مهلا ً يا قلب
هل للروح بقية؟.. سؤال لا يفارق تفكيري، أحاول أن أتناسى ألم جراحي وأتحامل على نفسي بمواصلة الزحف متشبثاً بالحياة، لقد طغى ألمُ جرحي على جوعي وعطشي، أشعر بأني أجرُ خلفي جبلاً.. لم يكن جبلاً كانت رجلاً مصابة برصاصة غادرة من محتلٍ غاصب، أجرّها خلفي وأحسُ بألم لا يطاق.. كأن سكاكين تقطع فيها، أشعر وكأنها كتلة من نار تمتد لتأكل جسمي كله.
لقد كـَرِه كُـلــّـي بعضي، نعم كرهتُ رجلي المصابة، تلك الرجل التي حملتني صغيراً أركض وألعب، وكبيراً أجاهد وأقاوم، والآن هي عبء ثقيل علي، أجرها كما تـُـجرُ الجيفة المتعفنة.
يُـقال عندما يواجه المرء الموت، تمر الحياة كأنها شريط ذكريات، ليس هذا ما أفكر به، كانت بسمة ولدي الوحيد، وصوت ضحكاته لا تفارق مخيلتي، هل يسعفني العمر لأضمه مرة أخيرة إلى صدري وأشم رائحة وجهه، وأسمع كلماته القليلة المتكسرة التي يعرفها.
أواصل زحفي وبندقيتي المعلقة برقبتي تعيق حركتي ولكن لن أتخلى عنها، كانت توأم روحي ورفيقة دربي التي لم تخذلني يوماً، سيحملها ابني من بعدي، وحفيدي لو اضطر الأمر حتى يخرج آخر جندي فرنسي من بلادي العزيزة.
تواجهني أشواك برية فأمر فوقها بصدري حتى لا تزيد علي أمتاراً
إن التففتُ حولها، وبكل الأحوال ما هو ألم شوكة أمام النار المشتعلة
برجلي - إن الغريق لا يخشى من البلل -
يوم آخر على هذه الحال، فمي جافٌ وكأن فيه حفنة تراب، تسري فيّ رعشة باردة، كيف أشعر بالبرد في هذا الصيف الحار، تدور دوامة برأسي وأكاد أفقد وعيي، لم أعد أشعر برجلي، كأنه سحب منها الألم كما تسحب الشعرة من العجين، لم أعد أشعر بها مطلقاً
لقد أصبحت غريبة عني .
هذا آخر تلّ أعبره وبعدها تطل قريتي الصغيرة ببيوتها المتناثرة
وهذا المقبل على الدرب؟.. أجل إنه العم أبو صالح.
- ماذا أصابك يا بني؟!.. ماذا حدث لك؟!..
كلمات سمعتها وأنا على ظهره، كان يتقدم بي ببطء، لم يستطع حملي بالكامل فقد كانت رجلاي تـُجران على الأرض.
وما أن دخلنا مشارف القرية حتى تقاطر عدد من الرجال، حملوني ودخلوا بي إلى بيت الطبيب الوحيد بالقرية، انهمرت علي الأسئلة
كوابل من المطر، لم أستطع التحدث كثيراً.
- ماذا حدث لباقي الثوار الذين كانوا معك؟!..
- لقد وقعنا بكمين، لقد أحس بنا الفرنسيون قبل أن ننتبه لوجودهم
وقد انهمر علينا الرصاص من كل حدب وصوب، فتفرقنا كل ذهب باتجاه.
وبعد معاينة الطبيب لساقي، أخذ ركناً والتف حوله عدد من الرجال
وأخذوا يتهامسون، فناديته.
- يا حكيم.. لا داعي لأن تخفي عني الحقيقة فأنا أعلم أن رجلي قد ذوت وأن لا أمل فيها، إن أردت بترها فأنا مستعد.
- ليست هذه المشكلة الوحيدة.. إن عملية جراحية كهذه تتطلب أدوات خاصة ومخدر وجميع هذه الأشياء غير متوفرة لدي، مثل هذه العملية لا تتم إلا في العاصمة، وأنت تعرف كم تبعد عنا, هذا إن استطعنا الإفلات من الفرنسيين.
- ألا يوجد حل ما؟.. يسأل رجل من الجمع.
- نعم ولكنه صعب وشاق للغاية, ولا أدري إن كان بطلنا يستطيع التحمل.. وهو أن نجري له عملية البتر هنا ومن دون المخدر.
- افعل ما تراه مناسباً يا حكيم فأنا مستعد.
- حسنا ً, سأرى ما بوسعي فعله.
وبعد أن حـُضرت المستلزمات، أجلسوني على كرسي ومدوا رجلي على آخر، أول مرة أنظر إليها, كانت متورمة بحجم اثنتين
وتفشى فيها اللون الأزرق المسود، كانت الغرغرينا تأكل فيها ووصلت بها إلى فوق الركبة بقليل، أرادوا أن يربطوني بالكرسي ولكني رفضت ذلك فأذعنوا لرغبتي، وضعوا منديلاً داخل فمي وأحضر الطبيب سكيناً ومنشاراً كان قد طهرهما بالنار وبدأ..
أخذ يشق اللحم بالسكين على كامل محيط الرجل المتورمة حتى
وصل العظم كانت عملية سريعة.. لم تستغرق وقتاً ولكنها مرت علي كأنها ساعات، لم أزح نظري عنها، رغم أن بعض الأصدقاء
حاولوا محادثتي لِـيُـلهوني عما يحدث لي، وأمرُ بنظرة خاطفة على وجوه الرجال، منهم من أشاح بوجهه جانباً، ومنهم من جحظت عيناه، ومنهم من ركض خارجاً ليتقيأ .
أمسك الطبيب بالمنشار وبدأ بنشر العظم بثبات، أمسك بي رجلان
واحد عن يميني والآخر عن يساري، كنت أضغط على أيديهما بشدة، وكان آخر يمسح حبات العرق عن جبيني .
كنت أحس بنصلة المنشار وهي تحز العظم كأنما تشق رأسي إلى نصفين وأسمع صوتها عميقاً داخله.
انفصلت الساق عن جسمي، كان شعوراً رهيباً، ولكني ما زلت أحس بالأصابع تتحرك، مازال الشعور بها يسكن عقلي، ربما أحتاج لبعض الوقت كي أعتاد على فقدها.
بعد كل هذا العذاب الذي لا يحتمل، حان وقت الكي بالنار لوقف النزيف عن المتبقي من الطرف المبتورة.
رحلة عذابٍ ولحظاتٍ مريرة كانت تمتحني، وما أصعبه من امتحان
كنت أشعر بقلبي يتخبط داخل صدري(مهلاً يا قلب, من يحمل حب الوطن بين ثناياه, لا يوقفه ألم ساعة .. أو معاناة دهر)
ضُمّـد ما تبقى من رجلي بقماش نظيف، ووضعتُ على فراش وثير - شكراً لكم جميعاً- أتركوني أرقد بسلام، فأنا متعب وأريد أن أنام، وما هي إلا لحظات حتى غبت عن الوعي.
رأيت نفسي أطير فوق السحاب، وأهبط إلى واحة خضراء، أحوم فوق مرج أخضر بين الفراشات، تلامس وجهي قطرات ندى وأشم
رائحة التراب المشبع بالمطر.
فتحت عيني, كان ابني يجلس فوق صدري، تعلو وجهه ابتسامة، و
صوت ضحكاته كأنها تغريد بلابل، يتمتم بكلماته القليلة المتكسرة
التي يعرفها، ضممته إلى صدري وشممت رائحة وجهه..
- عشت يا ولدي, وعاش الوطن..
===============
تمت
تمت
تعليق