إهداء :
مرفوعة إلى أديبنا الكبير ربيع عقب الباب
الرجل الذي فاض عمره
بقلم خليف محفوظ
" إنما أبكي اتحادا بمن يسمع صمت وحدتي في هذه الساعة من الليل "
زياد ( في الرجل الذي فاض عمره )
النص
هاهو الفندق ببهوه الواسع يتنفس ورده عطرا شذيا ، و تتفجر نافورته ماء ثرا .
هنا قضى بضع لياليه عشية الاستقلال منذ خمس و عشرين سنة .
المدينة تغيرت قليلا ، لكن الفندق هو هو ، مازال الوهران يربضان أمام البوابة يرقبان الداخل و الخارج ، مازال اللون الأصفر الرملي يطلي الجدران . حتى المشرف على الاستقبال يكاد يكون هو نفسه ، لكنه شاخ بسرعة . أواه ، لا ، إنها ربع قرن . إذن فقد شاخ على مهل ! نعم ، المدينة أيضا تشيخ لولا هذا الجيش من الأطفال عراة البطون حفاة الأقدام ، لكنهم أيضا يشيخون في طفولتهم ، بل و في أرحام أمهاتهم .
- نعم سيدي ؟
طالعه وجهه في المرآة المصقولة المذهبة الإطار كالحا مغبرا ، و شيب نزير عند الفودين كأنه يظهر لأول مرة .
" إيه ، حتى أنا أشيخ على ملل "
- ماذا تريد يا سي محمد ؟
سأله الشيخ متبرما من ذهوله .
صرف وجهه عن المرآة إلى وجه الشيخ المتقبض .
- أريد غرفة مريحة ، أنا قادم من عندهم للمرة الأخيرة .
حدق الشيخ في البطاقة ، دقق النظر في الصورة ، تردد قليلا ، ثم أسعفته فطنته فقلب البطاقة على ظهرها و قرأ تاريخ صدورها . مط شفتيه و شرع يكتب في سجله اسم هذا المقاتل العتيد الواقف أمامه كالأسطون .
وخرجت البطاقة من تحت الزجاج معها مفتاح برقم خمس و عشرين . حدق في الرقم مندهشا ! كيف ؟ ! أهي الصدفة تطلع هذا الرقم الذي يعلو مؤسسات البلد هذا المساء أم أنه مكر الشيوخ ؟ وتطلع إلى عيني الشيخ : فيهما هدوء و أيام كثيرة لا غير .
تأبط حقيبته و مضت خطواته تمزق الرواق المرصع بالتحف و اللوحات و الهدوء ، العابق بعطر الورد الذي أيقظ في نفسه لهيب السيروكو و عقم الرمل الأهوج بالمساحات غير ذات الحدود إذ يكشف الوجود عن وجهه الأبشع و يصير هو جذع شجرة مقتلعا متصلبا مفتحة عيناه إلى الجهة الأخرى من الأخدود مطوية جوانحه على الحذر و التيقظ للأحجام الغامضة المتدحرجة المسرعة بالاختفاء في قاع أخدود القتلى الجبناء و القتلى المتمردين ، الأخدود العميق المفتوح كشرخ حاد في سبورة الأيام المتراكمة بلا جدوى .
وقف أمام الباب الخامس و العشرين ، اصطدم به الرقم يحدق فيه محفوفا بالزهو مملوءا بالطرب مرة أخرى .
البلد كله يعلوه هذا الرقم ! خمسا و عشرين سنة من الاستقلال ! يالعبث الأقدار !
دفع الباب : غرفة أنيقة ، طلاء أزرق فاتح حالم ، فراش وثير ناعم ، خزانة و كرسي و طاولة أبنوس خالص ، ستائر هفهافة كجناحي فراشة ، شاعرية محضة .
هنا سيخلع تعبه .
حل خيوط حذائه ، لا بد من دوش .
انتصب تحت المرش ، دغدغه ماء فاتر ، حك إبطيه ، رفغيه ، مخابئ جسده ، ابتسم ، ضحك ، قهقه طويلا ، غمره الماء كما الطوفان ، مطر غزير يصيح ، يعول ، يثقب الجدران ، كالماء لكنه مالح و ساخن ، ضباب كثيف ، أزيز و صفير . مات بين يدي تحت الصخرة بالوادي ، لم أدفنه ، سيدخل الجنة بأسماله كما دخلوا القصور من بعده بأكتافهم العريضة و تطاولوا فيها و أفسقوا مثلما تفسق في الأيام . و عندما هدأ المطر و أهل القمر كنت عند النافذة أطرق خفيفا . كان شوقي إليها أكبر من حزني على رفيقي . لكنها لم تفتح !
وكان العالم طلقة مسدس في الظلام .
و استقرت يده آليا على ندب عميق في فخذه ، ندب استعصى على الأيام بتهافتها ووسخها و ظل يعلن عن حضور شاحب يضج بالغائبين الذين منهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و قد بدل تبدل تبديلا و ما عاد في الروح إلا جدارية حزينة ألصقها الزمن في القلب بصمغ الصبر تحكي كلاما مبهما ضاعت معانيه منذ أن ظن خطأ أنه بلغ سن الرشد .
مازال المرش يضخ بلا هوادة ، مازال متسمرا تقبض يده موضع الندب من فخذه ، مازالت الأصوات المتوحشة تمزق سمعه ، السياط تنهمر على لحمه ، أنياب الكلاب ، صرير الباب الحديدي المدرع ، وقع أحذيتهم و هم مقبلون في الهزيع الأخير من الليل ، وقع أحذيتهم و هم يسوقون الرفاق إلى المشانق المجيدة .
أواه ، أواه يا زياد ! لماذا هذا الآن ؟ يجب أن تغلق هذه النافذة و تسد هذا الباب .
أواه ، هي نافذة مهشمة تعول بها الريح ، يطلع منها الجائعون العرايا و الضائعون الحيارى ضحايا الصراع غير المتكافئ و الذين ألقي عليهم القبض أمواتا
.
انسحب من تحت المرش . وقف أمام المرآة ينشف جسمه . لاح له وجهه بلا أبعاد . حاول أن يبحث عن بعض معانيه الأولى تحت طبقات الأيام ، لم يعثر على ما يشده إلى بعضه ، إنه وجه آخر ، وجه مبصوم بالحر و الرمل و السأم .
أشاح عن المرآة إلى السرير مستلقيا على ظهره ... إذن قوْعدوك يا زياد و أنت لا تملك للدنيا حطاما إلا حلما بهت سكن القلب زهرة زمن العمر كان ربيعا ثم تلوث بالتبغ و الذهول و العزلة . لا دار و لا ولد ، اثنان و ثلاثون عاما خدمة ، منها ربع قرن في الاستقلال ، هو كذلك من المنفى و و النسيان و ممارسة التموضع و التواطئ مع الأيام ضد النفس بالأرض العقيم . تنوي الإقامة بهذا الفندق السعيد تقضي ما تبقى من العمر تقرأ الجرائد الكسلى ، تسمع و تشاهد وحيدا محايدا و الرفاق منهم من قضى نحبه و منهم من بدل تبديلا و ما بقي في خاطرك آخر العمر إلا هذا الإحساس الهرم المفعم بالحسرة و الندم على ما كان و ما لم يكن، على ما ضاع و انهدم . يا للهول ! كيف يفيض فيك هذا السيل العرم بعد طول سنين من التهميش و التخشب ؟! من ينقذك من ذاتك الساعة في هذه الحجرة المغلقة و الناس بالخارج في دوار و لهاث و الرقم الخامس و العشرون يعلو الدنيا مملوءا بالزهو مزدانا بالطرب ؟ هم يحتفلون بربع قرن من عمر الاستقلال و ماذا تصنع أنت بهذا الفائض من العمر ؟ ها هو الزمن يجثم على صدرك حتى يعسر تنفسك فتستنجد بما بهت و شحب و اتخذ هناك في الظلمة مكانا قصيا . كيف فتحت كهف الأسى ؟ ألم تضرب عرض الحائط مبعث الدمع حين حفر الشك قلبك ثم أدار اليقين رأسك فاستوى كلاهما عندك و ما كان حلما زاهيا أضحى كابوسا مؤرقا ؟!
البدء ما كان ينبئ بخاتمته . كانت تلبس أزهى ثيابها ، تتضمخ بأجمل العطر .
تحت المطر تعانقنا و تحت المطر افترقنا .
- سنلتقي و سنحتفل بالشمس و معنا الله و الأنبياء و الأطفال .
آخر ما قلناه . و أخذني المطر و الظلام و الجوع و التشريد و الرصاص .
ولم يكن لقاء .
خبا بريق عينيها ، تمْومس وجهها ، غدا خرقة مملوءة ببصمات الفاسقين . كانت تعرض نفسها فوق السلم على ثلة من الجائعين تحت إشراف عجوز شمطاء .لم تذعر عيناها لما أبصرتني ، لم تزد عن أن سحبت الثوب على فخذها . لم أفتح النار ، المسدس كان أتفه من أن تلتفت إليه يدي ، و كان الشارع بلا نهاية ، و كان قلبي يمطر المطر الأخير . استوت عندي الأشياء فأهدرت العمر بالذهول ، لم أنض الثوب ، لم أخلع الحذاء ، لم أسأل كيف هو الصف ، لم يسألوا عني . لكن ماهذا السؤال المباغت الليلة ؟ لماذا يقوْعد الإنسان ؟ أ ليخوْزق أم ليعطى وقتا أخيرا يتجرع فيه كؤوس الندامة و الحسرة ؟
أواه يا زياد ، ها أنت تقرأ بالوجد أيامك ، وجوه الرفاق ، أهازيج الأطفال ، الطرقات الخاوية ، وقوفك بمحطات البلد يدثرك الظلام و الضوء الخافت ووقع خطوات هاربة و أخرى مطارة و طلقات نار تنشر الموت في الزوايا و الأزقة .
الموت كان احتفالا مهيبا ، صلاة معربدة على إيقاع تدفق النبع . هاهو الآن بهذه الغرفة العبقة يقهقه ملء شدقيه كعينيها لحظة تقابلتما و هي تعرض نفسها على التافهين . خرجت من ذاتك حين كان ذكر الذات إشراكا . ثم كان الغياب الفظ فنسيت من تكون ، لم تعد تعرف ذاتك ، تدحرجت الأيام ، تكدست ، تراكمت ، انهارت . إلى أين ؟لم يكن يهمك شيء . كيف تدخل ذاتك الآن ؟ ! كيف يستيقظ فيك هذا الحنين إلى الأطفال و الزوجة و السقف و الدعة فتكون ككل المتقاعدين الكسالى المؤرقين بانتظار الموت ؟! ما هذا الذي يشق وجهك إلى شفتيك في طعم الملح ؟ ما عرفته عينك طول ما ولى و انقضى ! قلت إنك دخلت الفرح الأبدي حين تعانقتما تحت المطر، و عندما أبصرتها في حضرة الشيطان لم تبك لأنك أدركت أنك لم تبلغ سن الرشد فكيف تبكي الآن ؟ !
أواه ، إني لا أبكي حزنا ، إنما أبكي اتحادا بمن يسمع صمت وحدتي في هذه الساعة من الليل .
هاهي الظلمة تتكثف أكثر و أنت لا تدري كم الساعة الآن ؟ هو ليل وراء حدود الزمن . الليلة الأولى من العمر الفائض فمن يسمع صمت وحدتك في مثل هذا العمر ؟؟؟
قام إلى النافذة ، مصابيح الحديقة شاحبة تحيط نفسها بالصمت و التثاؤب ، الرصيف المقابل غارق في الغفوة ، والملصقات من فوقه مقهقهة كالأشباح .
تراجع ، انتصب وسط الحجرة ، حدق في الجدران ، في السقف ، أوقد الضوء ، انتبه إلى أنه مازال عاريا كما كان منذ أن استحم ، هيكل صلب كالسنديانة ، لكن في الرأس طنين ،و في القلب انفلات من حال إلى حال ، لهاث ، اصطفاق ، الندب في الفخذ يتصلب كالصخرة ، الضوء أعطى الأشياء لونا أصفر مقيتا ، فقعها ، فأسرع يطفئه .
جلس على حافة السرير . الباب يصر و ينشق قليلا . من ؟ هي ؟ زوليخا ، هي التي انسابت بثوبها الأبيض . اتنصب ثانية وسط الغرفة ، اصطدم بالمشجب معلقة عليه أيامه ، بل ثيابه ، تراجع ، عشرات الخطى تهدر في الرواق . فتح الباب ، خادم عجوز يخطو متثائبا ، أغلق الباب ملصقا ظهره عليه ، هزيج أطفال يعلو متناغما من الحديقة الخلفية للفندق ، يأتي جميلا كمطر الربيع ، أنصت ، دقق السمع : قسما بالنازلات الماحقات ... و الدماء الزاكيات الطاهرات ...
اشرأب في اتجاه النافذة ،هزيج الأطفال يتصاعد من كل الجهات في ترانيم هائلة الإيقاع ...
هو غارق في عرقه ، لا يذكر بأية نقطة هو من الوطن ، نسي اسمه ، تقاعده ، شك في اللحظة ، بداية الكابوس أم نهايته ؟ قدماه تقفان على عتبة الباب الخارجي للفندق ، الهزيج ينأى خفيفا شفافا ، المدينة يتوجع فيها الليل على هذيان السكارى ، الرقم الخامس و العشرون يتلألأ بالأنوار مشرفا على الدنيا مغتبطا . قدماه تبصمان على الرصيف بلا إيقاع ، ظله الخشن يرسم خيالا قاسيا على الجدران المليئة بخربشات الأطفال . هو يتداعى ، يشده الهزيج المتصاعد من الجهة الغربية ، نداء الطفولة و العمر الأول النشوان بالأحلام ، نشيد الصبيان عرايا البطون حفاة الأقدام دليله الآن في هذا العمر الآيل للزوال . ها هو يتسربل بالوجد و القمر ، بزوليخا و الوقوف تحت المطر ، بالندب ، بالبدء . هاهما سكيران يتكاتفان يتأوهان بأغنية راي خليعة ، وهذه مومس مترهلة تقف على عتبة بابها تنظر إليه مقهقة حتى تكاد تسقط على قفاها و يفيض صدرها ، خطواته بلا وقع ، الهزيج يقترب ، الزقاق يتسع ، انفصل عنه ظله ، تلاشى ، أضواء من كل الجهات ، مهرجان من الأنوار ، مئات الأجساد ترقص ، تتلوي ، تتمرغ ، ذكور و إناث ...
أين الهزيج المطر ؟؟؟
الموسيقى الصاخبة تتمزق على تأوهات أغنية الراي ، حركة هائلة ، إيقاع مجنون ، تدفق بشري ، تهافت ، تهاتف ، أرداف ، نهود ،أكتاف ، شعور ، عرق . المدينة تحتفل بعيد الاستقلال و الشباب ، بربع قرن من عمر الاستقلال ، تنصب الفرح بهذا الحي المتحذلق .
وقف مبهوتا في دائرة الضوء . فجأة كف الصخب و عم الصمت ، لحظات و هدرت القهقهات ... انتبه إلى نفسه ، مازال عاريا كما ولدته أمه يقف كالدب مكشوفة عورته . و اتجه انتباهه الأخير إلى أحذية يعرفها جيدا و عصي و عيون نارية ، أطلق ساقيه للريح . الويل لك يا زياد ! قرقعة خطى قاسية خلفه ، صليل أشياء حديدية ، و عاد الزقاق يضيق . عمره ما فاض الليلة بل منذ ربع قرن ، الخطوات الراكضة خلفه توشك تنهشهه ، ارتفع لهاثه و دار رأسه ، لم تعد قدماه تقويان على المزيد من الجري ، و خيل إليه أن أقداما كثيرة تحاصره من الجهة الأخرى فانهار . وقف متداعيا أمام امرأة مترهلة مغروسة في عتبة بابها . هي نفسها التي مر بها منذ حين ، بوعي منهك يدرك الآن سر قهقهتها ، و حين كانت عيناه تغيمان عن الوجود بدا له كأن يديها تمتدان نحوه ، ود لو تسعفه قواه الخائرة فيسألها إذا ما كانت هي زوليخا ؟ أن ينطق باسمها، أن يعلن عن اسمه ... سقط ... ما عاد يحس شيئا .
تحلق حوله الجمع الراكض ، أخرجت المومس منديلا فسترت عورته .
علق أحد الراكضين :
- جاء إلى هذه الدنيا عاريا و غادرها عاريا .
- قد يكون أغمي عليه فقط . انقلوه .
نقل ، و ظلت المرأة مغروسة على عتبة بابها تنتظر .
مرفوعة إلى أديبنا الكبير ربيع عقب الباب
الرجل الذي فاض عمره
بقلم خليف محفوظ
" إنما أبكي اتحادا بمن يسمع صمت وحدتي في هذه الساعة من الليل "
زياد ( في الرجل الذي فاض عمره )
النص
هاهو الفندق ببهوه الواسع يتنفس ورده عطرا شذيا ، و تتفجر نافورته ماء ثرا .
هنا قضى بضع لياليه عشية الاستقلال منذ خمس و عشرين سنة .
المدينة تغيرت قليلا ، لكن الفندق هو هو ، مازال الوهران يربضان أمام البوابة يرقبان الداخل و الخارج ، مازال اللون الأصفر الرملي يطلي الجدران . حتى المشرف على الاستقبال يكاد يكون هو نفسه ، لكنه شاخ بسرعة . أواه ، لا ، إنها ربع قرن . إذن فقد شاخ على مهل ! نعم ، المدينة أيضا تشيخ لولا هذا الجيش من الأطفال عراة البطون حفاة الأقدام ، لكنهم أيضا يشيخون في طفولتهم ، بل و في أرحام أمهاتهم .
- نعم سيدي ؟
طالعه وجهه في المرآة المصقولة المذهبة الإطار كالحا مغبرا ، و شيب نزير عند الفودين كأنه يظهر لأول مرة .
" إيه ، حتى أنا أشيخ على ملل "
- ماذا تريد يا سي محمد ؟
سأله الشيخ متبرما من ذهوله .
صرف وجهه عن المرآة إلى وجه الشيخ المتقبض .
- أريد غرفة مريحة ، أنا قادم من عندهم للمرة الأخيرة .
حدق الشيخ في البطاقة ، دقق النظر في الصورة ، تردد قليلا ، ثم أسعفته فطنته فقلب البطاقة على ظهرها و قرأ تاريخ صدورها . مط شفتيه و شرع يكتب في سجله اسم هذا المقاتل العتيد الواقف أمامه كالأسطون .
وخرجت البطاقة من تحت الزجاج معها مفتاح برقم خمس و عشرين . حدق في الرقم مندهشا ! كيف ؟ ! أهي الصدفة تطلع هذا الرقم الذي يعلو مؤسسات البلد هذا المساء أم أنه مكر الشيوخ ؟ وتطلع إلى عيني الشيخ : فيهما هدوء و أيام كثيرة لا غير .
تأبط حقيبته و مضت خطواته تمزق الرواق المرصع بالتحف و اللوحات و الهدوء ، العابق بعطر الورد الذي أيقظ في نفسه لهيب السيروكو و عقم الرمل الأهوج بالمساحات غير ذات الحدود إذ يكشف الوجود عن وجهه الأبشع و يصير هو جذع شجرة مقتلعا متصلبا مفتحة عيناه إلى الجهة الأخرى من الأخدود مطوية جوانحه على الحذر و التيقظ للأحجام الغامضة المتدحرجة المسرعة بالاختفاء في قاع أخدود القتلى الجبناء و القتلى المتمردين ، الأخدود العميق المفتوح كشرخ حاد في سبورة الأيام المتراكمة بلا جدوى .
وقف أمام الباب الخامس و العشرين ، اصطدم به الرقم يحدق فيه محفوفا بالزهو مملوءا بالطرب مرة أخرى .
البلد كله يعلوه هذا الرقم ! خمسا و عشرين سنة من الاستقلال ! يالعبث الأقدار !
دفع الباب : غرفة أنيقة ، طلاء أزرق فاتح حالم ، فراش وثير ناعم ، خزانة و كرسي و طاولة أبنوس خالص ، ستائر هفهافة كجناحي فراشة ، شاعرية محضة .
هنا سيخلع تعبه .
حل خيوط حذائه ، لا بد من دوش .
انتصب تحت المرش ، دغدغه ماء فاتر ، حك إبطيه ، رفغيه ، مخابئ جسده ، ابتسم ، ضحك ، قهقه طويلا ، غمره الماء كما الطوفان ، مطر غزير يصيح ، يعول ، يثقب الجدران ، كالماء لكنه مالح و ساخن ، ضباب كثيف ، أزيز و صفير . مات بين يدي تحت الصخرة بالوادي ، لم أدفنه ، سيدخل الجنة بأسماله كما دخلوا القصور من بعده بأكتافهم العريضة و تطاولوا فيها و أفسقوا مثلما تفسق في الأيام . و عندما هدأ المطر و أهل القمر كنت عند النافذة أطرق خفيفا . كان شوقي إليها أكبر من حزني على رفيقي . لكنها لم تفتح !
وكان العالم طلقة مسدس في الظلام .
و استقرت يده آليا على ندب عميق في فخذه ، ندب استعصى على الأيام بتهافتها ووسخها و ظل يعلن عن حضور شاحب يضج بالغائبين الذين منهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و قد بدل تبدل تبديلا و ما عاد في الروح إلا جدارية حزينة ألصقها الزمن في القلب بصمغ الصبر تحكي كلاما مبهما ضاعت معانيه منذ أن ظن خطأ أنه بلغ سن الرشد .
مازال المرش يضخ بلا هوادة ، مازال متسمرا تقبض يده موضع الندب من فخذه ، مازالت الأصوات المتوحشة تمزق سمعه ، السياط تنهمر على لحمه ، أنياب الكلاب ، صرير الباب الحديدي المدرع ، وقع أحذيتهم و هم مقبلون في الهزيع الأخير من الليل ، وقع أحذيتهم و هم يسوقون الرفاق إلى المشانق المجيدة .
أواه ، أواه يا زياد ! لماذا هذا الآن ؟ يجب أن تغلق هذه النافذة و تسد هذا الباب .
أواه ، هي نافذة مهشمة تعول بها الريح ، يطلع منها الجائعون العرايا و الضائعون الحيارى ضحايا الصراع غير المتكافئ و الذين ألقي عليهم القبض أمواتا
.
انسحب من تحت المرش . وقف أمام المرآة ينشف جسمه . لاح له وجهه بلا أبعاد . حاول أن يبحث عن بعض معانيه الأولى تحت طبقات الأيام ، لم يعثر على ما يشده إلى بعضه ، إنه وجه آخر ، وجه مبصوم بالحر و الرمل و السأم .
أشاح عن المرآة إلى السرير مستلقيا على ظهره ... إذن قوْعدوك يا زياد و أنت لا تملك للدنيا حطاما إلا حلما بهت سكن القلب زهرة زمن العمر كان ربيعا ثم تلوث بالتبغ و الذهول و العزلة . لا دار و لا ولد ، اثنان و ثلاثون عاما خدمة ، منها ربع قرن في الاستقلال ، هو كذلك من المنفى و و النسيان و ممارسة التموضع و التواطئ مع الأيام ضد النفس بالأرض العقيم . تنوي الإقامة بهذا الفندق السعيد تقضي ما تبقى من العمر تقرأ الجرائد الكسلى ، تسمع و تشاهد وحيدا محايدا و الرفاق منهم من قضى نحبه و منهم من بدل تبديلا و ما بقي في خاطرك آخر العمر إلا هذا الإحساس الهرم المفعم بالحسرة و الندم على ما كان و ما لم يكن، على ما ضاع و انهدم . يا للهول ! كيف يفيض فيك هذا السيل العرم بعد طول سنين من التهميش و التخشب ؟! من ينقذك من ذاتك الساعة في هذه الحجرة المغلقة و الناس بالخارج في دوار و لهاث و الرقم الخامس و العشرون يعلو الدنيا مملوءا بالزهو مزدانا بالطرب ؟ هم يحتفلون بربع قرن من عمر الاستقلال و ماذا تصنع أنت بهذا الفائض من العمر ؟ ها هو الزمن يجثم على صدرك حتى يعسر تنفسك فتستنجد بما بهت و شحب و اتخذ هناك في الظلمة مكانا قصيا . كيف فتحت كهف الأسى ؟ ألم تضرب عرض الحائط مبعث الدمع حين حفر الشك قلبك ثم أدار اليقين رأسك فاستوى كلاهما عندك و ما كان حلما زاهيا أضحى كابوسا مؤرقا ؟!
البدء ما كان ينبئ بخاتمته . كانت تلبس أزهى ثيابها ، تتضمخ بأجمل العطر .
تحت المطر تعانقنا و تحت المطر افترقنا .
- سنلتقي و سنحتفل بالشمس و معنا الله و الأنبياء و الأطفال .
آخر ما قلناه . و أخذني المطر و الظلام و الجوع و التشريد و الرصاص .
ولم يكن لقاء .
خبا بريق عينيها ، تمْومس وجهها ، غدا خرقة مملوءة ببصمات الفاسقين . كانت تعرض نفسها فوق السلم على ثلة من الجائعين تحت إشراف عجوز شمطاء .لم تذعر عيناها لما أبصرتني ، لم تزد عن أن سحبت الثوب على فخذها . لم أفتح النار ، المسدس كان أتفه من أن تلتفت إليه يدي ، و كان الشارع بلا نهاية ، و كان قلبي يمطر المطر الأخير . استوت عندي الأشياء فأهدرت العمر بالذهول ، لم أنض الثوب ، لم أخلع الحذاء ، لم أسأل كيف هو الصف ، لم يسألوا عني . لكن ماهذا السؤال المباغت الليلة ؟ لماذا يقوْعد الإنسان ؟ أ ليخوْزق أم ليعطى وقتا أخيرا يتجرع فيه كؤوس الندامة و الحسرة ؟
أواه يا زياد ، ها أنت تقرأ بالوجد أيامك ، وجوه الرفاق ، أهازيج الأطفال ، الطرقات الخاوية ، وقوفك بمحطات البلد يدثرك الظلام و الضوء الخافت ووقع خطوات هاربة و أخرى مطارة و طلقات نار تنشر الموت في الزوايا و الأزقة .
الموت كان احتفالا مهيبا ، صلاة معربدة على إيقاع تدفق النبع . هاهو الآن بهذه الغرفة العبقة يقهقه ملء شدقيه كعينيها لحظة تقابلتما و هي تعرض نفسها على التافهين . خرجت من ذاتك حين كان ذكر الذات إشراكا . ثم كان الغياب الفظ فنسيت من تكون ، لم تعد تعرف ذاتك ، تدحرجت الأيام ، تكدست ، تراكمت ، انهارت . إلى أين ؟لم يكن يهمك شيء . كيف تدخل ذاتك الآن ؟ ! كيف يستيقظ فيك هذا الحنين إلى الأطفال و الزوجة و السقف و الدعة فتكون ككل المتقاعدين الكسالى المؤرقين بانتظار الموت ؟! ما هذا الذي يشق وجهك إلى شفتيك في طعم الملح ؟ ما عرفته عينك طول ما ولى و انقضى ! قلت إنك دخلت الفرح الأبدي حين تعانقتما تحت المطر، و عندما أبصرتها في حضرة الشيطان لم تبك لأنك أدركت أنك لم تبلغ سن الرشد فكيف تبكي الآن ؟ !
أواه ، إني لا أبكي حزنا ، إنما أبكي اتحادا بمن يسمع صمت وحدتي في هذه الساعة من الليل .
هاهي الظلمة تتكثف أكثر و أنت لا تدري كم الساعة الآن ؟ هو ليل وراء حدود الزمن . الليلة الأولى من العمر الفائض فمن يسمع صمت وحدتك في مثل هذا العمر ؟؟؟
قام إلى النافذة ، مصابيح الحديقة شاحبة تحيط نفسها بالصمت و التثاؤب ، الرصيف المقابل غارق في الغفوة ، والملصقات من فوقه مقهقهة كالأشباح .
تراجع ، انتصب وسط الحجرة ، حدق في الجدران ، في السقف ، أوقد الضوء ، انتبه إلى أنه مازال عاريا كما كان منذ أن استحم ، هيكل صلب كالسنديانة ، لكن في الرأس طنين ،و في القلب انفلات من حال إلى حال ، لهاث ، اصطفاق ، الندب في الفخذ يتصلب كالصخرة ، الضوء أعطى الأشياء لونا أصفر مقيتا ، فقعها ، فأسرع يطفئه .
جلس على حافة السرير . الباب يصر و ينشق قليلا . من ؟ هي ؟ زوليخا ، هي التي انسابت بثوبها الأبيض . اتنصب ثانية وسط الغرفة ، اصطدم بالمشجب معلقة عليه أيامه ، بل ثيابه ، تراجع ، عشرات الخطى تهدر في الرواق . فتح الباب ، خادم عجوز يخطو متثائبا ، أغلق الباب ملصقا ظهره عليه ، هزيج أطفال يعلو متناغما من الحديقة الخلفية للفندق ، يأتي جميلا كمطر الربيع ، أنصت ، دقق السمع : قسما بالنازلات الماحقات ... و الدماء الزاكيات الطاهرات ...
اشرأب في اتجاه النافذة ،هزيج الأطفال يتصاعد من كل الجهات في ترانيم هائلة الإيقاع ...
هو غارق في عرقه ، لا يذكر بأية نقطة هو من الوطن ، نسي اسمه ، تقاعده ، شك في اللحظة ، بداية الكابوس أم نهايته ؟ قدماه تقفان على عتبة الباب الخارجي للفندق ، الهزيج ينأى خفيفا شفافا ، المدينة يتوجع فيها الليل على هذيان السكارى ، الرقم الخامس و العشرون يتلألأ بالأنوار مشرفا على الدنيا مغتبطا . قدماه تبصمان على الرصيف بلا إيقاع ، ظله الخشن يرسم خيالا قاسيا على الجدران المليئة بخربشات الأطفال . هو يتداعى ، يشده الهزيج المتصاعد من الجهة الغربية ، نداء الطفولة و العمر الأول النشوان بالأحلام ، نشيد الصبيان عرايا البطون حفاة الأقدام دليله الآن في هذا العمر الآيل للزوال . ها هو يتسربل بالوجد و القمر ، بزوليخا و الوقوف تحت المطر ، بالندب ، بالبدء . هاهما سكيران يتكاتفان يتأوهان بأغنية راي خليعة ، وهذه مومس مترهلة تقف على عتبة بابها تنظر إليه مقهقة حتى تكاد تسقط على قفاها و يفيض صدرها ، خطواته بلا وقع ، الهزيج يقترب ، الزقاق يتسع ، انفصل عنه ظله ، تلاشى ، أضواء من كل الجهات ، مهرجان من الأنوار ، مئات الأجساد ترقص ، تتلوي ، تتمرغ ، ذكور و إناث ...
أين الهزيج المطر ؟؟؟
الموسيقى الصاخبة تتمزق على تأوهات أغنية الراي ، حركة هائلة ، إيقاع مجنون ، تدفق بشري ، تهافت ، تهاتف ، أرداف ، نهود ،أكتاف ، شعور ، عرق . المدينة تحتفل بعيد الاستقلال و الشباب ، بربع قرن من عمر الاستقلال ، تنصب الفرح بهذا الحي المتحذلق .
وقف مبهوتا في دائرة الضوء . فجأة كف الصخب و عم الصمت ، لحظات و هدرت القهقهات ... انتبه إلى نفسه ، مازال عاريا كما ولدته أمه يقف كالدب مكشوفة عورته . و اتجه انتباهه الأخير إلى أحذية يعرفها جيدا و عصي و عيون نارية ، أطلق ساقيه للريح . الويل لك يا زياد ! قرقعة خطى قاسية خلفه ، صليل أشياء حديدية ، و عاد الزقاق يضيق . عمره ما فاض الليلة بل منذ ربع قرن ، الخطوات الراكضة خلفه توشك تنهشهه ، ارتفع لهاثه و دار رأسه ، لم تعد قدماه تقويان على المزيد من الجري ، و خيل إليه أن أقداما كثيرة تحاصره من الجهة الأخرى فانهار . وقف متداعيا أمام امرأة مترهلة مغروسة في عتبة بابها . هي نفسها التي مر بها منذ حين ، بوعي منهك يدرك الآن سر قهقهتها ، و حين كانت عيناه تغيمان عن الوجود بدا له كأن يديها تمتدان نحوه ، ود لو تسعفه قواه الخائرة فيسألها إذا ما كانت هي زوليخا ؟ أن ينطق باسمها، أن يعلن عن اسمه ... سقط ... ما عاد يحس شيئا .
تحلق حوله الجمع الراكض ، أخرجت المومس منديلا فسترت عورته .
علق أحد الراكضين :
- جاء إلى هذه الدنيا عاريا و غادرها عاريا .
- قد يكون أغمي عليه فقط . انقلوه .
نقل ، و ظلت المرأة مغروسة على عتبة بابها تنتظر .
تعليق