منضبط في شكل، يستطيع أن يدّعي شاعره أنه ينتمي الى الحداثة. والآن عندنا تسمية جديدة هي ما بعد الحداثة. ونحن ما زلنا نعيش في عصر ما قبل الحداثة.



                              > لكن الشاعر الفرنسي لو تريامون يقول إن على الشعر ان يكتبه الجميع!
                              - أعتقد أن كل كائن بشري يحاول أن يكتب شعراً. والفرق ان هذا الشعر لم تُتح له فرصة النشر، أو ربما فرصة التكوّن. وكما تعرف في فترة المراهقة يكتب المرء ما يشبه الخواطر ويقلّد بعض الأدباء. وهذه الكتابات غالباً ما تكون شخصية. يجب أن يكتب كل الناس، كما قال لوتريامون، لكي يخرج من هؤلاء شعراء وروائيون وكتّاب...


                              > لا تزال تصرّ على «صدمة» جمهورك، وما زال هذا الجمهور يتابعك في أمسياتك الشعرية. كيف تنظر الى هذا الجمهور والى «الصدمة» التي تحدثها فيه عندما تقرأ له قصائدك الجديدة التي تختلف عن القصائد الأولى التي يميل اليها عادة؟
                              - لا أعرف ان كان الجمهور يميل الى القصائد الأولى حقاً. لم يعد الجمهور يطالبني كما في السابق بأن أقرأ ما في ذاكرته من شعري. وهذا حسن. واستطعت أن أجد ما يشبه الثقة المتبادلة بيني وبين القراء. إنني لا أحب كلمة جمهور. لنقل المتلقي أو القارئ. فالجمهور ليس كتلة واحدة متجانسة. وأنا لا أستطيع أن أتكلم عن الجمهور بطلاقة، لأنني سأرتكب أخطاء كثيرة. ثم من هو الجمهور؟ قد يكون مجموعة من الشعراء والمثقفين، قد يكون من سائقي التاكسي أو ربات البيوت أو الطلاب، وقد يكون لكل مجموعة الحق في أن تقيم علاقة مع الشعر. المشكلة عندنا ان القارئ العربي يشعر بأن من حقه أن يتدخل في تحديد مفهوم الشعر. وكل قضية من هذا النوع تتحول قضية عامة قد يهددها خطر التبسيط، لئلا أقول الابتذال. إنني أواكب قرائي مثلما هم يواكبونني وهم يتطورون ويتغيرون. وأكثر ما يسعدني في هذا الوقت، انني أفاجأ أينما ذهبت بأن الذين يحضرون الأمسيات الشعرية هم في ما يقارب التسعين في المئة من الجيل الجديد ومن الشباب في العشرينات. وهذا يعني أن قرائي الذين يحبون قصيدة «سجل أنا عربي» رحلوا وتركوني أو أنهم اكتفوا بذلك. إذاً اقتراحي الشعري هو أن من حق الشاعر أن يواصل تطوير لغته وأن يحميها من التكرار والارهاق. حتى اللغة الشعرية تصاب بالارهاق، وعلى الشاعر أن يجدد صورها واستعاراتها. هناك إذاً علاقة تتجدد مع تجدد الذائقة والعصر والزمن. هناك ثقة متبادلة، وإذا حقق الشاعر الثقة مع قرائه فقراؤه يعطونه الحرية في أن يطور نفسه كما يشاء. وإذا لم يكن هناك من ثقة أو إن كان ثمة جدار بين الشاعر والقراء، فالأمر يصبح قيداً ثقيلاً. بعض الشعراء يستهزئون بهذا القارئ وبعضهم يقدمون له تنازلات ويسمعونه ما يريد أن يسمع، ويكتبون له ما يريد أن يقرأ.



                              شعراء البدايات
                              > أي شعراء تركوا فيك أثراً شعرياً منذ البدايات؟
                              - أوه...



                              > مَن كنت تقرأ عندما كنت في فلسطين؟
                              - لم يكن عندي شاعر واحد أتعلّم عليه. كانت الكتب المتوافرة عندنا في الداخل هي ما تبقى من مرحلة الانتداب البريطاني. كنا في حالة حصار ثقافي حقيقي. كنت أعرف السياب جيداً والبياتي وكنت أقرأ نزار قباني أيضاً، وهو كان حاضراً في مراهقتي الشعرية. قرأت في تلك الفترة «الداخلية» غارثيا لوركا وبابلو نيرودا وتأثرت بهما وخصوصاً لوركا. كان المتاح لنا من الشعر العربي الحديث قليلاً. فيما الشعر الكلاسيكي العربي متوافر وكذلك الشعر المهجري، وكنت أميل الى غنائية هذا الشعر والى بساطته. وفي الشعر المصري اطلعت على بعض أعمال صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي. أدونيس لم يكن معروفاً في الداخل ولم يكن شعره وصل إلينا. القصيدة الأولى التي قرأتها لأدونيس كانت في العام 1968 على ما أعتقد، وكانت فدوى طوقان تزورنا في حيفا ومعها مجلة فيها قصيدة لأدونيس، لم أعد أذكر ان كانت «هذا هو إسمي» وأعجبتني كثيراً. ولكن لم يكن لأدونيس حضور في فلسطين، في تلك المرحلة كما الآن. مصادرنا الأخرى كنا نقتبسها من الصحافة مثل «الاتحاد» و«الجديد» في حيفا.



                              > كتبت أنت في الصحافة حينذاك!
                              - كنت رئيس تحرير مجلة «الجديد» ومحرراً في جريدة «الاتحاد» وكنت أكتب افتتاحيات ومقالات سياسية. دخلت عالم الصحافة باكراً، في العشرين من عمري وأقل. وكانت خياراتنا الأدبية خاضعة لاعتبارات يسارية.



                              > كنت في الحزب الشيوعي الاسرائيلي!
                              - نعم.



                              > من هم الشعراء الذين تفضلهم الآن وتقرأهم؟
                              - هناك شعراء أجانب كثيرون أقرأهم. والأكثر قرباً هو ديريك والكت. في السنوات الأخيرة كان والكت شاعري المفضل في اللغة الانكليزية. وربما هو أفضل من يكتب في هذه اللغة الآن. وهناك شيموس هيني. أعجبت كثيراً بالشاعر البولندي ميلوش وبالشاعرة تشمبرسكا. وكذلك أنا شديد الاعجاب بالشاعر اليوناني ريتسوس، وكنت على صداقة معه. فرنسياً إنني شديد الإعجاب بسان جون بيرس ولويس أراغون ورينه شار... وهؤلاء أقرأهم مترجمين الى الانكليزية أو العربية، ففرنسيتي لا تسمح لي بأن أحتك بنصوصهم في اللغة الأم. وفي الشعر الأميركي اللاتيني شاعري المفضل هو بابلو نيرودا. وفي الشعر الإيطالي أحب أوجينيو مونتالي شاعراً وناقداً. المشهد الشعري عالمياً في النصف الثاني من القرن العشرين، أو في القرن العشرين كله، كان من أغنى المشاهد الشعرية في التاريخ. أحب أيضاً الشاعر اليوناني جورج سيفيريس وكذلك الشاعر اليوناني إيليتس.



                              > وما قصتك مع المتنبي؟
                              - المتنبي، على الاختلاف الكبير معه حول نزعته الى السلطة ومدائحه وهجاءاته، أعتبر انه يلخص الشعر العربي الكلاسيكي. واذا أردنا أن نقرأ الشعر العربي كله مجازاً في شاعر واحد نقرأه في المتنبي. ثم إذا أردنا أن نقرأ الشعر المختلف عن شعر المتنبي نقرأ أبا العلاء المعري.



                              > وأبو تمام أين تضعه؟
                              - أبو تمام، مشروعه التحديثي (بين موسين) هو الذي سمح للحركة الشعرية العربية أن تتجدد. طبعاً هو من الشعراء الكبار، لكنه شديد التقعّر ومشغول بنحت الكلمات وخلق الصور الغامضة.


                              > وأبو نواس أليس هو من أوائل الشعراء «المدنيين»؟
                              - طبعاً طبعاً، أبو نواس نقل الشعر من البداوة الى المدنية. العصر العباسي هو العصر الذهبي للشعر العربي الكلاسيكي، ولكن في موازاة الشعر الجاهلي.


                              > ألا تعتقد ان المتنبي في «الأنا» المتضخمة عنده والنرجسية ترك أثراً سلبياً في الشعر العربي؟ كأن يقول: «أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...». من هو هذا الشاعر الذي يجرؤ أن يقول إن الأعمى قرأ أدبه؟ ما هذه المغالاة؟ ما هذا الاعتداد؟
                              - قد تصلح شخصية المتنبي وتناقضاته لكتابة مسرحية عنه. ربما هذه الجوانب سلبية لديه ولكن ما يعنيني في المتنبي هو شعره. لا شك في أن شعره يتمتع بجزالة رهيبة وفيه تختلط الحكمة مع العاطفة المتأججة. وهو يضع علامات لا يمكن أن تخطئها العين ولا الأذن. أنت تعرف المتنبي من غير أن يوقع قصيدته. وقدرته على أن يخلق سلطاناً شعرياً في هذا المستوى، لا نستطيع أن نمرّ بها مروراً محايداً.



                              > لكنّ هذا لا ينطبق على كل شعره.
                              - ليس من شاعر كل شعره جميل. وعندما أقرأ مدائحه وهجائياته أنسى الممدوح والمهجو وتطربني الجزالة الشعرية والبلاغة. القوة الداخلية لدى المتنبي حجبت عني أخلاقيته. أما انه ورّث «الأنا» المتضخمة الى غيره فإن «الأنا» لا تورّث. هناك شعراء آخرون متضخمون وفي كل العصور.



                              > ومشروع «التنبؤ» لديه!
                              - هذا المشروع ليس مشروع المتنبي وحده. العصر الرومانسي شهد مثل هذا المشروع، بل ان الرومانسية نفسها تقوم على هذا المشروع الرؤيوي ولا سيما الرومانسية الألمانية.



                              > ولكن هناك فرق بين الرؤيا والادعاء؟
                              - هذه الظاهرة موجودة عبر العصور حتى في عصرنا الحديث. وعلى الشاعر في عصرنا أنني خفف من دلالات فهمه لدوره. الشعر الآن يهتم بالهامشي أكثر مما يهتم بالقضايا الكبيرة. فكرة البطولة أو الفرادة ألغتها الحداثة الشعرية أصلاً. وأكرر ان هذا المشروع لا أعتقد انه من ميراث المتنبي. هذه خصائص بشرية. عندما تريد وصف وضع ما، في شكل تلقائي تلجأ الى الاستشهاد ببيت للمتنبي. وإن قلت ان المتنبي أكثر حداثة وحياة منا جميعاً فإنما قلت هذا من قبيل المجاز. وقامت عليّ القيامة لأن البعض أخرج كلامي من سياقه.



                              > أعود الى مسألة الريادة في الشعر العربي الحديث! ماذا تعني لك مقولة الرواد؟ هل ما زالت هذه المقولة مستمرة أم انها باتت مرتبطة بزمن معين؟
                              - أعترف بأني لا أستطيع أن أقرأ شعر معظم الرواد. وشعر هؤلاء يحتاج الى قراءة نقدية جديدة والى غربلة. وأهمية الرواد هي أهمية تاريخية، فهم شكلوا بشعرهم أو بأسمائهم نقطة انعطاف أو تمرد على القصيدة الكلاسيكية عبر خلق كلاسيكية تفعيلية جديدة. أي انهم تمردوا على التقليدية بما يمكن أن أسميه تقليدية أخرى. أنا لا أستطيع أن أقرأهم. انهم يحتاجون الى اعادة نظر، ولكن هذا لا يعني انني أخفف من أهمية دورهم التاريخي. الجامعات العربية وللأسف الشديد، لا تعرف مرحلة ما بعد الرواد. وكل جيل ما بعد الرواد غير مقروء جيداً، نقدياً وأكاديمياً. فجيل الرواد احتل مفهوم حداثة الشعر العربية، وأغلق الباب في وجه من أتى بعده. كل هذه المسألة تحتاج الى قراءة جديدة وإعادة نظر. أين تضع سعدي يوسف هذا الشاعر الكبير؟ فلا هو مع الرواد ولا مع جيل الستينات أو السبعينات؟ أين تضعه؟



                              > وأنت أليس أمرك هو نفسه؟
                              - إذا كنت أنا شاعراً مهماً فأين تضعني؟ إذاً الريادة يجب ألا تقف عند مرحلة تاريخية وتتجمد. الريادة يجب ان تكون أشبه بالصيرورة المستمرة والمتواصلة. وهناك انقلابات في الشعر العربي في السبعينات والثمانينات والتسعينات، وكل جيل يقدم ريادة من نوع مختلف. فعلى النقد العربي أو على الاكاديميات العربية ان تجري تحقيقاً جديداً في شأن الريادة ويجب أن يظهر الخط المستمر من جيل الرواد الى الآن. وهكذا يصبح في الإمكان النظر الى الشعر العربي كحركة حيوية متقدمة باستمرار وتنقلب على نفسها وتجدد نفسها بنفسها. ويجب عدم وضع حواجز حديد بين جيل وجيل.



                              > من الذي ينفّرك من الشعراء الرواد مثلاً إذا عدت الى قراءة آثاره؟
                              - لم أعد قادراً على قراءة شعر خليل حاوي مثلاً. والبياتي كذلك. لكنني أحترمهما. فهما غير قريبين الى ذائقتي. ومن المعروف أن الذائقة الشعرية مسألة ذاتية جداً، وأود ألا أذكر أسماء...



                              > هل عدت مرة الى كتب كنت تحبها ثم وجدت نفسك لا تحبها؟
                              - طبعاً، إننا نتعرض لخدع شعرية وفنية وثقافية. فما كان يبدو لنا جميلاً في زمن معين وعمر معين أو مرحلة معينة لم يعد يحمل حياة جديدة في ذاته تجعله قابلاً للقراءة في زمننا. لذلك فإن الأدب الباقي هو الأدب الذي يستطيع أن يخترق الأزمنة والأجيال ويحافظ على حداثته ومعاصرته، وعلى قابليته لأن يقرأ في زمن غير الزمن الذي كتب فيه.



                              > أحياناً نحس أن بعض القصائد تشيخ مثل الانسان!
                              - هذا إحساس مؤلم ولكنه مطمئن، فالخديعة لا تعمّر طويلاً.



                              > كيف تقرأ الآن شاعراً مثل نزار قباني؟
                              - لا أقرأه الآن بالبهجة التي كنت أقرأه بها من قبل، لكن هذا لا يعني أنني لا أحبه.

                              > نلاحظ أنك لم تكتب أي نص نظري في الشعر، علماً أن قصيدتك تحمل ما يشبه «البيان» الشعري بصمت! هل كتبت نقداً عندما عملت في الصحافة الفلسطينية في الداخل؟
                              - كنت أكتب مراجعات كتب، ولكن إذا قلت ان نظرتي الشعرية أو بياني الشعر موجودان في قصيدتي نفسها، فهذا يكفي. لماذا أضع نفسي في إطار نظري يصعب عليّ التخلص منه. وهذا لا يعني انني لا أحترم المنظرين، بل على العكس. لكن الملاحظ أن معظم الشعراء الذين ينظرون فإنما ينظرون لشعرهم، ويدافعون عن خيارهم الشعري، ولا يكونون منفتحين على تجارب الشعراء الآخرين ومستعدين لاستيعابها. ثم ليس لدي ميل الى التنظير، لأنني أخاف أن أخطئ.



                              > لكنك في الاحاديث الصحافية تنم عن ناقد يملك ذائقة ووعياً نقدياً!
                              - اكتفي بوضع ملاحظات، وهي ليست ناجمة عن مقولات أو نظريات متماسكة. ربما ليس لدي مؤهلات لهذا الأمر. ليس لدي هذا الميل.



                              > ألا تحس أحياناً انك في حاجة الى أن توضح أمراً ما في شعرك أو قصيدتك؟
                              - بين حين وآخر أكتب بعض النصوص عن الشعر وعن التجربة الشعرية، وأحاول أن أجيب على اسئلة تتعلق بهذه التجربة، ساعياً الى توضيح سوء فهم بريء أو مقصود حول تجربتي. عندما وقعت ديواني الجديد «كزهر اللوز...» في رام الله أخيراً كنت مضطراً على أن أرد على حملة قام بها شعراء فلسطينيون تحديداً، يريدون أن يتدرّبوا على الملاكمة وهم يرون ان شعري لم يعد شعر مقاومة، فقدمت بعض الملاحظات المكتوبة حول فهمي للشعر الوطني وشعر المقاومة، وأن علينا أن نفهم المقاومة في معناها الواسع وليس الضيق. وقلت أيضاً إن الحداثة لا تعرّف فقط بقصيدة النثر... أحياناً في بعض الحوارات الصحافية أو اللقاءات والمداخلات أعبّر عن مفهومي للشعر.



                              > هل تقرأ ما يكتب الشعراء من تنظير شعري؟
                              - ليس كل الشعراء.



                              السيرة الذاتية
                              > يبدو أن سيرتك الشعرية لا تظهر إلا في شعرك وخصوصاً في ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» وفي «جدارية»، وكأن لا سيرة لك مع أنك تحب قراءة السيَر! ما سر غياب سيرة محمود درويش وطغيان الشعر عليها؟
                              - أولاً ما يعني القارئ في سيرتي مكتوب في القصائد. وهناك قول مفاده ان كل قصيدة غنائية هي قصيدة أوتو – بيوغرافية أو سير – ذاتية، علماً بأن هناك نظرية تقول ان القارئ لا يحتاج الى معرفة سيرة الشاعر كي يفهم شعره ويتواصل معه. ثانياً يجب أن أشعر بأن في سيرتي الذاتية ما يفيد، أو ما يقدم فائدة. ولا أخفيك ان سيرتي الذاتية عادية جداً.

                              > على العكس، أجد انها سيرة مثيرة جداً وصاخبة... فماذا عن طفولتك؟ ماذا عن أمك وأبيك؟ ماذا عن المنفى؟...
                              - لم أفكر حتى الآن في كتابة سيرتي.



                              > هل تخاف هذه السيرة؟
                              - لا. لا. لكنني لا أحب الإفراط في الشكوى من الحياة الشخصية ومشكلاتها. ولا أريد بالتالي أن أتبجّح بنفسي، فالسيرة الذاتية تدفع أحياناً الى التبجح بالنفس، فيصوّر الكاتب نفسه وكأنه شخص مختلف. وقد كتبت ملامح من سيرتي في كتب نثرية مثل «يوميات الحزن العادي» أو «ذاكرة للنسيان» ولا سيما الطفولة والنكبة... لا أريد أن أكرر هذا الموضوع وربما عندما أشعر بأن من الضروري أن أكتب سيرتي فسأكتبها. ربما عندما انقطع عن كتابة الشعر.



                              > والدتك التي غنيتها في قصيدة «أمي» ماذا تمثل لك الآن؟
                              - انها أمي. وهي ما زالت على قيد الحياة. أما الوالد فتوفي منذ عشر سنوات وقد أصيب بضربة شمس في الحج.



                              > وكيف علاقتك الآن بوالدتك؟
                              - أنا ابنها المفضل، والسبب بسيط لأنني الابن الغائب. غبت عنها سنوات طويلة ولكن كنا نلتقي قبل «الاغلاقات» من حين الى آخر.




                              ماذا تعني لك مقولة «عرب 1948» ولماذا يُسمى الفلسطينيون بـ «عرب 48»؟ وأنت كنت منهم؟


                              - أنا منهم أجل. انني ولدت في قرية تدعى البروة ثم انتقلنا كعائلة الى لبنان خلال حرب 1948. شُرّدنا وهُجّرنا. اضطررنا على الهروب مع أهل القرية الى شمال فلسطين ثم الى لبنان وأول قرية لبنانية أتذكرها هي رميش ثم سكنا في جزين في البداية، الى أن هبط الثلج في الشتاء. وفي جزين شاهدت للمرة الأولى في حياتي شلالاً عظيماً. وقبل سنتين زرت جزين ولم أجد الشلال. ثم انتقلنا الى الناعمة قرب الدامور. وأتذكر الدامور في تلك الفترة جيداً: البحر وحقول الموز... كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد. كنا نتصرّف وكأننا سياح... فنحن خرجنا من القرى كي يتمكّن جيش الانقاذ العربي من مواصلة الحرب وتحرير الأراضي. وكنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود الى قرانا. لكن جدي وأبي عرفا ان المسألة انتهت فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية الى شمال الجليل. وقد بقينا لدى أصدقاء الى ان اكتشفنا ان قريتنا البروة لم تعد موجودة. فالعودة الى مكان الولادة لم يتحقق. عشنا لاجئين في قرية أخرى اسمها دير الأسد في الشمال. كنا نسمى لاجئين ووجدنا صعوبة بالغة في الحصول على بطاقات إقامة، لأننا دخلنا في طريقة غير شرعية، فعندما أجري تسجيل السكان كنا غائبين. وكانت صفتنا في القانون الاسرائيلي: «الحاضرون – الغائبون»، أي اننا حاضرون جسدياً ولكن بلا أوراق. صودرت أراضينا وعشنا لاجئين.


                              [/align]
                              ليست القصيدة...قبلة أو سكين
                              ليست القصيدة...زهرة أو دماء
                              ليست القصيدة...رائحة عطر أو نهر عنبر
                              ليست القصيدة...سمكة .... أو بحر
                              القصيدة...قلب...
                              كالوردة على جثة الكون

                              تعليق

                              • مهتدي مصطفى غالب
                                شاعروناقد أدبي و مسرحي
                                • 30-08-2008
                                • 863

                                #30
                                > ولكن أين كانت نشأتك؟
                                - أنا نشأت في حيفا بعدما انتقلت العائلة الى قرية أخرى اسمها الجديدة بنى أبي فيها بيتاً. وفي حيفا عشت عشر سنين وأنهيت فيها دراستي الثانوية ثم عملت محرراً في جريدة «الاتحاد» وكنت ممنوعاً من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات. كانت إقامتي في حيفا إقامة جبرية. ثم استرجعنا هويتنا، هوية حمراء في البداية ثم زرقاء لاحقاً وكانت أشبه ببطاقة إقامة. كان ممنوعاً عليّ طوال السنوات العشر أن أغادر مدينة حيفا. ومن العام 1967 لغاية العام 1970 كنت ممنوعاً من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلاً لتتحقق من وجودي. وكنت أعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة. ثم اضطررت على الخروج.



                                > الى أين خرجت حينذاك؟
                                - الى موسكو.



                                > سنعود الى الكلام عن مدن محمود درويش. ولكن أسألك مرة أخرى: لماذا كنتم تسمّون عرباً وليس فلسطينيين؟ ولماذا ما زالت هذه التسمية قائمة حتى الآن؟
                                - الاسرائيليون سمّونا عرباً والعرب سمّونا فلسطينيين. لماذا عرب؟ للتمييز بيننا وبين اليهود ولمحو هديتنا الحقيقية. فهذه الدولة الاسرائيلية الجديدة تضمّ عرباً. والفلسطينيون للأسف لهم أسماء عدة: عرب 1948، فلسطينيو 1948، فلسطينيو 1967، فلسطينيو 1993 أو فلسطينيو أوسلو... أي ان عندنا أرقاماً وأننا «محقّبون» جيداً.



                                > هل ما زلت على تواصل مع ثقافة الداخل؟
                                - بمقدار ما يتاح لي من اتصال بالانتاج الثقافي والابداعي.



                                > لماذا نحسّ أن ثقافة الداخل يشوبها بعض «الفوات» عربياً وبعض الاغتراب؟

                                - هذه قضية تحتاج الى قراءة خاصة.



                                > ما رأيك بالأدب العربي المكتوب باللغة العبرية، خصوصاً أن ثمة أسماء ولو قليلة لمعت في هذه اللغة؟
                                - لم أقرأ من هذا الأدب إلا رواية مهمة هي «أرابيسك» للكاتب انطون شماس. الآن هناك ما يشبه «الموضة» وهناك أيضاً روائيون وشعراء شباب وجدد اختاروا العبرية للكتابة. ربما تسعى هذه البادرة الى الاندماج الثقافي في المجتمع الاسرائيلي. هذا لدى بعضهم. ولدى البعض الآخر قد يكون هذا الخيار نوعاً من المقاومة ضد الاسرائيليين في لغتهم نفسها. هكذا يقول هؤلاء. وقد يحسن البعض، بسبب تكوينهم ونشأتهم عبرياً، التعبير باللغة العبرية أفضل من العربية. هناك تفسيرات عدة. ولكن هذا خيار لدى أقلية محدودة.


                                > هناك أصوات شعرية وروائية اسرائيلية مهمة كما يظهر لنا من خلال الترجمات الأجنبية والعربية، وكيف ترى الى هذا الأدب؟ هل يجب علينا أن نقرأه كأدب عدوّ من خلال موقف سلبي مسبق؟
                                - بصراحة لم أعد أطلع في السنوات الأخيرة على الأدب العبري مثلما كنت أطلع عليها في السابق، عندما كنت أعيش هناك. انقطعت صلتي بهذا الأدب. ولكن هناك اسماء مكرّسة في أوروبا وأميركا، وهي تترجم في الوقت الذي تكتب فيه. ففي وزارة الخارجية الاسرائيلية مكتب لترجمة الأدب العبري الى اللغات الأجنبية. والدولة الاسرائيلية تشرف بنفسها على تسويق الأدب العبري عالمياً. وهذا يدل على الصلة بين المؤسسة والأدب. أمّا ان نقرأه أو لا نقرأه فهذا أمر آخر. وأود أن أشير الى أن سيدة اسرائيلية أسست داراً لنشر الأدب العربي مترجماً الى العبرية وترجمت حنان الشيخ وإلياس خوري ومحمد شكري وقصائد لي وآخرين. بعض الكتاب العرب رفضوا ان يُترجموا الى العبرية، بينما الاسرائيليون لا يحتاجون الى إذن خطي لكي يترجموا. فأنا تُرجم الكثير من شعري الى العبرية من دون ان أُستأذن. وفي المحصلة تبيّن أن الكتاب العرب لا يريدون أن يقرأهم الاسرائيليون وأن الاسرائيليين غير معنيين بقراءة الأدب العربي. فالفجوة في العلاقة بين الطرفين ما زالت قائمة وما زال كل طرف يقرأ الآخر من باب: اعرف عدوك. لم نصل بعد الى قراءة بعضنا بعضاً قراءة أدبية صرفاً أو للمتعة الأدبية، والشروط التاريخية لا تسمح لنا بذلك. انهم لا يجدون متعة في قراءتنا ولا نجد نحن بدورنا متعة في قراءتهم. وهذا الأمر يندرج في سياق الصراع المستمر بيننا وبينهم.



                                > ولكن لك قرار اسرائيليون كثيرون!
                                - لا أعرف إن كانوا كثيرين. لكنني أُقرأ من باب الاطلاع على المفهوم السوسيولوجي الفلسطيني وعلى سيكولوجية الشعب الفلسطيني. وأكاد أقول انني أُقرأ أيضاً قراءة أمنية من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك اليساريون الذين يقرأونني كنوع من التعبير عن التعاطف مع حقوق الفلسطينيين. اما ان أقرأ قراءة أدبية محضة فلا أعرف، بل قد أشك في ذلك.



                                شارون والوجدان الفلسطيني
                                > هناك بعض المسؤولين يقرأون شعرك!
                                - مثل من؟



                                > شارون! وذلك الوزير الذي سبب مشكلة كبيرة انطلاقاً من قصيدتك «عابرون في كلام عابر».
                                - الضجة الكبرى أثارها الوزير الاسرائيلي سريد وهو من حزب «ميريتس»، عندما أدرج بعض قصائدي في المدارس. لم تكن القراءة الزامية بل اختيارية وكما ان من حق الطالب ان يطلع على الشعر البولندي والهولندي والفرنسي يحق له أن يطلع على الشعر الفلسطيني أو العربي. والأمر يتوقف على رغبة المعلم والطالب معاً. والمسألة من أولها الى آخرها لم تكن تستحق تلك الضجة، وكادت الحكومة الاسرائيلية ان تسقط والفرق كان في ثلاثة أصوات. حينذاك سألتني احدى الصحف الاسرائيلية فقلت لها: كنت أعتقد انكم دولة تحترمون أنفسكم الى حد انكم تسقطون الحكومة لأسباب داخلية سياسية ولكن ليس لأسباب شعرية، كنت أعتبر انكم أقوى من ذلك. الوزيرة الجديدة وهي من حزب «ليكود» ألغت للتو قصائدي من البرنامج. أما ما قاله شارون عن شعري فقاله بعدما خرج كلامه عن سياقه. سئل شارون في مقابلة صحافية عما يقرأ، فقال انه يقرأ رواية لكاتب اسرائيلي. فقال له الصحافي ان هذا الكاتب يساري ويكرهك، فقال له شارون: إنني أميز بين الابداع والسياسة، صحيح انني ضد أفكاره وهو ضد أفكاري، لكنني مستمتع بروايته. وأضاف: أنا أقرأ حتى محمود درويش وأنا معجب بديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» لأن هذا الاعجاب قادني الى الاعجاب بتعلق الشعب الفلسطيني بقضيته وأرضه. في هذا السياق جاء كلام شارون.
                                > هل تجوز المقارنة برأيك بين الشعر الاسرائيلي الحديث والشعر الفلسطيني الحديث مثلما فعل أحد الباحثين الفلسطينيين في «الداخل»؟
                                - من حيث المبدأ، أكاديمياً أو ثقافياً، قد يكون من الممكن المقارنة بين شعرين مكتوبين بلغتين مختلفتين، ومن وجهتي نظر متضادتين، على أرض واحدة. وقد تغري المقارنة هنا بالدراسة. ولكن لا أعرف أي منهج يمكن أن يعتمد وأي موضوع يمكن تناوله: الصراع على الهوية، الصراع على الذاكرة...؟ يمكن اجراء مقارنة بين علاقتين مختلفتين مع الأرض. وثمة بين الشعر الفلسطيني والشعر الاسرائيلي حال من الصراع، صراع في اللغة حول من يمتلك المكان واللغة وحول مَن يسيطر على موضوع المكان أفضل من الآخر. الصراع قائم.



                                > عندما تقرأ شاعراً اسرائيلياً يتغنى بأرض فلسطين، ماذا يكون شعورك؟
                                - يأخذني شعوري الى أن الصراع بيننا ليس عسكرياً فقط واننا نحن مدفوعون الى صراع ثقافي عميق. مثلاً هناك شاعر اسرائيلي كبير أحب شعره هو يهودا عميحاي، لم يدع مكاناً في فلسطين، وهو يسميها أرض اسرائيل، إلا وكتب فيه قصائد وبعضها جميل جداً وتحرج الشاعر الفلسطيني حقاً. تحرجه في أي معنى؟ الشاعر الفلسطيني لم يشعر يوماً بأنه محتاج الى تقديم براهين على حقه بالمكان، وعلاقته بالأرض تلقائية وعفوية ولا تحتاج الى أي ايديولوجيا أو تبرير. الشاعر الاسرائيلي الذي يعرف كيف تمّ مشروعه وماذا كان قبل اسرائيل، والذي يعرف أيضاً ان هذا المكان له اسم آخر وسابق هو فلسطين، يبدو هذا الشاعر في حاجة الى شحذ كل طاقته الابداعية من أجل امتلاك المكان باللغة كجزء مكمل للمشروع الاستيطاني. وبالتالي فهذه المسألة مخيفة فعلاً: من يكتب المكان في شكل أجمل يستحق المكان أكثر من الآخر؟ قد يكون هناك شعب لا شعراء له، فهل يكون من حق الآخر ان يحتله؟ الجدارة الأدبية لا تعطي حقاً للسلاح في أن يملك شرعيته. هناك مسائل صعبة. كأن تقول ان صاحب الحق الأكبر هو صاحب التعبير الأجمل. طبعاً يحاولون في اسرائيل دائماً تجريد الشعب الفلسطيني من قدراته الابداعية لكي يقولوا انهم جاؤوا الى أرض شعبها غير متحضر وغير متمدن، وانهم يحملون رسالة تحضير وتحديث أي رسالة كولونيالية. كيف يكون ردّي على شارون مثلاً: عوض أن يحسد الفلسطينيين على العلاقة بأرضهم يستطيع أن يشفي نفسه من هذا الحسد بأن ينسحب من أرضهم. ولكن من جهة أخرى، ان الشعر الفلسطيني بحسب مقولة شارون، استطاع أن يخترق الحصار السياسي والتاريخي.



                                > كيف تصف نفسك الآن، كمواطن فلسطيني؟
                                - أنا الآن في فلسطين، مواطن فلسطيني، محاصر بكل شروط الاحتلال والحصار والعزلة التي تفرضها اسرائيل. وأدافع عن حقنا في امتلاك مستقبل أفضل على أرض أوسع، مع الاحتفاظ بحريتنا في أن نحلم بشيء يبدو مستحيلاً مثل العدل والسلام والتحرر. لا استطيع ان أتكلم عن فلسطين في هذه اللحظة إلا بكثير من الاحباط. ففلسطين تتناقص جغرافياً، مع انها لا تزال في مكانها، لكن الواقع الاسرائيلي يقضمها كل يوم، ويحيط ما يريده أن يكون لنا وطناً نهائياً، بالاسوار والجدران. فلسطين تتناقص أيضاً في مدى مشاركة العالم في الدفاع عن حقها بالضغط على دولة ينظر اليها العالم بأنها فوق القانون، ويعاملها كقيمة أخلاقية غير قابلة للمحاسبة. والعالم العربي المحيط بفلسطين يتعرّض أيضاً للمزيد من الاحتلال أي انه «يُفلسطن» في شكل أو في آخر. صورة المستقبل القريب غير مشعّة إذا نظرنا اليها من منظور الحاضر. وللأسف المستقبل القريب أكثر وضوحاً مما ينبغي، لأن معالم الحل الاسرائيلي محددة ومعروفة: ان نعيش في كانتونات تثبت ان الأبارتايد أو التمييز العنصري ينتهي في بلد ويبدأ في بلد آخر. والبعد العربي للقضية الفلسطينية معرّض أيضاً للاحتلال والتهديد. فكل ما حولنا وما فينا يشير الى الحزن والغضب معاً. والاسرائيليون يعطون للنكبة عمراً جديداً، انهم يريدون للنكبة ان تستمر وان تتناسل. وكأن حرب 1948 ما زالت، كما يقول الاسرائيليون، مستمرة. واستمرارها يعني انهم يشعرون بأنهم لم ينتصروا تماماً، أي انهم في حاجة الى انتصار جديد. لكنّ هذا لا يعني أن الفلسطينيين تخلّوا عن حقهم، بل على العكس. لكن تجربة الشعب الفلسطيني في علاقته بأرضه تعني انه شعب غير قابل للخروج من التاريخ ولا من الجغرافيا كما يحاول الاسرائيليون أن يفعلوا. ضاقت الخيارات على الشعب الفلسطيني ولم يبق أمامه سوى خيارين، إما الحياة وإما الحياة. ومن حقه ان يدافع عن نفسه وأول سلاح هو أن حافظ على ذاته وحقه وهويته، وثانياً أن يلجأ الى الوسائل التي تحفظ صورته الانسانية والوطنية ولا تمدّ المحتل بما يريد لها من تشويش واضمحلال. مقاومة الاحتلال ليست حقاً فلسطينياً فقط بل هي واجب، والمقاومة تتخذ أشكالاً متعددة منها الصمود وعدم القبول بالمقترحات الاسرائيلية التي تعني الغاء الذات الفلسطينية، والبحث عن وسائل نضالية تخدم المصلحة الوطنية العليا.



                                > هل من علاقة لك بالسلطة الفلسطينية؟
                                - رسمياً أنا لا علاقة لي بأي سلطة، ولكن على المستوى الشخصي علاقتي ممتازة مع رئيس السلطة ورئيس الحكومة ومعظم الوزراء. ومهما كان هناك من مشكلات داخلية فما يجمع الفلسطينيين الآن هو السؤال الوطني، أكثر من أي سؤال داخلي. لكن ذلك لا يعني أن نغضّ النظر عن المشكلات الداخلية. والقضية الأساسية هي كيف نحل المشكلة الوطنية وهي مشكلة الاحتلال. لا أمارس دوراً كبيراً سياسياً بل أمارس دوراً ثقافياً. وينتابني شعور بالغربة، إلا ان واجبي الوطني يناديني كي أكون هناك. وهذا أضعف الإيمان. أنا إذاً هنا وهناك وأشعر بحزن وإحباط.



                                > عندما تكون في رام الله هل تشعر بأنك فعلاً في وطنك فلسطين أم ان وطنك استحال بقعة ما في ذاتك وشعرك وذاكرتك؟
                                - شعوري خجول جداً، ولغتي خجولة. لا أشعر كثيراً بأنني في الوطن. أشعر بأنني في سجن كبير مقام على أرض الوطن وكأنني لم أتحرر من منفاي. فمن كان يحمل الوطن في المنفى ما زال يحمل المنفى في الوطن. والحدود ملتبسة جداً، بين مفهومي الوطن والمنفى. الحرية شرسة جداً وجميلة جداً ويجب أن نبقى أسرى لها. وفي هذا الأسر، أسر الحرية نستطيع ان نتحرر. المجازات كثيرة هناك والاستعارات كثيرة والحدود بين الاشياء مختلطة. لا تعرف أحياناً حدود المعنى، وأحياناً تبحث عن المعنى ولا تجده. ولكن أهم أمر هو ألا نسقط الوطن من يدنا ولا من مخيلتنا. تعرضنا كثيراً لمحاولة الوقيعة بيننا وبين هذه البلاد. فالاسرائيليون يقيمون الجدران ليس بيننا وبينهم فحسب ولكن بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين ذواتنا، وهم محتاجون الى إقامة أسوار أخرى بين التاريخ والخرافة، بين الاسطورة والواقع، وهذا ما لا يفعلونه. إنهم متمترسون وراء أسطورة مسلحة برؤوس نووية. لم نسمع في التاريخ عن أساطير تتسلّح بهذا السلاح الفتاك.



                                > كيف ترى الى العمليات الاستشهادية أو الانتحارية التي تقوم بها بعض المجموعات الفلسطينية الأصولية؟
                                - هذا سؤال يتأرجح بين الاحساس بالمسؤولية والبعد الاخلاقي. من حق الفلسطينيين أن يقاوموا الاحتلال بوسائل تخدم قضيتهم. ولكن يجب أن يكون الفلسطينيون حريصين على التفوّق الأخلاقي للضحية، وأن يميزوا بين صورتهم وحقهم في العدالة وصورة المحتل. تحفظي الشديد هو على العمليات التي تمسّ المدنيين مما قد يقلّص الفارق بين الصورتين، فنصبح نحن والاسرائيليين كأننا جيشان في حرب. الاستشهادي يقدم حياته. ولا نستطيع أن نحاكم استشهادياً يهاجم موقعاً عسكرياً، ولكن نستطيع أن نقول له ان مهاجمة مطعم أو دار سينما لا تخدم قضيته ولا صورته.



                                > كيف تستعيد صورة الرئيس ياسر عرفات بعد مضي سنة على رحيله؟
                                - أريد أن أرى ياسر عرفات وقد رفض الغياب. أريد أن أراه رمزاً، ونحن محتاجون الى الرموز، رمزاً لتاريخ شعب وتحولات هذا الشعب من الغياب الكامل الى لاجئين فإلى مقاتلين فإلى مؤسسي مشروع وطني ثقافي، ثم الى حضور كثيف في خريطة العالم. ياسر عرفات من الذين استطاعوا أن يعيدوا اسم فلسطين الى الوعي العالمي. قدّم كل حياته للقضية ولم يعش لنفسه أبداً. أريد أن أرى هذه الصورة باقية. نفتقد عرفات لكننا لا نريد عرفات آخر. وأنا من الذين يقولون اننا لا نحتاج الى عرفات آخر. لا نحتاج الى رمزية عالية، نحتاج الى مدراء جيدين. كان عرفات يتمتع بمزايا لا يمكن أن تُورث وأن تُورّث. ومن الصعب أن نستنسخ شخصية مثله، وهذه الشخصية أنهت دورها ولم تعد قابلة للاستعادة. لكن تاريخه هو القابل للاستعادة، وكذلك تضحياته. انه سجل مضيء في ذاكرة الفلسطينيين. لكننا لسنا في حاجة الى عرفات جديد.

                                > يقول إدوارد سعيد انك لعبت دوراً سياسياً في منظمة التحرير مضيفاً عبارة «على مضض». ماذا تعني لك هذه العبارة، مع انك كنت شديد القرب من عرفات، مستشاراً وعضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة؟
                                - «على مضض» تعني انني لم أرغب، بيني وبين نفسي، في أن أكون عضواً في القيادة الفلسطينية. كنت أفضل أن أبقى في مجالي الحيوي فلا أحتل موقعاً يتعارض مع نزعات الشاعر الخاصة. كوني عضواً في اللجنة التنفيذية تسبّب في تأويلات مبالغ فيها لما أقول أو أكتب، وكأن هناك شعراً رسمياً أو مقالات رسمية. وهذا بعيد كثيراً من طبيعتي ومن حقيقة كتابتي الشعرية. ثم انني لا أصلح للعمل الرسمي والاداري والاجتماعات الطويلة والسهر الطويل والزيارات الرسمية والسفر المضني. لقد انتخبت وأنا غائب، سمعت الخبر في الراديو وكنت في النورماندي في فرنسا فبكيت. وأول مقال كتبته حينذاك عنوانه «قبل كتابة الاستقالة». لكن خضوعي لضغوط معنوية وأخلاقية عالية جعلني امتثل لهذه العضوية لفترة محددة، نحو خمس سنوات. وأقول مازحاً ان من حسنات أوسلو انها أتاحت لي الفرصة للاستقالة من اللجنة التنفيذية.



                                > ماذا عنى لك خروجك من المنظمة عام 1993؟
                                - شعرت بسهولة التنفس مثل شخص أطلق سراحه.



                                > سياسياً؟
                                - لا شخصياً. شخصياً شعرت انني بت أستطيع أن أنصرف الى همومي الخاصة، الى حياتي، الى شعري والى عشوائيتي أو فوضاي. صحيح أن في الانسان أكثر من شخصية، وأن فيّ السياسيّ والشاعر والكاتب، لكن طبيعة التعبير عن كل شخصية تختلف. طبيعة السياسي تختلف عن طبيعة الشاعر، ثم إن لهما لغتين مختلفتين، من دون أن يعني ذلك أن الشاعر متخلٍّ عن السياسة. فالسياسة فينا والسياسة تعني في وضعنا الفلسطيني أن نكون منتمين الى قضية وطنية. لا يستطيع الشاعر أن يتخلى عن السياسة التي فيه. لكن طبيعة التعبير عن العلاقة هي التي تختلف. أما على المستوى السياسي فكنت حائراً. قرأت نص اتفاق أوسلو قبل أن يذاع وعندما علمت بأنه وقّع بالحروف الأولية قدمت استقالتي وخضعت استقالتي لتأويلات كثيرة ومجحفة وظالمة، وبعضها غير أخلاقي. وكنت من الخلقية حتى انني لم أقل لماذا، كل ما قلته:إننا مقبلون على مغامرة لا أريد أن أكون جزءاً منها، وكانت هناك، للأسف، تفسيرات مزرية. مع ذلك، عندما قبلت المؤسسة الفلسطينية هذه الصيغة وأصبحت هي التي تمثل السياسة الرسمية الفلسطينية، قلت انني لا أستطيع أن أرفضها في المطلق، مرتاح الضمير، ولا أن أقبلها أيضاً، مرتاح الضمير. لذلك كان وضعي هو وضع المتحفظ والممتنع، وليس وضع الذي سيعارض. كان في قلبي نداء ما يقول انه قد ينتج عن ذلك شيء، خصوصاً ان هذا المشروع جاء بعد محاصرة سياسية خانقة لمنظمة التحرير في أعقاب حرب الخليج وانعدام الخيارات أمامها. كنت حائراً بين قلبي وعقلي، العقل كان يقول لي إن هذا الاتفاق لن يؤدي الى حل ولن يؤدي الى سلام حقيقي ولا الى دولة. فنص الاتفاق غامض والمرحلة الانتقالية معدومة الربط نهائياً، وليس لدى اسرائيل أي التزام بالانسحاب، وليس هناك من تسمية للأرض المحتلة بأنها محتلة. ولكن كنت أتمنى أن يكون فهمي مخطئاً، كنت أتمنى أن يكون الذين قبلوا على خطأ، ففي خطأي مصلحة للجميع. ولكن للأسف الشديد، كانت النتائج أسوا مما تصورت. لقد انتقلنا من منفى الى سجن كبير. وعرفات قضى سنوات في زنزانة، في غرفة. أين آفاق أوسلو؟ ما هي هذه الآفاق؟ ومع ذلك رضي القتيل ولم يرضَ القاتل.



                                > هل كان من حل آخر في رأيك؟
                                - هذا ما يحير فعلاً. كان من الممكن الوصول الى اتفاق آخر. لو عرف عرفات والمنظمة مدى حاجة اسرائيل الى اتفاق ما مع اسرائيل لكي يفتحوا بوابتهم أمام العالم العربي، لكانت مكافأتنا كحراس للبوابة أفضل وأكبر. ليتنا صبرنا أكثر، لو طلبنا مثلاً فك الاستيطان من غزة كنا سنحصل عليه. لكن الاستعجال كان يحجب القراءة الدقيقة للنصوص.



                                > ما أجمل خطاب كتبته لعرفات؟
                                - عرفات يقول ان أجمل نص كتبته له هو نص إعلان الدولة. وأعتقد شخصياً انه أجمل نص كتبته في هذا القبيل. والمفارقة انني كتبته بعد أوسلو. كنت حينذاك في باريس وجاء عرفات وطلب مني أن أكتب النص وكان موضوعه فكرياً، حول مشكلات العالم... وفي الاجتماع كان رؤساء العالم موجودين، وأستشهد أكثر من رئيس بالنص الذي قرأه عرفات، فقال لي «أرأيت كم ان خطابك جيد»، فقلت له: هذا أصبح خطابك أنت.



                                > كتبت النص على رغم اعتراضك على اتفاق أوسلو!
                                - اختلافي مع عرفات حول موضوع أوسلو لم يمسّ العلاقة الشخصية التي جمعتني به. والدليل انني ذهبت أو عدت الى الوطن في شروط أوسلو.
                                ليست القصيدة...قبلة أو سكين
                                ليست القصيدة...زهرة أو دماء
                                ليست القصيدة...رائحة عطر أو نهر عنبر
                                ليست القصيدة...سمكة .... أو بحر
                                القصيدة...قلب...
                                كالوردة على جثة الكون

                                تعليق

                                يعمل...
                                X